خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

بحثًا عن الأطفال الفلسطينيين في سجون الاحتلال

أقرّ الضابط الإسرائيلي بأنه سيرمي الطفل في السجن لستة أشهر، من دون أن ينتظر قرار المحكمة أو صدور تهمة.. أوامر عسكرية أدّت إلى اعتقال حوالي 1400 طفل فلسطيني في سجون الاحتلال منذ السابع من أكتوبر
ــــــــ استقلالــــــــ جسد
18 يوليو 2025

عند الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليل الأوّل من تموز (يوليو) سنة 2024، اقتحم قرابة خمسون جنديًا من جيش الاحتلال الإسرائيلي إحدى قرى مدينة جنين، ثم توجّهوا إلى بيت أبو زياد (اسم مستعار) حيث يعيش مع أولاده الثلاثة وزوجته، وحاصروا المنزل. بعد دقائق، داهمت مجموعة من الجنود المنزل، وبمجرد دخولهم انهالوا على الأم والأب والإبن الأكبر بالضرب ثم فتشوا الغرف وحطموا أثاثها وخربوا محتوياتها. 

ومن بين أبناء أبو زياد الثلاثة اختار الضابط أصغرهم، قيس* (اسم مستعار) الذي كان يبلغ من العمر 17 سنةٍ حينها، فغمّموا عينيه، وكبلوا يديه، وراحوا يوزعون ضربات أعقاب البنادق على مختلف أعضاء جسده أمام عائلته، وكلّما اعترض أو علّق أحدهم نال قسطًا جديدًا من الضرب.

اقتاد الجنود الطفل قيس، من دون أن يقولوا للأهل إلى أين يأخذونه، أو ما هي التهمة الموجهة له، واكتفى الضابط بمعلومة واحدة قالها لوالده: “سأعطي ابنك ستة شهور(سجن) إداري، متجاوزًا قرار القاضي أو المحاكمة، وفق ما أشار لنا أبو زياد. وهكذا انسحب الجنود ومعهم الطفل قيس، وبالفعل حكم عليه بالسجن الإداري لمدة ستة أشهر، وجدّدت له مدّة الحكم مرّتين بذريعة وجودملف سري، وما زال قابعًا في السجن حتى اليوم.

مصير مجهول

في الأشهر الأولى من سجنه، لم تصل العائلة إلى أيّ معلومة عنه. طرقت كلّ الأبواب الممكنة من أجل معرفة مكانه والتهمة الموجّهة إليه، وتواصل أفرادها مع الصليب الأحمر الذي أخبرهم بأنّه غير قادر على تحديد موقعه، وأن حالة ابنهم تشبه حالات كثيرة لم يعد للصليب الأحمر القدرة على معرفة أماكن المعتقلين بعد السابع من أكتوبر 2023. وحين تواصلوا مع “نادي الأسير الفلسطيني” لم يستطع الوصول إليه كذلك، فيما فشل المحامون أيضًا في العثور على الطفل.  

بعد أربعة أشهر، تمكنت محامية تعمل مع مؤسسة بريطانية من زيارته للمرّة الأولى. قابلت قيس وأخبرها أنّه بقي مكبّلًا لساعات قبل رؤيتها، أمام مجموعة جنودٍ يأكلون أمامه ويلقون عليه بقايا الأكل ويشتمونه.

أسرّ قيس للمحامية عن تفاصيل اعتقاله منذ يوم الأول من تموز (يوليو) 2024، واقتياده من بيته إلى معسكر “حوارة” قرب نابلس ثم إلى سجن “عوفر” في بلدة بيتونيا غرب مدينة رام الله في الضفّة الغربيّة المحتلّة.

في العادة، لا تذكر الليلة الأولى للاعتقال، ولا تفاصيل الاعتقال من المنزل. نتعرّف على المعتقل من خلال اعتقاله، بعدما يصير خلف القضبان، وهي بالتالي معرفة تظلّ منقوصة، طالما أنّها تُروى على لسان المحيطين به من أقربائه، إن كانوا موجودين لحظة الاعتقال. وما قد يخبره الطفل عن لحظة اعتقاله، يكون مختلفًا تمامًا عمّا قد يرويه البالغون من حوله، هكذا تعرّفنا إلى قصّة قيس من خلال والده الذي علم عن ظروف اعتقال ابنه من المحامية ومن بعض الأسرى المفرج عنهم والذين قابلوه في السجن. من يروي قصص الأطفال المعتقلين؟ وكيف يخبرونها إن خرجوا من السجن؟ فمنذ السابع من اكتوبر 2023، بلغ عدد الأطفال الفلسطينيين المعتقلين 1400 طفلًا، وهو عدد غير مسبوق في الضفة الغربيّة التي لا يزال 440 طفلًا من أطفالها معتقلين حتى يومنا هذا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وفقًا لأرقامنادي الأسير الفلسطيني“.

الجنود كقضاة

لم يكن اعتقال الأطفال في فلسطين أمرًا استثنائيًا، لا قبل السابع من أوكتوبر ولا بعده. لعقود كاملة، تعرّضوا للأسر في سجون الاحتلال الإسرائيلي إلى جوار الأسرى البالغين، ويُقدّر عدد الذين اعتقلوا لدى الاحتلال منذ النكسة عام 1967 وحتى العام 2022 ما يزيد عن خمسين ألف طفل فلسطيني، وفق تقرير “هيئة الأسرى” الصادر في ذكرى انتفاضة الأقصى، في أيلول (سبتمبر) 2022.

في البداية تُطبّق السلطات الإسرائيلية على الفلسطينيين في الضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية، القانون العسكري الإسرائيلي، ويتيح هذا القانون للجيش اعتقال الأطفال دون سن الثامنة عشرة عامًا بتهمٍ أمنية، في حين أنّ القانون المدني “الإسرائيلي”، الذي يُطبق على الأطفال الإسرائيليين يعرّف الطفل بأنه كل شخص دون الثامنة عشر من العمر.

أتاح هذا القانون للاحتلال اعتقال الأطفال دون سن الثامنة عشرة من العمر، والزجّ بهم في السجون، أو في مراكز التوقيف والتحقيق، في ثلاثة أشكال؛ أوّلًا توقيف الطفل لعدّة أيام في مراكز الاعتقال بهدف التحقيق معه، أو من أجل الضغط على أحد أفراد الأسرة المطلوبين كي يسلّم نفسه إلى جيش الاحتلال، أو بهدف ترويع العائلة، وفي هذه الحالات، لا يصل الطفل المعتقل إلى المحكمة.

في الحالة الثانية، يجري اعتقال الطفل، وعندما لا تتوافر أدلّة على انخراطه في أنشطة مخالفة بنظر دولة الاحتلال مثل إلقاء الحجارة على جنود الاحتلال، يُعرَض على القاضي الذي يحكم عليه بالتوقيف الإداري لإضفاء المسوّغ القانوني على توقيفه، ثم يُنقل إلى السجن، وعادةً ما تكون فترة الاعتقال لمدّة ستة أشهر، وتتجدّد أكثر من مرة في الغالب، مثلما حدث مع الطفل قيس. أما في الحالة الثالثة، فيجري توقيف الطفل وتوجيه إليه لائحة اتهامات، ومن ثم يخضع للمحاكمة، والحكم عليه من قبل قاضي المحكمة.

في الحالات الثلاث، وبموجب تفويض الأوامر العسكرية العامة، يُتاح لأفراد الأمن والجيش الإسرائيلي اعتقال أي طفل فلسطيني دون الحاجة إلى مذكرة اعتقال، إذا كان هناك سبب للاشتباه في ارتكابه مخالفة قانونية. وفي جميع هذه الحالات الثلاث يتعرّض الطفل في فترة التوقيف إلى انتهاكات حقوقية خلافًا لاتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة والتي صادقت عليها “إسرائيل” منذ العام 1991.

تاريخيًا، يتشابه تعامل الاحتلال الإسرائيلي مع الأطفال الفلسطينيين حقبة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا التي امتدت بين عامي 1948 و1994، وعمد فيها نظام الفصل العنصري إلى إخضاع الأطفال لأنظمة عنف بنيوية وممنهجة، مثل اعتقالهم تعسّفيًّا، واحتجازهم دون محاكمة وتعذيبهم، وقتلهم، أو حتى الضغط عليهم من أجل التوقيع على اعترافات لم يرتكبوها.

ملفّات سرية

تُخالف “إسرائيل” المعايير الواردة في الاتفاقيات الدولية، مثل أنّ للأطفال الحق في محاكمة عادلة بما يتوافق مع نصوص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وبمنع احتجازهم التعسفي، وبتطبيق الضمانات في حال احتجاز الطفل مثل حظر التعذيب والمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، أو حتى السماح بالوصول إلى محام، أو الاتصال بالعائلة، أو السماح لوالديه بالتواجد خلال فترة التحقيق.

تُعتبر حالة الطفل قيس من الشكل الثاني من الاعتقالات التي يجري فيها توقيف الطفل ومن ثم توجيه اتهام إليه بناءً على ملفٍّ سرّي، دون أن يكون هناك دليل على مخالفته للقانون العسكري الإسرائيلي. وفي حالته، فإنّ السجن تمّ تحت ما يُسمّى بوجود ملف أمني سري وتحت أمر اعتقال إداري جُدّد له ثلاث مرات.

تزايد اعتقال الأطفال عبر سياسة الاعتقال الإداري، وهي سياسة تسمح للاحتلال بالاعتقال دون وجود لائحة اتهام ضد المعتقل وتكتفي بالقول إنه معتقل بسبب ما يدعوه الاحتلال: “ملف سري”، وهو ما تعلق عليه مديرة الإعلام والتوثيق في “نادي الأسير الفلسطيني”، أماني سراحنة قائلة “تخيل طفل عمره 14 سنة معتقل إداري بسبب وجود ملف سري إله؟”. حين نشير إلى التهم الموجّهة للأطفال تعسفيًا، فإننا لا نحاول أن ننأى عن الظلم الذي يتعّرض له المعتقلين البالغين، خصوصًا من خلال تهمة “الملفّ السرّي”، وهي تهمة لا تقول شيئًا بقدر ما تجرّد المعتقل من حقّ الدفاع عن نفسه بأيّ طريقة.

وقد راجت الاعتقالات الإدارية دون تهمة أو محاكمة وبلغت ذروتها سنة 2022، تحديدًا بتهمة “الملفّ السرّي” التي تطيل مدّة الاحتجاز إلى أجلٍ غير مسمّى.

بهذه الطريقة أيضًا حكم على قيس، حتى قبل عرضه على القاضي، حين قال الضابط لوالده: “سأعطي ابنك مدّة حكم لستة شهور في السجن الإداريفي لحظة اعتقاله. أي أن الحكم على الطفل جرى وهو لا يزال في منزله، وقبل مثوله أمام المنظومة القضائية العسكرية، وهو ما يشير إلى عدم مثول جنود الاحتلال وضباطه لأي قانون، ولا حتى القانون الموضوع أصلًا لإخفاء وتبرير جرائمهم بحق الفلسطينيين.

رهائن قبل السابع من أكتوبر

شتاء عام 2022، كان بلال (اسم مستعار) يبلغ من العمر 15 سنة. في ساعة متأخّرة من إحدى الليالي، أفاق على صوت صراخ، وحين خرج ليستكشف الأمر وجد مجموعة جنود ينهالون بالضرب على والده وشقيقه الأكبر، بالإضافة إلى إلقاء قنابل صوتية بين غرف المنزل، خرجت أمه أيضًا وراحت تصرخ على الجنود. اعتقل الجنود شقيقه ومن ثم اعتقلوه تحت الضرب حتى فقد وعيه.

أنزل الجنود بلال من البيت، وضربوا رأسه بباب الجيب العسكري قبل أن يقتادوه إلى معسكر اعتقال قريب من قريته. بدأ التحقيق معه تحت الضرب والتهديد، ثم طلب منه أحد الجنود فتح هاتف شقيقه الأكبر، فأجابهم بأنه لا يعرف، لكنّهم لم يستسلموا: “ظلّ الجندي يضغط عليّ أن أفتح تلفون أخي، فقلت له، أخي معكم، لا أعرف كيف أفتح هاتفه، وصار يضغط علي أخي، ويقول له أخوك لا يسمع الكلام، أريد أن أعتقله لعشر سنوات”.

بعد عدّة أيام من الضرب، ومنعه من النوم وإجباره على بعض الأفعال مثل العضّ على عجلة السيارة العسكرية وشتم الشعب الفلسطيني، ترك الجنود بلال الذي لم يحتفظ بصورة عن تلك الليلة سوى الكدمات الزرقاء على جسده والأورام كما يخبرنا.

كانت هذه المرة الرابعة التي يُختطف فيها الطفل كرهينةٍ لدى جنود الاحتلال، ففي مرّة سابقة اقتحم ثلاث جنود ومترجم البيت الذي لم يكن فيه غير بلال وإخوته الصغار وجدّته. كان أبوه مسافرًا خارج فلسطين، وكانوا يبحثون عن متفجرات في المنطقة. اقتادوه إلى مخزن أسفل البيت و أطفأوا الأنوار، وصاروا يطالبونه بتسليمهم المتفجّرات لكنه لم يكن يعرف شيئًا عن الأمر، إلى أن تدخّل عمّه وأخوه وأفرجوا عنه. 

يتمتّع أي ضابط أو فرد أمن أو جندي بسلطةٍ لاعتقال أي طفل، إذا “كان هناك سبب للاشتباه في ارتكابه جريمة”. تحت هذه التهمة الفضفاضة التي قد تعتمد على الأهواء الشخصية للجنود، يمكن أن يُعتقل الأطفال الفلسطينيين من دون أيّ رقابة مستقلة على عملية الاعتقال، ومن دون الحاجة إلى تقديم أدلة كافية في غالبية الحالات.

وفي مرّة أخرى أخذوه رهينةً إلى مركز تحقيق من أجل الضغط على شاب من العائلة مطلوب لتسليم نفسه إلى جيش الاحتلال. في كل مرة من هذه المرات التي تعرض لها بلال للاعتقال في مراكز توقيف، لم يكن سبب الاعتقال قيامه بأي فعل مخالف لقانون الاحتلال، إنما كان يعتقل كرهينةٍ من أجل أن ينفذ شقيقه بعض أوامرهم مثل فتح هاتفه، أو من أجل الحصول على بعض المعلومات عن بعض المطلوبين والأحداث التي لم يكن يعلم عنها بلال شيئًا.

بموجب تفويض الأوامر العسكرية العامة، يتمتّع أي ضابط أو فرد أمن أو جندي بسلطةٍ – دون الحاجة إلى مذكرة – لاعتقال أي طفل، إذا “كان هناك سبب للاشتباه في ارتكابه جريمة”. تحت هذه التهمة الفضفاضة، والتي قد أن تعتمد على الأهواء الشخصية للجنود، يمكن أن يُعتقل الأطفال الفلسطينيين من دون أيّ رقابة مستقلة على عملية الاعتقال، ومن دون الحاجة إلى تقديم أدلة كافية في غالبية الحالات. وتُعتبر التهمة الأكثر شيوعًا هي رمي الحجارة، والتي تصل عقوبتها القصوى إلى 20 عامًا.

في النوع الثالث من اعتقال الأطفال الفلسطينيين الذين توجه لهم تهم محددة مثل رمي الحجارة على الجنود أو محاولة طعن جنود أو مجرد نشر تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي، يتعرض الطفل إلى نفس انتهاكات الشكلين الآخرين من الاعتقال أثناء التوقيف والتحقيق لكن يجري انتزاع الاعترافات منهم تحت التعذيب، ويُمنعون من التواصل مع محامٍ من أجل أن يرشده في حقوقه أو كيف يتصرف أمام المحققين. وقد أفادت منظمة “أنقذوا الأطفال” إلى أن ما يقارب نصف الأطفال الذين تعرضوا للاعتقال، حرموا من التواصل مع محامٍ على الأقل مرة واحدة خلال فترة احتجازهم، وفي الكثير من الحالات، يجبر الأطفال الموقوفين إلى إجراء تسوية تقوم على اعترافهم بالذنب مقابل تخفيف مدة الحكم.

تتراوح أعمار الأطفال المعتقلين ما بين 14-18 سنة، لكن كما وثق “نادي الأسير الفلسطيني”، تعرّض الكثير من الأطفال الفلسطينيين من الضفة ممن تبلغ أعمارهم العاشرة من العمر للاعتقال أو الاحتجاز لفترات قصيرة قبل أن يُفرج عنهم.

أعمار في قبضة العسكر

قبل العام 2009، كان الطفل الفلسطيني يُعرّف وفقًا للأوامر العسكرية الإسرائيلية، بأنّه كلّ إنسان دون السادسة عشر من العمر، لكن في العام نفسه رفعتإسرائيلسنّ الطفولة في التعريف من 16 سنة إلى 18 سنة، وعدّلت نظامها القضائي مثل إنشاء محكمة الأحداث العسكرية، كنوع من الرسالة بأن هناك محاكم خاصة بالقاصرين يحاكمون فيها على التهم الموجه إليهم.

يعتقد عايد قطيش منالحركة العالمية للدفاع عن الطفل” DCI في حديثه معنا، أنّ هذه الإجراءات الجديدة تأتي ضمن محاولاتإسرائيلإجراء بعض التعديلات على منظومة المحاكم العسكرية الإسرائيلية حتى تظهر بمظهر المتناغم مع التزاماتها الدولية في ما يتعلّق بحماية الأطفال، خاصةً أنها دولة طرف في اتفاقية حقوق الطفل منذ العام 1991، وهذا يرتب عليها بعض الالتزامات الحقوقية.

يصف قطيش هذه التغييرات بأنها محاولة لتجميل منظومة المحاكم العسكرية الإسرائيلية التي تفتقر بالأصل إلى المعايير والمبادئ الدولية فيما يتعلق بحماية الأطفال، مضيفًا أن الأطفال يخضعون لنفس نمط ومنظومة الأوامر العسكرية الإسرائيلية، إذ أنّ المحاكم المخصصة للأحداث لديها نفس القضاة الموجودين في محاكم البالغين. يؤكّد قطيش أنه لم تتم أي تغييرات جوهرية في طريقة التعامل مع الأطفال الفلسطينيين الذين مثلوا أمام المحاكم العسكريةالإسرائيلية، إلا أنّ كلّ هذه التغييرات كانت نتاج الانتقادات الدولية المتزايدة لطريقة تعامل دولة الاحتلال مع الأطفال الفلسطينيين أمام محاكمها العسكرية، كونإسرائيلتعدّالدولةالوحيدة في العالم التي تحاكم الأطفال في محاكم عسكرية.

نصف بيضة مسلوقة

حين نتوقّف عند السابع من أكتوبر 2023، كتاريخٍ أساسيّ فاصل في سياسات الاعتقالات، فإن ذلك لا يهدف إلى التقليل من حدّة أساليب الاعتقالات السابقة لما قبل هذا التاريخ، الذي لم يكن إلّا فرصة جديدة لارتفاع وتيرة هذه السياسات إلى أن وصلت إلى ذروتها، وفق ما تشير أماني سراحنة في مقالها “إبادة غير مرئية: تقرير عن أحوال الأسرى الفلسطينيين خلال الحرب”.

بعد السابع من أكتوبر تغيّر كل شيء بالنسبة للمعتقلين الفلسطينيين عمومًا ومن بينهم الأطفال الذين صاروا عرضةً للإجراءات التعسفية التي يتعرّض لها المعتقلين البالغين، وتشمل عمليات التنكيل، والضرب إلى درجة تكسير الأطراف، والتجويع المتعمد، بالإضافة إلى إخضاعهم إلى جلسات تحقيق شديدة القسوة، وهو ما تدرجه أماني سراحنة ضمن “النموذج الصارخ للعذابات التي يعيشها الأطفال”.

أدّى هذا الاكتظاظ إلى إصابة الأسرى الأطفال والبالغين بأمراض جلدية وتنفسية بسبب منع أدوات النظافة والمياه والتهوية عن الأسرى، من بينها مرضي السكابيوس الجلدي والجرب.

الجسد المحاصر داخل الزنانزين، يعاني من كلّ الانتهاكات والآلام، ويأتي التجويع كامتدادٍ للتعذيب الجسدي، خصوصًا بعدما قلّصت إدارات السجون عدد وجبات الطعام للمعتقلين الذين فقدوا كيلوغرامات كبيرة من أوزانهم، فيما أُغلِقت دكاكين السجون، واقتصرت وجبات الأكل على كميات قليلة. علِم أبو زياد أنّ ابنه قيس، كغيره من المعتقلين في الزنزانة، يحصل على وجبة أو وجبتي طعام في اليوم، تتكون الوجبة الواحدة من نصف بيضة مسلوقة وقطعة خبز صغيرة، بالإضافة إلى كميات قليلة من المياه التي يستخدمها المعتقلون للشرب والاستحمام.

وبسبب ارتفاع أعداد المعتقلين، يضطر 17 معتقل إلى النوم في زنزانة تتسع لستة أسرّة فقط. أدّى هذا الاكتظاظ إلى إصابة الأسرى الأطفال والبالغين بأمراض جلدية وتنفسية بسبب منع أدوات النظافة والمياه والتهوية عن الأسرى، من بينها مرضي السكابيوس الجلدي والجرب. وبحسب ما نقله أسرى أمضوا مدّة محكوميتهم أو أفرج عنهم في صفقات التبادل بين المقاومة في غزة و”إسرائيل” مؤخرًا، وعاش بعضهم في الزنزانة مع الطفل قيس، يقول أبو زياد إن غرفة ابنه التي فيها 17 معتقلًا يخصص لها نصف علبة شامبو كل أربعة أيام، ويكون مخلوطًا مع سائل جلي ومواد تنظيف أخرى تسبب الحكّة والتقرحات الجلدية، لدفع الأسير إلى ما يشبه التعذيب الذاتي إلى حدّ إدماء جلده.

“الحركة الأسيرة” في الأسر

هناك 23 مركز تحقيق وتوقيف وسجن في “إسرائيل” يجري فيها اعتقال الفلسطينيين، منها سجنين مركزيين هما سجن “عوفر” في الأراضي المحتلة العام 1967، وسجن “مجدو” الموجود في الأراضي المحتلة لعام 1948، ويضمّان أقسامًا خاصة للأطفال المعتقلين. في مقالها، تستعين سراحنة ببعض الشهادات من معتقلي سجن “مجدو”، خصوصًا في اليوم التالي لعملية السابع من أكتوبر، وفيه يصف أحد الأسرى شعوره لدى الدخول إلى سجن “مجدو” قائلًا “عند وصولي إلى السجن تخيّلت نفسي أنني في سجن أبو غريب ولولا إيماني لفقدتُ عقلي”. في شهادة ثانية، يُبرّر سجين آخر هذا الشعور حين يختصر المشهد الأوّل لدخول السجن، “عليك أن تجتاز ممرًّا ضيّقًا يقف فيه حوالي 18 جنديًّا إسرائيليًّا، عليك أن تجتازهم جميعًا وهم يضربونك بأيديهم وبالعصي، قبل أن يستخدموا أرجلهم في النهاية”.

منذ السابع من أكتوبر وحتى وقت قريب، ظلّ الأطفال المعتقلين ممنوعين من زيارة أهاليهم، وممنوعين كذلك من زيارة الفرق القانونية التابعة للمنظمات الفلسطينية الحقوقية والمدنية. أما اليوم، فيُسمح فقط للطواقم القانونية ببعض الزيارات التي يجري تُلغى في آخر لحظة غالبًا. في حديثها معنا، تلخّص سراحنة ظروف الاعتقال الصعبة وتحديدًا بحقّ الأطفال قائلة، “نتحدّث اليوم عن أطفال معزولين عزلًا شاملًا، لا يمكن لأحد رؤيتهم أو التواصل معهم إلّا المحامي الذي تكون زياراته محدودة جدًّا وخاضعة لرقابة مشدّدة”، وهي زيارات ييلغيها الاحتلال أحيانًا في اللحظات الأخيرة بذريعة أوضاع الطوارئ. علمًا أن “الوضع الطارئ” هو تبرير آخر لتنفيذ العقاب الجماعي بحقّ الأسرى، وتحديدًا الأطفال، فبعد ضربهم المبرح يتعمّد الاحتلال تخبئة آثاره عن المحامي، وهذا أحد أسباب منع الزيارات. يتعرّض الأطفال المعتقلين إلى إجراءات انتقامية يومية مثل إجبارهم على الاستيقاظ في منتصف الليل بمجرّد وصول حارس السجن والتجهز في طابور من أجل التفتيش، فضلًا عن بعض الإجراءات مثل وضع علم فلسطين على مداخل الحمامات حتى يضطروا إلى الدوس عليه كلّما دخلوا إلى الحمام، أو التعرض للتعذيب بسبب أبسط الأمور.

في السابق، كانتالحركة الأسيرة، وهي جسم تنظيمي أوجده الأسرى لتنظيم شؤون حيواتهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي، تضمن عدم تعرّض الأطفال لهذه الانتهاكات، فقد انتزعت على مدار عشرات السنوات الماضية بعض الحقوق والمطالب الأساسية التي يرفض الاحتلال منحهم إياها، ومن بين هذه الحقوق، رعاية الأسرى البالغين لهؤلاء الأطفال، ومتابعة قضاياهم واحتياجاتهم وتمثيلهم لدى إدارات السجون، إلى جانب حقوق أخرى مثل تمديد فترة الفورة ومشاهدة القنوات التلفزيونية العربية ونشرات الأخبار وغيرها من الأساسيات. لكن منذ عامين تقريبًا، اختفى كلّ شيء، إذ تتعرّض قيادة الحركة الأسيرة للعزل الانفرادي، والنقل القسري المتكرّر بين السجون كنوع من العقاب المُركب، ولضمان عدم بنائهم علاقات إنسانية وتنظيمية مع باقي الأسرى، وهكذا فقد قيس مثل باقي الأطفال الأسرى أي موجهٍ أو راعٍ لهم في السجون، الأمر الذي جعلهم عرضةً لإجراءات عقابية شديدة وغير مسبوقة من قبل إدارات السجون، وحرمانهم من معرفة حقوقهم.

ما بعد السجن؟

رصد “نادي الأسير الفلسطيني” الكثير من التأثيرات على المعتقلين الأطفال المحررين خصوصًا لدى الإفراج عنهم بعد انتهاء الاعتقال الإداري، مثل انعزال الطفل عن محيطه، وتراجع الأداء الدراسي، والعصبية المفرطة، وعدم القدرة على الاندماج مع أقرانهم. لا يعود الطفل المعتقل طفلًا بعد خروجه من السجن، حتى إنه لا يعود ينظر إلى نفسه كطفل بعدها، هذا ما لاحظه “نادي الأسير” كما تخبرنا سراحنة، التي تضيف شارحة أنّ الطفل المعتقل يكون قد اقتلع من بين عائلته، وبالعادة خلال فترات الليل، وتعرض للضرب، وسمع بأمور لم يسمعها من قبل مثل التهديدات والشتائم وضرب أبويه أمامه وضربه أمامهم وهما اللذان ينظر لهما كمصدر حماية له في هذه الفترة من العمر.

وخلال فترة اعتقالهم لا يُسمح لهم برؤية أفراد عائلاتهم. بعد تواصله مع عائلات لأطفال معتقلين آخرين، لم يسمع أبو زياد أنّ أحدًا منهم استطاع زيارة ابنه في السجون، رغم أن بعض تلك العائلات لجأت إلى محامين، ودفعت لهم مبالغ مالية كبيرة أملًا في أن يحصل أطفالهم على اهتمام ومتابعة مكثّفة نظرًا لانشغال محامي المؤسسات والمنظمات الحقوقية في قضايا آلاف الأسرى وبينهم مئات الأطفال.

يسعى أبو زياد لرؤية ابنه والإطمئنان عليه بنفسه، بدلًا من معرفة أخباره من قبل محامٍ، أو من قبل أسيرٍ محرر، ومن أجل ذلك أوكل محاميًا خاصًا لابنه على أمل أن يرفع ملفه إلى المحكمة ويُعرض على قاضٍ ويسمح له بزيارة ابنه، رغم اقتناعه بأن ذلك لن يجدي نفعًا. يجزم بأن ابنه سيمضي الفترة الثالثة من الاعتقال الإداري، 18 شهرًا، (لكل فترة 6 أشهر)، مشيرًا إلى أنّ الضباط هم من يتّخذون الأحكام، بينما يبقى دور القضاة محصورًا في جانبه الشكلي. وهو جزء من التقليد الذي تنتهجه دولة الاحتلال مع الأطفال المعتقلين منذ سنوات طويلة، متجاوزة كل الاتفاقيات الدولية حتى تلك التي وقعت عليها. أمّا ما بعد السابع من أكتوبر، فقد تخلّتإسرائيلعن التزاماتها حتى تلك الشكلية التي كانت تحرص على تصديرها إلى كلّ العالم.