fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

بَشير الجميِّل.. «لا الماضي صندوقُ ساحرٍ ولا فردوسُ آدم»

انطِلاقاً من أرشيف صحافة بيروت، لأنّ وثيقةً واحدةً تقدِر على إعادة بناء هذا الماضي برمَّته
ــــــــ ماضي مستمر
23 مايو 2025

«وما هي طبيعة الخطر المُتجسِّد في الخَّصم؟ إنَّه خطر الذَّوَبان لا أقل ولا أكثر».

عالم الاجتماع والمؤرِّخ أحمد بيضون في مؤلَّفه «الصِّراع على تاريخ لبنان؛ أو الهويّة والزَّمن في أعمال مؤرِّخينا المعاصِرين» (منشورات الجامعة اللبنانية – 1989).

(حوارٌ لإيقاف الزمن)

بمحض الصدفة عدتُ إلى بشير الجميِّل الشهر الماضي، مع حلول الذكرى الخمسين لاندلاع حرب لبنان الأهلية (1975 – 1990). ساقَني إليه عثوري بين كدسة مجلات قديمة على حوارٍ أجراه في سنة 1982 مع مجلّة «النهار العربي والدولي»، والتي تُسوِّق قائلةً: «لعلَّه أعمق حوارٍ صحافي مع بشير الجميِّل». انعقدَ اللقاء بشكل «جلسة تعارُفٍ» مع صحافيي المجلّة، قبل ظهر الخميس 27/05. ولكنَّ مضمونه لم يُنشَر سوى في شهر أغسطس/ آب مع انتخاب بشير أصغرَ رئيسٍ للجمهورية (34 سنةً). تُبرِّر المجلّة العدولَ عن قرارها السابق بعدم النشر بالإشارة إلى «كلامٍ خطيرٍ لليوم وللغد معاً»، فيما زادت الأهمية بعد «الاجتياح الإسرائيلي (06/06/1982)، وعلى الصعيدَين السياسي والعسكري».

من شأن هذا الحوار الطويل تقديم ملامح لبشير الجميِّل، ولمشروعه، بعد انقضاء سبع سنوات من حرب 1975. أرشيفه المتداوَل غير وافٍ، في وقت أنّ حجم شخصيته وطابعها الشديد الانقسامية أولَدا في العموم سَرديّات تتجاذبها «تقنيات الأسطرة أو الأسطرة السلبية، بمعنى الأبلسة»، اقتباساً من الكاتب والأستاذ الجامعي وسام سعادة، في مقالةٍ بعنوان «بشير الجميِّل: تمدّد الزمن الأسطوري وسجالات كل صيف». واقع الأمر، أنَّى وَقَفنا من الجميِّل على طرفَي النقيض، يبدو كأنَّه سيرةٌ ستظلُّ في طَور الكتابة على الدوام. فهكذا هم الاستثنائيّون.

أهميةٌ مضاعَفةٌ يكتسِبها الرجوعُ إلى هذا الحوار ومرحلتِه في ضوء مكابدة بيروت وضعيةً تتشابه مع مرحلة الاجتياح الإسرائيلي في 1982. أو حتى أنّها تتخطاها خطَراً مع تفتُّت المشرق ووقوع «هزيمة غريبة» جديدة. كذلك الحال من خلف حدودنا، خاصّةً مع بروز واقعٍ في الجنوب السوري حاولت إسرائيل معه تقديمَ نفسها «مدافعةً عن الأقليّة الدرزية». شعارٌ خبِرناه تحت سقف الدفاع عن المسيحيين، وبوجهٍ خاصٍّ بين بدايات الحرب وبين اغتيال بشير الجميِّل في 14/09/1982.

تقول مقدِّمة الحوار إنّه كان «كعادته صريحاً واضحاً وأحياناً صدامياً». فلا يُخفي وجوهاً من جنونٍ أسرَني رغم العداوة، إذ يقول: «لم نعد نؤمِن بأنّ ظروفاً ما يمكِنها أن تَفرِض علينا أيَّ شيءٍ. كلّ الاحتمالات مفتوحة لنا. ولتسمح لنا الظروف أن نركَبَها هذه المرَّة». أو قوله مثلاً إنّ هذا البلد «”بدّو يخلَص من الجماعة يللي بيفَرْفْكوا أيديهم، وبيبوسوا حالهم بالمْراية”». «هذا طبعه»، يُعلِّق ميشال ضاحِكاً. وهو اسم مستعار لصديقٍ من قريةٍ مارونية في جبل لبنان، يُعرِّف عن نفسه في هذا السياق بكونِه «شخصاً يُنصِف الكثير من خيارات بشير السياسية خاصةً في ضوء زمن “الصحوات” التي لم تضع أوزارَها بعد».

يُباغِت بشير الصحافيين مُنبِّهاً بأنّه يريد «الوصول إلى حلٍّ بالحوار» في لبنان، «حتى إذا بدنا نِفترِق، نِفترِق على وفاق». ثم لاحقاً يُشارِكهم رؤيةً بارِدةً حصيفةً، تقول: «إنّ الأوضاع أحياناً كثيرة تبدو متشابهة ولكن بنسب متفاوتة، والمشكلة حين تكبر وتشتد يبقى حلّها أهون مما تتصوَّرون، أعقد المشاكل هي التي حُلَّت بجرَّة قلم أو بقرار، والأمور العادية والطبيعية هي التي تَحتمِل الأخذَ والردَّ».

يُعدُّ بشير الجميِّل من بين الشخصيات الأشدّ إثارةً للشقاق في مجمل تاريخ لبنان، سواء أكان على المستويَين الوطني أم الماروني-المسيحي. تمتَّع بشخصيةٍ كاريزميّةٍ مصقولة صقلاً. خَطابيٌّ ذو حضورٍ مُلهمٍ، ورؤيةٍ واضحةٍ. عسكريٌّ دمويٌّ برِمٌ، وسرعان ما سيُبرِز في سطور الحوار مُسلَّمته قائلاً: «حين هوجِمتُ لم أهاجَم لأنّني لبناني، بل لأنّني مسيحي». ثم لاحقاً يَختزِل شخصيّته ويُعرِّفها: «بشير الجميِّل ابنُ الحربِ وليس أباها».

وُلِد في خريف 1947 بعد أربع سنوات من استقلال لبنان، وقبل نحو عقدٍ من أحداثٍ محليةٍ وإقليميةٍ شرَعت تهزّ استقرار البلد وركائزه. لاحقاً، سيثير صعوده وتحالفه مع إسرائيل حالات اعتراضٍ مارونيٍّ عليه خاصةً بين اليساريين، على ما يلفت ميشال. كما أنّه خلَقَ «شَرخاً كبيراً في الشمال الماروني خاصةً مع مجزرة إهدن سنة 1978 واغتيال طوني فرنجية»، نجل الرئيس سليمان فرنجية.

انتُخِب رئيساً للجمهورية في 23/08/1982، في جلسةٍ استضافَتها نقطة عسكرية قرب وزارة الدفاع المطلّة على بيروت، والمحاطة بجيش الاحتلال الإسرائيلي. اغتيل قبل استلامه الحكم بنحو تسعة أيام، في معقله منطقة الأشرفية، حيث مكاتب مجلّة «النهار العربي والدولي». بالكاد عشرون يوماً، ولكنَّها مدَّة كَفَت لكي تُلهِب التناقضات. فبينما أثارَت أجواء أملٍ بانطلاقةٍ جديدةٍ لدى شريحةٍ وازِنَةٍ من المسيحيين، ومن اللبنانيين، عاشَها كثيرون كابوساً.

ينتمي بشير الجميِّل، في نَظر المناصرين والمؤيِّدين، إلى نوعٍ من القادة الكاريزماتيين الذين لا يَبرزون «إلا في ظروف استثنائية». هكذا يصفه الرئيس الأسبق لجامعة القديس يوسف، والقريب منه، الأب سليم عبو، في كتاب السِّيرة «بشير الجميِّل أو روح شعب». يكون القائد من هؤلاء «رجل العناية الإلهية الذي يَبعث الأمل في شعبٍ مهانٍ، محبط، ومدمّى».

ينقل سليم عبو عن بشير القول «في حلقاته الضيّقة» إنّ «ليس من المطروح أن يقبل مسيحيو لبنان بأن يُقتلوا ببطءٍ (…) إذا كان علينا أن نموت، فليكن الآن، وإذا تمكنّا من الانتصار، فليَكُن من دون تأخير». أما بعد انتهاء معركة زحلة ضدّ الجيش السوري سنة 1981، والتي دامَت لنحو ستة شهور، «قال بشير بابتسامةٍ هادئةٍ: قولوا لأنفسكم شيئاً واحداً: إما أن نصل إلى بعبدا (قصر الرئاسة)، أو ننتهي في مار مِتِر (مقبرة منطقة الأشرفية)».

لا يَدَّعي حضوراً عابراً للطوائف. «صحيح أنّ 20 بالمئة من المقاتلين عندنا هي من الطوائف غير المسيحية، ولكن علينا أن لا ننخدِع أننا بذلك صرنا حركة علمانية (… هذا) ليس كافياً للقول إنّنا تخطَّينا كل الحواجز الطائفية». هكذا يجيب سؤالاً لطلال حيدر، (ولا أعرف إنْ كان الشاعر طلال حيدر)، يرِد فيه أنّه «ينبغي القول “نحن اللبنانيين” (إذ) في “القوات اللبنانية” مقاتلين شيعة، قتالهم، بغض النَّظر عن كونه سليماً، أو غير سليم، هو قتال لبناني وليس قتالاً مسيحياً».

لمّا دخل قاعةَ الحوار في «النهار العربي والدولي» كان حاكِماً لمنطقةٍ تُناهِز مساحتَها الألفي كيلومتر مربَّعاً. تسمَّت بـ «العرين» أو «المنطقة الحرّة». في غربها، عند شواطئ الأبيض المتوسّط، نزل قادةٌ إسرائيليون كثرٌ على مدار السنوات في طريقهم للقاء الحلفاء. من بينهم أرييل شارون، إذ أجرى زيارةً في 01/1982 بهدف أن يُخبِر أقطاب هذا الفريق بنِيَّة إسرائيل القيام بعمليةٍ واسعةٍ. وفي عرض البحر، لطالما التقى بشير وغيره من وجوه «اليمين المسيحي» بأبرز القادة الإسرائيليين. وعبْر السواحل، لطالما تدفَّقَت الذخائر الإسرائيلية إلى «اليمين المسيحي» منذ سنة 1976 على أقلّ تقديرٍ.

في داخل حدود هذا «العرين» وَحَّد بشير الجميِّل ما وصفه طويلاً بـ «البندقية المسيحية». انعقد الأمر له في 07/07/1980 على إثر عملية عسكرية خاطفة شنَّتها قوّاته على مراكز انتشار غريمه داني شمعون، نجل الرئيس كميل شمعون. «لن تُخاض حرب التحرير بعدة جيوش وملايين الرؤوس»، سيُعلِن بشير الجميِّل بعد نحو شهرٍ (نقلاً عن الأب سليم عبو). غير أنّ «غرَض العملية لم يكن مجرَّد التحكُّم في المنطقة، بل أراد بشير استبعاد داني شمعون بصفته منافساً في العلاقة مع السلطات الإسرائيلية»، وفق المؤرِّخ فوّاز طرابلسي في مؤلَّفِه «تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى اتفاق الطائف».

قاد بشير الجميِّل في حدود «العرين» منظومته «القوّات اللبنانية»، والتي بلغ عديدها في سنة 1981، 18 ألف عنصرٍ متفرِّغٍ، و30 ألف تلميذٍ احتياط. هذا ما يفيد به وثائقي «بشير الجميِّل؛ الحقيقة غير المطلقة»، والذي يُقدِّم روايةً شبه رسمية. جعل الحجم من هذه القوّات «طرفاً في معادلةٍ شرق أوسطيةٍ متغيِّرة»، بتعبير الوثائقي. وقد ساهم مرفأ مدينة جونية على وجه الخصوص في تمويل بشير لمشروعَيه الحربي والسياسي. كما ساهمت في ذلك تمويلات غير ثابتة ومرحليّة من عواصم عربية على غرار بغداد.

في المقابل، رغم الترويج بكون تجربة «العرين» ناجحة، سيُخبِر بشير الصحافيين الملتفِّين من حوله إنّها ذاهبة نحو «الانتحار» في حال عدم الاندماج «مجدداً» ضمن «المجموعة الكبيرة». قد يكون واحد من دوافع هذا الإعلان أنّ بشير الجميِّل، في آخر الأمر، يبدو دونكيشوتيّاً. يتحفَّظ على «مدلولٍ هزليٍّ» للتعبير حين سيُسأل لو أنّ احتمال ترشُّحه للرئاسة يعكس هكذا مشروعٍ، قبل أن يُتابِع: «ربما كنّا في حاجة إلى دونكيشوت، بعدما رأينا الأفلاطونات وإلى أيّ شيء أوصلونا». ويضيف: «القرارات التي اتُّخِذت وتبيَّن في ما بعد أنّها أكثر نفعاً وجدوى هي القرارات الدونكيشوتية والجنونِيَّة».

هناك من يشير إلى عدم اتِّزانٍ في شخصيَّته. «خذوا كتاب جورج فرَيحة عن تجربته مع بشير»، يقول الكاتب والأستاذ الجامعي عامر محسن في مقالةٍ بعنوان «الإرث والوارثون». يروي عامر أنّ «فرَيحة رافق الجميِّل منذ بدايات دخوله إلى السياسة، وهو قريبه وصهره، وكان الأكاديمي الذي أصبح بمثابة مستشارٍ له، وهو يتكلّم عن بشير بحبٍّ وإعجاب ويعتبر أيّامه معه أهمّ مرحلةٍ في حياته». ثم يَستدرِك: «رغم ذلك، فإنّ قراءة فرَيحة تجعلك تفهم على الفور أنّ بشير الجميّل كان، ببساطةٍ، إنساناً غير متَّزن في شخصيته مشاكل عميقة».

في الجهة الأخرى للمتاريس، اتُّهِم الجميِّل وحُمِّل المسؤولية عن جرائم أودَت بآلاف الفلسطينيين واللبنانيين. من بينها «السبت الأسود» (1975)، وهجوم الكرنتينا (1976)، وحصار تلّ الزعتر (1976). كما أنّ فريقه الأمني مُتَّهم بالضلوع في سنة 1981 في سلسة تفجيرات استهدفت بيروت الغربية وغيرها من المناطق الواقعة خلف خطوط التّماس. يوضح الصحافي الاستقصائي الإسرائيلي رونين بيرغمان، في كتابه “انهض واقتل أولًا: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية” أنّ وزير الدفاع أرييل شارون هو من قاد سلسلة التفجيرات، إذ كان يأمل منها «أن تدفع بياسر عرفات إلى مهاجمة إسرائيل فتردّ بغزو لبنان». أو على الأقل، أن تدفع إلى «الانتقام من الكتائب، ما يتيح تدخُّلها بذريعة الدفاع عن المسيحيين».

هذا التحالف مع إسرائيل أفقدَ بشير العلاقةَ بالفاتيكان، الحاضنة الدينية لكاثوليك العالم، ومن بينهم الموارنة. مع العلم أنّ «صلة الموارنة بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية (كانت تاريخياً) ذات فائدة لهم، ذلك أنّها زوَّدتهم بتأييد سياسي خارجي لم تعرف الطوائف اللبنانية الأخرى مثله»، على ما يقول المؤرِّخ كمال الَّصليبي في مؤلَّفه «تاريخ لبنان الحديث». كان لافتاً، وفق ميشال، أنّ البابا يوحنا بولس الثاني استقبل ياسر عرفات «في لقاءٍ خاصٍّ» في اليوم التالي لاغتيال الجميِّل. ويَظهر في أرشيف الفاتيكان لـ«أحداث في حبريّة يوحنا بولس الثاني» أنّ البابا علَّق على الاغتيال في يوم اللقاء نفسه، مُصدِراً «نداءً متجدِّداً من أجل السلام في لبنان».

لطالما لاقى الفاتيكان معارضةً إسرائيليةً شرِسةً لمواقفه القريبة من الفلسطينيين، فيما معروفٌ عن الجميِّل أيضاً رفضه شعار أنّ لبنان «جسر»، سواء أكان بين الأديان أم «الحضارات». يقول في أحد أجوبته مثلاً: «(…) وما نِتوقَّف عند “شو بَدّو” السفير البابوي». وقد تمحوَر الاختلاف بين الطرفَين حول أنّ «الفاتيكان ينظر إلى لبنان على أنّه جزء صغير من تفاصيل سياسة الكنيسة العالمية»، في حين أنّ الجميِّل وفريقه يعتَبِرون أنّهم يخوضون «حرباً ضروريةً من أجل البقاء، وعدم الذوبان في الأكثرية الإسلامية». هذا ما يرويه الكاتب أنطوان سعد في سيرتِه للبطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير (1920 – 2019)، بعنوان «السادس والسبعون».

يوضِح سعد أنّ أكثر ما اعترَض الفاتيكان عليه هو «إنشاء التنظيمات المسلَّحة وإقامة علاقات مع إسرائيل»، إذ رأى أنّ «هذه السياسة ستؤدّي في نهاية الأمر إلى خسارة المسيحيين في لبنان وإلى مضاعفة خسارة المسيحيين في المشرق العربي».

وسط ذلك، وقبل أيام من وقوع الاجتياح، رأى بشير في الحوار أنّ المسألة في لبنان هي «سِباقٌ بين العامِل السّوري، والعامِل الفلسطيني، والعامل الإسرائيلي، من يسبق الآخَر ليحلَّ جذرياً الوضع اللبناني القائم». وكان قد بدأ اللقاء بمقدّمته المُسهَبة، قبل أن تتبعها أسئلة ترتبط بتطلُّعه إلى نظامٍ يقوم على شكلٍ جديدٍ «للتعايش بين المسيحيين والمسلمين». أيضاً هي أسئلة ترتَبط باحتمال ترشُّحه لرئاسة الجمهورية، وبعلاقاته بالأطراف الداخليين، وبالقوى الفلسطينية، وبسوريا الحاضِرة في لبنان منذ بدايات 1976 (رسمياً مستهل يونيو/ حزيران). ولكنّها أسئلة ارتبَطَت بالأخصّ برؤيتِه لاحتمال قيام حليفته إسرائيل بـ «عمليةٍ عسكريةٍ واسعةٍ».

ربَّما الغالبية كانوا على قناعةٍ بأنّ العملية ستقع لا محال. حتى «المقاهي وصالونات المجتمع» في إسرائيل كانت «تضجّ بالشائعات والتسريبات والأحاديث الرسمية» بالخصوص، على ما يرِد في مقالة بعنوان «مقامَرةٌ داميةٌ»، نشرَتها صحيفة «هآرتس» في 14/05/1982. يعكس كاتب المقالة يوئيل ماركوس جوّاً يدعو إلى العدول عن العملية خاصةً لمّا يقول: «سيأخذ فلسطينيون آخرون مكان الذين سيَموتون». غير أنّ في تل أبيب، كان الزمنُ زمنَ صقوريّةٍ.

فمنذ 05/08/1981، شكَّل حزب الليكود حكومته الثانية برئاسة مناحيم بيغن. وهي تُعدُّ حكومةً توسُّعيةً استيطانيةً، تطلَّعت بوجهٍ خاصٍّ إلى الاستفراد بمصير الضفّة الغربية وغزَّة بعد السعي إلى طرد «منظمة التحرير» من لبنان. عكست هذه التوجّهات أثر تعيين أرييل شارون وزيراً للدفاع، بعدما شغل في الحكومة الأولى منصب وزير الزراعة، وأشرف على تطوير المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي التي جرى الاستيلاء عليها في الضفة الغربية خلال حرب 1967. سيُقلِّص شارون من مخاوف تل أبيب بشأن مستقبل اتفاقية السلام مع مصر في حال توسيع نطاق العمليات في الإقليم. وسيعمل على جعل لبنان وجنوبيِّه أولويّة للعمل الإسرائيلي العسكري والأمني. بل إنّ الملف اللبناني سيصير من نصيب وزارة الدفاع.

واقع الأمر أنّ دعم هذه الإدارة لبشير يَنضوي ضمن تصوُّرٍ إسرائيلي أميركي لخلق شرق أوسط جديدٍ. شارون نفسه نشر مقالةً في «نيويورك تايمز» بعد نحو شهرَين من الاجتياح، ليقول: «أشعر بتفاؤل بأنّ الشرق الأوسط على أعتابِ مرحلةٍ جديدةٍ. سيسود السلام بين لبنان وإسرائيل»

المفارَقة في أنّ تشكيل مناحيم بيغن حكومته الثانية تزامَن مع إجراء بشير الجميِّل زيارته الأولى إلى واشنطن، بصفته الحزبية. هناك التقى مدير الـ CIA وليم جي. كايسي، فيما يلفت أحد المتدخِّلين من رفاقه، في وثائقي «الحقيقة غير المطلقة»، إلى أنّ «العلاقة المخابراتية بين الطرفين بدأت وقتها». كما يشير الوثائقي إلى أنّ الرئيس الجمهوري رونالد ريغن وقَّع بعد الزيارة «إذناً سِرّيّاً» يُتيح صرفَ عشرة ملايين دولار لـ«القوات اللبنانية».

واقع الأمر أنّ دعم هذه الإدارة لبشير يَنضوي ضمن تصوُّرٍ إسرائيلي أميركي لخلق شرق أوسط جديدٍ. شارون نفسه نشر مقالةً في «نيويورك تايمز» بعد نحو شهرَين من الاجتياح، ليقول: «أشعر بتفاؤل بأنّ الشرق الأوسط على أعتابِ مرحلةٍ جديدةٍ. سيسود السلام بين لبنان وإسرائيل». مضيفاً: «عمّا قريب، سيكون هناك مثلَّث سلام يضمّ القدس والقاهرة وبيروت. وأعتقد أنّه سيأتي يوم يجد فيه جميع جيراننا العرب الشجاعة والحكمة للعيش بسلام مع إسرائيل».

ولطالما سعى بشير، في ظلّ اشتداد الحرب الباردة بعد بلوغ رونالد ريغن البيت الأبيض (1981)، إلى تقديم نفسه وتيّاره على أنّه جزء من «العالم الحرّ»، بل أنّه سيُنافِس إسرائيل في تحقيق مصالح هذا العالم. فقال في كلمة يورِدها الوثائقي: «أثبتنا للأميركيين بصورةٍ خاصةٍ أنه “إذا كان عندهم مصالح هون فمصالحهم مش بس بتمرق بواسطة دعم إسرائيل. نحن كمان منِقدِر نأمِّن مصالح العالم الحرّ على شرط أن يعتبرنا جزءاً لا يتجزَّأ منه”».

هذا التموضُع ضمن السياسة الأميركية الإسرائيلية، و«العالم الحرّ»، عزَّزه دعمٌ إقليميٌّ سعوديٌّ أيضاً. فالرِّياض تقود «اليمين العربي» منذ شكَّلته ضد جمال عبد الناصر والقومية العربية. وهي، مثل بشير، تريد الحدَّ من النفوذ السوري في لبنان، وإخراج أغلب الفصائل الفلسطينية من المشهد. سيزور الجميِّل مدينة الطائف قبل شهر من انتخابه رئيساً، بناءً على دعوةٍ من وزير الخارجية سعود الفيصل. واحدٌ من بين أهداف الزيارة، وفق مصادر مُتاحة، «تهدئة المخاوف العربية من قيام دولةٍ مارونيةٍ انفصاليةٍ، وتعزيز بشير لصورته كرجل دولة».

غير أنّه لم يُدْعَ سوى بعد المشاركة في الاجتياح الإسرائيلي، وإسهامه في فرض حصارٍ على بيروت الغربية. فهذا الاجتياح شكَّل «استكمالاً لِما عجزَت هزيمة 1967 عن إنجازه بشكلٍ مكتملٍ، أي القضاء وربّما نهائياً على الناصرية التي تُمثِّلها في آخر تجلِّياتها منظمة التحرير الفلسطينية وحلفاؤها في الحركة الوطنية اللبنانية المحاصَرون في بيروت الغربية»، وفق المؤرِّخ والاقتصادي جورج قرم في مؤلَّفه «انفجار المشرق العربي».

المُحرِّك الأبرز لهذه السياقات والمسارات المتشابِكة، والمتسارِعة، هي التغيُّرات الجيوسياسية الضخمة التي أثارها الرئيس المصري أنور السادات منذ زيارته القدس (19/11/1977)، ثم توقيعه اتفاقيات كامب ديفيد (17/09/1978)، والتي ستسوق إلى اتفاقية السلام (26/03/1979). في ضوء ذلك، تُعَدُّ إعادة تشكيل دمشق لدورها وتحالفاتها في لبنان أبرز التداعيات. فبينما انضوَت ضمن ما سيُطلَق عليه اسم «جبهة الرَّفض» لسلام السادات، ابتعدَت عن «اليمين المسيحي»، واقتربَت من ياسر عرفات و«الحركة الوطنية».

كما أنّ دمشق ستستفيد من جَيَشان المشهد الإقليمي مع انتصار الثورة الإسلامية في طهران (1979). وكذلك ستستفيد من تحوُّل الأخيرة طرفاً رئيساً في صراعات الشرق الأوسط على إثر اندلاع الحرب بينها وبين العراق (حرب الخليج الأولى) في 09/1980. حتى إنّ بشير يجيب في الحوار حول إنْ كان يرى «الدور السوري قَوِيَ سياسياً بنتيجة حرب الخليج»، قائلاً: «الدور السوري بعد العملية الإيرانية سيقوى أكثر، وتلك وجهة نظر».

ضمن في هذه الوضعية المعقَّدة والمُشتعِلة محلياً وإقليمياً، سيتطلَّع بشير الجميِّل إلى أن تُشكِّل انتخابات رئاسة الجمهورية باباً نحو إقامة نظامٍ رئاسيٍّ ذي قبضةٍ حديديةٍ؛ يُمسِك مارونيّ بأزمِّتِه؛ يقوم على ميثاق جديدٍ للتعايش «بين المسلمين والمسيحيين»، يأخذ في الاعتبار على الأرجح موازين القوى للنواة التاريخية للدولة، جبل لبنان. فأحياناً سيبدو بشير كأنّه ابنٌ لصراعات القرن التاسع عشر وسياساته.

كما أنّه نظامٌ يُعوِّل على التحالف مع إسرائيل، ويرغب في عزل لبنان عن محيطه. فمثلاً، توجَّه محمد زهير إلى بشير خلال الحوار، متسائِلاً: «قضية الشرق الأوسط كلها مُنصَبَّة على بيروت الغربية، فكيف تنتظر منها أن تتخلَّص مما هي فيه؟». أجابه ببساطةٍ وتهكُّمٍ على ما يبدو: «أنا سأخلِّصها منها». وفي لحظة توتُّرٍ، سيقول زهير إنّ «المواطن المسلم في الأساس، أي قبل 1975، كانت له مطالب، وهو حين أعلنها لم يحمل من أجلها سلاحاً». ليردّ بشير بكلمتَين: «الفلسطيني حمل السلاح عنه».

هذا هو بشير الجميِّل الذي رجعتُ إليه من خلال أرشيف مهنتي الصحافة المكتوبة، في بيروت. وقعتُ على الحوار بين كدسةِ مجلاتٍ اشتريتُها. ولكنَّه رجوعٌ أحاوِل معه عدم الانزلاق لا إلى تصفية الحسابات، ولا إلى الإنكار. «فلا الماضي صندوقُ ساحرٍ، ولا هو فردوسُ آدم»، على ما يُنبِّه المؤرِّخ إيمانويل دو-فارسكيال في كتابه الصادر في أبريل/ نيسان. فلا يَخرُج من الماضي ما نريد مثلما يَخرُج أرنبٌ من قُبَّعة ساحرٍ. ولا هو فردوسٌ مفقودٌ أو مثاليٌّ. لكنْ، «غالباً ما يكون له فضل وضع الحاضر في مكانه الصحيح من خلال المعرفة التي يمكن أن نكتسِبَها عنه».

وفي السياق جميلٌ عنوان إيمانويل دو-فارسكيال «لا شيء يمضي لحالِ سبيلِه؛ كلُّ شيءٍ يُنسى». فنحن نخاطِر دائماً بأن ننسى حجم التحوّلات التي تطرأ في المسافة الزمنية الفاصلة بين حاضرنا وبين الماضي. فيُعاد تدوير ما مضى، ويُعاد تفسيره، طبقاً لمقاسِنا الآنيّ، وفي أفق ما نعيش. ذلك أنّ الحاضِر «سجنٌ زجاجيٌّ بجدرانٍ مصنوعة من عَدَسات مُكبِّرة»، يقول دو-فارسكيال. نبالِغ في الغرق في تفاصيله وملابساته، ونرتاب منه.

يُشكِّل هذا الحوار فرصةً ترجِع بنا إلى اللَّحظةِ التي انعقد فيها نهاية 05/1982. فهو وثيقةٌ تاريخيةٌ توقف الزمن فيما هو يستمرُّ مُتحرِّكاً مُتغيِّراً. بل إنّ الوثيقة التاريخية «تُأبِّد اللحظة»، قياساً بما تفعله الصُّوَر برأي الصديق ميشال.

(لولا الموارنة ..)

«هنالك كلام على عملية إسرائيلية واسعة، فما هو رأيك؟»، يسأله رفيق شلالا. ليُجيب بشير الجميِّل بحذَرٍ: «الإسرائيلي لا يمزَح في الأمور التي يشير إليها ويقولها، وكل الاستعدادات التي يجريها لم يَقُم بها “بلاشي”». قبل أن يُظهِر نفسَه مُستَنتِجاً: «إذن العملية الإسرائيلية واردة، وواردة في كل دقيقة». وقد استهلَّ الحوار بمعادلة: «إذا أردنا الاتِّكال على مجيء الجيش الإسرائيلي، فإن هذا الجيش ربما يجيء، وربما لا يجيء، وهو إذا جاء فربما كان مجيؤه في غير مصلحتنا، وربما لا يجيء، من خلال اعتباراتنا نحن». ثم راوَغ معتبِراً أنّ في حال وقوع عملية إسرائيلية، فـ «ليتَّخذ كل واحد القرار الذي يناسبه، أما نحن فقرارنا الالتفاف حول رئيس الجمهورية إلياس سركيس (…) وعدم الانجرار عسكرياً وسياسياً».

غير أنّ كتاب «حرب إسرائيل في لبنان»، والصادر بالعبرية سنة 1984، يشير إلى أنَّ أرييل شارون أبلغ بشير، منذ 11/1981، بأنّ كيانَه يُحضِّر لحربٍ سيكون من المرغوب مشاركته فيها. فضلاً عن واقع اطِّلاع الجميِّل «على معلومات لم يكن مجلس الوزراء الإسرائيلي نفسه على علمٍ بها بعد». أعدَّ هذا الكتاب الصحافيَّان زئيف شيف، وإيهود يعاري. كان الأوّل المراسل العسكري لصحيفة هآرتس، فيما إيهود يعاري مراسل الشؤون العربية في التلفزيون الإسرائيلي. وكانت «تقاريرهما عن الحرب (وفق نيويورك تايمز) من بين الأكثر شمولاً في إسرائيل».

يتوجَّه وديع سعادة إلى بشير الجميِّل بأنّ إسرائيل ستصل إلى نهر الليطاني على الأقل. ليَرُدّ: «قلت خلال حديثي إن إسرائيل إذا دخلت فإن دخولها لن يكون لإنقاذي، إنما لمصلحتها هي ولاعتبارات محض إسرائيلية، وقلت أيضاً إن هذا يبدو احتمالاً، وارداً، ليس لسواد عينيّ، إنما لأمن الإسرائيليين». مع العلم أنّ في الاجتياح السابق سنة 1978، والذي بلغ نهر الليطاني، اعترض الجميِّل في وجه الإسرائيليين على ما اعتبره بمثابة حربٍ نصفية اكتفَت بإبعاد القوى الفلسطينية من الجنوب نحو الداخل. وفي تلك السنة أرسل بشير، وفق وثائقي «الحقيقة غير المطلقة»، نحو 300 مقاتل إلى حيفا بهدف المشاركة في الاجتياح، ولكنْ من دون أن ينعقد الأمر لهم.

«إذا دخلَت إسرائيل إلى لبنان هل تعتقد أنّها ستبقى طويلاً؟»، يسأله بسّام منصور. فيعلن بشير أنّها «لا تستطيع البقاء هنا “على طول”». رئيس تحرير مجلّة «النهار العربي والدولي»، والمؤيِّد له، جبران تويني، يتوجَّه إليه: «إذا طلبَت إسرائيل معاهدة سلام، إذا دخلت لبنان، ماذا يكون موقف الحكم؟». كان من بين الصحافيين من أتوا، على ما توضح المجلّة، «من بيروت الغربية، من مجتمعها أو إسلامها أو أحزابها». ولكنّ بشير الجميِّل يَعتذِر: «لا أستطيع أن أجيب نيابةً عن الحكم».

واقع الأمر أنّ الأب سليم عبو يروي في السّيرة التي أعدَّها أنّ بشير «كان يعلم أنّ التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل هو فقط ما يمكن أن يضمن استقلال لبنان»، وسط تصميمِه على «الحفاظ على دور لبنان السياسي والاقتصادي والثقافي وتطويره في العالم العربي». يلفت عبو إلى محاولة «للتوفيق» بين الوجهتَين، ولكنّه يستدرك: «كان الأمر معروفاً، من دون كلام، تجنُّباً لاستثارة الحساسيات التي لا تزال تتأثَّر بالخطاب الأيديولوجي العربي».

وسط ذلك، سيُقدِّم بشير الجميِّل الاستحقاق الرئاسي بكونِه «مدخلاً للحل». ولم يكن قد كشف نيّته في الترشّح بعد لمّا انعقد الحوار في نهاية 05/1982. بل سيفعل في شهر يوليو/ تموز، التالي للاجتياح.

لا يطرح الجميِّل حلاً إنّما مدخلاً له، لأنّه يُعلِن رفض الدخول في مرحلة سياسية جديدة تحت شعار «عفا الله عمّا مضى». وقد أعرب في المقدّمة عن الشعور بأنّ «اللبناني الآن يملك المبادرة لأول مرة (…) بين أيدينا نحن كلبنانيين، كمسيحيين بصورة خاصة، ولكن لن نستعملها لحسابنا كمسيحيين، بل كلبنانيين، ولنُجرِّب إنقاذ ما يمكن إنقاذه». متابعاً: «كل الاحتمالات واردة، ونحن منفتحون لأي مبادرة وأي احتمال».

كما أنّ بشير الجميِّل سيُبدي الاعتقاد بأنّ «انتخابات الرئاسة يمكن أن تبدأ في تشكيل الإطار الذي كلّنا كلبنانيين سنندمج عبره في شيءٍ واحدٍ: المطالبة بخروج كلّ القوى الغريبة المسلَّحة من لبنان». «كلّه احتلال»، يجيب سؤالاً لرفيق شلالا. «أرجلنا جميعاً “بالفلَق”»، يصف الوضعية في مكانٍ آخر.

لكنْ، «ألا تعتقد أنّ ترشُّحك لرئاسة الجمهورية يثير استفزازاً لدى بعض الفرقاء؟». فيجيب بلا قفَّازات: «إذا كان ترشُّحي يثير استفزازاً “خلّي الكل يعرفوا إنه أي رئيس جمهورية مْرِتْ” يثير استفزازاً أكبر لدينا». وفي إجابته سؤالاً لإلياس الدّيري حول احتمال أن «تُطبَخ طبخة رئاسة الجمهورية» في الخارج، يعلن أنّ «مثل هذه النوعية من المرشحين لن نسمح لها بالوصول».

يواجهه الصحافي نفسه بواقع أنّ الترشُّح المحتمل يأتي «لخلق أزمة أكثر مما هو لخوض معركة (…)، إذ إنّ هناك فريقاً تخاطبه هو الفريق المسلم (…) وحتى هذه اللحظة لا يمكنه أن يتقبَّلَك». ليَرُدّ بشير: «ترشُّحي لم يتم بعد، وحين يتم فلن يكون (…) لا للمناورة ولا لتحدي المسلم ولا لأي شيء من هذا النوع». يتابع: «إذا أراد المسلم أن يعتبرها تحدياً، فإنّنا سنُقنِعه بأنها ليست تحدياً. وإذا اعتبرها البعض مناورة، سنسعى لإقناعه بأنها ليست مناورة». ثم يردف حازِماً: «نحن لا نناوِر، ولا نتحدى، وكل الاعتبارات السلبية المطروحة هي ساقطة بالنسبة إلينا تماماً».

مجمل الوضعية تلك يتناولها بشير الجميِّل صراحةً في واحدةٍ من كلماته، فيقول إنّ «المجتمع المسيحي مُهدَّد في هذه المنطقة من العالم منذ 1300 سنة»، في إشارةٍ إلى تاريخ «الفتح العربي». هذا التصوُّر هو ما ساق ببشير، برأيي، نحو التعويل بصورةٍ كبيرةٍ على إسرائيل والتحالف معها

قد يبدو بشير الجميِّل متوتِّراً في أحيان كثيرة خلال الحوار. ولكنّ الأهم من ذلك هي ملاحظة أنّ ما يقوله مصبوغٌ دائماً بما وصِف بأنّه «خطاب وطني» بدأ يعتمده منذ 1980 مع بداية التحضير لانتخابات الرئاسة. فيقول مثلاً إنّ من بين ما يهدف إليه رئيس «الإنقاذ» هو «رفض التقسيم والتوطين». هذه مناوَرة بدرجةٍ كبيرةٍ خاصةً أنَّ تلك المرحلة رافقَها تحضير مستشارِين لبشير مذكَّرات تدعو إلى الفيدرالية، وتتدارس في سيناريوات انتخابات الرئاسة، وخطوات من بينها القيام بانقلاب في حال تعذُّر بلوغه قصر بعبدا الرئاسي بصورةٍ شرعيةٍ. هذا ما يلفت المؤرِّخ فوّاز طرابلسي إليه في «تاريخ لبنان الحديث».

يسأل نهاد المشنوق حول برنامج «مرشَّح الإنقاذ»، ليردّ بشير بأنّ «عملية الإنقاذ شيء متكامل من وحي نظرة جديدة للأمور، أكثر مسؤولية وأكثر سيادة وأكثر استقلالية». ولكنْ فيما هو يُعرِب عن همِّه بأنْ «يشترِك المسلم اللبناني» في القرار معه، يستدرِك بوجوب وجود «قرارٍ قوميٍّ واحدٍ». فواقع الأمر أنّ لكلِّ مرحلةٍ تاريخيةٍ خيطاً رفيعاً من شأنه منحها شيئاً من التَّماسُك والشّكل. «خيط رئاسة بشير» يبدو كأنّه تطلُّعه بالفعل، وبدرجةٍ أُولى، صوبَ إقامة دولةٍ-أمّةٍ يُمسِك رئيسٌ (ماروني) بـ «قرارها القومي الواحد». هذا مع العلم أنّ «الهيمنة، مارونية كانت أم غير ذلك، هي قلب المسألة اللبنانية»، يُشدِّد أحمد بيضون في «الصِّراع على تاريخ لبنان».

تَكتَسِب رؤية بشير شرعيَّتها التاريخية من واقع أنّ سيرةَ نشوء دولتنا جسَّدَت بالأخصّ رؤية قيادات الموارنة الدينية والسياسية. هذا ما يقوله من بين آخرين المؤرِّخ كمال الصَّليبي، معتبراً أنّه عندما غدا جليّاً أنّ لبنان باقٍ بوصفه كياناً سياسياً، قبلت الكتلة المسلمة «على مضَضٍ» بالبلد. ورأت فيه «دولةً تؤدّي وظائفها، ولكن ليس بكونها دولة-أمة على النحو الذي أراده المسيحيون». وبخاصةٍ ليس على النحو الذي ودَّه بشير، إذ يلفت سليم عبو إلى بلوغه مبالغ التطلُّع نحو «إظهار أسبقية وحدة الشعب على تنوّع تركيبته العرقية الدينية».

يغفل هذا التصوّر البشيري للشعب أنّ «الدولة اللبنانية تَشكَّلَت نتيجة سلسلةٍ من التسويات بين سلطة الانتداب الفرنسي والنُّخب المحلية، لا نتيجة تعبئة شعبية مناهضة (…) فلم تُصَغ روح الوحدة الوطنية ضمن نضالٍ جماعيٍّ مشتركٍ»، على ما يوضح أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا – بيركلي، أسامة مقدسي، في مقالةٍ بعنوان «حداثة التطييف في لبنان».

يذهب الأب سليم عبو إلى اعتبار أنّ «لولا الموارنة، أوّل جماعة لجأت إلى الجبال هرباً من الهيمنة الإسلامية، ولولا علاقاتهم المستمرة مع أوروبا، ولا سيّما مع فرنسا، منذ القرن السادس عشر، لما كان لبنان المتمتِّع بالحكم الذاتي في ظل السلطنة العثمانية، ولا لبنان الحرّ تحت الانتداب الفرنسي، ولا لبنان المستقل في عام 1943». يتابع: «لطالما كان مؤسِّسو لبنان، الموارنة، مع المسيحيين الآخرين، المدافِعين الرئيسيين عنه». كما ينقل عبو عن الجميِّل أنّ «هذا البلد بُنِيَ على الحرّيات وهذه الحرّيات، نحن المسؤولون عنها».

بهذه الخلفية، هدَفَ الجميِّل إلى إقامة نظامٍ ذي قبضةٍ حديديّةٍ عسكرياً وأمنياً. في إجابته سؤالَ جبران تويني حول أنّ «الجيش في حاجة إلى إعادة بناء»، يعلن أنّه «ركيزة الوطن ويجب أن تكون له قضية، وأنْ يُميِّز بين العدو والصديق، فالجيش يجب أن يكون للدفاع عن الحدود وعن سيادة الوطن ومؤسساته الدستورية». ويُبدي الاعتقاد بأنَّ «المهم أن تقول الدولة: الأمر لي». بدوره، يوضح الأب سليم عبو تصوُّر بشير قائلاً إنّ «جيشاً مبنيّاً على توازن طائفي يمنعه من التدخّل، جيشاً لا نحدِّد له عدواً، ليس جيشاً».

أيضاً نظام بشير يمنع اللجوء إلى الشارع. فيقول في الحوار: «إذا كنّا نريد نظاماً ديمقراطياً فإنّ ضوابطه تكون من خلال الديمقراطية وليس من خلال الشارع، وذلك ضمن الحرية والأمن للجميع ضمن صيغة لبنانية تؤمِن بالتعايش بين كل الفئات». بل ذهب ساخِراً إلى أنّه «بدلاً من أن يعمل الحزب الشيوعي “مشاكل في الشارع يعملها داخل المجلس”».

هذا ما ساق ببشير الجميِّل إلى جعل الخطاب الذي كان مقرّراً أن يتلوه في يوم استلامه السلطة، بمثابة «بيان رقم واحد». هذا التشبيه للمؤرِّخ فوّاز طرابلسي في «تاريخ لبنان الحديث». مضيفاً: «لا عجب أن لا تحتمل هذه اللبنانوية المتشدِّدة أي لون من التعدُّد أو المعارضة: الدولة كلٌّ متكامِل، ولا يجوز معارضة الشرعية». ويوضح طرابلسي: «هدَّد الرئيس المنتخب بأنه لن يحتمل أي معارضة لمؤسسة من مؤسسات الدولة أو جهاز من أجهزتها الإدارية، معلناً بصرامة أن المعارضة تقف عند حدود سياسة الدولة وليس لها أن تطاول المؤسسات».

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

(إرجاعُ ما للجبَلِ للجبَلِ)

بدأ بشير الجميِّل مسيرته في مرحلةٍ راح النظام السياسي لجمهورية الاستقلال يُظهِر «حالةَ وهنٍ عميقةٍ»، بتوصيف عالم السياسة الأميركي البارز الذي عمل على لبنان، مايكل كلارك هدسون (في مقالة بحثيَّةٍ صدرت سنة 1982 بعنوان «الأزمة اللبنانية: حدود الديمقراطية التوافقية»). عاش البلد في ظلّ «أعراض اضطراب عميق في السياسة»، على ما يقول هدسون. ويُتابع أنّ أكثر الأعراض وضوحاً «تَمثَّل في عجز رئيس الجمهورية الماروني عن إيجاد، أو الحفاظ على، رئيس وزراء سنّي يتمتَّع بما يكفي من المكانة والهيبة». كما أنّه يشرح أنّ الوضعية على مشارف الحرب «بلغَت درجة عالية من الاستقطاب، بين اليمين الماروني من جهة، وبين المسلمين واليسار (والقوميين) المؤيِّدين للفلسطينيين من جهة أخرى، ما أفقد المؤسسات الرسمية قدرتها على إدارة النزاع الداخلي».

الشَّرخ الرئيسي في تاريخ الجمهورية وَقَع بتصوُّر بشير الجميِّل إبّان أحداث سنة 1958 (بين يوليو/ تموز وأكتوبر/ تشرين الأوّل). وهي أزمة ترافَقَت مع شعورٍ متصاعدٍ «بعدم الرضا حيال عجز الدولة عن تحديث نفسها»، وفقاً لمايكل كلارك هدسون الذي كان يتابع عاماً دراسياً في بيروت.

اندلعت الأحداث في ظلّ اشتداد التوتُّر محلياً خاصةً بعد قيام الجمهورية العربية المتَّحدة بين مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر في 02/1958. ثم غداة حدوث انقلابٍ في العراق في 14/07 بدعمٍ من الزعيم المصري، ستنزل قوات المارينز الأميركية على شواطئ بيروت في إطار «عقيدة (الرئيس دوايت) أيزنهاور» لاحتواء الشيوعية والنفوذ السوفياتي.

وفي تلك المرحلة، طلب الرئيس اللبناني كميل شمعون المساعدة العسكرية الإسرائيلية، إذ «كان يخشى سقوط السلطة، فيما جرى الأمر بالتنسيق مع نظام الشاه في إيران، والذي كان يرسل أسلحة إلى لبنان جوّاً». هذا ما تقوله مقالة في هآرتس في 09/2022، بعنوان «ما تكشفه ملفات الموساد التاريخية عن أكثر حروب إسرائيل تخطيطاً».

في منظور الأب سليم عبو، عكسَت أحداث 1958 «المحاولة الأولى لأسلمة لبنان». بل هو يعتبر أنّها «أطلقت عملية المَوْرَنة السياسية لدى المسيحيين الآخرين في لبنان، والتي بعدما كانت بطيئة في البداية، أصبحت كاسحة كالعاصفة بين عامي 1975 و1982». إنّها المرحلة البشيرية تماماً.

سيأتي بشير الجميِّل ليدعو، على غرار أبرز الخصوم، إلى إقامة «ميثاقٍ وطنيٍّ جديدٍ». فيكون بديلاً من ميثاق الاستقلال «بين المسيحيين والمسلمين» في الأربعينيات، والذي توصّل إليه رئيس الجمهورية الماروني بشارة الخوري ورئيس الحكومة السّنّي رياض الصلح.

حول ميثاق الاستقلال، يشرح عالم الاجتماع أحمد بيضون، في مقالةٍ بعنوان «بين اللبنانيين: أيُّ ميثاق؟»، أنّ ما جاء به «ممكن الحصر في مُقايضَتَين: الأولى هي مقايضة المسيحيين الحمايةَ الأوروبية (أو الفرنسيةَ بالأحرى) بوطنٍ منفتح “على الخيّر النافع من حضارة الغرب”. والثانية مقايضة المسلمين الوحدةَ العربية (أو السوريةَ، بالأحرى) بوطن “ذي وجهٍ عربي” لا يكون للاستعمار “مَمَرّاً” ولا “مَقَرّاً”». لكنّ بيضون يؤكِّد أيضاً أنّ «”الميثاق الوطني” شيء و”الصيغة الطائفية” شيء آخر»، إذ إنّ «هذا الميثاق لم يكن يتعلّق من قريب ولا من بعيد بتمثيل الطوائف في مؤسّسات الدولة والحكم، على اختلافها، ولا بالقواعد التي ينبغي اتّباعها في هذا التمثيل».

يُجمِل بشير الجميِّل، في الحوار، ميثاق الاستقلال، ومعه صيغة تَوزُّع أعلى مناصب الدولة طائفياً، ليُعلن أنّهما أنتجا «لبنان المزرعة». منذ المقدّمة يُشدِّد على وجوب استناد «الميثاق الوطني الجديد إلى مبدأ التعايش ضمن صيغة جديدة، لأنّ صيغة الـ43 ماتت ودفنّاها». ثم لاحقاً يعلِن: «ليس في رأسنا صيغة (…) نريد أن نجلس إلى طاولة ونفكِّر معاً». يضيف: «فلتَكُن المبادرة في أيدي المسلمين ليقولوا لنا كيف تُحلّ الأمور والمشكلات ونحن مستعدون للحوار والمفاوضة».

«ما لا يريده بشير»، يعرض الأب سليم عبو، «هي سلطة إسلامية تسلب المسيحيين حرياتهم وحقوقهم السياسية». ذلك أنّ «الهدف الأساسي من المؤامرة (وفقاً لبشير) … كان القضاء على الدور السياسي والحضاري لمسيحيّي لبنان وجعل لبنان دولة إسلامية على غرار كل الدول العربية بقصد أن تتمكن الدولة اللبنانية الإسلامية من امتصاص اللاجئين الفلسطينيين وتوطينهم نهائياً هنا».

ليس الأمر كذلك تماماً. إذ يلفت فوّاز طرابلسي إلى مستشارين لدى بشير الجميِّل تحدَّثوا بأنّه «كان ينوي استحداث منصب نائب رئيس الجمهورية ليشغله سياسي ماروني وأنه فكر في تكليف سليمان العلي تشكيل الحكومة»، في إشارةٍ إلى شخصية سنّية لا تحظى بحضورٍ وطني، وهي زعامة في الأطراف الشمالية. يضيف طرابلسي أنّه «اختيار دالّ حقاً على أنّ لبنان الجديد الذي كان ينوي بشير بناءه سوف يقوم على المقاتلين المسيحيين المنتصرين وعلى المحافظين والمهمّشين من وجهاء الإسلام».

لا أعرف ما إذا حاول بشير الجميِّل تجاوزَ ميثاق الاستقلال من خلال ميثاقٍ جديدٍ يأخذ في الاعتبار موازين القوّة في النواة التاريخية للدولة، جبل لبنان، حيث يُهيمِن الموارنة والدروز. وهما جماعتا الجبل اللتان لطالما عرَّفت كلُّ واحدةٍ منهما نفسَها عبر مرآة الجماعة الأخرى. يورِد فواز طرابلسي تصوُّراً لدى رئيس الجمهورية آنذاك إلياس سركيس، والقريب من بشير، «لإعادة بناء النظام السياسي على قاعدة تحالف مسيحي – درزي يُجسِّده بشير الجميِّل ووليد جنبلاط، ولكن في توازن للقوى مختل لصالح الأول».

يلفت فوّاز طرابلسي إلى أنّ مدير المخابرات (الماروني) جوني عبده بذل «جهوداً استثنائية لعزل وريث كمال جنبلاط في الزعامة الدرزية عن شركائه في الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك إرسال السيارات المفخخة إلى بيروت الغربية». وهو يَعتبر أنّ هذا التصوّر لدى سركيس هو «الأثر الوحيد الذي ورثه من الشهابية»، في إشارةٍ إلى حكم الرئيس فؤاد شهاب (1958 و1964). فقد نجحَت «الشهابية في أن تُرسي قاعدتها السياسية المباشرة على الجَّمع بين خصمَي ثورة 1958، حزب الكتائب برئاسة بيار الجميل والحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة كمال جنبلاط».

في التاريخ السياسي لجبل لبنان، وضع الأمير فخر الدين المعني في القرن السابع عشر «أساس الائتلاف الماروني – الدرزي الذي قام عليه لبنان كولاية عثمانية»، وفق كمال الصَّليبي. وذلك بعدما سيطر «على لبنان كلّه»، إذ إنّه «ورث السيادة على المناطق الدرزية في الجنوب، ثم تحيَّن الفرص فبسط سيادته على المناطق المارونية في الشمال». ويعرِض كمال الصَّليبي أنّ «السيادة الدرزية توطَّدت في لبنان منذ أوائل القرن السابع عشر». ولكنّه نفوذٌ أخذ «يضعف مع الأيام. فما أن انتصف القرن الثامن عشر حتى أصبح ارتفاع الموارنة في العدد والمكانة الاجتماعية أمراً على جانب من الخطورة السياسية».

يُحاجِج أسامة مقدسي، في مقالته المشار إليها، بأنّ «قبل القرن التاسع عشر، لم تكن الجماعات في جبل لبنان تقوم على تمايُزات دينية بقدر ما ارتكزت على تراتُبية أعيانٍ تتجاوز الخطوط الطائفية». إذ إنّ «الأعيان هيمنوا (…) على تمثيل مجتمعاتهم. وسيطرَت العائلات الكبرى على مناطق مختلفة من جبل لبنان، وشكَّلت نخبةً متداخلةً ومتعاضِدةً تتجاوز الانقسامات الطائفية».

يوضح مقدسي أنّ «التحوُّلات الديمغرافية لمصلحة السكان المسيحيين، إضافةً إلى توغُّل القوى الأوروبية واندماج جبل لبنان في الأسواق الأوروبية، حفَّزوا النُّخَب المحلية على تقديم التماسات إلى القوى الأوروبية على أساس ديني، من أجل تبرير المواقع في ظلّ ظروف تتغيَّر سريعاً». يقصد مقدسي بالنُّخب الزعامات الإقطاعية التقليدية، والنُّخب الدينية خاصةً من يمسِكون بالكنيسة المارونية ذات النفوذ المتصاعد في القرن 19. وهو يَعتبِر أنَّ كلّاً من النخب المارونية والدرزية سعى إلى «بلورة تعريف ديني صرف للجماعة، حيث باتت الولاءات للقرابة والمنطقة والقرية خاضعة لتَضامنٍ دينيٍّ شاملٍ».

يُحيل بشير الجميِّل بوضوحٍ في الحوار إلى ذلك القرن وقواه الأوروبية الفاعِلة. فيقول: «(…) حتى إذا أرَدنا الحديث حول انتخابات الرئاسة لا نتوقَّف أمام “شو بدّو قنصل النمسا وشو بدو قنصل بروسيا وشو بدو قنصل روسيا وشو بدو قنصل إنكلترا لأنو ما كان هناك آنذاك أميركا، وما كانت انوَجَدت دولة إسرائيل”». وهو بذلك يشير إلى اللجنة الدولية التي تولَّت النظر في إعادة تنظيم الجبل عقب مجازر واضطرابات سنة 1860.

لعلَّ هيئة المُنتَصِر هذه هي ما قد يُعزِّز النزوع المُرجَّح لدى بشير نحو كسر ثنائية ميثاق جمهورية الاستقلال، المارونية/ السنّية. وما قد يُعزِّز النزوع بصورةٍ أكبر هو واقع أنّ أحداث 1958 وضعت خاتمةً لمرحلةٍ امتدّت منذ المتصرّفية، وظلَّت في الغالب خاليةً من مظاهر الاقتتال الأهلي أو العنف الجماعي

تلك السنة مفصلية في تاريخ لبنان. ففي خضمّ تنافُس القوى الأوروبية على النفوذ والمكاسب في السلطنة العثمانية (المسألة الشرقية)، وقعت مجازر واضطرابات بين الدروز والموارنة في جبل لبنان، وطالت مسيحيي دمشق بوجهٍ خاصٍّ. قام على إثرها ما عُرِف بنظام المتصرّفية. فيكون على رأسه مُتصرِّف مسيحي من خارج الجبل، تُعيِّنه الدولة العثمانية إنّما بموافقة القوى الأوروبية، ويعاوِنه مجلسٌ من 12 عضواً. أربعة من بين هؤلاء موارنة، وثلاثة دروز، وواحد سنّي (ذلك أنّ الثقل الديمغرافي للسنّة في لبنان يقع خارج الجبل). ولمّا جرى إعلان هذا النظام لم يكن قد مضى عقدان على قِسمَة جبل لبنان بين قائمقاميَّتين (درزية ومارونية) بعد جولات عنف تفجَّرَت مع انتهاء زمن الإمارة الشهابية في 1842، ونفي الأمير بشير الثاني قبلاً بنحو سنتَين.

في تلك المرحلة برزت إرهاصات منظومة الحكم الطائفي في لبنان. وقد خلَّفَت الأحداث أثراً في الشخصية المارونية لبشير الجميِّل، ولتصوُّراته للعدوّ والصديق. في وقت أنّ الرواية الشفوية لأحداث الـ 19 ظلَّت حيّةً في الذاكرة، على ما يلفت بعضٌ مِمَّن عملوا على الحرب اللبنانية (على غرار الفرنسية إليزابيت بيكار). ويشيرون إلى أنّ المسيحيين عَبَروا القرن العشرين وهم متمسِّكون بشدّة بذاكرة تلك المجازر. حتى أنّ بشير الجميِّل يقول في «أسبوع الشهداء» سنة 1977: «في هذا اليوم العظيم نحيّي شهداء القضية اللبنانية منذ أن كانت عبر التاريخ (…) ابتداءً بعام 1860».

رغم ذلك، سيُعلن بشير في الحوار انتصاره التاريخي. فيقول: «دعونا من العقلية العثمانية التي ورثناها من 400 سنة، فلقد صمدنا عسكرياً (…) ومن خلال الإمكانات التي سُجِّلت على الأرض على مدى سبع سنوات من الحرب أعتقد أننا الآن في وضعٍ نستطيع فيه أن نقول للأجانب ماذا نريد، وليس ماذا يريدون لنا».

لعلَّ هيئة المُنتَصِر هذه هي ما قد يُعزِّز النزوع المُرجَّح لدى بشير نحو كسر ثنائية ميثاق جمهورية الاستقلال، المارونية/ السنّية. وما قد يُعزِّز النزوع بصورةٍ أكبر هو واقع أنّ أحداث 1958 وضعت خاتمةً لمرحلةٍ امتدّت منذ المتصرّفية، وظلَّت في الغالب خاليةً من مظاهر الاقتتال الأهلي أو العنف الجماعي، وفق عالم الاجتماع سمير خلف في مؤلَّفه «العنف الأهلي واللا-أهلي في لبنان» (منشورات جامعة كولومبيا الأميركية – 2002).

وواقع الأمر أنّ ما حصل في لبنان منذ 1958، تحت عباءة ميثاق الاستقلال، هو برهانٌ كيف أنّ «ممارسة العنف، ككلّ فعل، تُغيِّر العالم، لكن التغيير الأكثر احتمالاً هو عالم أعنف». يقتبس سمير خلف هذه الجملة من حنّة أرندت (1906 – 1975)، ليضيف: «ومن هذا المنظور أيضاً (…) ينزلق العنف الأهلي إلى اللامدنية».

(من الخوف… إلى إسرائيل)

يُمجِّد سليم عبو بشير الجميِّل، فهو «رجلٌ جعلَ أمّةً تكتشِف نفسَها؛ أمّةٌ تكتشف نفسَها في هذا الرجل بشكلٍ تامٍ». أغرَقَ في وجدان جماعته. «والوجدان الماروني هو في الأساس وجدان ديني»، على ما يُقدِّم جان شرف في مؤلَّفه «الأيديولوجيا المجتمعية؛ مدخل إلى تاريخ لبنان الاجتماعي». يشرح شرف أنّ لهذا الوجدان علامة «الارتباط بالأرض كمرتكز وجودي يتيح للجماعة تكثيف وجدانها وممارسة رسوليتها الكونية في بيئة مغايرة». قد تُفسِّر هذه العلامة ملاحظة فولني في نهاية القرن الثامن عشر حين زار جبل لبنان، بأنّ الموارنة «غالباً ما كانوا يُظهِرون تعصُّباً فاضحاً مزعِجاً» (نقلاً عن كمال الصَّليبي).

غير أنّ الأكيد أنّ هذه العلامة تُفسِّر جزءاً كبيراً من الحساسيات الطائفية، ومن تجربة بشير الجميِّل وقصّة “الموارنة” في الحرب. ولم يَطُل الوقت ببشير الجميِّل حتى يُظهِر في الحوار تلك الصورة. فيشير إلى أنّ «ثمّة كلمات تُقال أحياناً في معرض المزاح، ولكنها، برغم ذلك، تعلق في الأذهان»، فتعود لتظهر «كردود فعلٍ». قالها في سياق استعادته جملةً منسوبة للخصم الأبرز لـ«اليمين المسيحي» كمال جنبلاط، وتفيد بأنّه وحلفاءه قادرون على القيام بما يريدون، لأنّ «الثلث (من المسيحيين) بيموت، والثلث بيهرب، والثلث الباقي ذمّي». فيُعلِّق الجميِّل: «نحن حفظنا القول (…) واضطررنا إلى تقديم خمسة آلاف شهيد لنردّ على كمال جنبلاط ونقول: إذا قتلت الثلث الأوّل، فإنّ الثلث الثاني لن يهرب، والثلث الثالث لن يعيش ذمِّيّاً».

تؤكِّد الكلمة الأخيرة «الذّمّي» أنّ صراعات الجماعات تترابط حبكةً تلو أخرى، وتتداخل وتتراكَب في ما بينها. سبق لبشير أن لجأ في كلماته إلى مسألة أهل الذّمّة في الإسلام، أي علاقة السلطة بغير المسلمين وواجباتهم تجاهها. لكنْ في التاريخ الأقرب، لم يُعانِ جبل لبنان بقدر جواره من هذه المسألة، خاصةً في المعاش اليومي والاحتكاك بالمسلمين، وفق ميشال. فكان «مُتنفَّساً للمسيحيين وللموارنة بالأخص، والوضع في قراه أفضل من دمشق أو حلب على سبيل المثال».

قالها في سياق استعادته جملةً منسوبة للخصم الأبرز لـ«اليمين المسيحي» كمال جنبلاط، وتفيد بأنّه وحلفاءه قادرون على القيام بما يريدون، لأنّ «الثلث (من المسيحيين) بيموت، والثلث بيهرب، والثلث الباقي ذمّي». فيُعلِّق الجميِّل: «نحن حفظنا القول (…) واضطررنا إلى تقديم خمسة آلاف شهيد لنردّ على كمال جنبلاط ونقول: إذا قتلت الثلث الأوّل، فإنّ الثلث الثاني لن يهرب، والثلث الثالث لن يعيش ذمِّيّاً»

يتابع ميشال أنّ «مِمّا يَدُلُّ بصورةٍ فائقةٍ على ذلك واقع أنّ العائلات المارونية الكبيرة في مدينة حلب كانت ترسل أولادها إلى هنا ليصيروا خوارنةً ورهباناً». كذلك يشير إلى أنّ «هذه العائلات كانت تَستثمِر أموالاً في بناء الكنائس لأنّ الأمر ممنوعٌ عليها هناك، فكان جبل لبنان قبلة موارنة حلب، غير المتواصلة جغرافياً مع المدينة، وهذا ما يقوله بوضوح المؤرِّخ برنار ايبرجيه في مؤلَّفه “مسيحيو الشرق الأدنى في زمن الإصلاح الكاثوليكي“». (لعلّ المفارقة، وفق ميشال، ما يُشاع حول أنّ «الأصول الأقرب» لزوجة بشير، صولانج توتنجي، تعود إلى حلب).

لجوء بشير إلى مسألة أهل الذّمّة في الإسلام «قد لا يحيل»، يتابع ميشال، «إلى مرحلةٍ تاريخيةٍ بعينِها بقدر ما يحيل إلى مجمل الوضعية التي عانى المسيحيون منها على مدار تاريخهم مع الإسلام، وإنْ طغَت على عناصر خطابه في هذا السياق صورٌ من “المدينة العثمانية”».

مجمل الوضعية تلك يتناولها بشير الجميِّل صراحةً في واحدةٍ من كلماته، فيقول إنّ «المجتمع المسيحي مُهدَّد في هذه المنطقة من العالم منذ 1300 سنة»، في إشارةٍ إلى تاريخ «الفتح العربي». هذا التصوُّر هو ما ساق ببشير، برأيي، نحو التعويل بصورةٍ كبيرةٍ على إسرائيل والتحالف معها. إنّه مبدأ «تحالف الأقليّات». 

«لا علاقة عضوية، بمعنى الوراثة من شخصٍ لآخر، بين اتصال بشير بإسرائيل وبين الاتصالات المارونية بمنظمات يهودية» في العقود الأولى لعمر الدولة اللبنانية، وفق ميشال. دون أن يفوته التنبيه بأنّ «هكذا اتصالات أجرتها أيضاً جماعات وشخصيات أخرى في المنطقة». لكنْ، وفقاً له، لعلَّ الخيط الجامع بين ما بدأ في العشرينيات وبين علاقة بشير الجميِّل بإسرائيل، هي محاولة تعزيز موقع الموارنة والمسيحيين ودورهم في الدولة وسط محيطٍ يُنظَر إليه بكونه غير مُسالِمٍ.

توظيف هذا الخوف ضمن «تضامن ديني شامل»، والسعي إلى ترسيخ الحضور والموقع هما ما قد يجعل من منطق هذه التحالفات مفهوماً بقدرٍ. إذ إنّه في العمق يتَّصل بالبُنى التاريخية التي تُؤطِّر مسارات منطقتنا على المدى الطويل للزمن. يُضاف أنّ نظرات الاهتمام كانت متبادلة في الاتجاهَين. «فالسنوات التي أعقبَت مباشرةً قيام دولة إسرائيل ساهمَت أكثر في ترسيخ فكرة بناء تحالفات مع الأقليات غير العربية والدول غير العربية»، توضح كيرستين شولتز، أستاذة التاريخ في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية في مقالةٍ بعنوان: «الإدراك والإدراك الخاطئ».

تتابع شولتز أنّ «إحدى السياسات التي ارتكزت على هذا التصوُّر الإسرائيلي كانت “عقيدة الأطراف” (Periphery Doctrine)، والتي هدفت إلى تجاوز الجيران العرب المُعادين عبر إقامة تحالفات مع دول تقع على أطراف المنطقة، مثل إيران وتركيا وإثيوبيا». ولكنّها تضيف أنّ ذلك استهدف أيضاً أقليات في الدول المحورية مثل الموارنة، «وفي أحيان كثيرة، بدا لكثير من الإسرائيليين أنّ الموارنة اللبنانيين هم “الأصدقاء” الوحيدون لإسرائيل».

حتى إنّ في يوميّات أوّل رئيس وزراءٍ لإسرائيل دافيد بن غوريون، تَرِد بتاريخ 24/05/1948، أي بعد عشرة أيام من إعلان الدولة، دعوته إلى «هجومٍ موجَّه لتحطيم لبنان، وشرق الأردن، وسوريا»، مشيراً إلى أنّ لبنان هو «الحلقة الضعيفة في التحالف العربي. إذ إنَّ سلطة المسلمين مصطنعة، ومن السهل تقويضها». يتابع: «يجب إقامة دولة مسيحية يكون نهر الليطاني حدَّها الجنوبي»، ويؤكِّد: «سنعقد حلفاً معها». (من بين المهام التي يوزِّعها بن غوريون «احتلالَ جنوب لبنان بواسطة قصف صور، وصيدا، وبيروت، من الجو. سنقصف بيروت من البحر أيضاً».)

كذلك سينظر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، مناحيم بيغِن، «إلى لبنان دائماً من زاويةٍ مسيحيةٍ حادَّةٍ، ورأى في الموارنة جماعة أقلويّة أخرى في الشرق الأوسط، مهدَّدة بوجودها وسط بحرٍ من العرب، تماماً كما هو حال إسرائيل»، على ما يروي سفير واشنطن لدى تل أبيب إبّان الاجتياح، صامويل لويس.

في واحدةٍ من حكايات مُعبِّرة عن طبيعة العلاقة، يقول شمعون شابيرا الذي شغل منصب السكرتير العسكري في رئاسة الوزراء، ورأسَ ديوان وزير الخارجية، إنّه التقاه في فبراير/ شباط 1982 في بلدة طبرجا في شمال بيروت، «وكان بشير يرتدي زيّاً عسكرياً مكوياً بعناية، من دون أيِّ رُتَب. فسألتُه: لماذا لا تضع أيِّ شارات عسكرية؟، ليجيب بسؤالٍ: هل كانت هناك شارات في البلماخ والهاغاناه؟».

غير أنّ ما سيُتَّهم بشير الجميِّل به من قِبل الإسرائيليين عقب اجتياح 1982 هو تماماً ما اتَّهموا به غيره من القوى المارونية في السابق. فمنذ البدء وُجِدَت وجهة نظر إسرائيلية مرتابة لهكذا «تحالف فاشل بين إسرائيل والموارنة»، وهي تبرز في مراحل مختلف. هذا ما يرِد في كتاب المؤرِّخ الإسرائيلي، يوري بيالر، «صليب على نجمة داوود: العالم المسيحي في السياسة الخارجية الإسرائيلية، 1948–1967».

يروي يوري بيالر: «قبل ستة وعشرين عاماً من الحرب في لبنان (…) أعرب (المسؤول الرفيع في وزارة الخارجية) جدعون رافائيل عن الرأي السائد آنذاك بالقول: كلّ من درس الموارنة ومقترحاتهم من كثبيعلم أنّه لا يجوز الحديث عنهم بعباراتٍ عامة، لأنّهم منقسمون فيما بينهم. كما يعلم أيضاً أنّهم، حين يتحدَّثون عن المساعدة الإسرائيلية، يتوقَّعون من إسرائيل أن تنجز المهمة عنهم: أن تُطهِّر لبنان من المسلمين، وأن تضمن الحكم الحصري لـالمتمرِّدين، وطالما أن هذه المهمة لم تُنجَز بعد، فإنّهم سيقفون مكتوفي الأيدي في انتظار ما ستؤول الأمور إليه. وإذا ما فشلت العملية، فسيكون الموارنة أوّل من يخون أولئك الذين استدعوهم لمساعدتهم».

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

(من حدود سوريا إلى «العرين» القلق)

واقع الأمر أنّ من ضمن سياسات بشير الجميِّل لضرب سوريا في لبنان يَظهر سعيُه إلى جذب إسرائيل نحو مواجهةٍ معها في سهل البقاع بوجهٍ خاصٍّ. إذ إنَّه يُعدُّ مساحةً إستراتيجيةً تفصل بين جبل لبنان، وبين سلسلة الجبال الشرقية. وهو في عين سوريا لأنّه يُشكِّل عمقاً لأمنها القومي، فيما سيقول بشير في الحوار: «لا نستطيع تقديم البقاع إلى السوريين ليتمكَّنوا من حماية أنفسهم من “الطيران الإسرائيلي الغاشم”».

مساعي بشير لجذب إسرائيل نحو مواجهة مباشرةٍ مع حافظ الأسد، انعكَست تماماً في معركة مدينة زحلة البقاعية. امتدَّت المعارك والحصار السوري لنحو ستة شهور (12/1980 – 06/1981) في هذه المدينة التي توصَف بأنّها «أكبر مدينة كاثوليكية في الشرق». الصحافي الإسرائيلي، يوري مسكاف، يلفت في مقالةٍ في هآرتس بعنوان «مغامرة الموساد الطائشة لتغيير وجه لبنان»، إلى أنّ بشير تورَّط في مواجهة زحلة، في وقت لم يكن الصقوري أرييل شارون قد بلغ وزارة الدفاع بعد.

يوضح مسكاف أنّ من الجانب الإسرائيلي «كانت هناك اعتبارات ثقيلة: الخشية الحقيقية من انهيار اتفاق السلام الناشئ مع مصر في حال هاجمت إسرائيل سوريا؛ والخطة العملياتية لتدمير مفاعل أوزيراك (تموز) النووي العراقي، والتي كانت قد دخلت مراحلها العملية، وتصدّرت أولويات سلاح الجو الإسرائيلي». (ستُقلِع المقاتلات الإسرائيلية في 07/06/1981 لكي تستهدف المفاعل، في عمليةٍ عبرَت خلالها فوق أجواء دولٍ عربيةٍ). 

رغم هذه الاعتبارات الإسرائيلية، سيَشتدّ التوتّر بين دمشق وتل أبيب في نهاية أبريل/ نيسان 1981 مع إسقاط إسرائيل مروحيَّتَين سوريَّتين في البقاع. في التغطية الإخبارية، قالت «نيويورك تايمز» إنّ الحدث «وُصِف رسمياً بأنّه تحذير بأنّ إسرائيل لن تسمح للسوريين بهزم المسيحيين اللبنانيين في المعارك التي اشتعلت في الأسابيع الأخيرة». وأضافت الصحيفة أنّها «كانت المرة الأولى التي ترسل إسرائيل فيها طائرات للدفاع عن ميليشيات مسيحية في وسط لبنان ضد القوات السورية، إذ إنّ الضربات الجوية السابقة كانت تُوجَّه غالباً إلى قواعد الفدائيين الفلسطينيين».

سفير واشنطن لدى تل أبيب وقتها، صامويل لويس، يوضح أنّ «مناحيم بيغن برَّر الخطوة بأنّ إسرائيل لم توافق أبداً على السماح للسوريين بالاستيلاء على لبنان وإفناء مسيحييه». واعتبر لويس أنّ قرار إسقاط المروحيَّتَين «شكّل حدثاً بالغ الأهمية في التاريخ المعاصر للمنطقة»، إذ عُدَّ «خرقاً لاتفاق “الخط الأحمر” الضمني» بين إسرائيل وسوريا. وهو خطّ وهمي في جنوب لبنان يتعذَّر على القوات السورية تجاوزه. قام على إثر تفاهمٍ سريٍّ غير مكتوبٍ رعاه وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر سنة 1976 بعد دخول سوريا لبنان، بهدف تحديد مناطق النفوذ بينها وبين إسرائيل في الجغرافيا اللبنانية. ترَك منطقة عازلة لإسرائيل تخلو من القوات السورية، وتمتدّ لنحو أربعين كيلومتراً. طالما أنّ السوريين لا يعبرونه، لا تواجِههم إسرائيل. 

غير أنّ بشير يلمِح في الحوار إلى تأييده كسر هذا الخط من خلال استعادته أحداث 17/01/1976 في بلدة الدامور ذات الغالبية المارونية. وهي تقع على الطريق بين بيروت وصيدا جنوباً في محيطٍ تُهيمِن «الحركة الوطنية» فيه. وتُصوَّر أحداثها بكونها انتقاماً فلسطينياً بعد خمسة أيام من مجزرة الكرنتينا.

في محطِّ القول، يكشف بشير الجميِّل: «سبَقَ أن قيل للسوري والفلسطيني، إنه إذا جاء ضابط إسرائيلي إلى الدامور وقال: “نداء إلى أهالي الدامور، الدامور صارت ملككم وبيوتكم حررناها، الموز والليمون والخس موجود بتصرّفكم، فمن يريد العودة فليتفضل”، فلا أعتقد أن أحداً من أهالي الدامور سيقول له: والله أنت عدو إسرائيلي، وأنا لا أقبل بالرجوع، أو أبو عمار هو الذي يرجعني، أو فداء له الدامور ولن أعود إليها».

لقد شكَّل الفلسطينيون، ومن بعدهم الجيش السوري، حجر عثرة في درب مشروع بشير الجميِّل (ودرب الدولة في أحايين كثيرة). يعتبِر في مقدّمة الحوار أنّ «من مصلحة السوري الانسحاب من هنا، ومن مصلحة الفلسطيني البدء في الأخذ والعطاء، ليرى كيف يمكنه تدبير أوضاعه». يكشف في إجابته سؤالاً لمهى سمارة أنّه أرسل «إلى القادة السوريين (يقول …) إن عسكرَكم ومخابراتكم لن يضمنوا أمنكم (…) أمنكم السياسي، يمكن توفيره بالتوافق معنا، وسوف لن تحتاجوا آنذاك إلى جيش ولا إلى مخابرات، أمْنُكم نؤمّنه نحن».

«باختصار هم (السوريون) يريدون أن يبقوا ونحن نريدهم أن يخرجوا. أمّا ما هو ثمن خروجهم وما هو ثمن بقائهم، فهنا العمل السياسي (…) نفضِّل أن يكون مشروعنا مربحاً للجميع، ليس بالضرورة أن تخرج سوريا من لبنان خاسرةً، وليس بالضرورة أن يكون بقاؤها على حسابنا».

أبرز صفةٍ لشخصيةٍ تتمتَّع بهكذا «واقعيةٍ»، هي أنّ استراتيجياتها تتحرَّك بمنطق السعي إلى البقاء حتى محاصرة النفس أحياناً عبر التحالفات التي تقيمُها. طيفٌ واسعٌ من أنصار بشير يُعرِبون عن اعتقادهم، علناً وضمناً، بأنّ التحالف مع إسرائيل بلغ نقطةً ما عاد يمكن التراجع من بعدها. فوسط «التباينات» مع شارون مع تقدُّم الاجتياح نحو بيروت وارتفاع سقف المطالب الإسرائيلية، حاصَر بشيرٌ نفسَه

قد تعكِس هذه المقاربات «شغفَ بشير الجميِّل بمسألة موازين القوى»، اقتباساً من مستشاره كريم بقرادوني، والذي جلس بجانبه في طاولة «النهار العربي والدولي». شارل مالك، وهو واحدٌ بين من أبرز الشخصيات الفكرية لما سُمِّي بـ «الجبهة اللبنانية»، والتي سيتزعَّمها بشير تدريجاً منذ 1976، قرأتُه يقول: «والمفاوضات السياسية كلّها لا قيمة لها على الإطلاق إلا إذا استندَت إلى قوّةٍ حاسمةٍ تُنفِّذ إرادتها، وإنّ التوازن السياسي والصراع الدولي هما في النهاية توازن قوى واقعية لا صراع حُججٍ».

غير أنّ أبرز صفةٍ لشخصيةٍ تتمتَّع بهكذا «واقعيةٍ»، هي أنّ استراتيجياتها تتحرَّك بمنطق السعي إلى البقاء حتى محاصرة النفس أحياناً عبر التحالفات التي تقيمُها. طيفٌ واسعٌ من أنصار بشير يُعرِبون عن اعتقادهم، علناً وضمناً، بأنّ التحالف مع إسرائيل بلغ نقطةً ما عاد يمكن التراجع من بعدها. فوسط «التباينات» مع شارون مع تقدُّم الاجتياح نحو بيروت وارتفاع سقف المطالب الإسرائيلية، حاصَر بشيرٌ نفسَه.

السعي إلى البقاء يَظهر أيضاً في تصوُّر بشير الجميِّل لمستقبل منطقته «العرين» ذات الألفي كيلومتر مربَّعاً. فيُشدِّد في المقدّمة على أنّ «من مصلحتنا نحن كمسيحيين الخلاص من هذه “الليشتنشتاين” أو هذه الـ “موناكو” الصغيرة التي نعيش فيها فوق ألفي كيلومتر مربَّعاً». يضيف: «رغم الأمن والازدهار، (فإنّ حياةً كهذه) تبدو حيوانية لا تمثل بالنسبة إلينا أيّ شيء إنساني أو وجداني أو عميق (…) هذه الأمور لا تتجاوب وأمنيتنا لأننا في باريس وأوروبا أو في أميركا نستطيع أن ننعم أكثر مما ننعم في هذه “الليشتنشتاين” الصغيرة».

يعلِن: «فإمّا أن نعيش في كلّ لبنان مع كلّ اللبنانيين، وإلا “ما بتِحرُز القصة كلها”». يتأسَّف: «مثل هذا الوضع اصطناعي، وأنا قبل غيري خائف عليه». ثم لاحقاً يجيب سؤالاً لإلياس الديري: «هذه الجنّة توشك أن تستنفد باعتبارها تأكل من اللحم الحيّ (…) إذا لم تندمج مجدداً بهذه المجموعة الكبيرة التي في 10,452 كلم٢ فإنها ستلجأ إلى الانتحار».

لم يَبدُ هذا التبنّي على أنّه تخلٍّ عن مشروع مسيحي-ماروني رابح لمصلحة مشروع وطني خاسر. بالأحرى، هو لا يبدو تضحيةً كما صُوِّر طويلاً في لبنان، بخاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري وإغراق جمهور تيّاره «المستقبل» (في بيروت على الأقل) في التماهي مع شخصية أسطورية لبشير الجميّل. فوق ذلك، واحد من السيناريوات المترتِّبة على احتمال إخفاق مشروع بلوغ قصر بعبدا بصورةٍ شرعيةٍ كان الرجوع إلى «العرين»، وفق أحد رفاق بشير في وثائقيّ «الحقيقة غير المطلقة».

لكنْ في الوقت عينِه، هذا لا ينفي أنّ الجميِّل، وفق وسام سعادة في مقالته المشار إليها، «فرض نفسه بشكلٍ أو بآخر على مآل الفكرة الكيانية اللبنانية بعد مماته». ويوضح سعادة أنّ «هذا ما ظهر تحديداً مع قيام حركة 14 آذار».

النهاية… كلُّ سيفٍ للفناءِ

كلُّ شيءٍ بدأ لبشير الجميِّل فوق سجّادة منزل والده في الأشرفية. تروي شقيقةٌ له في وثائقي «الحقيقة غير المطلقة» أنّ فوق السجّادة نما لديه شغف اللعب بنشر العساكر. فتمرُّ أرجل الشخصيات الزائرة حذِرةً في ما بينها. يفرح حين يتلقّى آليةً عسكريةً هديّةً. ثم لاحقاً، لمّا كبر واشتدَّ وبطش، انتهى معاونوه والقريبون منه «إما يحبّونه أو يهابونه، فلا مكان وسط»، بوصف ضابط إسرائيلي عرفه، وتحدَّث في مقالة يوري مسكاف المشار إليها.

سينتقل بشير من سجّادة والده إلى واحدةٍ أضخم مع تحوُّله إلى «أداةٍ استعماريةٍ كلاسيكيةٍ، من النوع الذي يأتي لكي يُفجِّر مشاكل الأقليّات»، مثلما يقول علي الرَّجّال، الباحث المصري في علم الاجتماع السياسي في جامعة «المدرسة العليا ENS» بفلورانس. غير أنّ حالته «خلقت بعداً آخر ضمن هذا الهيكل القديم في إقليم الشام Levant»، إذ تراكبَت فيها: «حدَّةُ صراعٍ شديدة؛ شخصيةٌ تتمتَّع بقدرات تنظيمية وسياسية؛ كاريزماتك بصورةٍ عاليةٍ جداً؛ وهو على المستوى التكتيكي رفيع المستوى».

هذا التراكُب والتمَفصُل هو ما منح بشير الجميِّل سلطةً وشرعيةً ضمن جماعته، لا يحظى الزعماء التقليديون بمثلهما. وقد بدا في الحوار مدرِكاً لهذه الحقيقة، خاصةً حين ألمح إلى قرارات «يجب أن يكون هناك من يقدِر على اتِّخاذها». فواقع الأمر، انتهى بشير شخصيةً من تلك التي «تَقدِرُ على الانزياح بجماعاتها بحيويةٍ كبيرةٍ مقارنةً بالقيادات التقليدية»، وفق ميشال. قبل التأكيد أنّه «أخذ فعلياً المسيحيين نحو خيارات كبيرة جداً، ولم يكن ذلك يحظى بإجماع».

يَستدرِك ميشال بأنّ المفارقة تمكن في معادلة: «صحيح أنّ شخصاً مثل بشير يُدغدِغ كثيراً من الأحلام، ويدخل سلباً وإيجاباً إلى طبقات عميقة للوعي الجمعي، ولكنّ الزمن لم يُتِح له فرصةَ تأسيس شيء عميق في السياسة، فقد رحل وبعد مدة قليلة انتُخِب أخوه رئيساً وطوِيت الصفحة السياسية» (يلمح الأب سليم عبو بدوره إلى هذا الطيِّ).

يتابع ميشال أنّ «لحظة بشير الجميِّل قصيرة في السياسة والزمن. فقد بدأ عملياً في سنة 1976، ثم جاءت حرب المئة اليوم» بين 07/1978 و10/1978، والتي ستُكرِّسُه قائداً عسكرياً. وبعد ذلك يمتدّ المسار «وصولاً إلى 1982 ولحظة الذروة بين انتخابه واغتياله».

غير أنّ «هذا الجميل ببشير، فكأنّه حلم يقظة»، يخلص ميشال. معتبِراً أنّ «النهاية المأسوية هي التي تصنع الأسطورة… فهذا شخص بلغ الرئاسة بهذه القوّة والأحلام، ومع ما هو مُتخيَّل عنه، ثم قُتِل سريعاً، ما يجعل مؤيِّديه ومحبّيه يفكِّرون لعقودٍ على نحو أنّه لو بقي لفعل وأنجز وحقَّق».

يُجسِّد بشير الجميِّل، وفق وسام سعادة في مقالته المشار إليها، «لحظةً مزدوجةً في وجدان قسم كبير من الموارنة: الشعور بأقصى الانتصار، تلاه مباشرة الشعور بأقصى معنى للخيبة واليتم. لحظة ارتجاجية دائمة. لحظة مخيفة تَحول دون ترك “الموتى يدفنون موتاهم”». ومِمّا يرويه الأب سليم عبو أنّ حين رحل بشير الجميِّل، بلغ الأمر بالبعض أنْ فكَّروا على نحوِ: «بما أنَّ بشير يمكن أن يموت (…) فلم يتبقَ سوى الموت معه». رمزياً، حتى عاشوا «قلقَ الموت إلى آخر عواقبِه».

حدث ذلك لبشير الجميِّل ولحالته بعدما قُدِّر له أن يختَتِم حياتَه في «دير راهبات الصليب»، في خلال غدائه الأخير. فقبل نهاية الحياة بنحو ساعتَين أو ثلاثٍ، وقُرب شقيقته الرَّاهبة «أرزِة»، أودَع بشير الجميِّل الجالِسين لبناناً قال إنّه ليس «وطناً قومياً مسيحياً»، إنّما وطنٌ للمسيحيين «ولغيرنا كمان إذا بَدهم»

لعلّ المفارقة الأبرز في الحوار مع «النهار العربي والدولي» تكمن في أنّ السؤال الأخير الموجّه إليه جاء من وديع الحلو، الذي عرَّف عن نفسه بكونِه «سورياً قومياً اجتماعياً». وهو الحزب الذي انتمى إليه من اغتال بشير، حبيب الشرتوني.

شكَّك الحلو في إمكانية وصوله إلى الرئاسة لاعتبارات عدّة. ثم لا أعرف لماذا، أسِف لواقع أنّ الحرب «لم تفرز في كلّ لبنان بشيراً آخر». ولكنْ قبل نهاية إجابة بشير بثلاث جُمل، قال: «قرارنا أن لا نتبع طريق الانقلاب العسكري على غرار ما فعل السوريون القوميون عام 1961 (على الرئيس فؤاد شهاب)، ذلك أن لبنان لا يسير بانقلاب عسكري». وبما يعارض تاريخه، خلُصَ إلى أنّ «لغة السلاح في لبنان ليست طريق الحكم». لن نعرِف لأنّ كلّ شيءٍ سينتهي بعد قليلٍ.

أوافق على أنّ «آلاف الشباب قد ساروا خلفه، وقاتلوا وقُتِلوا، وهم يتوهَّمون أنّهم يدافعون عن قضيّةٍ وكيانٍ و”وجودٍ”، في حين أنهم كانوا يَسيرون خلف قائدٍ يستحيل أن يوصلهم إلى غير الهزيمة»، وفق عامر محسن في مقالةِ «الإرث والوارثون» المشار إليها. ولكنْ ربما الهزيمة الحقيقية لزعامات استثنائية ودونكيشوتية، هي سابقة الحدوث. إذ إنّها تكمُن في أنّهم يحمِلون الأنصار والمشايعين من جماعاتهم ليُلامِسوا النجوم، فيما لن يقدِر أحد على إعادة هؤلاء إلى الواقع حين يختفي الزّعيم فجأةً.

حدث ذلك لبشير الجميِّل ولحالته بعدما قُدِّر له أن يختَتِم حياتَه في «دير راهبات الصليب»، في خلال غدائه الأخير. فقبل نهاية الحياة بنحو ساعتَين أو ثلاثٍ، وقُرب شقيقته الرَّاهبة «أرزِة»، أودَع بشير الجميِّل الجالِسين لبناناً قال إنّه ليس «وطناً قومياً مسيحياً»، إنّما وطنٌ للمسيحيين «ولغيرنا كمان إذا بَدهم». أوصاهم «الحفاظَ» عليه حتى يَكونوا قادِرين على «ترميم الكنائس» مثلما يريدون، وفي الوقت الذي يريدونه. وحتى يَبقوا في الشَّرق، وتَبقى «الأجراس تدُقُّ في الأفراحِ والأتراحِ».

في ختام الكلمة، وبطريقته المعهودة، رمى أمام من سيؤرِّخون حاسِماً: «كفاهم إطلاق تصاريح حول ما كان علينا القيام به، وما كان علينا عدم القيام به (…) نحن عرفنا ما كان علينا القيام به، ولو لم نعمل كما عملنا لكان قضي علينا، ولما كان بقي صليب أو راهبة أو كاهن على أرض لبنان».

ثم انتهى كلُّ شيءٍ.

ففي نحو الساعة 4,10 عَصراً، سينفجر مقرُّ «حزب الكتائب» في الأشرفية، حيث ذهب بشير يعقد اجتماعاً مع المحازِبين. وفهمتُ أنَّ في الدقائق الأخيرة الأخيرة تقدَّمت شابةٌ منه لتُهديه إكليلَ ياسَمين. لحظةٌ خطابيةٌ مُكلَّلةٌ بالياسَمين كانت نهاية العدوّ. وسرعان ما سيجد رفاقه في جيب القميص الأزرق الدامي المغبَّر ورقةً صغيرةً دوَّنت راهبةٌ فيها الدعوات بطول العمر. مدَّتها له لمَّا رُفِعت موائد الغداء الأخير، وهَمَّ المُنتصِرُ مغادِراً نحو ما ستكون حدودَ القدَرِ.

فالدَّهرُ «يَنتَضي (يَستَلُّ من الغِمد) كلَّ سيفٍ للفناءِ». بِذا أنبَأنا شاعرٌ راح يَرثي ضَياعَ الأندَلُسِ حتى أجادَ: «يـا غـافِلاً وله في الدَّهرِ مَوعِظةٌ/ إنْ كُـنتَ فـي سِنَةٍ فالدَّهرُ يَقظانُ».