fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

الخراب كذاكرة.. كيف تُعيد الحرب تشكيل معنى المكان؟

في أكتوبر، وبعد عام كامل على اندلاع الحرب، وما يزيد عن خمسة شهور على انسحاب الجيش من مدينة خان يونس بدأت تظهر في عمق المدينة المدمرة، أشكال لإعادة موضعة المكان كأداة للتعبير عن الرفض والاعتراض على أن يلحق به كل هذا الدمار ..
ــــــــ البيتــــــــ المـكـان
6 ديسمبر 2024

غادرتُ البيت بعد ساعاتٍ من اندلاع الحرب في أكتوبر من العام 2023. كانت مغادرةً مُرتبكة ومُتَعَجِّلَة، ولم يكن هناك أيّ أوامر إخلاء للمكان من قبل الجيش. بالأحرى، كان الحدث لا يزال في مرحلة استيعابه، ولذا كانت المغادرة غير مبررة كما أعتقد، أو ربما كانت مغادرة لأسباب نفسية أكثر من كونها مغادرة لوجود خطر حقيقي.

كانت الشقة لا تزال على حالها، وكنت لا أزال أستطيع شم رائحة البويا على الجدران المطلية حديثًا. كنتُ قد أجريت، بعد إصرار هائل من زوجتي، أعمال دهان وترميم فيها. لذا كانت الشقة نفسها التي حصلت عليها قبل أربع سنوات تمثل تجسيدًا لفكرة البقاء والاستقلال والخصوصية والإنجاز، وكانت في تلك اللحظة لا تزال تمثل لي كل تلك المعاني.

كنتُ خائفًا ومرتبكًا، لكن الحياة من حولي كانت لا تزال كما هي: الشقة ذاتها، البناية في الحي، والشارع، والطرق في المدينة، ومركز المدينة، ومعالمها الأساسية، ومخيمها، وبيت العائلة، والأسواق الشعبية، والمشافي، والفضاءات العامة؛ كلّها لا تزال هي. ولا زالت، بالنسبة لي، تجسد ذات معانيها وتعريفاتها.

كنّا جميعًا لا نزال نتحسس هول الحدث، فيما تحيط بنا غيوم هائلة من الخوف والترقب وتوقع حدوث الخسائر. إلا أن كل الموجودات المادية التي كنتُ أتعامل معها كانت بالنسبة لي لا تزال تحتفظ بمعانيها وتعريفاتها وسياقاتها الدلالية والإيحائية التي أعرفها.

الوجود والانعدام.. هل يظل المكان حيًّا بعد دماره؟

في مارس من العام 2024، عدتُ للمرة الأولى إلى شقتي بعد أن غادرتها نهائيًّا في نوفمبر من العام 2023، متجهًا إلى رفح التي كانت في تلك الأوقات لا تزال هادئة نسبيًّا مقارنةً بخان يونس التي كانت آلة الحرب تهرسها من رأسها إلى أسفل قدميها. كانت الدبابات والآليات العسكرية الإسرائيلية لا تزال تتمركز في السواد الأعظم لمدينة خان يونس باستثناء هوامش قليلة من جغرافيا المدينة: مواصي خان يونس، وهي عبارة عن شريط ساحلي صغير أقصى غرب المدينة وبمحاذاة البحر. وكانت الدبابات، إلى ذلك الوقت، لم تدخل “مدينة حمد” شمال غرب المدينة حيث تقع شقتي وسط حي مكوّن من عدد من المباني السكنية.

عدتُ مُتسللاً ومجازفًا لأن المكان حيث تقع الشقة كان لا يزال خطرًا، إلا أنني، وفي لحظةٍ متهورة، قررت الذهاب إلى هناك لأخذ بعض الأوراق المهمة التي لم أكن قد أخذتها وقت مغادرتي قبل أشهر. وكانت هذه العودة الخاطفة، التي يُحيط بها الخوف والقلق، بمثابة إعادة تقديم للحي والمبنى والشقة للمرة الأولى. فالطريق لم تكن ذاتها التي أسلكها عادةً كي أصل إلى الحي، والطرقات بين المباني، وإن كانت في تلك الفترة لا تزال بحالة جيدة، بدت لي غريبة ومُربكة وكأنني أزورها للمرة الأولى.

حين وصلت إلى المبنى حيث الشقة، كان في المبنى عدد محدود من العائلات، وكانت وجوههم عابسة وواجمة يحيط بها الخوف واليأس. كما أنني وجدتُ عائلات جديدة لنازحين لا أدري من أين جاؤوا وسكنوا المبنى. وعندما أدرت المفتاح وفتحت الشقة، انتابتني مشاعر هي خليط من الخوف والارتباك مع شعور زهيد بالأسى، كما لو أنني كنتُ في زيارة لصديق قديم قد جارت عليه الأيام وانقلبت به الأحوال. على الرغم من أن الشقة في وقتها كانت لا تزال بحالٍ جيدة.

شَكَّلَ هذا التلقي للمكان بكل تلك الأبعاد المكانية والشعورية تعريفًا جديدًا للشقة، تعريفًا مضادًا لكل معاني التعريف السابق. كنتُ أريد فقط تجاوزها والهروب منها، محاولًا تجنب كل ما كانت عيناي تقع عليه من موجودات فيها: الأثاث، أواني الطبخ، أقماع السجائر المتروكة في المنفضة، الكتب في المكتبة، الملابس المتسخة في سبت الغسيل فوق الغسالة، فناجين القهوة التي كنّا قد تركناها مملوءة حين هربنا قبل أن نشربها ..

كنتُ أريد تجاوز كل هذا وتجنب استدعاء كل ما تعنيه هذه الأشياء التي انقلبت بصورةٍ جذرية وعلى نحو لا أستطيع تفسيره درجة إحساسي بها وبما تعنيه. وكل ما تملكني في تلك اللحظات كان رغبة متعاظمة للإفلات من كل هذا والعودة مسرعًا من حيث أتيت.

بعد الكثير من الصبر والتدقيق والمحاولة، كنتُ أستطيع أن أميّز المكان، بسبب ناصية تُركت هناك أو حجارة من مبنى معين، أو معلم تكسرت أجزاءٌ منه وبقيت أجزاءٌ أخرى، أو أن يُخبرني أحدهم: “هذا شارع جلال، هذه عمارة جاسر، هذه قلعة برقوق، هذه حارة اللود” ..

في مايو من العام 2024، انسحبت الآليات العسكرية الإسرائيلية من مدينة خان يونس بعد أن أمضت فيها ما يزيد عن خمسة شهور. وصار بالإمكان الرجوع إلى المدينة وسط ظروف أكثر ارتياحًا وأقل توترًا، وفي ظل شيء من الشعور بالأمان والهدوء النسبيين. كانت عودة الناس إلى المدينة التي غادرها الجيش للتو شيئًا يشبه الانبعاث من الموت. مجموعات كبيرة من الناس المتعبين تهرع تجاه أحيائها، فيما تعتريها علامات وجوم ودهشة لا مثيل لها.

حين عدتُ هذه المرة إلى الحي، غرقت فيما يشبه نوبة من الإغماء أو النوم المغناطيسي. كنتُ أسير، إلا أنني أعتقد أنني لم أكن مدركًا بصورةٍ حقيقية لما أعايشه وأراه.

بعد أن بدأت تتشقق قشرة الصدمة التي غطت دماغي بالكامل، بدأت أتحسس حجم الخسارة، والتي يمكن الإشارة إليها بعبارة قصيرة تختصر الأمر: أنني لم أتمكن من معرفة المكان الذي توجد فيه البناية حيث أسكن. كان حجم التدمير الهائل الذي أصاب الحي شيئًا لا يمكن تصديقه. تجريف هائل لكل الطرق المرصوفة، وتدمير لكل المربعات الخضراء التي كانت تتوزع بين الأبراج، وعدد كبير من الأبراج السكنية قد سويت بالأرض فوق بعضها البعض كما لو أنها قطع بسكويت مهشمة. تدمير هائل وفظيع ومرعب لا يمكن تصديق أن قدرة إنسانية مهما كانت باطشة وقوية تستطيع فعله. وبدا لي المكان، وهو كذلك فعلًا، خرائب هائلة مدمرة وغير قابلة للحياة.

حين وصلت بصعوبة شديدة إلى الشقة، والتي كان الجنود قد فتحوا بابها وأعاثوا فيها وخطوا على جدرانها رموزًا وحروفًا بالعبرية وأطلقوا رصاصًا فيها، شعرت أن البيت لم يعد بيتًا بالمعنى الذي كنت أعرفه. أما كونه بيتي، فلقد كنت أعيش فيما يشبه حالة الإنكار والرفض. انسحب ذلك على شعوري بالمبنى والحي بأكمله. وتكوّرت داخلي وقتها فكرة أن حجم الدمار الذي أحدثته الحرب في الحي لا تستقيم معه عودة الحياة. وإن قطعًا هائلًا بيني وبين البيت وبين المجموع والحي قد حدث بالفعل، ولا شيء يمكنه وصل هذا القطع.

المكان كذاكرة جماعية.. هل يصبح الدمار هو ذاكرة المكان؟

في يوليو من العام 2024، تجرأتُ للمرة الأولى بعد ما يزيد عن شهر من مغادرة الجيش للمدينة، على أن أذهب في تجوالٍ فيها. كانت آثار الصدمة التي ألمت بي حين عدتُ إلى الحي والبيت قد أحالت بيني وبين القدرة على تلقي صدمات أكثر حدة وعنفًا، إلا أنني، وبدافع الفضول والرغبة في تجاوز شيء ما في داخلي، تجوّلتُ في شوارع المدينة التي كانت كلها قد دُمّرت عن بكرة أبيها.

كان الفضاء العام الذي عشت فيه سنوات طفولتي ومراهقتي وشبابي قد تدمر بطريقة تجعلني لا أستطيع معرفة الأماكن التي أسير فيها. كنتُ أسيرُ وسط مشاهد الخراب الواسعة والممتدة والمنتشرة في كل الاتجاهات على مديات النظر، سيرًا متشنجًا مُرتبكًا ومذهولًا، ولا أستطيع أن أتعرّف بوضوحٍ على الأماكن التي عشت عمري فيها. وبعد الكثير من الصبر والتدقيق والمحاولة، كنتُ أستطيع أن أميّز المكان، بسبب ناصية تُركت هناك أو حجارة من مبنى معين، أو معلم تكسرت أجزاءٌ منه وبقيت أجزاءٌ أخرى، أو أن يُخبرني أحدهم: “هذا شارع جلال، هذه عمارة جاسر، هذه قلعة برقوق، هذه حارة اللود”، وغيرها.

كان عقلي، كلما واصلت السير وسط خرائب الدمار المُنتشرة، وكلما وصلنا إلى مكان ما، يستعيد على نحو لا أستطيع تفسيره ومضة لصورة المكان قبل أن يُصيبه التدمير، ثم سرعان ما تلبث صورة الدمار للمثول أمامي كاللعنة. دمارٌ هائلٌ وممتد وثقيل، وكنتُ أشعر كما لو أن مشاهد الدمار الماثلة على نحو هائلٍ تحذف من ذاكرتي تباعًا كل تلك الصور الحية عن المكان قبل أن تُصيبه الكارثة، كما لو أن الكارثة عمرها مئة ألف سنة، وكما لو أن صورة المكان قبلها وذاكرتي معه لم تكن سوى وميض سرعان ما اختفى، واختفت معه ذكريات حية وحقيقية هي حياتي كلها وسط تلك المناطق.

في الأزقة، وعلى الأرض إلى جوار قلعة برقوق حيث كنتُ أشرب القهوة مع الأصدقاء، وإلى الجوار منا اسكافيون مهرة يسحبون الخيوط في نعول أحذية اهترأت في شوارع غزة ويبصقون على العالم غير آبهين بنشرات الأخبار المنبعثة من راديوهات قديمة مثبّتة على عرباتهم، تلك النشرات نفسها التي ابتلعتهم الآن وابتلعت أماكنهم على هيئة أخبار عاجلة سريعة، سرعان ما تذوب في معمعان الحرب. وها أنا الآن وحيدًا في فراغ المكان المدمر الخالي من الناس، والاسكافيون وذكرياتي معهم، كما لو أن كل شيء لم يكن، كما لو أنه تبخر وانتهى، أو كما لو أنه لم يكن موجودًا.

كنتُ أحاول أن أهرب من ذلك التعريف الجديد للأماكن التي حولتها آلة الحرب إلى خرابٍ هائلٍ لا نهاية له، التعريف الذي يلغي شكل المكان وروحه وذكرياتي معه. سنواتٌ طويلة من الوجود والمكوث والذاكرة أكلتها آلة الحرب كما لو أنها لم تكن، ومعها أحالت أجزاء كبيرة من ذاكرتي إلى مشاهد متكررة من الحطام والخراب، الذي لا يمكن أن يكون ذاكرة، إنه حالة نسيان، أو ربما زهايمر.

من الإبادة إلى التخلّق الجديد.. هل يتحوّل مكان الحرب إلى شكلٍ لبدايةٍ جديدة؟

في أغسطس من العام 2024، بدأت ملامح جديدة لتخلّق جديد تُرى في الفضاء العام. كنتُ، كما أشرت سابقًا، أعتقد أنَّ القطع الذي أحدثهُ الدمار بين الأمكنة الخربة والناس أصحابها لا يُمكن وصله، إلا أن الناس، وبدوافع لا يمكنني تفسيرها، ولكن يمكن أن أعزوها إلى الرغبة في الاستمرار وسط فرص النجاة القليلة وانعدام الخيارات الهائل، بدأوا في تخليق مساحاتٍ للحياة وسط مشهد الدمار الهائل. وبدأنا نعرّف الأماكن بصورةٍ جديدة على النحو التالي: الأغلب ليس لديهم بيوت، لكن بعضهم يُمكنهُ بناء خيمة على أنقاض منزله، آخرون هُدمت بيوتهم ما عدا غرفةٍ أو غرفتين يُمكن لهم العيش فيها، وآخرون لديهم بيوت قائمة ولكن بلا جدران، ولذا من الممكن إحاطة البيت بالقماش والسكن فيه. وهكذا بدأ الجميع يُعيد تعريف علاقته بالبيت والمكان الذي هو فيه، والذي يتم اختلاقه وسط مشهد عام من الخراب. كانت محاولات الناس لاختلاق تلك العلاقة الجديدة مع المكان المدمر، وإن بدت للوهلة الأولى محاولاتٍ حيةٍ وحقيقيةٍ، إلا أنها تُثير في نفسي مشاعر متضاربة من الألم والحسرة. وبدت المدينة التي أكلَّها الدمارُ، فيما يحاول سكانها اختلاق مساحاتٍ للحياة فيها، كوجهٍ مُتهشم، إلا أنه، وعلى الرغم من التهشم البادي عليه، يحاول عبثًا أن يبتسم.

هكذا بدأت تتشكّل هوية جديدة للمكان، هي مجموع للتعريفات الجديدة التي اختلقها الناس لبيوتهم بعد أن أصابها الدمار. هذه خيمة أم عمر بدلاً من بيت أم عمر، وهذا الآن هو بيت أبو خالد وأبو العبد معًا، بعد أن سَكَنَ أبو العبد في طابق بيت أبو خالد الأول بدلاً من بيته المهدوم. وهنا في هذا الكشك الصغير المصنوع من ألواحالزينقو، غرفة المندوب المسؤول عن تقديم أسماء العائلات إلى الجهات الإغاثية الدولية، وفي هذا الرواق تكية الحارة التي توزع الوجبات بين الوقت والآخر. وهكذا دواليك، تشكّلت رويدًا رويدًا هوية جديدة للمكان المختلق وسط مشهد الخراب، هوية جديدة مسخة هي تكوين اضطراري لتجاوز ألم وتعقيد اللحظة، لكنها ستكون بعد قليل، وبحكم تعاقب الأيام، المكان كما يعرفه الناس، وسيتصالحون معه شيئًا فشيئًا ويضيفون إليه أبعادًا جديدة كلما حدث قصفٌ جديد أو كلما اضطروا إلى مغادرته بعد عملية نزوح جديدة.

 كانوا يريدون القول بواسطة ركام مبانيهم المدمرة أنهم ضحايا عاديون يتألمون بصورة حادة فيما يتم تدوير صراخهم على شكل خطابات استهلاكية تتعامل مع كل تلك المعاناة بوصفها مادة للاستهلاك والتدوير الإعلامي السمج ..

وهكذا، وبعد شهورٍ قليلة من انسحاب الجيش من خان يونس، بدأ يظهر بوضوح تعريف جديد للمدينة. فالمركز، حيث قلعة برقوق، ومسجد المدينة الكبير، وأسواق الملابس والخضروات، والمحلات التجارية المركزية، والعيادات، والمقاهي، ومحلات الصاغة، والمرافق الحيوية الأخرى، لم يعد مركزًا بعد أن حوّلته آلة الحرب إلى مساحة هائلة من الخراب، فيما انتقلت كل تلك المعالم أو أجزاء منها إلى منطقة المواصي، وهي شريط زراعي محدود على شاطئ البحر، لم يكن قبل الحرب سوى هامشٍ للاستجمام والزراعة البسيطة. لكنها أصبحت الآن مركزًا حيويًا يضم الأسواق التي أقامها النازحون بالإضافة إلى مقار هيئات الإغاثة والمؤسسات الدولية، فيما بقيت كافة المناطق الأخرى في المدينة هوامش بعد أن كانت المركز. أصبحت هوامش مدمرة يحاول الناس إعادة اختلاقها على النحو الذي ذكرته سابقًا، محاولات بسيطة لاختلاق حياة جديدة وسط مشهد الخراب المدوي.

في الشقة، حاولت كما فعل الآخرون إعادة تقديم تعريف للمكان. أصلحت ما يمكن إصلاحه وبدأت أحدّق في الفتحات التي أحدثتها الرصاصات في الجدران، والرموز والإشارات والحروف التي كان الجنود قد خطوها على الجدران. يومًا بعد يوم، استيقظ صباحًا وأحدّق في الرصاص والكلمات وأنظر من النافذة لمشاهد هائلة من الدمار والشقق التي تم قصفها قبالتي وأحالتها صواريخ الطائرات إلى مساحة فارغة ومدمرة بعد أن فتكت بأجساد من كانوا فيها وحولتهم إلى أشلاء متفحمة وممزقة.

وعليَّ الآن أن أخلق تعريفًا للشقة التي أصابها رصاص كان من الممكن أن يقتلني، والتي تطل على مساحات واسعة من الخراب والدمار والتي تحيط بها أرواح من ماتوا في عمليات القصف المتكررة، وصورهم العالقة في الجدران كلما نظرت إلى الشقق المقصوفة من النافذة.

المكان كأداة للتمرد.. إعادة تشكيل المكان كوسيلة للاعتراض والرفض

في أكتوبر من العام الجاري وبعد عام كامل على اندلاع الحرب، وما يزيد عن خمسة شهور على انسحاب الجيش من مدينة خان يونس بدأت تظهر في عمق المدينة المدمرة، أشكال لإعادة موضعة المكان كأداة للتعبير عن الرفض والاعتراض على أن يلحق به كل هذا الدمار وأن يُبتر عن سياق نموه الطبيعي بهذا الشكل، كانت تلك الأشكال تتجه في فعلين أساسين: الأول محاولة بعض المحال التجارية أن تعيد نشاطها التجاري وسط مبانٍ مهدمة وأحياء فقدت أغلب ساكينها بين نازحون لا يتمكنون من العيش فيها ومسافرون تركوها وقت الحرب وضحايا فقدوا حياتهم خلالها، وكانت محال من نوع محال تأجير بدل المناسبات، محلات التجميل وتصفيف شعر السيدات تظهر وسط مساحة التدمير الهائلة كما لو أنها لوحة سُريالية: فستان فرح أبيض على منيكان وسط شارع مهدم ومقفر وفي منطقة تحولت إلى خرابة كبيرة وتفرق شمل ساكينها.

مشهد يحيط به الألم من كل زواياها، وإلى الأمام منها وفي بقايا محلها  المهدّم تحاول “كوافيرة” أن تعاود مزاوية نشاطها الغير مهم أبداً في مدينة أُبيدت ودُمرت ودَخل الموت بيوتها.

كانت تلك محاولة لاسترجاع التعريف القديم للمكان، حيث مركز المدينة ونشاطها التجاري والاقتصادي الواضح، أما الثاني فكانت عبارات ورسومات خطها ورسمها أصحاب المباني المدمرة على أنقاض مبانيهم، كانت تلك العبارات والرسومات المنتشرة في أغلب المناطق المدمرة، محاولة لإعادة تعريف المكان ليكن منصة للتعبير عن الرفض، الرفض الهائل لأن يحدث ما حدث في المدينة في غفلة من زمن الحرب.

كانت عبارات حادة وإن توارت في إلماحات قدرية وأخرى رمزية، أراد الناس أن يعطوا المكان المهدم تعريفاً يحاولون من خلاله التعبير عن حالة الرفض الكبيرة المكبوتة داخلهم، والتي لا يجدون منصات تعبّر عنها بوضوح، في الوقت التي تغيب في سرديتهم ويرويها بالنيابة عنهم رواة كُثر آخرون يحولونها إلى أخبارٍ عاجلة مؤقتة وسريعة تختفي وتتوارى وراء سيل من الأخبار العاجلة المتتالية، كانوا يريدون القول بواسطة ركام مبانيهم المدمرة أنهم ضحايا عاديون يتألمون بصورة حادة فيما يتم تدوير صراخهم على شكل خطابات استهلاكية تتعامل مع كل تلك المعاناة بوصفها مادة للاستهلاك والتدوير الإعلامي السمج، والركام كان قادراً على أن يحمل هذه المعاناة وإن لم يراها أحد بالكيفية التي تم إذاعتها والترويج لها عبر وسائل الإعلام والميديا، كان هذا التعريف الجديد للأماكن المهدمة جزء من صراخ مكبوت أرادوا أن يُسمع ويُرى، وكانت الحجارة وأعمدة الخرسانة وأسطح البيوت الواقعة على الأرض خير وسيلة لتقديم ذلك.