عندما تركتُ مصر، وانتقلت إلى الأردن بدأتُ العمل عن بعد. لم يُتَح لي التعرّف إلى البلد الجديد، فقد عشت لفترةٍ طويلة في فقاعة محدودة، أعمل من شقّتي وأراقب من بعيدٍ دون أن أُرى. دخلتُ البلد أخيرًا من بابٍ خلفيّ، من المسرح حيث عملت. كنت أستمع معظم الوقت إلى الأصوات التي تخرج فيه، ومع كلّ لهجةٍ سمعتها تحكي عن جذرٍ مخلوع، عرفت أنّني لم أكن الوحيدة التي تتساءل عن مكانها في هذا العالم. اتّسع مشروع “مسرح النساء” الذي انطلق من غرفةٍ صغيرة في مركز بجبل النزهة في عمّان، لـ 17 امرأة من سوريا والأردن والسودان. هنا يخلع المسرح أقنعته، ويخلق وجوهًا جديدة لمن كان يبحث عن وجهه في بلد جديد. صحيح أنّني لم أهرب من حربٍ أو اضطهاد، إلّا أنّني، مثلهنّ تمامًا لم أستطع الإفلات من السؤال الدائم عن المعنى في مكاني المستجدّ. ولأن ما يبدأ في المسرح لن ينتهي فور انتهاء العرض، حاولتُ تعقّب بعض القصص التي استفاقت على الخشبة، حيث الحياة تبدو كأنها كالوس آخر. خلعت ستارة خلف ستارة خلال هذه الرحلة التي استمرّت لحوالي شهرين، تجوّلت خلالها مع ثلاث ممثّلات/نساء بين الحياة والمسرح، بين الواقع وما يمكن تخيّله، بين الأدوار التي نؤديها على الخشبة وتلك التي نؤديها كلّ يوم دون أن نشعر.
عتبة دائمة للرحيل
نزحت نمارق للمرّة الأولى سنة 1992، من إقليم كردفان في السودان إلى الخرطوم. لم تكن قد أكملت عامها الأوّل بعد. اختبرت حينها فقد المكان الأوّل، الذي بدا كإنذارٍ بتفرّق أفراد أسرتها لاحقًا. انفصل والداها، وغادرت الأم إلى سوريا بحثًا عن عمل. عاشت الفتاة بين جدتها، التي تولّت رعايتها، وبين خالاتها، لكنّها عاشت مع الغياب أكثر. في سنتها الدراسيّة الثانية للطب، ذهبت لزيارة والدتها التي كانت تقيم كلاجئة في الأردن حينها. أضافت الأم أبنائها، ومن بينهم نمارق، إلى ملفّ لجوئها.
فرضت عليها تلك الإقامة هويّةً جديدة تتمثّل بأوراق المفوّضيّة التي صارت أهمّ من جواز سفرها السوداني. لم يعد جوازها يخوّلها للسفر خارج الأردن، فمغادرتها تعني سقوط حق اللجوء. سنوات وهي تحاول طرق أبواب الهجرة وإعادة التوطين إلى بلد ثالث، بلد يمنحها ما فقدته. تتساءل نمارق في حواراتنا: «ماذا فعلتُ بحياتي؟» حتى لو هدأت الأوضاع في السودان، فالعودة ثم المجيء إلى الأردن مرة أخرى أمر شبه مستحيل.
كحال العديد من النساء السودانيات في الأردن، وجدت نمارق في عالم التجميل وتصفيف الشعر، وتحديدًا في ضفائر “الراستا” وصناعة منتجات العناية بالبشرة الطبيعية، متنفّسًا لكسب العيش. تخبرني أنّ هذا العمل من الطرق القليلة المتاحة لها، دون الحاجة إلى تصاريح عمل أو رسوم باهظة. إنه سبيل سهل نسبيًا للحصول على المال، ويمكنها ممارسته من بيتها.
ومع كلّ محاولاتها للخروج، تعيش نمارق صراعًا بين حبل يشدها إلى البقاء وآخر يدفعها للرحيل. تخشى أن تفقد تلك العلاقات التي شكّلتها في الأردن، وكانت سندًا لها في لحظات الوحدة والعنف الأسري التي واجهتها في بداية وجودها هنا. عندما سألتها عن هذا الخوف، بدا واضحًا أنّ فكرة البدء من جديد تعيد إلى ذاكرتها تجربة النزوح الأولى في طفولتها بالسودان، ثم اللجوء إلى الأردن، وكأنها تخشى أن يتكرّر ذلك الشريط المؤلم بكل تفاصيله.
فتح لها المسرح سنة 2019، منافذ جديدة نحو ذاتها، من خلال الأدوار الكثيرة التي تشبهها بعيدًا عن كونها “لاجئة” فحسب. أزاحت الخشبة عنها طبقات من الصمت. كانت مشاركتها في مسرح النساء امتدادًا واضحًا للثنائية التي تعيشها: بين اللجوء والبحث عن الأمان، بين العمل الفني والعمل من أجل لقمة العيش، بين ماضٍ لم يُغلق، ومستقبل ما زال ينتظر ورقة قبول من بلد ثالث. تستعدّ نمارق حاليًّا إلى الرحيل مجدّدًا بعد قبول طلب إعادة توطينها في بلد لا تعرف عنه شيئًا بعد. تعيش بين الحماسة والخوف كونها تترك وراءها ما بنته لسنوات في مكان لم يكن وطنها، لكنه بات جزءًا منها. تعرف أنّ الطريق بدأ فعلًا، من خشبة مسرح، ومن امرأة مثلها ومن نصّ تدخّلت فيه مرارًا حتى بات يشبهها.
حين يصبح الوجع نصًا جماعيًا
غربة نيكول ليست هجرة بقدر ما هي فقد. إذا أرادت أن تحتسب السنوات العشرة الماضية، فستقيسها بعدد الخسارات؛ عام 2013 شُخّصت بسرطان الثدي، تبعتها إصابة أختها بالمرض نفسه، ثمّ وفاة أخيها، فوالدها، وأخيرًا إصابة والدتها بالسرطان ووفاتها.
“الجسد هو الحرية”، هكذا تجرؤ نيكول على اختصار علاقتها المعقّدة بجسدها الذي كان بابًا للمرض، وبابًا للخسارة. ولبلوغ هذه الحريّة، خاضت معركة وعرة لتُخرجَ ما قيّده الألم، ولترى العالم من خارج جسدها الذي كانت تشعر أنّه يحاصرها. ولكي تقف على المسرح، كان لا بدّ أن يكون جسدها حاضرًا. تصف الشعور الطويل بتقييدها داخله، وكيف ساعدها تمرين مسرحي بسيط على أن “تتفكفك” وأن تدرك أنّها في المكان الذي يجب أن تكون وتبقى فيه. لذا، وبعدما عملت في مجال التسويق لسنوات، قرّرت أن تتركه في عام 2023. بدّلت عملها واستقلت طريقًا تشبهها أكثر، حين بدأت تتدرّب في المسرح، ثمّ أصبحت ميسّرة مستقلّة فيه.
لا يُنزل المسرح إجابات جاهزة، لا يرمي حبلًا للنجاة، بل يستدرج الألم بطُعمٍ خفيّ. تصفه قائلة: “الوجع شعور داخلي، لا يظهر على الدوام… إنه سرّ تُخفينه وتحملينه معك. أحيانًا، تسمحين له بالظهور، وتجدين سُبُلًا للتعبير عنه”. أن ”تصبحي أنتِ النصّ”، هذا أحد احتمالات المسرح، لكنّه ذروته، أكان من خلال شخصيّة مختلفة يُحمّلها الممثّل ثقله، أم من خلال شخصيته الحقيقية التي تصبح مرئية في تلك اللحظة. حين يضيع المسرح طريقه للقول، أو يفقد نصًا جاهزًا، يُبعث المؤدّي بلسانه، وبكلماته الخاصّة: “كل ما تُخرجينه من أعماقكِ، تُعيدين تشكيله، ثم يصبح مرتبطًا بالجميع. وبذلك، يغدو الألم الذي ذكرتِه ألمًا مُشتَرَكًا”. منذ البداية، تجبرك تجربة الغربة أو اللجوء على إعادة تعريف كلمات تتردّد على مسامعك كلّ الوقت، وتكون بديهية لكثرة تكرارها. كلّ شيء قابل لإعادة التعريف، ولاكتساب معانٍٍ جديدة. بالنسبة إلى نيكول، الوطن يعني البيت، مساحة بيتها المحدودة؛ بضع غرفٍ وجدران وسقف، ونوافذ يمكن أن تغلقها إن أرادت. بالرغم من كونها مواطنة أردنيّة إلّا أنّها فلسطينية الأصل، ولو أنّها لم ترها، لذلك حين تستعيد صورة لوطنها، فيكون بيت أهلها في الكويت. البيت الذي عاشت فيه طفولتها وذكرياتها معهم.
المسرح أيضًا، مثل الغربة، يهزّ المعاني ويعيد تعريفها، وغالبًا ينطلق من سؤال تسأله لنفسها: “ما الذي يختبئ بين السطور وتودُّ الشخصية أن تُظهِره؟”. أمام الممثل سيل من الشخصيّات لتأديتها، قد تحمل ملامح من هويّته الحقيقية، وقد لا تتقاطع معها إطلاقًا، غير أنّ العودة دائمًا تكون إلى الجسد. يملك المؤدّي القدرة على التخلّي عن نفسه لفترة على حساب شخصية أخرى، لكنه لن يفلح في التخلّص من جسده. بإمكانه ربّما أن يُشيح عن ندوبه، مثل تلك التي خلّفتها جراحة نيكول، وبإمكانه أن يحدّق فيها طويلًا بوصفها علامات معركة انتصرت فيها، لكن ليس في عيادات الأطباء فحسب.
وجهان في مرآة الغربة
غادرت ريم دمشق سنة 2012، بعد عامٍ واحد من اندلاع الثورة السورية، تاركةً خلفها حياةً ومهنةً كمدرّسة رسم، لتبدأ من الصفر في الأردن مع أخواتها. كانت في الثلاثين من عمرها. وعلى عكس الكثيرين، لم ترَ في الأردن محطة عبور فحسب. رسَت في عمّان ولم تغادرها، رافضةً محاولات السفر إلى بلدٍ آخر خوفًا من أن تبتعد عن بلدها. لكن الغربة فرضت عليها انسلاخًا من نوع آخر، انسلاخًا عن ذاتها. تقول بحيرة تختصر حكايتها: “أجدُ نفسي أحيانًا في حالة من الضياع، وأتساءل: هل أنا رجلٌ أم امرأة؟”.
في بداية غربتها، تحوّلت ريم فجأة من مدرّسة رسم في سوريا إلى ربّ أسرة، حين أصبحت المسؤولة عن عائلتها. واجهت تحديات البحث عن بيت وعمل، وحملت مسؤوليات ضخمة جعلتها تشعر بأنها تذوي تحت وطأة الأدوار الجديدة. في خضمّ هذه المسؤوليات، كان لا بد من التمسك بجذرٍ ما، فأسّست فرقة “ياسمينات الشام” الغنائية، لتكون متنفّسًا وذكرى حيّة لها وللنساء السوريات اللواتي يتشاركن معها الحنين ذاته.
ظلّ النقاب في الأردن درعًا لحمايتها كامرأةٍ غريبة تواجه مجتمعًا لا تعرفه، خصوصًا أنّ المضايقات كانت تبدأ فور معرفة جنسيتها. كان النقاب ستارًا لإخفاء هويّتها.
وعلى خشبة المسرح، وجدت قناعًا من نوع آخر: لحية كثة وشوارب شخصية “أبو حاتم الحكواتي”. عبر هذا القناع الذكوري استطاعت ريم أن تتحرّر كما تشير، ليصبح جسدها وصوتها أداة للتعبير بحرية أمام جمهور مختلط وكبير.
إلا أن هذا القناع، الذي منحها حرية مؤقتة، بدأ يسرق حقيقتها. خارج المسرح، حيث كانت تؤدي “أبو حاتم” في عروض كثيرة، شعرت أن اللحية التي تخفي وجهها ربما تمحو “ريم” نفسها. السؤال عمّا إذا كان”يُمكن أن يُمحى الوجه مع الوقت؟” دفعها للانسحاب من شخصية “أبو حاتم” الذي كان يسرد كل القصص إلا قصتها. وفي لحظة حاسمة، رفضت إكمال عرض كانت على وشك المشاركة فيه مع أحد صناع المحتوى على الإنترنت. كان ذلك بمثابة إعلان أوّليّ لاستعادة ذاتها، قالت: “أنا لستُ رجلًا، وهذه الشخصية ستفصلني عن حقيقتي”. أدركت أن المسرح لم يكن للاختباء، بل لكشف الذات. والمفارقة أن الخشبة، التي غطّت عليها وجهها بقناع رجل، صارت مكانًا تسأل فيه أخيراً: “ماذا تريدين أنتِ؟”.
________________________________
* هذه التجارب الثلاث كانت جزءًا من مشروع “مسرح النساء، وهو من إنتاج جمعية “سيناريو” في عمّان عام 2024، حيثُ أعمل.