كانت رائحة الدخان على ملابسها شديدة، حينما جاءت إحدى الأمهات لإرضاع طفلها الذي يعاني من انخفاضٍ في الوزن بسبب ولادته المبكرة. وكجزءٍ من عمل الممرّضة لمى (33 سنة) في التثقيف الصحي لأهالي الأطفال الخدّج في إحدى المستشفيات الحكومية في العاصمة عمان، أخبرت الأم عن مضار الدخان لصحتها ولصحة طفلها المولود قبل موعده، وأنّ التدخين قد يكون أحد أسباب انخفاض وزنه عند الولادة. لم تجب الأم بكلمة، فأكملت لمى نصحها بتخفيف عدد السجائر إن أمكن، وأخبرتها عن الحلول المقترحة إن كانت لا تستطع المجيء إلى المشفى، إحداها أنّها قادرة على وضع حليبها في أكياس خاصة تشتريها من الصيدلية، وتجمّدها في المنزل قبل إحضارها إلى المشفى حتى تتأكّد الأم من أن طفلها سيتناول حليبها، إلّا أنّ المرأة أجابتها بما لم يكن متوقّعًا، وصارحت لمى بأنها لا تملك ثلاجة.
لم تعرف لمى كيف تتصرّف حيال هذا الموقف العبثي الذي يطالبها بأن تنصح المرأة بالتوقّف عن الدخان بينما لا تملك ثلاجة في منزلها. تسمّرت صامتة أمام هشاشة الطفل الجسدية، وهشاشة الوضع الاقتصادي لأسرته، والأعباء النفسية والاجتماعية التي تتكبّدها والدته. تقول لمى ساخرة ومتهكّمة بأنّ هذا الموقف دفعها إلى التفكير للحظة في أن تعرض على الأمّ شراء علبة دخان لها ولطفلها علّهما ينسيا ظروفهما الصعبة. قد لا يتوقّع الناس أن تعبر أفكارًا كهذه في رؤوس الممرضين، الذين يُنظر إليهم غالبًا على أنّهم حاملين للخير المحض والأخلاق الحسنة. وإذا أراد الناس منحهم صفات أخرى، فستكون إما ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب. ثمّة صورتان إذًا لا ثالث لهما، تختزلان الكثير من المواقف المربكة والشاقّة التي يواجهها الممرّضون في يومياتهم، وخلال عملهم داخل القطاع التمريضي الأردني، في مهنة غالبًا ما يُساء تقديرها، ويُعدّ العاملين فيها مجرّد تابعين للأطباء وأوامرهم.
بيروقراطية الأخلاق
تطوّرت مهنة التمريض عبر الزمن، ليتحوّل جانبها الرعائي الذي كان محصورًا بالنساء ودورهنّ المجتمعي في العناية بالأطفال ورعاية كبار السن في المنزل، إلى مهنة لها مدوّنة سلوك أخلاقية صارمة تُدرّس في الجامعات حول العالم. وبحسب “منظمة الصحة العالمية”، تشمل مهنة التمريض الرعاية المستقلة والتعاونية للأفراد من جميع الأعمار والعائلات والمجتمعات، بما يضمن تعزيز الصحة والوقاية من المرض ورعاية المرضى والمحتضرين. ورغم قواعدها السلوكية والأخلاقية الصارمة، فهذه المهنة محكومة غالبًا بأنظمة مؤسساتيّة بيروقراطية ذات عيوب ومشاكل لناحية تقديم الرعاية في بعض الدول، خصوصًا تلك التي تكون بنيتها الصحية هشة، حيث يُطلب من الممرضين والممرضات ما يفوق قدرتهم على الاحتمال.
يدرس طلبة التمريض في الجامعات الأردنية مادّة أخلاقيات المهنة، وفيها التعليمات النظريّة لما يجب أن يقوموا به في مهنتهم بعد التخرّج، وما سيواجهونه من أسئلة أخلاقية لدى تعاملهم مع المرضى. ما لا يتعلّمه الممرضون أنه بعد انخراطهم في المهنة، سيصبحون مقيّدين بقيم المؤسسة وفلسفتها، وفق ما يشير أستاذ التمريض في الجامعة الأردنية الدكتور أيمن منصور، بالإضافة إلى التداخل في النظام القيمي والمجتمعي للممرضين، فتصبح الإشكالية مرتبطة في المتعارف عليه اجتماعيًا لا معرفيًا.
يدرس طلبة التمريض في الجامعات الأردنية مادّة أخلاقيات المهنة، وفيها التعليمات النظريّة والأسئلة أخلاقية الناتجة من تعاملهم مع المرضى، بيد أنّهم يصبحون مقيّدين بقيم المؤسسة التي يعملون فيها وبنظامها وفلسفتها
تخضع مدونة السلوك الأخلاقي لمهنة التمريض المعتمدة من “المجلس التمريضي الأعلى” (وهي مؤسسة أردنية حكومية معنية بتنظيم المهنة وتطويرها) في ظروف معينة للقانون المدني، لكن ليس في جميع الظروف، لذلك يتساءل منصور عن كيفية وإمكانية تعزيز أخلاقيات المهنة وتطبيقها. يُفصح واقع مهنة التمريض في الأردن، وفي بعض البلدان العربية، عن هوّة تطبيقية في الرعاية التمريضية والطبية منذ البداية، فالبنية الصحية الهشّة تؤجّل التفكير في الجانب الأخلاقي حول ما يجب وما لا يجب فعله.
يُعدّ العاملين في قطاع التمريض الأكثر تماسًا مع المرضى في المؤسسات الصحية المختلفة، وهم حلقة الوصل الأولى بين المرضى والقطاع الصحي، كما أنّهم يشكّلون ما يقدّر بنصف العاملين في المؤسسات الصحية في العديد من الدول. لذلك، أن تعمل في مهنة التمريض، يعني أن تكون مثقلًا بأحمال وأعباء الآخر/ المريض، وبهشاشة النفس والجسد البشريتين، وما يترتّب عليها من أسئلة أخلاقيّة. يعني أيضًا أنّك ستخضع للأعباء البيروقراطية التي تحكم الوظائف الأخرى أيضًا، أي الخضوع لإدارة قسم التمريض، ولرئيس القسم، وللممرضين الأعلى منك رتبة، والزملاء في القسم نفسه، والبروتوكولات الطبية والإدارية، وإدارة المستشفى الطبيب وقراراته وتبعاتها التي قد تؤثّر في مصير المريض، حياته أو موته.. ستكون شاهدًا على كلّ هذا، ما قد يرفع من احتمالية الإعياء الأخلاقي.
إعياء أم إجهاد أخلاقي؟
إحدى أولى المحاولات الجادّة لتسليط الضوء على الإشكاليات الأخلاقية للقطاع التمريضي، تتمثّل في ما قدّمه الأكاديمي الأميركي آندرو جاميتون في كتابه الصادر عام 1984 بعنوان “الممارسة التمريضية: المسائل الأخلاقية” الذي طرح فيه مفهوم “الإعياء الأخلاقي” (Moral Distress) معرّفًا إيّاه بأنه الحالة التي يهتدي فيها الممرضون والممرضات إلى التصرّف الصائب تجاه المرضى، لكنهم يُمنَعون من تنفيذه بفعل معيقات خارجة عن إرادتهم. يشمل مفهوم الإعياء الأخلاقي عناصر عدّة مترابطة: مواجهة موقف أخلاقي، إصدار حكم أخلاقي أو معرفة الفعل الصائب، ثم مواجهة معيقات – سواء على المستوى الفردي، أو ضمن فريق العمل، أو على مستوى المؤسسة – تحول دون اتخاذ ذلك الفعل، مما يؤدي إلى الامتناع عن التصرف الصائب بالرغم من إدراكه، وينتج ذلك معاناة أخلاقية تتجلى بشكل أوجاع جسدية ونفسية وعاطفية.
ورغم أنّ جاميتون لم يكن ممرضًا، فإنه أدرك أنّ القطاع التمريضي هو الأكثر عرضة لهذه المواقف الأخلاقية المعقدة. وقد شكّلت مساهمته انطلاقة مهمّة لدراسة القضايا الأخلاقية في مجال الرعاية الصحية، بما في ذلك تطوّر مجال الأخلاقيات الحيوية، وتأثير التقدّم العلمي والتكنولوجي على الأسئلة الأخلاقية المتعلقة برعاية المرضى في مراحلهم الأخيرة.
قدّم فيلسوف الأخلاقيات الحيوية البريطاني آلان كريب، المتخصّص في الأخلاقيات التطبيقية في مجالات الرعاية الصحية، اجتهادًا مفهوميًا بديلًا عن “الإعياء الأخلاقي” هو “الإجهاد الأخلاقي” (Moral Stress)، وقد انطلق كريب في عمله المفاهيمي من فرضية أساسية مفادها أن وظيفة القطاعات الصحية بطبيعتها تعدّ عملًا مجهدًا، ينطوي على ضغط نفسي وتوتّرٍ دائمين، نتيجة للخصائص الجوهرية المعقدة التي تميّز أنظمة الرعاية الصحية. وتشمل هذه الخصائص احتمالية التسبّب في الضرر، والحاجة المستمرة للتكيّف في ظروف طارئة ومتغيّرة، إضافةً إلى المرونة التي تتيح للنظام الصحي الاستمرار في العمل بالرغم من تعرضه للعطب، وقدرته على التعافي من الصدمات.
ويوضح أيضًا أنّ العمل في مجال الرعاية الصحية ينطوي على “إجهاد أخلاقي رتيب” بسبب الأفكار المسبقة والمضمرة بأن فعل الخير هو واقع هذا العمل، لذا فإنّ عدم القدرة على تقديم خدمات الرعاية الصحية للمرضى ضمن رتابة العمل البيروقراطي لنظام الرعاية الصحية سيخلق تهديدات متكرّرة للنزاهة المهنية، ويولّد إجهادًا أخلاقيًا. وهنا يرى كريب أن الإجهاد الأخلاقي الذي يعانيه العاملون في مجال الرعاية الصحية هو نتيجة حتمية للأنظمة المتعبة التي يعملون فيها، فهو مكوّن متأصّلٌ، واعتيادي، وفي صميم هذه الأنظمة.
جسد حي.. جسد ميت
لا يلبث أن يتحوّل الإعياء إلى احتراق نفسي شديد، يدفع الممرضين إلى اللامبالاة تجاه مهنتهم، أي إلى اللامبالاة تجاه المريض. ومع تزايد مشاعر الضغط والإحباط، قد يفقد الممرض أو الممرضة الدافع لأداء الواجب المهني، ويظهر ذلك في شكل غضب أو توتر تجاه المرضى، والمرافقين، والزملاء، حتى الأطباء. وما يضاعف قلق الممرضين، هو الاحتمالية المرتفعة لموت المرضى، وهو أمر يصعب أن يعتاده الممرضين ولو أنّه متوقّع في عملهم بحسب منصور.
تستحضر لمى إحدى أسباب استقالتها من “مركز الحسين للسرطان” بعد تسعة أشهر من العمل هناك، بما فيها من مواقف قاسية وضغط عمل مهول، ودوامات طويلة، وبروتوكولات العناية التمريضية الصارمة، والجو العدائي الذي كانت تستشعره من زملاء المهنة. لكن المواقف التي كانت سببًا رئيسيًا في استقالتها هو التعامل مع المرضى وهشاشتهم النفسية الجسدية في آخر مراحل حياتهم، وبالأخص مع أجساد المتوفين أو مع من هم على وشك الوفاة. يعتاد الممرض التعامل مع جسد المريض الحي، ومن ثم يصبح جسدًا ميتًا. أثّر هذا على لمى التي خافت أن تعتاد الموت وأن تتعامل معه ببرود وقسوة، كما لو أنه حدث روتيني. لهذا لم يكن ممكنًا أن تجد التوازن النفسي في هذه الحالات، خصوصًا أنّه لا يوجد أخصائيين نفسيين أو اجتماعيين تستطيع التحدث معهم للتعامل مع هذه المواقف.
استقالت لمى من “مركز الحسين للسرطان” تجنّبًا للمواقف القاسية التي تواجه فيها هشاشة المرضى النفسية الجسدية في آخر مراحل حياتهم، وخوفًا من احتمالية اعتيادها على الموت والتعامل معه كحدثٍ روتيني
يرافق الممرضون المرضى لفترةٍ طويلة، ويقضون معهم يوميّاتهم وتفاصيلها الشاقّة، ليشهدوا على خيبات وآلام لا تحتمل. في هذه التجربة، يصبح الممرّض ملمًّا بتفاصيل واحتياجات المريض وبوضعه الصحي. يشير الممرّض مجد الذي يعمل داخل قسم العناية الحثيثة في إحدى المستشفيات الحكومية في جنوب الأردن “إحنا بنشوف المريض أكثر، وبنعرف حاجة المريض أكثر”، مستذكرًا موقفًا في إحدى مناوباته، حين حاول مع زملائه مناداة الأطباء الباطنيين في المشفى لإجراء تدخل سريع لأحد المرضى في قسم العناية الحثيثة، الذي أصابته جلطة رئوية حادّة بسبب التهاب في الرئة وخضوعه لغسيل الكلى. علم الكادر التمريضي عندها أنّ المريض يحتاج إلى تدخّل طبي عاجل، ووضعه على جهاز التنفس الاصطناعي. غير أنّ الأطباء الباطنيين، وأطباء التخدير لم يحضروا إلّا بعدما توقّف قلب المريض، وبعدما طُلب النداء العاجل المعروف في المستشفيات باسم Code Blue. لم يلحق الأطباء القيام بالإنعاش القلبي والرئوي، فقد فارق المريض الحياة. يقول مجد “لما طلبنا كود بلو، خلال دقيقة كانوا موجودين، كنا طالبين الأطباء لأكثر من نص ساعة.. والمريض بحتاج لتدخل سريع بس ما كان في استجابة”.
تتكرّر هذه المواقف يوميًّا بين الممرضين والأطباء وفق ما يخبرنا مجد، وبحسبه فإن تأخر الأطباء لدى ندائهم ليس مبرّرًا، فالمشفى كما يقول صغير نسبيًا، ويغطي المحافظة التي يعمل فيها. أما المناوبات بين الأطباء فيتم تقسيمها فيما بينهم، لذا فإن وجود طبيبين باطنيين لا يكفي لتغطية حاجة المشفى كاملًا، حيث يجب أن يكون هنالك طبيبًا مناوبًا فقط في قسم العناية الحثيثة بشكل متواصل.
جيوب المستشفيات الخاصة
في القطاع الخاص تختلف إشكالية الممرضين والممرضات بعض الشيء. ففضلًا عن نقص الكوادر الطبية، يشهد الممرّضون على جشع بعض الأطباء للمال بالرغم من حاجة المرضى الملحّة للعلاج. “من أسوأ مراحل حياتي وأكثرها تعبًا، هدول السنتين في هذا القسم.. من تبديل المرضى السريع والسرعة”، تقول ميسون (55 سنة) التي تعمل ممرّضة في قسم الحالات اليومية في إحدى المستشفيات الخاصة في عمان.
مع أنّ خبرتها الطويلة في مجال التمريض إلّا أنّ ضغط العمل وصل إلى ذروته أخيرًا، بعدما تضاعف الضغط على المستشفى الذي تعمل فيه نتيجة إغلاق أحد المستشفيات الخاصة، واقتراب إفلاس مستشفيين آخرَين. ولأنّ هناك خلافات بين شركات التأمين ونقابة الأطباء، تؤخّر حصول الأطباء على مستحقاتهم المالية، تقول ميسون أن العديد من الأطباء أصبحوا يرفضون علاج مرضى التأمينات، وتزايد جشع بعض الأطباء عند قيامهم بإجراءات طبية جراحية لا تستحق المال المدفوع عليها، لا سيما عندما يكون المريض غير مؤمّن من شركة تأمين.
تستحضر ميسون حالة المريض الذي احتاج لفكّ البراغي بعد إجرائه لعملية تثبيت فقرات الظهر بسبب تعرضه لحادث سير. دفع المصاب مبلغ ألفي دينار أردني (ما يقارب 3 آلاف دولار) للطبيب مقابل هذا الإجراء، الذي بحسبها لا يستأهل هذا المبلغ الكبير. وبالرغم من وجود تسعيرة لأجور الأطباء وضعتها نقابة الأطباء وشركات التأمين بالتعاون مع وزارة الصحة وصدرت العام الماضي، فإنّ بعض الأطباء وبعض المستشفيات الخاصة يتلاعبون بالأسعار، كما تشير ميسون، علمًا أنّ هناك بالطبع أطباء يمكن استثنائهم من هذا الاستغلال لوضع المرضى المادي.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
لا مجال للتذمّر
في دراسة (2013) أجرتها حول الإعياء الأخلاقي الذي يصيب ممرّضي وممرّضات أقسام العناية الحثيثة في الأردن، تناولت الأكاديمية فتحية أبو مغلي مجموعة من العوامل التي قد تؤدّي إلى هذا الإعياء، وأشدّها تأثيرًا على الممرضين رؤيتهم وتعاملهم مع المرضى الذين يعانون أمراضًا مستعصية ومهدّدة لحيواتهم.. إنّهم على علاقة يومية بصراع الموت والحياة. هناك أيضًا القرارات التي تتعلّق بالرعاية الفضلى للمرضى، وبالإجراءات الطبية التي قد تطيل حيواتهم وبالفحوصات الطبية غير اللازمة. تضاف هذه العوامل، إلى إمكانية العمل مع كادر تمريضي غير كفوء، وإلى العلاقة السلبية بالأطباء بسبب عدم التواصل الفعال، خاصة مع الممرضين الأصغر سنًا والأقل خبرة.
تهمّش أصوات الممرضين والممرضات، ولا يُعترف بدورهم المحوري في المنظومة الصحية، إلى جانب غياب مدوّنات أخلاقية واضحة تُلزم المؤسسات بتوفير حماية نفسية وجسدية لهم. كل هذا يفاقم الخلل ويؤجِّج إنهاكهم، تاركًا إياهم تحت وطأة ضغطٍ هائل لا يجد التفريغ الكافي أو الدعم المؤسساتي المطلوب، ما يؤثّر على قدرتهم على رعاية المرضى بالكفاءة المطلوبة، وتحقيق الأهداف الرعائية التي تقع على رأس متطلبات مهنتهم.
من ناحية أخرى، تفتقر المهنة إلى سياسات واضحة في المستشفيات حول أخلاقياتها، ولناحية المحاسبة والمسائلة، كما يخبر الممرضون والممرضات الذين قابلناهم، والذين أشاروا إلى خضوعها لمزاجية الإداريين والعلاقات الشخصية في المستشفى. وهنا، يشير الأكاديمي أيمن منصور إلى نقطة جوهرية بأن نظام التقييم والمسائلة يأتي بالعادة من أعلى إلى أسفل، فلا يستطيع الممرضين العاملين من مساءلة سلطة إدارة التمريض أو إدارة المستشفى الذي يعملون فيه أو انتقاد رؤسائهم، مما يزيد من معاناتهم. ومن جهة أخرى، فإن قرارات التعيين في وزارة الصحة بما يتعلق بمدراء التمريض والمشرفين تأتي من الوزارة من تنسيبات من قبل أمين عام الوزارة وبتوقيع من وزير الصحة، متجاوزين مدير مديرية التمريض في الوزارة. مما يظهر خللًا في الهيكل الإداري في وزارة الصحة بما يتعلق بالتعيينات التي تتجاهل رأي وإجماع الكوادر التمريضية على التعيينات بناء على الكفاءة والجدارة.
دوّامة الأيام الطويلة
درس مجد التمريض بعد محاولات سابقة لدراسة تخصصات مختلفة، إلى أن استقرّ به الأمر في هذا التخصّص لاعتقاده بأنّ العثور على وظيفة في هذا المجال سيكون سريعًا. كان الأول على دفعته، وحصل على لقب “ممرّض متقدّم” من “المجلس التمريضي الأعلى” في الأردن، ومنذ ذلك الوقت عمل في مستشفيات عدة خاصة وحكومية في العاصمة عمان، حتى جاء تعيينه بالقرب من منطقة سكنه في جنوب الأردن.
في قسم العناية الحثيثة حيث يعمل الآن، يُطلب من الممرضين بحسب قانون العمل أن يعملوا لـ 35 ساعة أسبوعيًّا، ولأن هناك نقص في الكوادر التمريضية في هذا المستشفى الحكومي، يعمل الممرضون والممرضات 70 ساعة أسبوعيًا، ومن ثمّ يأخذون إجازة لمدة أسبوع. أي إن مجد وزملائه يقضون 12 ساعة يوميًا ولمدة أسبوع ضمن الدوام الصباحي، ومن ثم يأخذ كلّ منهم إجازة لمدة أسبوع، قبل العودة إلى العمل في الأسبوع الذي يليه ليلًا، ويتناوبون على هذه الدوامات فيما بينهم. بعد الإجازة الأسبوعية، وعند بدء اليوم الأوّل من الدوام، يشعر مجد بالتوتّر والقلق، فهو لا يعلم كم مريض ينتظره في قسم العناية الحثيثة، ما يتطلّب منه أعلى درجات التركيز والمهنية، لحساسية حالات المرضى في هذا القسم.
عالميًا، تخصّص المستشفيات لأقسام العناية الحثيثة ممرضًا لكلّ مريض، أو ممرّضًا لكلّ مريضين كحدٍّ أقصى، لضمان الجودة الرعائية الأمثل للمرضى. لا ينطبق هذا على القسم الذي يعمل فيه مجد، حيث يتولّى العناية بمريضين أو ثلاثة أو أربعة، وقد تكون حالات بعضهم حرجة جدًا ويعتمدون على أجهزة التنفس الاصطناعي، فيما يكون معه ممرضين اثنين فقط في كل وردية.
خلال سنوات عملها الخمس، تنقّلت لمى كممرضة بين “مركز الحسين للسرطان” وإحدى المنظمات غير الحكومية، ومن ثم جاء تعيينها في القطاع الحكومي في قسم العناية الحثيثة لحديثي الولادة أو الخدج. في قسم الخدج الذي تعمل ثمّة أربعة وثمانون حاضنة، تُقسم حالات الأطفال على ثماني ممرضات تقريبًا، وكل ممرضة تستلم ما بين سبعة إلى ثماني أطفال في كل وردية، إذ إنّ القسم لا يكون ممتلئًا دائمًا. وإذا كانت الممرضة محظوظة في الدوام وبحسب عدد الحالات الموجودة قد تستلم خمس حالات فقط، وهذا ما يعتبر عددًا مرتفعًا بالنسبة إلى كل ممرضة.
في القطاع الحكومي، يُقسّم الدوام في شهر العمل من خلال قائمة لكل أربعة عشر يومًا، أي إنّ الشهر يقسم إلى قسمين على كلّ أربعة عشر يومًا، يعمل كل ممرّض خلال هذه الأيام تسع ورديات بمعدل ثماني ساعات في اليوم، ويحصلون خلال هذه المدّة على خمسة أيام عطلة.
وفي العديد من الأحيان يتم اقتطاع أيّامًا من الإجازة السنوية التي تحسب ثلاثين يومًا لكل ممرض، ولأن الممرضين لا يحصلون على الإجازة السنوية لفترات طويلة وبشكل منتظم، فقد يتم تعويضها في أيام العمل كإجازات عادية لكنها تكتب على قائمة الدوام بأنها إجازة سنوية من دون أي احتمال لتعويض مادي.
تنتظر ميسون ثلاثة أشهر لتقاعدها، وستكمل حينها ستة وثلاثين عامًا في القطاع التمريضي، تنقلت ما بين قطاع الخدمات الطبية الملكية لأربعة عشر عامًا في أقسام مختلفة، ومن ثم عملت لمدة سنة ونصف تقريبًا في مركز الحسين للسرطان في قسم العناية التلطيفية، وبعدها ذهبت للقطاع الخاص الذي ستمضي فيه ثماني عشرة سنة، تنقلت فيه في أقسام الباطنية والجراحة وقسم الأشعة وأخيرًا في قسم الحالات اليومية.
وكما تقول عن ضغط العمل في تجهيز المرضى للعمليات واستقبالهم ومن ثم إخراجهم بسرعة حتى يأتي مرضى جدد ليكون عدد المرضى الكلي في هذا القسم ست وعشرين حالة. إذ أنّ هناك ثلاثة عشر سرير يتناوب عليها ثلاث ممرضين فقط، وبسبب النظام السريع لهذا القسم، لا يتسنى لها وزملاؤها رعاية المرضى كما يجب، إلا بما يخص أخذ العلامات الحيوية، واستقبال المرضى بعد العمليات وإعطائهم الأدوية وإخراجهم.
أسرّة وأولويات
بحسب التقرير السنوي الأخير لوزارة الصحة الأردنية لعام 2023، يوجد 32.984 ممرض وممرضة قانونيون، و5140 ممرض وممرضة مشاركون، و1116 ممرض وممرضة مساعدون و4984 قابلة قانونية في الأردن، أي ما يشمل أرقام العاملين في وزارة الصحة والخدمات الملكية والمستشفيات الجامعية ووكالة الغوث.
في مستشفيات وزارة الصحة، يوجد 12.797 ممرض وممرضة، من قانونيين ومشاركين ومساعدين وقابلات. وعدد الأسرّة في مستشفيات وزارة الصحة الأردنية يصل إلى 6029 سرير (لا تتضمّن الأسرّة التي لا يقضي فيها المريض ليلته في المستشفى). لا يوجد في التقرير معدل كل ممرض لكل سرير، ولا حتى معدل كل ممرض لكل مريض في المستشفيات الأخرى. يتحدث ماهر* النقابي في نقابة الممرضين والممرضات والقابلات القانونية في الأردن، والممرض في إحدى المستشفيات الحكومية٬ أن معدل كل ممرض لكل مريض قد تكون أقل من 1 لكل مريض في بعض الأقسام، وهذا ما يفسر الضغط على العاملين في القطاع التمريضي في مستشفيات وزارة الصحة.
وبحكم اطّلاعه خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة فهناك نقص شديد في القطاع التمريضي بنسبة 30%، وبرأيه ما يُروّج له أنّ القطاع العام متضخم وفيه نسبة كبيرة من البطالة المقنّعة في قطاع التمريض هو كلام عارٍ من الصحة. من ناحية أخرى، يلفت ماهر الانتباه إلى أن إعادة هيكلة القطاع العام جاءت استجابة لمتطلّبات “البنك الدولي وصندوق النقد الدولي“، فباتت الزيادات السنوية للموظفين مشروطة بتحسين مستوى الأداء. إلا أن ما يحدث فعليًا في القطاع التمريضي هو منح زيادات سنوية مرتبطة بالأداء، دون أن يُعالج النقص المتزايد في الكوادر والناتج عن الإحالات إلى التقاعد أو ترك المهنة، التي تصل سنويًا إلى نحو 2%. في المقابل، يُعاد تعيين ما نسبته 1% فقط، بحسب ماهر، مما يُبقي مستوى الخدمة على حاله، بل ويزيد من الضغط على الكادر التمريضي. هذا الواقع يؤدي إلى ارتفاع في معدلات الوفيات وتراجع في جودة الرعاية الصحية، حيث يُضطر الكادر إلى التخلي عن بعض المهام الأساسية لمصلحة الأولويات، ما ينعكس سلبًا في نهاية المطاف على أخلاقياتهم المهنية.
من يرعى جسد الممرّض؟
يذوب جسد الممرّض أمام أجساد المرضى، إذ يُطلب منه أن يسخّره في الليالي والساعات الطويلة لخدمة المرضى. قد لا نتخيّل أجساد الممرضين مستلقية، نراها مستنفرة غالبًا، تجوب أروقة المستشفى أو متسمّرة بجانب الأسرّة. دراسات قليلة حول التمريض تركّز على جسد الممرض، في حين أنّ هذه الدراسات تعطي تعليمات وافية للاهتمام بالمرضى فحسب. في محاولتنا لمعرفة انعكاسات الدوامات الطويلة على الممرضين وأجسادهم، سألنا من التقيناهم عن الموضوع. تخبرنا لمى أنّها عانت قرحة المعدة بسبب التوتر المرتفع في بيئة عمل متطلبة كـ “مركز الحسين للسرطان”، وبسبب اضطرارها لشرب كميات كبيرة من القهوة على معدة فارغة حتى تبقى مستيقظة طوال الدوام الليلي. أما الوقوف لساعات طويلة، فأصابها بأوجاع وآلام أسفل الظهر. ومع أن الإشكاليات التي تواجهها في قسم الخداج الذي تعمل فيه حاليًا مختلفة عن “مركز الحسين للسرطان”، إلّا أنّها تعرف زميلات في المهنة لديهم معاناة نفسية من الإحباط والقلق، ما قد ينعكس إهمالًا من قبلهن في الرعاية التمريضية. كذلك تشهد على إصابة العديد منهن بالانزلاق الغضروفي في منطقة الرقبة ودوالي القدمين بسبب الوقوف الدائم والمستمر على الحاضنات.
أما ميسون فتشعر بالإحباط الشديد الذي يعتريها بعد مرور خمسة وثلاثين عامًا في المهنة٬ ولا سيما في قسم الحالات اليومية الذي تعمل فيه، بسبب الغبن الذي تعرضت له. إذ نقلت من قسم الأشعة إثر خلاف مع رئيس القسم تم تأجيجه بسبب ذهابها أثناء عملها للاطمئنان على شقيقتها التي أصابتها جلطة قلبية٬ وبقيت معها للاطمئنان عليها وهي في أثناء عملها في المستشفى حيث تعمل. ولذلك خسرت عملها في هذا القسم بحوافزه المالية المرتفعة، ونقلت إلى قسم الحالات اليومية مع كادر تمريضي يصغرها في العمر والخبرة. تقول أنها ودّت لو تستقيل بعد هذه الحادثة٬ لكنها لم تستطع٬ لأنها هي من تعيل عائلتها وكان لديها حينها ثلاثة أبناء في الجامعة ويحتاجون لمصاريف الدراسة والمواصلات.
تتحدث عن شعورها الدائم بأنها آلة، تعمل فقط من أجل تحصيل الربح المادي للمستشفى التي لا تشعر بالتقدير الكافي من إدارتها. وخلال عملها في مهنة التمريض أصيبت ميسون بضغط الدم المرتفع والانزلاق الغضروفي في عظام الرقبة وأسفل الظهر، والفايبروميالجيا وهو الألم العضلي التليفي الذي سبب آلامًا هائلة في البنية العضلية للمريض.
الدوامات الطويلة للعمل التمريضي، تتسبب بالمعاناة الجسدية والنفسية كما يعترف مجد، مشيرًا إلى أنّه يعاني من الأرق الدائم والإرهاق النفسي، أما الإجازة فتكون مجرّد محاولة لتفريغ أسبوعه الفائت وتحضير لأسبوع عمل منهك وطويل آخر. يحب مجد عمله في مهنة التمريض٬ لكنه يفكر حاليًا بقبوله فرصة عمل في التدريس بإحدى الجامعات٬ لما ستوفره من مكانة اجتماعية أفضل وراتب أعلى ودوام منتظم، يخبرنا “أنت في النهاية ممرض”٬ فعندما يسأل أهالي المرضى عن وضع المريض ويعرفون أن من يجيبهم ممرض٬ سرعان ما يذهبون إلى الطبيب لأن كلامه مصدق أكثر٬ هذا ما يجعل مجد يشعر بانعدام التقدير بالرغم من المعرفة العلمية والخبرة المهنية التي يتمتع بها. لذا فإن ذهابه إلى التدريس في الجامعة، ليس بسبب سعيه إلى الصيت والمكانة الاجتماعية فحسب ولكن بحثًا عن التقدير.
لا تغيب هذه المعاناة عن الباحثين في مجال الأخلاقيات التطبيقية، في السياق الغربي تحديدًا، بسعيهم إلى إدماج لجان متخصصة من الدارسين في الأخلاقيات الحيوية داخل المؤسسات الصحية، من أجل تقديم المشورة في حالات الإعياء الأخلاقي التي يواجهها العاملون في القطاع التمريضي. يهدف هذا التوجّه إلى اجتراح حلول تشاركية تضمن تقديم أفضل خدمات الرعاية التمريضية، والتخفيف من المعاناة الناتجة عن الضغوط والإجهادات التي يواجهها الممرضون والممرضات في بيئة عملهم. كما تُطرح مفاهيم وآليات جديدة للتعامل مع هذه الإشكاليات، حتى وإن كانت في إطار فردي أكثر منها مؤسسي، بما يظهر الحاجة المتزايدة لإعادة النظر في البعد الأخلاقي لممارسة المهنة التمريضية والصحية عمومًا.
* أسماء الممرضين والممرضات مستعارة حفاظًا على خصوصيتهم