سلالم مؤقتة
أسيرُ في حيٍّ شعبيّ من أحياء الاسكندرية، فيحلّق بجانبي سلّم خشبيّ طويل. أسرع في خطواتي، لكن السلم يظلّ يلازمني، قبل أن أتنبّه إلى العامل الذي يحمله، وإلى آثار الطلاء الأحمر المبتقّية على خشبه القديم. وبمشيته المستقيمة إلى الأمام، يُبعِد العامل، وعلى كتفه السلّم، المارّة من الأمام والخلف. ثم بصورةٍ شبه آلية يحيدُ الرجل في زقاق إلى جهة اليمين، فيقطع الشارع عرضيًا ويمشي حتى يلتهمهما الزقاق معًا.
لا تكاد أحياء الإسكندرية تخلو يوميًّا من مشهدٍ لعامل ينصب «شادرًا» (خيمة ضخمة تُستخدم لتظلّل الأحياء في العزاء أو الفرح)، فيطلع على سلّمٍ خشبي متنقّلٍ هائل الطول، يصلُ أحيانًا إلى ستّة أو سبعة أمتار، حتى يتمكّن من الوصول إلى أعلى الهيكل الخشبي العاري ويشدّ عليه قماشته الشاسعة ويُعلّق المصابيح. ولكي تكتمل عملية بناء الشادر بسرعةٍ ومهارة، عليه أن يُبدّل قدميه على السلم، فينتقل في أنحاء الشادر حاملًا السلّم بين قدميه بحركة بهلوانيّة، ويلفّه يمينًا ويسارًا ليتحرّك من نقطةٍ إلى أخرى فيخيل لي أنه يقف على رقبة زرافة.
لم تندثر بعد السلالم الخشبية كما لم تندثر الشوادر، رغم وجود البدائل الحديثة كالسلم المعدني القابل للطيّ. يُلاقي السلم الخشبي حتى اليوم رواجًا بين عمّال المهن الحرّة، إنه رفيق «الصنايعيّة» الذين يتنقّلون بين الأحياء لإتمام أعمال الصيانة والبناء والطلاء وتوصيل الكهرباء. ويمكن التخمين بأنّ احتفاظهم به وتلكؤهم عن استبداله بسلّم معدنيّ، يعود إلى العمر الطويل الذي يعيشه السلّم الخشبي المتنقّل الذي يُعدّ من أقدم الأدوات التي ابتكرها الإنسان للصعود والابتعاد عن سطح الأرض، وفق ما يشير جون تمبلر في كتابه «السلّم، التاريخ والنظريّات» (1992)، حين كانت السلالم الخشبية تصنع من أخشاب الأشجار ومن الحبال المصنوعة من شعر الخيول. يفتقر عمّال هذه المهن إلى أماكن ثابتة لعملهم، فحتى لو امتلكوا مكانًا لركن أغراضهم فيه، فإنّ عملهم يعتمد على التنقّل المستمرّ بين البيوت والشوارع، ولا يمكنهم القيام بذلك من دون السلّم الذي يختبرون من خلاله علاقة رأسية مع مكان العمل المؤقّت، واليوميّ غالبًا.
هضاب تطلّ على البحر
مدينة الإسكندريّة التي شُيّدت بمحاذاة البحر، تحمل طبيعة طوبوغرافية متنوّعة تتراوح بين المنحدرات والتلال والسلاسل الصخرية الساحلية. هذا ما يظهر بوضوح في نموذجها المعماري المعاصر، وفي طبيعتها العمرانية من حيث وجود السلالم التي تتخلّل رصف الشوارع في الكثير من أحيائها القديمة، مثل حي كوم الدكة والعطارين وشارع النبي دنيال في منطقة محطة مصر، والأزقة المحيطة بحي كوم الشقافة وبعض الأزقة في حي بحري في منطقة راس التين والمنحدرات في منطقة العجمي الساحلية لأنها شيدت فوق هضاب تطلّ على البحر.
حتى اليوم، ما زالت هناك بعض آثار الهضاب الصخرية في المنطقة التي تفرض على الماشي الهبوط أو الصعود. فبالرغم من التطوّر العمراني للمدينة، ظلّ جزءها الساحليّ المُطلّ على البحر مجبولًا للحفاظ على سماته الطوبوغرافية لأنّه بني على رمال كلسية هي المكوّن الأساسي لتربة التلال والمنحدرات. إنّها تربة هشة ومسامية كالأصداف البحرية التي تدخل في تكوينها، مما يجعل رصف الشوارع وتأسيسها يتطلّب استخدام السلالم الصخرية والإسمنتية في الشوارع المنحدرة كما في مناطق المنشية ومحطة الرمل وكوم الدكة وشارع فؤاد. وهي كلها شوارع قديمة، تحمل طبيعة التخطيط الشبكي الذي يقوم على تقاطع شارعين رئيسيين، وهو التخطيط الذي أسّست عليه الإسكندرية في العهد البطلمي والذي ما زالت آثاره العمرانية حاضرة في شوارع المدينة وتتلاحم مع المناطق العمرانية القديمة والحديثة.
في تلك المناطق الأثرية، تظهر السلالم كعناصر عمرانية متنوّعة الوظائف والأغراض الجمالية والدلالات الدينية والاجتماعية والاقتصادية، كون الهياكل المعمارية تكتسب معانيها من سلوك مستخدميها، بوصفها مساحات للتفاعل بين الجسد والمكان والحركة؛ الشكل المائل للسلالم يجبر الجسد على التنقل بين مساحات علوية وسفليّة، وهنا يمكن أن نفترض أن السلالم في الإسكندرية كانت وما زالت إحدى استجاباتنا لطبيعة المدينة وتاريخها ويومياتها.
الحركة والجمود
تبدأ جولة المشي من حي كوم الدكّة بحثًا عن المتحف اليوناني الروماني الذي أعيد افتتاحه من جديد عام 2023 في شارع فؤاد، بعد انتهاء أعمال ترميمه. أجد أن قدميّ تتردّدان بين حالات حركية متغيرة، بين تسلق سلم حيّ كوم الدكة وطلوع الهضاب حوله تارة وبين النزول سريعًا مع المنحدرات ثم السير على الطرقات المستوية الممهّدة ببراعة في شارع فؤاد تارة أخرى. هذا التغير الحركي في الصعود البطيء والنزول السريع والمشي الأقرب إلى الزحف للتأمل أو التلصص والمشي السريع كالركض هربًا، يفرض حالة جديدة على حركة الجسد وعلى إحساسه بالمكان، لهذا أجد أنّ حي كوم الدكة الأثري هو نموذجًا فريدًا بين أحياء الإسكندرية، لما له من أحكامٍ عكسية غير متوقّعة كأنّه يتجلّى كحلمٍ غرائبي.
انطلاقًا من تعريف الحيّ وفقًا لـ «منظّمة المدن العربية» على أنّه «كيان حضاري يتميز بالتكامل الوظيفي والتمثيل الاجتماعي، أي وجود شبكة علاقات بين السكان وبين الحي ككيان مستقل داخل المدينة»، يُمكننا أن ندرك فرادة حيّ «كوم الدكة»، إذ نلاحظ فيه وجود تمثيل رمزي للعلاقة بين الجسد والمكان، وهو تمثيل يتراوح بين حالتين متناقضتين هما الحركة والسكون.
يلعب العامل المكاني دورًا في هذا التناقض، أي طبيعة التكوين الطوبوغرافي للحيّ والتي تفرض الحركة علينا. يمكن ملاحظة ذلك من اسم المكان «كوم» أي تلّ، وتشير إلى كومة من الرمال، فالحي بني على تلّ من الرمال الكلسية مما جعله مرتفعًا عن مستوى الأرض مقارنة بالأحياء المحيطة به، بما يعادل ثماني أمتار عن سطح البحر، ويجعل الوصول إليه يتطلّب صعودًا. منذ ما يقارب الخمسين عامًا، بنيت سلالم كوم الدكة المصنوعة من مواد أسمنتية وحجارة، بدرجات ضئيلة الارتفاع، لكنها واسعة كالمصاطب مما يجعل حركة الصعود والهبوط عليها بطيئة وهادئة.
إنّ الطبيعة الجغرافية المرتفعة التي خلقت حالة الانتقال الرأسي الدائمة عبر السلالم، هي التي خلقت أيضًا هوية الحي المستقرة. وبالرغم من أن هذا الدرج يعدّ حلقة وصل وطريق مختصر يصل بين شارع فؤاد وحي كوم الدكة، إلا أنّه يرسّخ لمزيدٍ من الثبات في هوية حي كوم الدكة كحي أثري عريق يتوافد إليه الزوار والسياح، ويظل نائيًا عن التحوّلات الدائمة والمستمرة التي يشهدها شارع فؤاد بوصفه شارعًا يستجيب لتطوّر متطلّبات الرفاهية والثراء.
منذ البداية، ارتبط شارع فؤاد بصورة الطبقة الثرية حين أعيد تخطيطه وتطويره معماريًّا في القرن العشرين على يد مهندسين أوروبيين بطابع فني غربي، وأُنشِئت فيه نواد ومطاعم ومسارح ليصبح مركزًا ووجهة جذب للجاليات الأجنبية والطبقة الأرستقراطية في الإسكندرية، مثل «تياترو محمد علي» الذي بات يعرف اليوم باسم مسرح سيد درويش. ووفقًا لكتاب «سيرة الأجواق المسرحية العربية في القرن التاسع عشر» (2022) لمؤلّفه تيسير خلف، فقد أسّس المسرح في عام 1918 في عهد الملك فؤاد الأول وصممه مهندس فرنسي على طراز أوروبي كلاسيكي مستوحى من «مسرح أوديون» في باريس.
يرسّخ الدرج لمزيدٍ من الثبات في هوية كوم الدكة كحي أثري عريق يتوافد إليه الزوار والسياح، ويظل نائيًا عن التحوّلات الدائمة والمستمرة التي يشهدها شارع فؤاد بوصفه شارعًا يستجيب لتطوّر متطلّبات الرفاهية والثراء
يُمكن ملاحظة بعض الفروقات الجوهرية بين المكانين عند زيارتهما؛ حي كوم الدكة هو حيّ قديم، ويحتفظ بسماته التاريخية دون تجديد، فالمباني قديمة تتخللها آثار رومانية باقية، وتتنوع فيه الفئات الطبقية ويحلّ بين زواياه الطابع الشعبي الذي يمكن أن يتّصف الآن بالعشوائية لأنه يجمع بين البيوت والمحال التجارية والورش الحرفية.. بيد أنّ ما بات ظاهريًّا طابعًا موحّدًا وثابتًا، مرّ تاريخيًّا بتحوّلات عمرانية وحضارية متنوّعة. الحي الذي يتمدّد على شكل مستطيل، يمكن تمييزه من الملامح المدينية المتفاوتة، فهو يحتوي على طابعين مدينيين مختلفين؛ الأولّ يتألف من شبكة شوارع متعرّجة يُحتمل أنها تعود إلى القرن السادس عشر، وتقطنها الطبقة الاجتماعية الفقيرة، أما الطابع الثاني فيتمثّل بالمنطقة التي بنيت في الأصل للنخبة الاجتماعية في القرن التاسع عشر، وتتألف من شبكة شوارع مستطيلة غربية الطراز.
وعلى النقيض من ذلك، فإن شارع فؤاد العريق ذو التخطيط الذي يتقاطع مع شوارع عمودية أخرى، يمتدّ طوليًّا من منطقة محطة الرمل حتى رأس التين. ما زال الشارع يُعدّ من أرقى الشوارع في الإسكندرية، خاصة بعد إعادة افتتاح المتحف اليوناني الروماني عام 2023 مجدّدًا، وعلى أثره قامت المحافظة ببعض التطويرات الشكلية والسطحية أيضًا كتوحيد لون طلاء العمارات المجاورة وتوحيد حجم وخط الكتابة للافتات المحلات ورصف الشارع للمناطق المجاورة له ليصبح الشارع منطقة جذب سياحية خاصة لما تحتويه من أرقى المطاعم والمقاهي التي يحمل بعضها حقوق امتيازات تجارية لمحال غربية إيطالية وإنكليزية وبعض المطاعم والمقاهي المحلية. تضاف إلى ذلك محال بيع الزهور الطبيعية، أشهرها متجر «أوبافيون دي فلوريل» الذي عمّر في عام 1920، في شارع فؤاد على بعد خطوات من المتحف اليوناني وتجاوره معارض الأنتيكات والخزف الثمين، وفي امتداد الشارع، ستقع على عدد من غاليرهات الفن التشكيلي. وفيه، تتوزّع المباني الإدارية، ومبنى القنصلية الإيطالية وتقع فيه أجمل عمارات الإسكندرية أي «عمارة فومارولي» (1920) التي تحمل توقيع المعماري الإيطالي أرنستو كارنيفال والذي شيّدها على الطراز النيو كلاسيكي.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
ما بين كوم الدكة وشارع فؤاد
في كلّ رحلة سير تبدأ من وسط المدينة باتجاه شارع فؤاد، وتحديدًا في ذلك الجزء المحيط بالمتحف، لا أجد هوية واضحة محدّدة للمكان، ففضلًا عن أنّه كان وما زال منطقة سكنية ذات سمة انتقائية لسكانها سواء كانوا من الطبقة الأرستقراطية أو الأجانب المقيمين أو رجال الدولة النظاميين، إلا أن المكان أصبح يعجّ بالزوار الاستهلاكيين. يتوافدون إليه كمتفرجين تارة وكممارسين مؤقتين للحياة داخل الشارع تارة أخرى. هكذا تحوّلت ساحة المتحف اليوناني الروماني إلى استوديو تصوير في المناسبات الاجتماعيّة كالزواج والخطبة وأعياد الميلاد. يمتلئ الشارع بالمصورين، وترى بين فترة وأخرى عرائس في فساتين بيضاء وملوّنة، ومصوّرين جوّالة يدعون المارة لالتقاط صورة بجوار محل زهور «أو بافيون». زيارة شارع فؤاد هي بمثابة نزهة سياحية وفرصة لالتقاط صورة جميلة، ولكن على الرغم من أن المكان حافظ لأكثر من مئة عام على هويته المعمارية الأوروبية التي تتنوع بين نيو كلاسيك ونيو نهضة إلا أنه يبدو لي كأنه يقاوم التغيير بشراسة، ويقاوم الطبيعة الجديدة للرفاهية كسلوك اجتماعي لم يعد مقتصرًا على طبقة الأثرياء فحسب.
الشارع لا يُشبه زوّاره، بل يبدو كالمتحف المزيف؛ تتغير واجهات المحالّ ونوعها وخدماتها، تبنى فيه العمارات السكنية الشاهقة وتسمّى أبراجًا سكنية، من دون هويّة واضحة سوى محاولة محاكاة الطراز الأوروبي الغالب على المكان. تظهر هذه العمارات الشاهقة كمحاولة هشّة للحفاظ على هوية الشارع لكنّها تنتهي بأن تعكس تغيّرات الذوق الجمالي والسلوك الاستهلاكي للسكان.
هذا التناقض بين الحي القديم الضيّق والشارع الحديث المتّسع يُرافق من يصعد الدرج نحو تل كوم الدكة.. هنا تنقلنا السلالم عبر طبقات نفسية مختلفة كما يرى جون تمبلر في كتابه «السلم، التاريخ والنظريات»، مشيرًا إلى أنّ «السلالم تأخذ دورًا دفاعيًا اعتاد أن يحمي بها الإنسان نفسه من المخاطر التي تواجهه في الطبيعة، فكلّما ابتعد وانفصل عن سطح الأرض، أصبح مسكنه أكثر أمانًا وبعيدًا عن الأشخاص الأغراب». ربّما هذا ما يجعل سكّان حي كوم الدكة في حالة من الخصوصية الشديدة والألفة بوجودهم في حيّ مرتفع عن الأرض بضعة أمتار، يصلون إليه عبر أدراج تمثّل حلقة انتقال مكانية ونفسية في الوقت نفسه. للأدراج مواصفات معمارية يحدّدها الارتفاع والطول والعرض وشدّة الانحدار، وهي التي تؤثّر في تغيير الحالة الحركية والنفسية عند استخدامها؛ ففي حالة الصعود نحو التلّ تبتعد عن الأرض وتأمن بالقرب من السماء، ولكنك ستختنق في الازدحام لأن حي كوم الدكة لا يحاكي تطلعات الرفاهية عند سكان المدينة. التخطيط العشوائي للمباني والشوارع الضيقة القديمة غير المعبّدة داخل الحي، بين ضوضاء الورش الحرفية وتعقيد التكوين الثقافي لسكانه كلّها ستبدو نقيضًا للهدوء والبعد الذي يحمي الأشخاص من صخب المدن في العادة. تنقلب وظيفة الأدراج والسلالم في حالة حي كوم الدكّة وشارع فؤاد؛ المكان المرتفع صاخب ومبعثر، فيما المنطقة السفلية تبدو أكثر هدوءًا واتساقًا. حين يقودنا الدرج هبوطًا من حي كوم الدكّة إلى شارع فؤاد، ستتنفس رحاب الاتساع، حتى إن السيارات التي تسير بين المارة لا تسبب إزعاجًا بل يفرض عليها تنظيم الشوارع البطء والهدوء. فيصبح اتجاه الصعود والهبوط في هذا السلم هو حالة من الترقب والقلق المتغير، سواء أكان ذلك متعلّقًا بحركة الجسد، أو بمواجهة الفروقات الطبقية بين المنطقتين والتي تتجلى بوضوح كأوجه اقتصادية مختلفة للمدينة.
الفرجة على الصمت
بعض السلالم، لا تؤدّي إلى مكان، ولا تدعو إلى العبور بين نقطتين، بقدر ما تدفعنا إلى التوقّف والجمود. يعكس المسرح الروماني في حي كوم الدكة حالة من السكون. ظاهريًّا، هو عبارة عن مُدرّج نصف دائري مصنوع من الرخام، ومكوّن من ثلاثة عشر درجة عريضة، صُمّمت للجلوس عليها أو الوقوف للمشاهدة الجماعية لعرض تستضيفه الصالة الدائرية المستوية في عمق السلم.
ثمّة بعض الكلمات والعلامات التي تشير إلى استخدام المدرج الروماني في الاسكندرية لمشاهدة بعض العروض، والاحتفالات الطقوسية، أو المباريات الرياضية التي لم تُحدّد طبيعتها بعد، لكن يمكن الاستدلال إلى طابعها الرياضي من خلال النقوش المكتوبة على رخام المدرّجات مثل الفريق الأزرق والفريق الأخضر. وهنا تتشابه طبيعة هذا المدرّج الروماني مع السلالم التي بُنيت داخل المعابد، والتي تشير الأكاديمية الأميركية ماري ب. هولينشيد في كتابها «مراسم التشكيل: الخطوات الضخمة والعمارة اليونانية» (2015) إلى أنّها تُبنى لكي تدعم مواكب التضحية عبر احتضان المشاهدة الجماعية للطقوس المقامة داخله، والتي تكون مقدّسة في الغالب. بتحوّلها إلى وسيط للسكون والتوقّف، تتخلّص هذه الأدراج من وظيفة السلالم الحركية المتعلّقة بالتنقل والعبور، غير أنّها اعتادت أن تدعو نوعًا آخرًا من العبور، وهو العبور الذي ينقل المتفرّج من حالة إلى حالة أخرى يفرضها العرض في النهاية أكان دينيًا أو ترفيهيًّا أو رياضيًّا.
ماذا يمكن اعتبار المدرج الروماني اليوم بعدما انقضت العروض وبات جزءًا من التراث الثابت (باستثناء بعض الحفلات التي يستضيفها المدرج خلال بضعة أيّام من السنة)؟ هنا يحلّ سكون آخر على الأدراج التي تبدو قبور ثابتة بعد انتهاء العرض. قبور تدعو للفرجة والنظر نحو الدرجات العريضة التي تبدو كأنّما بقيت معلّقة بين زمنين.
تمثّل هذه الأدراج حلقة انفصال زماني ومكاني وليست حلقة وصل؛ لأنها تحوّل العلاقة بين الجسد والمكان إلى علاقة سكون وتوقّف عن المشي وعن التفاعل مع المدينة الحالية بضوضائها، بل تقتطع فترة من سياق الزمن والتواصل مع المتغيرات المستمرة، من أجل المشاهدة.
مصعد أطاح بالسلّم الطبقي
«عمارات وسط المدينة» هذا الوصف كافٍ لكي نستحضر الخصوصية الجمالية لتلك الأبنية التي عُمّرت في الإسكندرية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على أيدي معماريين أوروبيين وإيطاليين تحديدًا مثل أنطونيو لاشياك وماريو روسي. تتناقض هذه العمارات في شكلها وهويتها وهوية ساكنيها مع الغالبية العظمى للعمارة المعاصرة في المدينة، والتي لا يمكن اعتبار أنّها تتبع طرازًا فنّيًا معيّنًا، بقدر ما إنّها تلبّي غايات وظيفية وربحية، من خلال عمارات تتسع لعدد كبير من الشقق الضيّقة، وتعود بالقدر الأكبر من الربح للمستثمرين.
وبالعودة إلى عمارات الحداثة في الاسكندرية، والتي تكتنز تاريخ المدينة الكوزموبوليتي، فإن الشعور بالروح القوطية يغلبني في كلّ مدخل من هذه العمارات المنتشرة وسط المدينة، على الرغم من أنها لا تتوافق فنّيًا بدقّة مع الطراز المعماري القوطي. غير أنّ هذا الطابع القوطي المُثقل بالرهبة والغموض، يأتي من التأثير الناتج عن الارتفاع الشاهق لكل دور من أدوار العمارة، ومن الحضور الثقيل الذي تخلّفه سلالمها الرخامية الضخمة، يليها الحضور المفاجئ للسلالم الداخلية والممرات الضيقة المؤدية إليها. كأنّما هذه السمة تنضج وتتجلّى أكثر مع مرور الزمن، بفعل الظلام الذي يلفّ السلالم ويخطف بصرك ما إن تدخل إليها، قادمًا من شوارع المدينة المضيئة. أما الغبار الذي يغطي الجدران الشاهقة للسلالم في كلّ طابق، فيخلق في نفسي شعورًا بأنني دخلت للتوّ إلى مكانٍ أثريّ مقدس لم يُمسّ منذ زمن، كما لو أن سكّان العمارة، في صعودهم وهبوطهم عبر هذه السلالم، يستخدمونها بحذرٍ ويحافظون على ذرّات الغبار المتراكمة.
هناك سلم رئيسي في مداخل عمارات وسط المدينة، درجاته رخامية واسعة، وهناك سلّم «خلفي» لا يظهر لزائري العمارة، ضيق الدرجات وبسيط التصميم، يستخدمه الطهاة وعمال النظافة وحارس العمارة لدى أدائهم مهمّاته مثل نقل الطعام دون إزعاج سادة المنزل وزوّارهم
سرعان ما سيتحوّل شعور القداسة إلى شعور بالغربة والقلق لا ينتهى إلا عند العودة إلى ضوضاء الشوارع والسيارات والأضواء. إحدى أجمل هذه العمارات في شارع فؤاد هي «باراسكيفاس»، التي تحمل اسم مصمّمها الإيطالي اليوناني نيكولاس باراسكيفاس، وبنيت في العام 5192 على الطراز الأوروبي الكلاسيكي، لتستقطب فئات طبقية ثريّة، وما زالت حتى اليوم، بفضل شققها الفخمة. هناك أيضًا عمارة «أدريانا بنتو» التي تقع في ميدان محطة مصر وبنيت في عام 1925 على الطراز الباروكي الإيطالي الجديد، وعمارة «هيكل» من تصميم المعماري ريكاردو سميث عام 1929 وبنيت على طراز كلاسيكي في منطقة محطة الرمل، وغيرها من العمارات التي مازالت إلى الآن تمثل وتختصر الهوية العمرانية للإسكندرية. اللافت أنّ لكل عمارة اسم عائلة سواء كانت عائلة مصرية أم أوروبية، فقد كانت تُصمَّم خصيصًا للعائلات الثرية.
السلالم الداخلية لهذه العمارات لا تترك الأثر النفسي ذاته الذي تتركه العمارات الأخرى، إذ أنّها ستبدو بصمتها وتاريخها الطويل (ولو أنّها لا تزال مأهولة) أشبه بمحاكاة لتوابيت عملاقة تدفن ذكريات ونماذج طبقية وسلوكيات اجتماعية وثقافية قد مرّ عليها أكثر من قرن، وهنا تكمن قدسيتها.
تختصر هذه الحقبة العمرانية، التحوّلات العميقة في بنية المدينة الاقتصادية التي تبعت دخول الفرنسيين والإنكليز إلى مصر، وتحوّل الإسكندرية إلى مدينة متعدّدة الأجناس واللغات والأديان؛ شُيّدت العمارات لتكون ملائمة لهذا التنوع، ومستمدة من ثقافة جديدة أصبحت حاضرة في نسيج المدينة الثقافي.. عمارات بطبقات عدّة ذات واجهات مزخرفة، تبدأ بالسلالم والقبو وتنتهي صعودًا لتصل إلى السطح.
نتيجة لتلك التغيرات الاجتماعية التي ألمّت بالمدينة، اكتسبت السلالم معانٍ جديدة وفقًا لسلوكيات مستخدميها التي باتت تختزل انقسامًا طبقيًّا حادًّا. سننطلق هنا من تقسيم السلالم إلى نوعين يحمل كلّ منهما وظيفته؛ الأوّل: هو السلم الرئيسي في مدخل العمارة، درجاته رخامية على مساحة واسعة ودرابزين مزخرف من الحديد المشغول، ويطل على أبواب الشقق السكنية وفي قاع السلم يوجد البدروم وهي غرفة تحت سطح الأرض بمصطبة أو درجتين وباب، والثاني: هو سلم العاملين بالمنازل أو سلم الخدم كما يطلق عليه في الأفلام السينمائية القديمة، وهو سلم خلفي لا يظهر لزائري العمارة، ضيق الدرجات وبسيط التصميم، يستخدمه الطهاة وعمال النظافة وحارس العمارة لدى أدائهم مهمّاته مثل نقل الطعام دون إزعاج سادة المنزل وزوّارهم.
وفي سطح العمارة تُبنى للعمال غرفًا من الخشب والحجارة، تبدو بسيطة الهيئة كسلالمها. في هذه الحالة أصبح السلم بكل اتجاهاته رمزًا للصعود والهبوط الطبقي، يحمل على عاتقه نقل الفقراء باتجاهين للاضمحلال والاختفاء؛ اتجاه الصعود نحو سكن العمال المعدم فوق أسطح العمارات، واتجاه النزول نحو سكن حراس العمارات أسفل بدروم السلالم.
الأدراج هنا تعبث لاستجابة أجسادنا التلقائية للوسيط المكاني، ففي هذة العمارات يتساوى القبو بالسطح لأن كلاهما مساحة تهميش، وتفقد حركتا الصعود والهبوط رمزيّتهما، حتى إنهما تتحوّلان إلى رمزٍ واحد للهبوط الطبقي.
رغم أنّ تلك الفروقات الطبقيّة لم تنته بعد، إلّا أنّها اختفت ظاهريًّا، خصوصًا لناحية تجلّيها في السلالم. حلّ السكون على هذه الأدراج، بسبب استقلال السكان للمصاعد التي ظهرت منتصف القرن العشرين، وتطوّرت حتى أصبحت هي الوسيلة الأساسية للصعود والنزول دون مجهود يُذكَر، ودون أيّ تداخلٍ بين الأجساد والمكان. كأنّما هذه المصاعد حقّقت نوعًا من العدالة الطبقية، بإطاحتها للسلالم الخلفية التي كانت تمثّل يومًا ما رمزًا لرفض الآخر وقبوله حسب طبقته الاجتماعية.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
لقاء الآلهة
كمدينة بطلمية التأسيس، ما زالت الإسكندرية تحمل في وجدانها الفلسفة الدينية للعمارة الإغريقية، وتحديدًا بعض درجاتها ومرتفعاتها التي يختصرها المؤرّخ الأميركي ويليام بيل دينسمور في كتابه «العمارة والمعنى في اليونان القديمة» (1975) بأنّ «السلالم لم تكن في العمارة الإغريقية مجرّد عناصر ذات وظيفة ماديّة، بل كثيرًا ما كانت ترمز إلى الانتقال بين العوالم، بين الدنيوي والمقدس، بين المدني والإلهي، وكان صعود درجات المعبد فعلًا جسديًا يعكس الارتقاء الروحي نحو الآلهة».
قد لا تميّز ذلك بموضوح في مناطق المدينة الحديثة، وفي زحمة الحياة اليومية، لكن الأضداد السفلية والعلوية تتجلّى في منطقة كوم الشقافة، التابعة لحي كرموز، وهي منطقة أثرية وسكنية لا تختلف كثيرًا في تكوينها الطبوغرافي عن حي كوم الدكة. في تلك المنطقة، بني عمود السواري (من آثار العصر الروماني المتأخر) على تل مرتفع عن سطح الأرض، وقد شيّد في الأصل على أطلال معبد السيرابيوم على ذلك التل في العصر البطلمي (مئتا عام قبل الميلاد).
لم يكن اختيار تل كوم الشقافة محض صدفة، إذ أن بناء السلالم الحجرية المرتفعة كانت وسيلة للوصول إلى المعبد، بما يحاكي فلسفة الصعود بالجسد والارتقاء بالروح. أما مقابرها ذات السراديب التي تلتقي فيها سمات من الحضارات اليونانية والرومانية والمصرية، فنزول أدراجها الحلزونية يترك انطباعًا ذهنيًا متوارثًا عن ارتباط الطبقات السفلى بالنهاية والموت، وما يمثله هذا الهبوط من يأس وفشل وانهزام كما تبين سلالم المقابر الإغريقية التي كانت وسيلة الانتقال الجسدي والروحي إلى عالم هاديس السفلي.
تتوالى سلالم كوم الشقافة الحلزونية التي بنيت في القرن الثاني الميلادي، لتؤدي إلى مقبرة متعدّدة الطوابق، تتشابه إلى حد كبير مع تصور الشاعر الإيطالي دانتي عن الجحيم «إنفرنو» في ملحمته «الكوميديا الإلهية» (القرن الرابع عشر)، وفيها صوّر الجحيم على أنه حفرة عميقة مخروطية تحت سطح الأرض مكوّنة من تسعة طوابق؛ كل طابق عبارة عن طبقة دائرية أكبر من التي تليها نزولًا في شكل حلزوني ينتهى عند مركز الأرض وهو مكان لوسيفر، حيث قاع الجحيم!
إذا اتجهنا شرق الإسكندريّة، وتحديدًا إلى مدافن مصطفى كامل التي بنيت في العصر البطلمي المبكر، ستقودنا سلالمها المنحوتة في الصخر إلى غرفة الدفن حيث نزل الموتى في السابق، للقاء الآلهة ربّما، لكن هذا الترجل من العالم الدنيوي للقاء الإله في الأسفل، يتناقض مع ما يمثّله «الصعود» بالمعنى الديني والأسطوري، كما اعتادت الأساطير الإغريقية أن تصوّر آلهتها وهي تسكن فوق جبل الأوليمب. المسيح قام أيضًا وصعد إلى السماء، والله يستوي على عرشه فوق السماوات السبع. إذا أردنا إكمال الرحلة السابقة، سيبدو الموت هنا كمصعد آخر، غير مرئي، يتساوى فيه الصعود مع الهبوط.
التحليق والسباحة
نرتفع مجدّدًا إلى الأرض أو لعلّنا نهبط إليها، إلى الإسكندريّة المكتظّة بكافّة أنواع وسائل النقل التي تعبر الشوارع العامّة وتمرّ في قلب الأحياء. تزدحم الشوارع بالسيارات الخاصّة وبوسائل النقل العامّة كالترام والقطار، لذلك، على المارّة في عددٍ من مناطق المدينة الاختيار بين الصعود أوالهبوط للمرور بين المركبات بمختلف أنواعها. من خلال جسور المشاة والأنفاق، تدفعنا المدينة على الدوام إما إلى القفز والتحليق أو إلى المشي في دهاليزها السفليّة.
جسور المشاة أو الكوبري، هي الوسائل المثلى للقدمين، للمرور في الأحياء الواقعة في عمق المدينة، بعيدًا عن البحر، مثل كباري المشاة الموجودة في حي سيدي بشر، والتي تسمح بالمرور فوق قضبان القطارات، ويجب على المارة الصعود إليها واجتياز اختبار التحليق فوق السيارات. في هذا السياق، تتكوّن علاقة جديدة ومضطّربة بالمدينة، بفعل عرقلة الحركة المستقيمة في الشوارع، ستتوقّف لبرهة، وتصعد ستة أمتار إلى الأعلى، ما يعادل سلالم طابقين إلى ثلاثة تقريبًا، ثم عليك أن تهبط إلى الشارع في الجهة المقابلة لكي تذوب في الازدحام من جديد.
تتقاذفنا شوارع المدينة… تعلو وتهبط كأنّك تقفز فوق حبال غير مرئية لكي لا تتعثّر. في الشوارع المطلّة على البحر مباشرة، على المارة النزول إلى أنفاق المشاة، وهي ممرّات كالخنادق تحت مستوى الأرض، مثل نفق الشاطبي الذي يُعدّ أحد أشهر الأنفاق في المدينة نظرًا لحيويته لأنه وسيلة عبور طلاب الجامعات من أسفل طريق السيارات وصولًا إلى مجمع الكليات. الأمر يشبه إلى حد كبير ممارسة السباحة والغوص لبضعة دقائق تحت السيارات في نفق اسطواني خافت الإضاءة، بجدرانٍ زرقاء باهتة تسبب شعورًا قصيرًا بالاختناق إلى أن يظهر سلم النجاة على الجانب الآخر من الطريق، فتعود أقدامنا للمشي على الأرض قبل أن تصطدم بأدراج جديدة ربّما.