“بابا.. مالِك بيقول لي لو الكابتن عرف إنك مسيحي هيطردك من الفريق!”.
هكذا قال لي ابني بعد انتهاء تمرين كرة القدم بأحد أكثر الأندية شعبية في مصر، صُدمت وتلعثمت في الإجابة عليه في البداية إلى أن أجبته إجابة مهزومة.
ذهبت على التو لصديقي المسلم والذي يعمل في نفس النادي وحكيت له ما قاله لي ابني، وسألته لماذا يحدث هذا؟ فأجابني دون أن يتردد: “التعليم يا رامي”، شعرت أن إجابته قد دفعتني عبر آلة الزمن الماضي لأتذكر ما لا أحب أن أتذكره.
أيام المدرسة
بدأت قصة المعاناة بخروجي مجبراً في حصة الدين الخاصة بنا أنا وصديقي كان اسمه “روماني” أيضاً، كنا نأخذ الحصة في أي مكان بالمدرسة، أي غرفة خالية ساعتها، أو حتى في الممرات. كانت نظرات الطلاب قاتلة تشعرك بأنك طفل غريب، ويتمدد الإحساس بالغربة عن أقرانك في كل الحصص، حتى حصص الألعاب.
كانت نظرات زملائي تحمل أسئلة كثيرة جداً وإجابات في نفس الوقت: هم مسيحيون إذن هم مختلفون وأيضًا.. غرباء.
لفترة طويلة غابت مس عطيات –مدرسة رياضيات ودين مسيحي- عن المدرسة فكنا نجلس مجبرين في حصة الدين الإسلامي، حتى حفظت جزءاً كبيراً من سورة الواقعة، ناهيك عن النصوص القرآنية التي يكتظ بها كتاب مادة اللغة العربية للقراءة.. “واذكر في الكتاب إبراهيم أنه كان صديقاً نبياً”
سألت نفسي كثيراً، لماذا لم تُدرج آية من الإنجيل لتكون مثالاً لغوياً ونحوياً لتعليم اللغة العربية أسوة بآيات القرآن؟ بالتأكيد القرآن هو أصل أساسي من أصول اللغة العربية، ولكن أليس من الممكن أن نُدخل بعض آيات الإنجيل لتفعيل مبدأ المواطنة الموجود بالدستور، بدلًا من الاكتفاء بالقول أننا عنصر من عناصر النسيج المصري.
انتقلت إلى المرحلة الإعدادية والثانوية وكانت مس صابرة، المسئولة المالية للمدرسة هي مدرسة الدين. فكنا نجلس أنا وزميلتي ماريان في حجرة الحسابات لأخذ حصة الدين المسيحي ويتم قطع الدرس عند دخول أي شخص يريد أن يدفع مصروفات أو يجري أي معاملة تخص الحسابات.
نظرات الزملاء والمدرسين تشعرني بالغربة ورغم أني لم أرى معاملة سيئة من أحد، لا أتذكر شيئاً كهذا، لكن الغربة لم تنقطع. كان مدرس الألعاب يناديني بـ “فانتوماس” على سبيل المداعبة والسخرية قليلاً من الإسم المسيحي.
مرة جاءت ابنتي، وكانت في عمر الخامسة ساعتها، وظلت تدور حول الطاولة وتردد لبيك اللهم لبيك. سألتها عن سبب ترديد الجملة، أجابت أن المُدرسة قامت بعمل طواف حول مجسم للكعبة المشرفة أثناء مراسم الاحتفال بعيد الأضحى ولم تخرجها من الفصل. رغم شكوتي مراراً من هذا الأمر، لكن لم يتغير شيء، بعدها قمت بنقلها إلى مدرسة تشرف عليها راهبات.
كوفتس
ربما بدأ الأمر معي عندما كان عيال الحارة ينادون عليّ عندما أمر.. “يا كوفتس” ترن الكلمة في أذني، كنت طفلاً.. لماذا ينادون عليّ هكذا؟ أكيد لأني مختلف، ولفترة ظللت أعتبرها شتيمة قبيحة، ويحمر وجهي في كل مرة.
كنت مكسوفاً من كوني مسيحياً، لم أكن قد اكتسبت بعد ثقافة المواجهة والسؤال والاحتكاك، لم يكن لدي ثقة. واستمرت هذه الفترة من سن الثامنة وحتى الثانية عشرة.
مرحلة الطفولة هي مرحلة تكوين الأفكار والمعتقدات، وما أكثر الأفكار الخاطئة التي سمعتها عن المسيحيين وأفعالهم وطريقة حياتهم، بدءاً من عدم الاستحمام، وأنهم ذوي رائحة كريهة، إلى “عضمة زرقا” و”كوفتس”، وأن الرجال يقبلون النساء يوم رأس السنة عندما يطفئ النور داخل الكنيسة. أذكر في مراتي الأولى في الكنيسة ليلة رأس السنة أن ظللت أراقب كل الناس، ولكن ما أدهشني أن الرجال والسيدات في مكانين بعيدين عن بعضهما أصلاً.
فيما بعد فهمت أن كلمة “كوفتس” محرفة من الأصل Copts، والرائحة الكريهة التي تخص المسيحيين هي سخرية من خروج العرق برائحة مختلفة لطول فترات الصيام، وكثرة استخدام الزيوت في الطعام. أما عن تعبير “عضمة زرقا” فتعددت روايات أصوله؛ الرواية الأكثر تداولاً لأيام الحاكم بأمر الله الفاطمي عندما ألزم الأقباط بارتداء صليب وزنه خمسة أرطال طوال الوقت، وكان لابد تكون سلسلة الصليب من حبال مصنوعة من ليف النخل الأمر الذي يترك لوناً أزرق في رقبة من يرتدونه.
وثمة رواية أقدم ترجع المسألة إلى أيام الرومان وتعذيب المسيحيين عبر حملهم لأوزان ثقيلة تترك آثارًا زرقاء على ظهورهم.
أخبار ليست خفيفة.. تحدث من حين لآخر
في 2018 يتم العثور على رضيع داخل كنيسة «العذراء أم النور» بحي الزاوية الحمراء أحد أحياء شمال القاهرة، تتبني أسرة مسيحية الطفل الذي صار اسمه “شنودة“ ويستقر مع أسرته أربع سنوات، إلى أن تقع مشكلة إرث بين أقارب الأسرة المتبنية، فيثار الموضوع قضائيًا وإعلاميًا فيما عرف بقضية الطفل شنودة، وتخرج أصوات كثيرة تصر على أن الطفل مسلم، لكن في تلك المرة يتدخل أكثر من صوت عاقل حتى على المستوى الرسمي وتحسم القضية بعودة الطفل لعائلة التي رعته منذ طفولته الأولى.. عادة ما نتحرك وسط أخبار لقضايا شبيهة لكن لا يتدخل صوت العقل في كل مرة.
نوادي وأديان
تتبنى الكنيسة المصرية مهرجاناً صيفياً سنوياً به خدمات مختلفة منها الرياضة، وذلك تعويضاً أو سداً للقصور الحاصل في قطاع الرياضة بمصر. قبل ما يقرب من عامين انتشرت أخبار عن تدشين الكنيسة لنادي “عيون مصر” الأمر الذي أحدث لغطاً كبيراً لكون النادي تابع لجهة دينية وهو ما تمنعه قوانين الرياضة، ولم تمر أكثر من ثلاثة أسابيع على الإعلان حتى أعلنت وزارة الشباب والرياضة إغلاق النادي حيث أن قوانين الرياضة تمنع إقامة أي نادي على أساس ديني أو سياسي أو عرقي. وذلك رغم تأكيد القس جرجس شفيق مسؤول نادي عيون مصر- تحت التأسيس ساعتها بأن النادي سيكون أكاديمية رياضية لجميع أطياف المصريين.
قبلها كان القس جرجس قد أوضح أنه وصلت إلى الكنيسة طلبات لأن يكون لهم امتداد داخل عالم كرة القدم بشكل أكثر رسمية، خاصة أن هناك الكثير من المواهب التي لم تجد الفرصة لاكتشافها وهو ما يوضح إقصاء المسيحيين من تلك اللعبة. فهل ما قامت به الكنيسة وتحاول القيام به، جزءاً مما يحدث بالمزيد من الإغلاق على نفسها، أم إنه رد فعل لتاريخ من الإقصاء؟
ماذا يفعل الإقصاء.. ماذا يفعل الدعم؟
سمع الجميع الأخبار المرتبطة بقصة اللاعب الراحل أحمد رفعت وكيف تم إقصاءه من الرياضة عن طريق محاربته نفسياً إلى أن توفى إثر أزمة قلبية، وجنة عليوة لاعبة الدراجات التي تم إقصائها لصالح لاعبة أخرى قامت من قبل بالتسبب في سقوطها خلال سباق للدراجات مما أدى إلى كسور استدعت تركيب شريحة وعدة مسامير لها.
من زمن حكى لي والدي أن عمه تم قبوله باختبارات أحد الأندية الكبرى ولكن تم استبعاده لكونه مسيحي. عرفت بعد ذلك أنه تم إقصاء زميلي روماني من إحدى الرياضات لنفس السبب. نعرف في حركتنا اليومية عشرات القصص المشابهة/ ومنها ما ينتشر عبر السوشيال ميديا.
الحادثتان ربما ساهما في فضح مرارة سياسة الإقصاء، الأمر الذي جعلني أفكر هل يشعر قطاع الرياضة بمرارة إقصاء المسيحيين من الألعاب المختلفة؟
على الجانب الأخر نجد لاعب مثل لامين يمال (الأمين جمال) القادم من أصول عربية، مسلم، ومثل منتخب مثل منتخب إسبانيا وهو لم يكمل عامه السابع عشر. ناهيك عن أنه يقوم بإشارة لرقم 304 الرمز البريدي لحي لروكافوندا– حي كتالوني للمهمشين- الذي تربى فيه “لامين” خلال احتفاله بإحراز الأهداف دعماً وتذكيرًا منه لحية القديم.
ألم تبدأ كرة القدم كلعبة من أجل المهمشين والأقليات.. فلماذا لا يلعبها المهمشين والأقليات؟
كثيراً ما سمعت جملة.. “ما انتوا عندكوا هاني رمزي” وكأن لاعب واحد، أو خمسة لاعبين مسيحيين في تاريخ الدوري المصري كله رقم كاف أو يعكس نسبة حقيقية تخص الولع بأكثر الرياضات شعبية.
Scroll
منذ سنوات يظهر منشور على الفيس بوك، وتتكاثر أرقام مشاركته، ثم يخفت لفترة ويعاود الظهور كأنه جديد وتتكاثر الأرقام مرة أخرى، وهكذا. يبدو المنشور بالنسبة لي، حتى وإن بدا فكاهياً، وأن كاتبه الأصلي ربما كان مسيحياً، كأنه يعبر بطريقة ما عن شيء نعرف جميعًا وجوده وإن كنا ننكره جميعًا أيضاً، يعدد المنشور أسباب خلو فريق الكرة من اللاعبين المسيحيين بطريقة ساخرة فهم لا يحفظون الفاتحة وبالتالي سينقسم الفريق بين من يرسم الصليب ومن يقرأ القرآن من قبل بداية المباراة، وأسمائهم غريبة الوقع..”دانيل فيلوباتير مثلاً غصب عنك هتحس إن الواد ده ثغرة الفرقة”، ويشير إلى فترات الصيام الطويلة، وأيضاً اختلاف أيام الصيام بين المسلمين والمسيحيين.. “تخيل لو نص الفريق مسلمين بيصوم اتنين وخميس والتانى مسيحيين بيصوموا أربع وجمعة.. اتعشت كده مفيش تمارين”، أحد الأسباب التي عددها المنشور..” اسأل نفسك أسئلة مهمة: فى صلاة الجمعة.. هيروحوا فين؟ لما اللعيبة تعمل عمرة سوا.. هيروحوا فين؟ هيعملوا ايه لما يجى الجول بدل السجدة ؟ هيبقى اسمه منتخب “اللى مش كله ساجدين ؟”.. هيزاولونا وخلاص”.
كلما رأيت المنشور ينتعش، أتذكر حكايات عديدة لأطفال وشباب طردوا لمجرد أن هويتهم الدينية مختلفة، لماذا يظهر الأمر بفجاجة في قطاع كرة القدم.. ربما لأنها الأكثر شعبية؟ هل لأنه منتخب الساجدين حقاً؟ وأشك في أن الكثيرين يعرفون أن السجود طريقة عبادة للمسيحيين أيضاً.
***
مرة كتبت بعد تفجير إحدى الكنائس يوم أحد الزعف، إلى زميلة متخيلة أرى فيها وجوه الكثير ممن مررت بهم: “تتذكرين عندما كنا نخرج من الفصل أنا وأنتِ فقط، وكنا نجلس في ممر بين الفصول لأخذ حصة الدين مع مس صابرة، بينما زملائنا ينظرون إلينا باستغراب وغربة؟.. تلك هي بداية كل ما يحدث الآن“.