منذ أيّام أنهيتُ قراءة مذكّرات رحلة قام بها هنري دونان (مؤسس الصليب الأحمر) إلى تونس لمدّة عام بين 1858 و1859. في تلك المذكّرات يقيم دونان -وبمسحة إنسانية عاليّة- مقارنة واسعة بين أوضاع السُّود في تونس ونظرائهم -في تلك الفترة- في الولايات المتحّدة الأمريكيّة، كانت إشادتهُ بالمشير أحمد باي واسعة، وكان تشنيعه على النّخب الأمريكيّة أوسع. الإشادة بالباي، الحاكم المصلح التنويري والحداثي، جاءت إثر قرارَ تحرير العبيد في العام 1846، الذي سبق به كلّ الدّول العربيّة والدّولة العثمانيّة، وهو قرار سبقت به تونس أيضًا الولايات المتّحدة الأمريكيّة بأكثر من 18 عامًا.
ففي تلك الأثناء، التي كان فيها دونان يتجوّل في مدينة تونس كانت مجموعات من العبيد في أقصى الجنوب تحصلُ على حريتها بفضل قرار المشير أحمد باي، لتتكتّل في تجّمع “اثني” اندمج بعد ذلك مع قبيلة غبنتن العربيّة، ليأخذ اسم تلك القبيلة ويحصلَ على جزءٍ من مجالها الجغرافي، في منطقة القصبة من معتمديّة “سيدي مخلوف” من محافظة مدنين الحالية، جنوب شرق البلاد.
كلّ شيءٍ مميّزٌ في هذه الجماعة القبلية: جذورها التاريخيّة وسرديّة تشكّلها ونمط حياتها ونوعيّة فنونها وطريقة لباسها ومضامين نصوصها ومشهديّة عروضها وأدائها. وهي أيضًا شاهدٌ ماثلٌ وحيٌّ على فصل كبير من فصول مسيرة التحديث في تونس التي بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وفي الجنوب التونسي، مع بداية كل صيف، ينطلقُ موسمُ الأعراس، ويبدو الأمرُ كعادةٍ قديمة (في كامل الفضاء المغاربي) ترتبط أساسًا في جذورها بنهاية مواسم الحصاد. وهناك أيضًا مثلٌ قديمٌ، في المنطقة، يقول: “الحَضرة على الجْلِيداتْ والعِرِسْ على الطِّوايف”. هذا المثلُ العريقُ والقديم في تراث الجنوب الشرقي التّونسي، والذي يبدُو عصيًا على الفهم، لخصوصيّته المُعقّدة، يلخّصُ -في الحقيقة- لوحة ثقافيّة واجتماعية، وحتى تاريخيّة، كاملة.
سبق قرارَ تحرير العبيد في العام 1846 من قبل المشير أحمد باشا باي، الحاكم المُصلح التنويري والحداثي كلّ الدّول العربيّة والدّولة العثمانيّة،كما سبقت به تونس أيضًا الولايات المتّحدة الأمريكيّة بأكثر من 18 عامًا ..
في كتابه “سوسيولوجيا القبيلة في المغرب العربي“، يفكّك البروفيسور محمّد نجيب بوطالب ما أسماه بـ”مؤشر تقسيم العمل” بين القبائل في المجال المغاربي، حيث يشير إلى أنّ بعض القبائل والفرق، قد تميّزت بنوع من “التخصص الوظيفي” ضمن خارطة مـن “التقسيم القبلي للعمل الاجتماعي”، فمع القبائل المقاتلة والقبائل الفلاحية والقبائل الدّينيّة وحتى القبائل التجاريّة، يُشير إلى وجود «مجموعات أخرى تقوم بوظائف لا تقل أهمية عن السابقة، كتلك التي تقوم بالوظائف الاحتفالية لدى الزنوج مثل قبيلة عبيد غبنتن بالجنوب التونسي التي تمارس الغناء والموسيقى» (بوطالب، ص 113).
فالجليدات هم قبيلة مُرابطيّة دينيّة، وأحفادُ ولّي صالح شهير في المنطقة، لذلك هم من يقومون بطقسِ “الحَضْرة” كطقسٍ ديني وعِلاجي. بينما “طوائف” قبيلة “عبيد غبنتن” هي التي تؤدّي “الوظائف الاحتفالية” بإحياء حفلات الأعراس. هذا المثلَ يُلخّصُ جزءًا من لوحة “التقسيم القبلي للعمل الاجتماعي” في جنوب شرق تونس.
يمتدُّ العُرسُ، هُنا، في الجنوب الشرقي التونسي، على ثلاث أيّام كاملة. وعادةً ما تكون الليلة الثانية هي ليلة الحفل الكبير. وتلك الليلة غالبًا ما يؤثّثها خاصةً عرض لـ”طوائف عبيد غبنتن”. ويوصفُ ذلك العرس الذي يحضرهُ غبنتن بأنّه “عرس بالطَّايْفة” أو “عرس بالعبيد”.
لكن ما هي هذه الطّوائف؟ ولماذا يُسمّون “عبيد غبنتن”؟
“غبتن” هم مجموعة “إثنية” سوداء البشرة تتميّز بخصوصيّة استثنائيّة، من خلال العروض الفنيّة الغنائيّة التي تقدّمها في الاحتفالات والأعراس بالجنوب التونسي، كما تتميّز خاصة بأدائها الفُرجوي المتقن، وبلباسها المميّز ونصوصها الشّعريّة التي تؤرّخ للأحداث المحليّة والوطنيّة والعربيّة، والتي ترصدُ فيها أيضًا الظواهر الاجتماعية والسياسيّة. فهي بالتالي ليست فقط نصوصًا غنائيّة أو مجرّد عروض للفرجة، بل هي ديوان شفوي كامل من النّصوص/الوثائق الشاهدة على التاريخ وعلى المجتمع وتحوّلاته.
ولتلخيص المسألة في معناها التاريخي والسوسيولوجي، علينا القول بأنّ غبنتن هي قبيلة تنتمي لاتحاديّة ورغمّة القبليّة التي تستوطن الجنوب الشرقي التونسي، وتنقسمُ غبنتن إلى فرعين: الفرع الأصلي “أبيض” البشرة، والفرع ذو البشرة “السوداء” الذي اندمج معها منذ منتصف القرن التاسع عشر، بعد قانون تحرير العبيد، وأخذ اسمها وتقاسم معها أيضًا مجالها الجغرافي. وهذا الفرع الثاني “أسود” البشرة، الذي تُطلقُ عليه تسميّة “عبيد غبنتن“، هو الذي يُمارس هذه “الوظائف الاحتفالية” ضمن لوحة “التقسيم القبلي للعمل الاجتماعي” في الجنوب التونسي.
وقد درس الدّكتور محمّد الجويلي، أستاذ الأنتروبولوجيا في الجامعة التونسيّة، هذه المجموعة الاثنية باستفاضة وعمق في كتابٍ بعنوان «مجتمعات للذاكرة، مجتمعات للنسيان: دراسة مونوغرافية لأقلية سوداء بالجنوب التونسي».
المصدر: يوتيوب
القبيلة والطائفة و”موسيقى الزنوج”
بغض النّظر عن النّقاش الذي قد يثيره الموضوع حول مفهومي الإثنية والقبيلة، وحيثُ يُشير البروفيسور نجيب بوطالب في تقديمه لكتاب محمّد الجويلي المذكور بأنّ «نموذج “عبيد غبنتن” يتميّز بحضور البُعدين الاثني والقبلي في نفس الوقت»، فإنّنا -في المقابل- حين نتحدّثُ عن كلمة “طائفة غبنتن” ضمن هذا التداخل المفاهيمي والاصطلاحي، فنحن نتحدّث تحديدًا عن إحدى الفرق الفنيّة التي تنتمي لتلك القبيلة، فالطائفة (الطَايْفة كما تُنطقُ في اللهجة المحليّة) بكل بساطة هي فرقة فنيّة من “عبيد غبنتن” والتي تقدّم عروضًا في احتفالات الزواج.
وفي الحقيقة، هناك عدد من الطّوائف التي تنتمي لهذه الجماعة الاثنية، ولا توجد هذه الطوائف في أي مكان آخر في العالم ولا توجدُ حتى في فرع القبيلة الأصلي “أبيض” البشرة نفسه. فالطائفة إذن هي الفرقة الفنيّة التي تنحدرُ حصْرًا من فرع قبيلة غبنتن “أسود” البشرة، ولها هيكلتها الخاصة ونوعيّة عروضها وتنظيمها الدّاخلي الصارم وطقوسها الفنيّة والأدائيّة من طريقة العرض واللباس والإيقاع.
ويرصدُ الباحث محمّد الجويلي في كتابه المذكور، الصادر في العام 1994، خمس طوائف تتوزّع على ثلاثِ فروع عائليّة داخل القبيلة (مجتمعات للذّاكرة، ص116)، بينما ترصدُ دراسة أنجزها المعهد الوطني للتّراث (حُكومي) في العام 2021، سبع طوائف في غبنتن. وهذه الطّوائف التي تنقصُ وتزيد بحسب الزّمن، تشكّل في النهاية جزءًا من فيسفساء “موسيقى الزنوج” في تونس.
فالموسيقى “الزنجيّة” تحضرُ بكثافة وبقوّة في الثقافة التونسيّة، وتأخذ بُعدًا دينيًا في الغالب، من خلال استنادها إلى وليٍّ صالح ما، ضمن الثقافة الديّنيّة الولائيّة والصوفيّة العريقة في المجتمع، وهي أيضًا وخاصةً -موسيقى الزّنوج- تجتمعُ في كونها جزءًا من تراث العبوديّة الطويل في البلاد، وأحد أهم بقاياه وترسّباته. والسطمبالي هو أحد أشهر تجليات هذه الموسيقى بخصوصيتها الفنيّة والثقافية والتاريخية المتفرّدة. ولكن على خلاف السطمبالي وباقي مكونات المشهد الموسيقي “الزنجي” في تونس، فإنّ طوائف غبنتن “لا تُعير اهتمامًا كبيرًا للاحتفالات الدّينيّة في إطار ممارستها الثقافية” كما يشير إلى ذلك الباحث محمّد أحمد.
وهذا المعنى يؤكّد عليه أيضًا محمّد الجويلي بالقول أنّ غبنتن «لا يقيمون الاحتفالات الدينية ولا يهتمون بالبعد العلاجي في ممارستهم الثقافية. إنهم يحيون مناسبات الزواج فقط، لذلك تحظى فرق السطنبالي بهالة قدسيّة لا يمكن لإحدى فرق “عبيد غبنتن” الحصول عليها» (مجتمعات للذاكرة، ص 114).
وفي الجنوب التونسي بخلاف طوائف غبنتن، نجد كذلك فرق “الطبّالة” التي يشكّلها “زنوج” ينتمون لمختلف القبائل العربية والبربرية، والذين لم يتحّدوا مثل غبنتن في قبيلة واحدة، بل أدمجوا أو اندمجوا كأفراد وعائلات مع قبائل مختلفة، وهذه الفرق تؤثّث هي أيضًا الأعراس والاحتفالات الاجتماعية، وهي تختلفُ كثيرًا عن ما تُقدّمه طوائف غبنتن عبر مضامين وأدوات موسيقيّة أخرى.
ويبدو أنّ هذا التنافس بين الطّرفين، على “سوق” الأعراس والاحتفالات في المنطقة، هو الذي دفع بأحد طوائف غبنتن للتشنيع على عروض “الطبّالة” في أحد أغانيها، حين تقول «يا نجعي شبيك نفحت بعرس الطبّالة // ما يليقش بيك. رقيص النّساء والرجّالة // شيء يدير العار»، وتعني هذه الجملة من اللهجة المحليّة: »لماذا صرت معجبًا يا مجتمعنا المحلّي بأعراس الطبّالة؟ هذا لا يليق بك. ففيها ترقص النّساء مع الرّجال، وهذا مثيرٌ للعار». ولا تخفى في النّص حدّة التشنيع الأخلاقي على عروض الطبّالة المُنافِسة، ولكن بشيء من المبالغة، ففي الحقيقة لا يرقصُ الرّجال مع النّساء أبدًا في تلك العروض.
في عروض طائفة غبنتن تقسيم صارمٌ -وشبه مُقدّس- لساحة الاحتفال. مكان محدّد لجلوس العروس وآخر لجلوس العريس، وموقع محدّد للخيمة التقليدية التي تكون دائمًا في مقدّمة السّاحة، وفضاء معيّن للنساء وآخر للرّجال. وداخل تلك السّاحة ذات التقسيم الدّقيق، تقدّم الطائفة عرضها القائم على الشّعر والغناء والأداء الجماعي ..
تُثير كلمة “العبيد” في توصيف القبيلة وطوائفها، إشكالية حقيقيّة. فهي مترعة بالمعاني العُنصريّة المترسّبة والمشينة، والتي تتجاوز -أحيانًا- القول والوصف إلى تعبيراتٍ فعليّة في الواقع الاجتماعي المعيش. وهي تستدعي أيضًا تاريخًا وتراثًا قديمين، تجاوزهما التاريخُ والحداثة. فالجيل الجديد في غبنتن لا يقبلُ هذا الوصف أبدًا. والأجيال القديمة ترفضهُ أيضًا باعتباره وصمًا. لذلك يُطلق عليهم أيضًا صفة “الشواشين” وهي التسمية التي «يرتاحُ لها أفراد هذه الأقليّة ويرغبون دائمًا في استعمالها. لأنّ السلّم الاجتماعي يضع الشوّاشين في مرتبة وُسطى بين الأحرار الذين يحتلون أعلى مراتبه والوصفان أو العبيد الذين يقبعون في أسفل هذا السّلم» (مجتمعات للذّاكرة، ص 72).
لكن الشواشين هي الكلمة التي تُقال في حُضورهم فقط و«تكون غائبة حين يتمُّ الحديث بشأن هؤلاء في غير حضورهم وكثيرًا ما يقعُ نعتهم بالعبيد، فيُقال “عبيد غبنتن” و”عرس بالعبيد”» (نفس الصفحة).
وفي هذا السياق يُشير الجويلي إلى ملاحظة مهمّة جدًا، حين يقول أنّ «ما يثير الانتباه أن هذه التسميات (عبيد، وصفان، شواشين) مستعملة في كل مناطق الجنوب الشرقي ما عدا جربة. فسكّان جربة يطلقون على هذه الأقليّة تسمية “الطوالب”» (ص 73).
وتعود هذه التسمية ذات الشّحنة الاقتصاديّة، التي تعني أن أفراد هذه المجموعة تقوم بطلب الأموال لإقامة الأعراس، بحسب الجويلي، والتي استندت -وفق تحليله- على اعتبارات اقتصاديّة وليس اعتبارات أخرى متعلقة باللون والأصل ولا تحتوي على أي شحنة تحقيريّة أو إقصائية، تعود إلى أنّ جزيرة جربة «ملجأ لعديد الأقليات الدينية والعرقية خاصة. فهي مستقر للأقلية اليهوديّة وبعض الأقليات المذهبيّة (الإباضيين) والإثنيّة كالبربر. فسكانها إذن على قدر من التعامل مع هذه الأقليات وهو تعامل اجتماعي واقتصادي بالخصوص. مما يجعلهم أقلّ حدّة في نعوتهم وتسمياتهم للأقليات المتواجدة في الجزيرة أو خارجها» (مجتمعات للذاكرة، ص 73).
وفي المُقابل، ورغم ذلك، نجحت طوائف غبنتن في استثمار وضعها كـ”أقلية سوداء” داخل مُحيطها الاجتماعي، كما نجحت في استثمار سرديّة تشكلّها كقبيلة من “العبيد” المحرّرين، لتحوّل كل ذلك “الوصم” إلى استثناء وتميّز حقيقيين. فمن خلال عبقريّة اجتماعيّة وتاريخية واضحة، حوّلت طوائف غبنتن هذا التراث الاجتماعي والثقافي المُهيمِن إلى مصدر لتنمية الرّساميل الاقتصادية للقبيلة، التي تمتهن أساسًا الزراعة والصيد البحري خارج مواسم الأعراس صيفًا.
كما نجحت أيضًا عبر فنونها وعروضها الاحتفاليّة في فرض نفسها داخل هذا المحيط والانفتاح عليه واقتحام حفلاته ومناسباته الاجتماعية. فحين ترقصُ طائفة غبنتن في حفلة عُرس، هي في الحقيقة ترقصُ على تراثٍ كامل من تاريخ العبوديّة، وتضع لنفسها موقعًا مهمًا في الخارطة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ضمن لوحة “التقسيم القبلي للعمل الاجتماعي”، لتجد نفسها بالتالي لا تختلفُ عن أي مكوّن اجتماعي أو قبلي آخر، بل نجحت في أن تأخذ أحيانًا مواقع متميزة.
عبقريّة غبنتن لا تكمنُ فقط في نجاحها في الاندماج الاجتماعي، وتجاوز وضعها التاريخي كأقلية من العبيد المحرّرين واستثمار ذلك عبر الطوائف/الفرق لتحوّلَهُ إلى ميزة لا إلى “وصم” وإلى مصدر -كذلك- للثروة الاقتصاديّة. فهذه العبقريّة تكمنُ أيضًا في الإبداع الجمالي للصّورة والحركة والنّغم والكلمة. حيث يتجلّى ذلك في نوعيّة فنونها التي ابتكرتها وطريقة عروضها الفرجويّة. وأيضًا في تميزها الأيقوني على مستوى اللباس والألوان. فالطّائفة لا تلبسُ إلاّ زيًا خاصًا يُصنع بدقّة وبمهارة متوارثة بين نساء القبيلة. أزياء بيضاء من عناصر اللباس التقليدي للجنوب التونسي، ومناديل حمراء حول الرّقبة وفي اليد لتوظيفها في مشهديّة الرّقص.
في عروض طائفة غبنتن هناك أيضًا تقسيم صارمٌ -وشبه مُقدّس- لساحة الاحتفال. مكان محدّد لجلوس العروس وآخر لجلوس العريس، وموقع محدّد للخيمة التقليدية (العِشّة كما تُسمّى في اللهجة المحليّة) التي تكون دائمًا في مقدّمة السّاحة، وفضاء معيّن للنساء وآخر للرّجال. وداخل تلك السّاحة ذات التقسيم الدّقيق، تقدّم الطائفة عرضها القائم على الشّعر والغناء والأداء الجماعي للقصائد المصحوبة بالنّقر على “الشنّة” (طبل يُصنع من جلد الجمل) وهي الآلة الوحيدة التي تُستعمل في العرض.
أهمَّ ما يُميّزُ طوائف غبنتن، خاصةً وأكثرَ من كلّ شيء، هي نصوصها الغنائيّة والشّعريّة، التي تتميّز بثرائها وبلاغتها التّصويريّة وقوّة كلماتها وتعقيدات رموزها، وخاصة بوظيفتها التأريخية والتوثيقيّة، ومضامينها الاجتماعية والإنسانية ..
غير أنّ أهمَّ ما يُميّزُ طوائف غبنتن، خاصةً وأكثرَ من كلّ شيء، هي نصوصها الغنائيّة والشّعريّة، التي تتميّز بثرائها وبلاغتها التّصويريّة وقوّة كلماتها وتعقيدات رموزها، وخاصة بوظيفتها التأريخية والتوثيقيّة، ومضامينها الاجتماعية والإنسانية. لذلك فإنّ قائد الطّائفة، وهو الذي يؤلّفُ قصائدها، ويُسمّى بـ”الرّايس”، يجبُ أن يكون شاعرًا مفوهًا، وقادرًا على شدّ المستمعين وتحقيق النّجاح لطائفته والتسويق لها بجودة نصوصها وقوّة مواضيعها.
ومع الرّايس الذي هو قائد الطّائفة وشاعرها والمسؤول عنها وصاحب النصيب الأكبر من مداخيلها أيضًا، توجد “البحريّة” التي تتكوّن من بقيّة عناصر الفرقة الذين يردّدون القصائد المغنّاة مع الرّايس، ومن بينهم واحد يتخصّص في النّقر الإيقاعي على الشّنة وآخر متخصّصٌ في جمع الأموال، التي توفرّها عمليّة “الرَّمو”. والتي تعني تلك المبالغ التي يدفعها المستمعون في حفلة العرس للفرقة/الطائفة لطلب قصيدة ما، أو عند الإعجاب بأحد القصائد، وحينها يأخذُ المكلّف بـ”الرّمو” المال ليعلن عن صاحبه بصوتٍ عالٍ ذاكرًا اسمه ونسبه، ومشيدًا بكرمه، تحت زغاريد النّسوة، وتلك المبالغ التي تجمعها الفرقة/الطائفة طيلة السّهرة -والتي تكون غالبًا مهمّة- هي الدخل الرئيسي للطّائفة التي لا تأخذُ مالاً من صاحب العرس. لذلك يبدعُ غبنتن في القصيدة والكلمة، ويحرصون على ذلك لأنّها مصدرُ ثورة.
في عمليّة “الرّمو” تتجلّى بعض بقايا العبوديّة المترسبّة، والمُستبطَنةِ أيضًا، فحين يأخذُ المكلّف بجمع المال، المبلغ من أحد الحاضرين يلتفتُ إلى فرقتهِ ليذكرَ بصوتٍ عالٍ يسمعه الجميعُ (وخاصة النّساء) اسم الدّافع ونسبه الذي يسبقه بقول “سيدك فلان” متحدّثًا إلى أعضاء طائفته ومخاطبًا إيّاهم.
في كتابه المذكور، يُلاحظُ محمّد الجويلي حضور الاستعارة البحريّة في تسميات “الرّايس” (وتعني في اللهجة التونسية قائد السفينة) و”البَحْريّة” (أعضاء الفرقة/الطائفة) مرجحًا أن يكون ذلك راجعًا إلى «الأصول الإفريقية لهذه المجموعة خاصة إذا كانت قادمة من السواحل». (مجتمعات للذاكرة، ص115). وفي الحقيقة يمكن فهم هذا الحضور لـ”الاستعارة البحريّة” بشكل أقلّ تعقيدًا، حيث أن غبنتن أصلاً قبيلة بحريّة وتعيش في قرية على السّاحل وتمارس الصّيد كمصدر رئيسي للدّخل.
أمّا تسميّة “الطائفة” فهي بحسب الجويلي «تسمية مرتبطة بالأقليات وليست بغريبة عنها وهي تدلُّ على تميز مجموعة من العناصر ضمن هذه الأقليّة بقدرتها على الشعر والغناء» (نفس المصدر). وفعلا فإنّ التميّز في الشعر والكلمة هو ما يصنع تفوّق الطّائفة ونجاحها، ويضمن إشعاعها وشهرتها وبالتالي تكاثرَ مواردها الماليّة.
المصدر: ويكيبيديا. تحت رخصة المشاع الإبداعي
أرشيف حي
ورغم بساطة الإيقاع في عروض طوائف غبنتن، التي تعتمد فقط على “الشنّة”، وهي طبلٌ يُصنع من جلد الجَمل، فإنّ تميّزها يكمنُ في قوّة قصائدها المغنّاة ومضامينها. فقصائد غبنتن -رغم صعوبة كلماتها ولهجتها المُغرقة في المحليّة- فإنّها تتجاوز الأطر التقليديّة للقصائد الاحتفاليّة، لتجعل منها وثائق تؤرّخ للوقائع التاريخيّة والأحداث السياسيّة ونصوصًا تعالج عبرها الظواهر الاجتماعية.
ورغم حضور البُعد السياسي في قصائد طوائف غبنتن، فإنّه لا يُعرفُ عنها مواقف مناهضة للسلطة في تونس، خاصة قبل الثورة، حيث «يتحكّم في أشعار هؤلاء الموقف السياسي الرسمي، فهم يتبعون الخط الإعلامي لجهاز الدّولة ويزيدون عليه» (الجويلي، ص 129)، بل يحاولون «عند تأليف قصائدهم أن يتبعوا الخط الرسمي للدّولة في المواقف والتوجهات، لأن عدم الالتزام بهذا الخط يعني مصادرة نشاطهم وقطع مصدر رئيسي لرزقهم» (الجويلي، ص 135). غير أنّ شُعراء غبنتن -في المقابل- كانوا دومًا بوقًا وطنيًا زمن الكفاح ضد الاستعمار، من خلال التشنيع على ممارساته أو التغنّي بالزعماء الوطنيين أو التوثيق لأحداث المقاومة وسرد سير المقاومين. فضلاً عن كون الكثير منهم كان مساهمًا فعليًا في الكفاح الوطني في النصف الأول من القرن العشرين.
يُعتبرُ الفيتوري تليش، أحد أشهر الشعراء التاريخيين عند غبنتن. فالرّجل الذي عاش مرحلة الاستعمار، كان دومًا صدى لحركة الكفاح الوطني مشنعًا على الاستعمار ومنحازًا للزعماء الوطنيين متغنيًا بهم وموثّقًا للأحداث التاريخيّة التي جدت في تلك الفترة. وقد تسببت قصائده في سجنه من قبل الاحتلال الفرنسي، ما دفعه إلى تكثيف استعمال الرّمزية في نصوصه. وقد نشر الباحث الرّاحل محمّد المرزوقي (وهو أحد أهم موثّقي الشعر الشعبي في تونس) مجموعة من قصائد الفيتوري تليش في ديوان نشر في منتصف سبعينات يتضمن مختلف الأغراض وأشهر القصائد الوطنيّة والاجتماعية التي أبدعها.
تغنّى الفيتوري تليش بالرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ووثّق في قصيدة شديدة الرمزيّة حادثة نفيه إلى صحراء الجنوب التونسي في العام 1934 من قبل الفرنسيين. كما تغنّى الفيتوري تليش بالمناضلين ضد الاستعمار وعلى رأسهم محمد الدغباجي وهو أحد أحد أشهر رموز الكفاح المسلّح في تونس.
تحضرُ السياسة والأحداث الوطنيّة بكثافة في أشعار غبنتن. فهذه القصيدة لطائفة “مبروك بالتومي” تؤرّخ لحدث الاستقلال وطرد فرانسا، حيث يقول مطلعها: “نصرنا الله وخرجناها، تو باتت بايدينا” (نصرنا الله على فرنسا وأخرجناها من تونس، التي أصبحت اليوم ملكنا وبين أيدينا). وفي القصيدة نسمعُ أيضًا تمجيدًا لبورقيبة الذي أعلن الجمهورية واصفين إياه بأنّه “بابانا” (أبونا).
تمثّل نصوص غبنتن، بلهجتها الُموغلة في المحليّة وبعدها التصويري الرّمزي، وثائق حيّة على التحولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. موثّقةً للأحداث ومُقارِبةً للظواهر. مع مضمون قيمي يُعلي من معاني التضامن والسلام والوطنيّة والوحدة ونبذ التطرّف
لا يتوّقفُ الاهتمام السياسي عند طوائف غبنتن بالشأن المحلي الوطني، بل يتعدّاه إلى الاهتمام بكل القضايا العربيّة الأخرى. ففي أحد نصوص هذه الطوائف نجدُ توثيقًا لأحداث “الثورة الليبية” في العام 2011. وفي العام 2014 مع اندلاع الحرب الأهلية الثانية في الجارة ليبيا بين قوات الجنرال خليفة حفتر وقوات فائز السرّاج، نجد أحد طوائف غبنتن توثّق بالتفصيل الدّقيق لهذه الأحداث.
كما تحضر القضيّة الفلسطينية بكثافة في نصوص غبنتن. وقضايا أخرى محليّة مثل قضيّة احتجاجات الكامور في الجنوب التونسي، التي نجد لها توثيقًا في إحدى قصائد غبنتن. ولا تغفل قصائد طوائف غبنتن عن أي حدثٍ محلّي مهمٍ لتوثّقه في قصائده، كما نرصدُ ذلك في قصيدة حول المواجهات القبلية الداميّة التي حدثت في الجنوب التونسي منذ أشهر بين قبيلتي “الحوايا” و”المرازيق”.
لم تمرَّ كورونا أيضًا، باعتبارها حدثًا عالميًا وظاهرة تستحقُ المعالجة، بدون أن تكون حاضرة في قصائد طوائف غبنتن. كما تعالج هذه القصائد/النّصوص كل ما يتفاعل في المجتمع من ظواهر، وتقاربها من مختلف الزوايا مثل قضيّة الهجرة وخاصة الهجرة غير الشّرعيّة أو “الحرقة” كما تُسمّى في اللهجة المحليّة.
في أحد أشهر قصائدها توثّق طوائف غبنتن لحوادث “ملحمة بنقردان” حين حاول تنظيم داعش السيطرة على المدينة الحدوديّة، فتصدّت له قوّات الأمن والأهالي، وتمّ إحباط الهجوم الإرهابي.
تمثّل نصوص غبنتن، بلهجتها الُموغلة في المحليّة وبعدها التصويري الرّمزي، وثائق حيّة على التحولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. موثّقةً للأحداث ومُقارِبةً للظواهر. مع مضمون قيمي يُعلي من معاني التضامن والسلام والوطنيّة والوحدة ونبذ التطرّف. وهذا ما يُعطي لهذه القصائد، ولهذه الطوائف، ولغبنتن بصفة عامة، تميّزها ويصنع تفرّدها وانتشارها المحلي ونجاحها. في انتظار أن تحقّق هذه الطوائف انتشارًا عربيا وعالميًا يُمكن أن يسلّط الضوء على مكوّن ثقافي مميّز في الثقافة العربية وحتى الإنسانية. وهو ما يُحاول تأكيدهُ فيلم وثائقي جديد للمخرجة سماح الماجري بعنوان “طوايف”.
في عمله الغنائي الأخير، من إخراج الإيطالي فرانشيسكوا قاربو، يعيد الفنان التونسي والباحث الموسيقي إسلام الجامعي إحياء أحد قصائد “غبتن” التي ألفها أحد أشهر شعرائها الراحل علي تليش. “نَشبِح في غْرايب” وهي قصيدة اجتماعيّة، تتحدّث عن الفقر والخصاصة وعن الحاجة في مجتمع قاسٍ، والعجز أمام متطلبات الحياة وصعوبتها. اختيار الجامعي لأحد أغاني الطائفة، وإعادة توزيعها وإخراجها في فيديو كليب، وإسقاط محتواها على واقع اليوم، وبإخراج عالمي، يبدو كخطوة مفيدة أيضًا ودفعة هامة نحو إخراج هذه الطوائف وتراثها من المحليّة الضيّقة إلى الانتشار العربي والدّولي، وهو ما قد يساهم كثيرًا في مساعي إنجاح إدراجها ضمن التراث الإنساني لليونسكو كما يسعى لذلك معهد التراث الحكومي في تونس.
ورغم هذه المساعي الرّسمية لحماية تراث هذه الطوائف والمحافظة عليه، فإنّ هذا التراث يواجهُ مشكلات أخرى بعضها داخلي يتعلّق أولاً، بضرورة تكييف اللهجة بالشّكل الذي يساعدُ على فهم مضامين النّصوص المُغنّاة على صعيد أوسع (وطني وعربي)، وثانيًا، بمشكلة نقل هذا التراث إلى الأجيال الجديدة وبالتالي ضمان استمراريّة هذه التراث الفنّي. وبعض تلك المشكلات أيضًا خارجي منها زحف الفرق الفنيّة وتراجع الإقبال على استهلاك هذه الطوائف في حفلات الزواج التي بدأت هي نفسها تفقد نظامها القديم وتتخفّف من الكثير من فقراتها وطقوسها الاحتفاليّة.