بعد فترةٍ من استيلاءِ قوّات الفصائلِ المتحالفة على دمشق، وإعلانِ أحمد الشرع نفسَه فاتحًا ورئيسًا، صرّح بأنّه لا يريد إحياء صراعات مرَّ عليها أكثر من ألف وأربعمائة عام، في إشارة إلى سلسلة الحروب التي دارتْ في المنطقة آنذاك، وخلقت الانقسام الشيعيَّ– السنّيَّ. بعدها بشهور حين تولى دونالد ترامب مسؤولية إدارة الإمبراطورية الامريكية، ظهر في أكثر من لقاء مستخدمًا كلمات وتعبيرات -عند حديثه عن جغرافيا المنطقة- تعودُ إلى نهايةِ العصرِ البرونزيِّ (حوالى 2600 عامًا مضت). لكن رغم أمنيات الهروب من الماضى لدى الشرع، أو تمنى الماضى لدى ترامب سريعاً ما تورط الاثنان في مجازر تجدد حروب الماضى.
يعود الماضي يعود. لأنَّ شروطَ الماضي تتكرّر. فموجة التغيّرِ المناخيِّ التي عصفتْ بالمنطقةِ في نهايةِ العصرِ البرونزيِّ، تعود اليوم بشكل أعنف، حيث تشحُّ الموارد، وترتفع حرارة الكوكب، كلُّ ذلك خدمةً لبضع عائلات مالكة وحاكمة، لا ينضب جشعُها ولا حبُّها للبترول.
وفي سبيل ذلك ينطلقُ أبناء الساميينَ القُدامى في رحلة تشبهُ تلكَ التي قامَ بها “الأبُ”، ليُدمّروا كلَّ أشكال الاتفاق والهويات السياسيّة والمعرفيّة التي انتجتها شعوب المنطقة، ضمنَ تحالف كان من سخرية القدرِ أُطلقَ عليهِ اسم “الاتفاقيات الإبراهيمية”.
لكن، لربما هناك مسعى آخر. لربما، إن تجرّأنا على تجاوز الأب الإبراهيمي، وهجران إرثه، تكلّلت جهودنا بالنجاح. إن أدركنا ما يختبئ خلف عودة البلاغة الإبراهيمية القديمة، على ألسنة الشرع الجولاني ودونالد الترامبي، لربما يمكننا أن نتخيل غدًا أفضل، غدًا لا يقود إلى الأمس.
رسم: علي السيد
حكاية قديمة
من منظور عصرنا سواء نظرت عبر نافذة الصوابية السياسية أو المسلسلات التلفزيونية يمكن توصيف الحكاية المتداولة بأنها سيرة شخصية مستبدة، لأبٍ لا يكتفي بإيذاء أبنائه وتفريقهم وحرمانهم من الميراث، بل يغرس جرائمه وعُقده في نفوسهم، حتى يستمر النزاع بين نسل الولدين، أيهما الذبيح وأيهما وريث النبوة؟
كيف تكون هذه صفات نبي، بل وأب للأنبياء؟ وكيف ولماذا تبنت شعوب وجماعات تلك السيرة ونسبت نفسها له؟ وعبر آلاف السنين كيف أعادت الحكاية خلق نفسها ليتحول رجل غاضب ناقم على الحياة، رمزاً للحكمة والسلام؟
هذا بلا شك درس روائي يستحق التأمل، عرض مدهش لقدرة الحكايات والأساطير على تحويل الأمنيات الواهية إلى جنات وارفة، والجريمة إلى بطولة، والدم إلى تضحية مقدسة.
المشهد الافتتاحي يفترض أن يكون في مدينة “أور” المدينة الأولى أو الأقدم التي حفظتها لنا السجلات ولا تزال شواهدها قائمة. أورو من أوائل التجمعات الحضارية التي عرفتها الإنسانية كمدينة. تشتهر كذلك بالزقورة أو أبراج المعبد التي بناها الملك أور نمو، مؤسس سلالة أور الثالثة، حوالي 2100 قبل الميلاد. هي واحدة من المعابد المخصصة لإله القمر ضمن مجموعة من المعابد لآلهة أخرى، حيث كانت المدينة مركزًا تجاريًا على خطوط التجارة الدولية التي تربط بين أقصى الشرق حيث الصين وبين أفغانستان، حيث يأتي القصدير ليتم خلطه مع النحاس المستخرج من الغرب حيث مصر وتركيا لصناعة البرونز. المعدن الذي قامت عليه الحضارة الإنسانية في العصر البرونزي (3300 ق.م – 1200 ق.م).
لو أنّ المراهق خرج إلى أهل أور وقال لهم: “لقد وجدت إلهًا جديدًا”، لربما تبسموا في وجهه، بل ولربما ساعده والده في نحت تماثيل أو أيقونات لهذا الإله الجديد. لكن أبو التوحيد لم يأت بقول بسيط كهذا، بل جاء بفكرة ثورية جدا في هذا العصر: “إلهي هو الإله الوحيد”
نعرف أنّ الحياة الاجتماعية في المدينة تشكلت من فلاحين وخدم وعبيد يقومون بالفلاحة والعمل الزراعي في الحقول التي تحيط للمدينة، وهناك طبقة من كبار التجار والإقطاعيين، تجاورهم طبقة من رجال الدين، ثم طبقة من أصحاب الحرف وجامعي الضرائب والقائمين على إدارة الدولة والمدينة. ولد إبراهيم لأحد هؤلاء الحرفيين.
لا ذكر للأم. إنّه اليتيم المثالي، له أخ واحد على الأقل وفي أغلب الروايات التوراتية أخين. أب فنان يعمل على نحت التماثيل وخدمة المعبد. هل بسبب وضعه الاجتماعي تضاعف شعور المراهق بالاغتراب عن واقعه؟ هل شعر اليتيم بالغبن من انشغال أبيه عنه؟ هل عانى من التمييز الذي فرضه الأغنياء وتجار المدينة وأبناؤهم؟ هل نبذه مجتمع الفلاحين والرعاة لأنّه ينتمي إلى عائلة حرفية؟ وما الذي قد يدفع مراهقاً إلى الغرق في تأملات وجودية طويلة، رافضًا آلهة آبائه ومجتمعه.
لو أنّ المراهق خرج إلى أهل أور وقال لهم: “لقد وجدت إلهًا جديدًا”، لربما تبسموا في وجهه، بل ولربما ساعده والده في نحت تماثيل أو أيقونات لهذا الإله الجديد. لكن أبو التوحيد لم يأت بقول بسيط كهذا، بل جاء بفكرة ثورية جدا في هذا العصر: “إلهي هو الإله الوحيد”.
هو لم يطمح في تمثال لإله جديد بجوار الآلهة المتعددة في مدينة التعدد، بل طرح فكرته فتحولت لأفعى تلتهم كل عصيانهم، وتهدم معابدهم، وتمحو حكمتهم القديمة من جذورها، وتطمح إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمكان.
قبل ظهور الأديان الرعوية التي صارت تعرف بالتوحيدية، كانت التعددية هي شرط قيام الحضارة، وضمانة التعايش داخل أسوار المدينة الواحدة، واستمرار التواصل التجاري والتعاون المعرفي بين أبناء الأديان والمعتقدات المختلفة. لكن المراهق لم يجد لنفسه مكانًا في هذا العالم
في ذلك العصر، كان من الطبيعي أن يعبد الإنسان أكثر من إله، وأن يعتنق أكثر من دين، بل وحتى أن يغير دينه كلما انتقل من مكان إلى آخر. كانت الأديان مرتبطة بالحيز الجغرافي الذي تولد وتستمر فيه، ولم تكن الآلهة تطمح إلى الانتشار خارج حدودها. فلم نسمع أبدًا عن حروب في العصر البرونزي أو قبله لفرض عبادة “رع”، ولم يخرج الحيثيون من تركيا لنشر عبادة الإله “تارهونت”. بل على العكس، كان من الطبيعي أن يدخل الملك الغازي معبد المدينة المغلوبة، ويرتدي ملابس ملوكها، ويؤدي طقوسها الدينية ليحصل على الشرعية السياسية. حدث هذا مع الاسكندر المقدونى الذي حين دخل مصر لبس رداء ملوكها وسجد لآلهاتها، وقبله مع ملوك فارس الذين حكموا مصر كمستعمرة لقرون.
قبل ظهور الأديان الرعوية التي صارت تعرف بالتوحيدية، كانت التعددية هي شرط قيام الحضارة، وضمانة التعايش داخل أسوار المدينة الواحدة، واستمرار التواصل التجاري والتعاون المعرفي بين أبناء الأديان والمعتقدات المختلفة. لكن المراهق لم يجد لنفسه مكانًا في هذا العالم، مدفوعًا بهلاوس وأصوات تهمس وتخربش داخل عقله، يحمل فأسًا ويدخل المعبد ويتقدم لهدم كل الإلهة، تاركًا إلهًا واحدًا.
المفسرون من الأديان التوحيدية، يرون الأمر لعبة وتسلية أن تهدم معابد الأخرين، وتترك الفأس معلقاًفي صدر كبيرهم، حتى تواجه المؤمنين (الوثنيين كما يصفونهم) بتناقض إيمانهم. كيف لم تحمِ الآلهة أصنامها؟
القصة تتكرر في الأديان الثلاثة بصيغ متفاوتة التفاصيل لتعكس منطق معطوب، لا يميز بين الفكرة وصورتها/أيقونتها. المراهق سيشير إلى الفأس في رأس كبير الآلهة، لكي يضع قومه في مواجهة سؤال كيف لم تحمى الآلهة نفسها. ثم حين يصير أبًا سيزور ابنه الذي هجره في الصحراء ويبنى بيتًا للإله هدية للابن المهجور مع أمه في الصحراء، ومع ذلك سيتم هدم بيت إله إبراهيم أكثر من مرة، وقصفه بالمنجنيق والرصاص والقنابل آخرها سنة 1979 حينما اجتاحت فرقة عمليات خاصة فرنسية الكعبة وأطلقت الغاز المسيل للدموع والرصاص داخل بيت الله الذي بناه إبراهيم، فلماذا لم يحم الإله الإبراهيمي بيته إذن؟! وإن لم يفعل، فما الفارق بينه وبين إله معبد مدينة “أورو”؟
لم يكن قرار إحراق المراهق حيًا عقابًا لاكتشافه لـ”الإله الحقيقي”، بل نتيجة تجاوزه للأعراف السائدة في مجتمعه، حيث تعدّى على ممتلكات الآخرين وحطم أصنامهم، معتبرًا أنها لا تستحق العبادة. لذلك، جاء الحكم بحرقه بالنار، والتي، وفقًا للسردية الإبراهيمية، لم تؤذه، في واحدة من أولى معجزاته. ومع ذلك، لم يكن لهذه المعجزة تأثير مباشر على إيمان أهل المدينة، فلم يتبع أحد إبراهيم أو إلهه، حتى حين رأوه خارجاً من النار في أمان وسلام.
في البداية لم يتلق المراهق وحيًا أو رسالة من السماء كما سيحدث مع أنبياء ومرسلين آخرين، بل تقدمه لنا سردية الأديان التوحيدية الثلاثة كبشري وصل عبر التأمل والتفكر في الكون، إلى وحدانية الإله الأحد، الذي لا يقبل القسمة ولا الشراكة. هو أيضًا لم يُرسل بدعوة ليبلغها لقوم ما، بل يظهر في سيرته ذات اللغات المتعددة كرحّالة يسافر بين الممالك، يبدأ مسيرته في العراق، ثم ينتقل إلى تركيا، ومنها إلى مصر، حيث جرب التجارة، لكنها لم تنجح، فتحوّل إلى الرعي. وخلال تلك الرحلات، لم يكن له أتباع أو مريدين. اقتصرت رفقته على زوجته سارة، وابن أخيه لوط. إلا أن لوط، بعد فترة، لم يعد قادرًا على مواصلة السفر مع إبراهيم، فاختار الانفصال عنه، آخذًا معه غنمه وأهله، ليشق طريقه الخاص.
في تلك الرحلة، استخدم إبراهيم كل الحيل التي توصله لغرضه -أحيانًا لا يعرف هو نفسه ذلك الغرض- كأن يكذب على فرعون مصر ويخبره بأن زوجته هي أخته، وليست زوجته. وكأن فرعون الإله الملك الذي لم يكن مسموحًا حتى للمصريين العاديين أن يرفعوا رأسهم لرؤيته في حضوره، يجلس على باب مصر يستقبل الرعاة مجهولي النسب والهوية بنفسه. القصة أسطورية بلا أي دليل أو تناسب مع أي سردية تاريخية بالطبع مثل كل القصص الابراهيمية، لكن الغرض منها أن يظهر إبراهيم كشخصية ناجحة مؤثرة يستقبله الملوك أينما ذهب.
أتخيل إبراهيم أو سارة عجوزين. يجلس حوله أبنائهم ولكى يبث فيهم روح الفخر والسؤدد، يبالغ في الحكايات، يضخم بعضها فيصبح موظف الجمارك المصري ملكًا. أو بعد سنوات وقرون يتخيل الأبناء حكاية قديمة فيها يشكون إلي الأب هجمات الرعاة والقبائل الأخرى، فيرد الأب إبراهيم على الذرية الحائرة بأن كل تلك الأرض، أرض كنعان من دمشق حتى النيل غربا والفرات شرقاً، كلها ملككم.
“كيف يا أبي؟!” يسأل إسحاق أو ذريته.
فيرد الأب: “الله وعدنى بها”.
عندما يختفي الفاصل
نعلم اليوم أن الفصام (الشيزوفرينيا) هو اضطراب نفسي ذو أصول وراثية، تؤثر فيه البيئة والنشأة، ولكن تلعب العوامل الجينية الدور الأبرز في ظهوره. يُصيب الفصام التفكير والمشاعر والسلوك، وقد يصاحبه الهلوسة السمعية والبصرية، مما يؤدي إلى تبنّي تصورات راسخة يصعب التحقق من واقعيتها، كما يُضعف قدرة المريض على التفاعل الاجتماعي والتواصل مع الآخرين، فقط في القرن الأخير منحنا علم الطب النفسي الحديث اسما، وبرامج علاجية له، لكن في عصور سابقة، يخبرنا ميشيل فوكو عن مفهوم “سفينة المجانين”، حيث يُنفى المصابون بالفصام والاضطرابات العقلية الأخرى إلى قوارب تجوب الأنهار، تمر بالقرى والمدن، وتُبقيهم في رحلة لا نهاية لها بعيدًا عن المجتمع، وكأنما الحل لم يكن في العلاج، بل في الإقصاء الأبدي.
التاريخ لا يكتبه المنتصرون، ولا يصنعه الفاتحون. التاريخ ليس إلا محاولات التكيف مع التغييرات المناخية. أهم الثورات التي حدثت في فهمنا للتاريخ في العقود الأخيرة أتت من قدرتنا على تحليل الحفريات وربطها بالتغييرات المناخية، وبناء نماذج محاكاة تربط بين الأحداث التاريخية والظروف المناخية
لنا أن نتخيل في ماضى أبعد من عصور فوكو الوسطى، مجتمعات أقدم يختفي فيها الفاصل بين المرض النفسي والظواهر الكونية، وتواجه ظواهر مثل الفصام، بالصمت والتفسيرات الرمزية. تتضاعف الرموز وتتعاقد بتعاقب السنوات بل القرون.
والأخوة الأعداء منهمكين في صراع أبدي، لا يجدون تفسير لحروبهم سوى أن يتمسك كل طرف بسرديته عن الأب، وحق في ميراث الابن المتخيل. كل تلك السرديات في جوهرها تعكس حاجة الإنسان لخلق بُنى تفسيرية تحمى الجماعة من تفسخها أمام المجهول، وتعيد توزيع الأمل والسلطة في عالم مضطرب، لكن ما هو شكل العالم الذي ولدت من رحمه تلك السرديات إذن.
بعد آلاف السنوات من ذلك الزمن، سأنتقل إلي الحياة في أمريكا مهاجراً منفياً كما حكاية إبراهيم. وفي أكثر من سياق سأقابل كتاب، مثقفين، أساتذة جامعيين، متعلمين. أبدًا لا يدهشنى هؤلاء الذين ما أن يعرفوا أني من مصر يسألوننى عن الفضائيين وبناء الأهرامات. لكن يدهشنى أكثر البساطة والثقة والإيمان المطلق الذي يتحدث بها علمانيو أمريكا عن تاريخ المنطقة بناء على السرديات التوراتية، والأساطير الانجيلية.
هناك عدة طرق ومسارات لعلاج مريض الفصام، جزء منها مرتبط بأدوية تستهدف تهدئة كيمياء المخ، وجزء آخر يشمل جلسات علاج نفسي لمساعدة المريض على إدراك حالته وكيفية التعامل معها، إلى جانب الدعم المجتمعي والذي يشمل مساعدة المريض في تحسين مهاراته الاجتماعية والعملية.
إذا تم إهمال علاج مريض الفصام ومواجهته بالحقيقة، فالنتيجة هي عالم غارق في فوضى وخرافات نهاية العصر البرونزي، دائرة نارية من القتل والابادة، أبناء وأحفاد يتصارعون علي ميراث خرافي. كيانات اقتصادية وإمبراطوريات عسكرية، تحرك أساطيل وسفن برؤوس نووية لتوفر الغطاء الجوي والنووي لجيش يضع جنوده شارة لمعبد أسطوري، يغزو أراضي لبنانية بصحبة باحثين أثريين لينقبوا عن آثار تدعم خرافات الفصام الإبراهيمي.
واقع يصبح معه رفض الفصام، وحروب الشيزوفرنيات، والمطالبة بعالم جديد يتجاوز الأساطير الإبراهيمية وخراب نهاية العصر البرونزي، إلحاد وخروج عن الملة والاجماع الوطني. بينما يصفق الجميع لكل الجيوش وعائلات الإجرام التي تقتل وتبيد، رافعين شعار السلام والمعاهدات الابراهيمية.
رسم: علي السيد
المناخ.. محرك التاريخ
نعود إلى الفأس.
التاريخ لا يكتبه المنتصرون، ولا يصنعه الفاتحون. التاريخ ليس إلا محاولات التكيف مع التغييرات المناخية. أهم الثورات التي حدثت في فهمنا للتاريخ في العقود الأخيرة أتت من قدرتنا على تحليل الحفريات وربطها بالتغييرات المناخية، وبناء نماذج محاكاة تربط بين الأحداث التاريخية والظروف المناخية. ما نطلقه عليه اليوم بالحضارة، نشأت بعد زوال العصر الجليدي، وارتفاع درجة حرارة. ليشهد كوكبنا بضع آلاف من سنوات الاستقرار، هي استثناء من تاريخ حافل بالتغييرات العاصفة، بعضها أحيانًا أدى إلى إنهاء الحياة على سطح الكوكب، لتعود وتبدأ من جديد.
هذا الدفء النسبي الذي ساد خلال “الآلاف القليلة من السنين الأخيرة” هو الذي أتاح للبشر الاستقرار وتأسيس المجتمعات الزراعية، مما أدى إلى الانتقال من أدوات العصر الحجري إلى تقنيات العصر البرونزي. ومع تطور الزراعة، بدأت كل حضارة تطور تصوراتها الدينية والفلسفية، التي كانت انعكاسًا مباشرًا للعلاقة بين الإنسان والأرض والسماء.
في كتابه The Earth Transformed، يوضح بيتر فرانكوبان أستاذ التاريخ بجامعة اكسفورد كيف أن ظهور المدن الأولى حوالي 5000 ق.م كان محكومًا بظروف الجغرافيا والمناخ، وكيف ساهم ذلك في صياغة الأنظمة الدينية السائدة في كل تجمع حضري. فمثلًا، في اليونان القديمة، حيث كانت الطبيعة جبلية وعرة والزراعة تعتمد على الأمطار الموسمية، انعكست هذه الظروف في الميثولوجيا الإغريقية، التي صورت الآلهة في صراع دائم، تتقاتل وتنتقم، تمامًا كما كانت حياة البشر هناك رهينة التقلبات المناخية.
أما في حضارات وادي النيل وبلاد الرافدين، حيث اعتمدت الحياة على الأنهار الفيضية، فقد انعكس ذلك في تصورات دينية تمركزت حول المعبد والسلطة الإلهية. هنا، كانت شرعية الحاكم مستمدة من الآلهة، التي وعدت البشر بالحياة الآخرة إن أحسنوا التصرف، في استجابة نفسية لموجات الجفاف والخصوبة الدورية. نظم المجتمع نفسه في نموذج هرمي، جمع بين الدين والسياسة، لم يكن مجرد نظام اعتقاد، بل انعكاسًا للبيئة وتغييرات الطبيعية.
في المقابل، فالصين القديمة، حيث المساحات الشاسعة ووفرة الموارد واستقرار المناخ، لم تُنتج ديانات قائمة على الصراع بين الآلهة، بل نظرة فلسفية للحياة بوصفها دورات مستمرة بلا بداية أو نهاية محددة. في كتابه These Bones Shall Rise Again، يوضح ديفيد كيتلي كيف أن الأدب الشعبي الصيني يكاد يخلو من فكرة الصراع مع الآلهة، لأنه لم تكن هناك حاجة لذلك، فالبيئة لم تكن عدائية، والآلهة لم تكن مصدر رعب للبشر. حكايات المواجهة بين الآلهة والبشر معدودة وأليفة، في إحداها مثلًا قررت إلهة أن تضع جبلًا أمام منزل عائلة، فما كان من أفراد العائلة إلا أن تعاونوا على تفكيك الجبل ونقله بعيدًا، وعاشوا جميعًا في سعادة وهناء.
التاريخ إذن ليس مجرد قصص ملوك وحروب، أو أنبياء تحركهم أصوات وتلهمهم الدعاء وتحذرهم من العقاب الإلهي الذي يأتي متمثلًا في كارثة طبيعية. التاريخ هو انعكاس للعلاقة بين البشر والمناخ، لكن بدلًا من رؤية المحرك المناخي والبيئي بسبب الجهل أو التعامى المتعمد، تحل الأسطورة وحكايات الملوك والأنبياء محل الحقائق الجغرافية والمناخية
ورغم هذه الاختلافات البيئية والثقافية، لم تكن الحضارات معزولة عن بعضها البعض، بل نشأت بينها روابط تجارية وتبادلات ثقافية يعود تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف عام قبل الميلاد. في دراستها Lapis Lazuli: The Early Phases of Its Trade، تثبت جورجينا هيرمان كيف أن تجارة اللازورد بين أفغانستان والعراق وتركيا نشأت منذ 3500 ق.م، حيث كان هذا الحجر الكريم، الذي لا يوجد إلا في جبال أفغانستان، منتشرًا في مختلف حضارات الشرق الأدنى، مما يعكس اقتصادًا نشطًا، وروابط تجارية متينة.
كما يوضح محيي الدين النادي في دراسته عن تجارة اللازورد كيف أن هذا التواصل التجاري كان جزءًا من نظام اقتصادي مركزي عرف لاحقًا بـ”اقتصاد القصر”، حيث كانت السلطة المركزية تحتكر الموارد وتدير الإنتاج، وتعيد توزيع الثروات على المجتمع، في علاقة أشبه بالعبودية الطوعية أحيانًا، إذ كان الفلاحون والحرفيون يعملون تحت إشراف الدولة مقابل الحماية والإمدادات.
التاريخ إذن ليس مجرد قصص ملوك وحروب، أو أنبياء تحركهم أصوات وتلهمهم الدعاء وتحذرهم من العقاب الإلهي الذي يأتي متمثلًا في كارثة طبيعية. التاريخ هو انعكاس للعلاقة بين البشر والمناخ، لكن بدلًا من رؤية المحرك المناخي والبيئي بسبب الجهل أو التعامى المتعمد، تحل الأسطورة وحكايات الملوك والأنبياء محل الحقائق الجغرافية والمناخية، التي شكلت الحضارات، وأثّرت على أنظمة الحكم، وبلورت المعتقدات الدينية التي سادت لآلاف السنين، حتى يصل الأمر إلى الوضع الحالى حيث ينكر المصريون مثلا الآثار المحيطة بها، وكتابات الأجداد القدامى، لكي يصدقوا حكايات وسرديات بلا أى دليل.
مولد إله
بدأ العالم القديم في التآكل ببطء منذ حوالي 1200 ق.م، مدفوعًا بمجموعة من التغيرات المناخية الحادة التي ضربت منطقة شرق المتوسط. شملت هذه التغيرات ارتفاع درجات الحرارة، مواسم من الجفاف، وانفجارات بركانية، مما أدى إلى أزمات بيئية كان لها أثر عميق على الهياكل السياسية والاقتصادية.
مع تراجع المحاصيل الزراعية وانخفاض الموارد، لم يعد القصر قادرًا على إدارة عمليات الإنتاج والتوزيع بكفاءته السابقة، مما أدى إلى اضطرابات اجتماعية وثورات سياسية، إذ ثار الناس على السلطة المركزية، وعلى نموذج اقتصاد القصر الذي كان يهيمن على الإنتاج، ولم يعد قادرًا على التعامل مع التغييرات المناخية.
بداية من 1200 ق.م، وخلال بضعة قرون؛ اختفت مدن، واندثرت حضارات كاملة، وتلاشت ديانات وآلهة كانت فيما مضى مركزية في حياة شعوبها. لفترة طويلة، أُلقي باللوم في هذا الانهيار على “شعوب البحر”، وهم خليط من جماعات مختلفة اتُهموا بتنفيذ عمليات قرصنة في شرق المتوسط، وحرق مدن الأناضول الحيثية، وتدمير بعض مراكز الشام. لكن عند تأمل جدارية معبد مدينة هابو، التي توثق انتصار رمسيس الثالث على شعوب البحر، نلاحظ تنوع ألوانهم وملابسهم، ونجد في النصوص المصرية ما يفيد بأن بعض هؤلاء المهاجرين كانوا يعيشون بالفعل في مصر. الأهم من ذلك، أن قائد جيش رمسيس الثالث نفسه كان ينتمي إلى أحد تلك الشعوب، مما يشير إلى أن شعوب البحر لم يكونوا مجرد غزاة خارجيين، بل كانوا جزءًا من تحولات أكبر مرتبطة بالهجرات والأزمات المناخية.
مصر القديمة نجت من مصير انهيار العصر البرونزي، لكنها لم تكن بمنأى عن التأثيرات.
عند تأمل لوحة رمسيس الثالث، لا يمكن إلا أن نفكر في آلاف المهاجرين اليوم، الذين يعبرون البحر ذاته بحثًا عن فرصة أفضل، هاربين من أزمات الجفاف، الفقر، والانهيار السياسي والاقتصادي في بلدانهم. المهاجرون ليسوا ظاهرة حديثة، فقد كانت هذه الهجرات جزءًا من إعادة تشكيل العالم منذ فجر الحضارات
استطاعت مصر الحفاظ على تماسكها لأنها كانت قادرة على استيعاب موجات المهاجرين، بدلًا من مقاومتها. ويعود ذلك إلى طبيعة النظام المصري، حيث لم تكن مصر حضارة مدن محصنة ومنعزلة كما كانت الحضارات الحيثية أو مدن شرق المتوسط، بل كانت قائمة على نموذج مركزي أكثر مرونة، سمح بدمج الوافدين في إطار اقتصاد القصر. فالهوية المصرية القديمة وربما الحديثة، ليس لون بشرة، أو عرق، أو إثنية، بل هي كانت ولا تزال ثقافة، قابلة للتعلم والمعايشة، ومنفتحة على التطور والدمج والاندماج.
عند تأمل لوحة رمسيس الثالث، لا يمكن إلا أن نفكر في آلاف المهاجرين اليوم، الذين يعبرون البحر ذاته بحثًا عن فرصة أفضل، هاربين من أزمات الجفاف، الفقر، والانهيار السياسي والاقتصادي في بلدانهم. المهاجرون ليسوا ظاهرة حديثة، فقد كانت هذه الهجرات جزءًا من إعادة تشكيل العالم منذ فجر الحضارات.
من بين الشعوب التي نشأت نتيجة لهذا الانهيار، برز اليهود كشعب مهاجر، ظهر في ظل تفكك النظام القديم. مع انهيار المدن، وجدت مجموعات بشرية نفسها مشتتة عبر الصحاري، بلا موطن، بلا موارد، وبلا إله يلجؤون إليه في محنتهم.
غياب المعبد والإله التقليدي يعني تفكك الجماعة وضياعها، لذلك فإن المجتمعات المهاجرة التي تمكنت من النجاة كانت تلك التي أعادت ابتكار هويتها، سواء من خلال الرموز البصرية (مثل الملابس، غطاء الرأس، إطالة اللحى أو التمسك بلغة لا يتحدثها سواهم)، أو من خلال تطوير سرديات دينية جديدة تحافظ على تماسكها.
في خضم هذه الفوضى، ولد إله جديد لم يكن مرتبطًا بمدينة بعينها، ولم يمنح الشرعية لملك محدد، ولم يكن جزءًا من اقتصاد معبد أو قصر. بل كان إلهًا مهاجرًا، مثل الشعب الذي ابتكره.
لم يعد هذا الإله أتباعه بأرض كيميت المصرية، أو أورك العراقية، بل بالأرض كلها، لأنه إله كوني، خالق العالم كله، وزيّنه ليكون هدية لشعبه المختار—وهو المفهوم الذي انتقل لاحقًا إلى الديانات الإبراهيمية الأخرى، سواء في المسيحية أو الإسلام.
من المغري والشاعري تصور سلسلة حوادث متعاقبة تبدأ من رفرفة فراشة، أو تزحزح حجر فوق فوهة بركان، فتولد سلسلة من التغييرات المناخية، تؤدي لانهيار شبكات التجارة والنظام الاقتصادي العالمي، وتقود إلى سلسلة انهيارات العصر البرونزي. لكن التغير أصلًا هو الصيرورة والمسار، وأفعال البشر جزء منه. مثلاً؛ توسع سكان وسط أسيا في ترويض الخيول واستخدامها وتربيتها في ألفية ما قبل الميلاد، قضى على المراعي الخضراء وإطلاق موجة من التصحر غيّرت الطبيعة الجغرافية لمنطقة وسط آسيا وحتى شرق المتوسط.
موجات الجفاف والتصحر في نهاية العصر البرونزي، غيرت التربة والبيئة ولم تعد تصلح الأدوات المشكلة من البرونز في زراعة الصحراء، فدفع التكيف بتطور تكنولوجيا إذابة وتشكيل المعادن، فكان الفأس الحديدي، قادرا على شق الصحراء والأرض الصخرية. والأهم أداة للقتل والحرب، قضت وأبادت الشعوب التي لم تتكيف ولم تتطور لتكنولوجيا الحديد.
الفأس الحديدي معلقًا في رقبة تمثال الإله.
الفأس الحديدي ناهضًا من ركام الماضي، إله واحد بفأس حديد حول رقبته.
حين قذفوا إبراهيم في النار، كانت عليه بردًا وسلامًا. هو من يتقن فن تشكيل المعادن والتحكم في النار، وصل بها إلى درجة إذابة الحديد.
الفأس في يد إبراهيم، وإن لم يكن الفأس فالسكين. السكين تذبح الطير وتوزعه على قمم الجبال وأرجاء الوادى، السكين تحت ثيابه، يقطع الصحراء ومعه ابنه، يسير مصارعًا أصوات، وسؤال عمّا إذا كان الإله عادلاً، إذا كان قانونه وشريعته تقضي بألا تقتل، فكيف يأمره بأن يقتل ابنه، كيف تناقض أوامر الإله شريعته؟
رسم: علي السيد
عبث مقدس
في سفر هاشير Sefer HaYashar ، أو كتاب التقوى الذي تعود أقدم نسخة إلي القرن التاسع الميلادى، ترد قصة إبراهيم وفأسه وتحطيمه للإلهة لكن لا يحدث هذا في المعبد، بل في منزل والده. كأن ما فعله لم يكن تحدى لأهل المدينة الكفار أو بغرض إعلان موقف عام، بل في صراع أبدى ومكرر بين مراهق وأب، ينتهى بأن يهجر الابن بيت أبيه، أو يطرده الأب من بيته، فيخرج الابن هائمًا في الصحراء بحثًا عن بيت ومتبعًا أصوات لا يسمعها غيره.
في القرن التاسع عشر كتب كيركجارد “خوف ورعدة” –ترجمه للعربية المصري فؤاد كامل- يتخيل كيركجارد رحلة الأب والابن من مغادرة المنزل إلي مكان الذبح، ويضع افتراضات متعددة مثلاً؛ يتلقى إبراهيم أمرًا بقتل ابنه، وهو فعل غير أخلاقي. بمجرد خروجه من المنزل بصحبه ابنه (إسحاق في التقليد المسيحي واليهودي وإسماعيل في التقليد العربي والإسلامي) فأن إبراهيم أصبح شخص غير أخلاقي يعتزم ارتكاب جريمة شنيعة، لكن كيركجارد يرى أن هذا لا يجعل إبراهيم غير أخلاقي لأنه تجاوز الأخلاق التقليدية بناء على علاقة شخصية مطلقة مع الله، فطاعة الله تتجاوز القواعد الأخلاقية.
هنا ينتقل كيركجارد إلى الخطوة الثانية حين يتحدث عن “الواجب المطلق نحو الله” حيث أن الإيمان الحقيقي لا يُبنى على الفهم العقلي أو الأخلاقي التقليدي، بل على ما يسميه “قفزة الإيمان”.
فقفزة الإيمان التي قام بها إبراهيم، تجعله ملتزمًا بواجب أسمى تجاه إيمانه، تجاه الله.
لكن ماذا إذن عن إخفاء إبراهيم أمر الذبح عن زوجته وابنه؟
إذا كان إبراهيم مؤمنًا متجاوزًا للأخلاق، فلما لم يمتلك الشجاعة الأخلاقية/ الايمانية ليصارحهم؟ ألم تكن الزوجة والابن مؤمنين أيضًا، لماذا لم يتشارك الثلاثة في هذه التجربة الإيمانية؟
يجادل كيركجارد أن صمت ابراهيم لم يكن خيانة أخلاقية أو جبن، بل ضرورة إيمانية حيث لا يمكن تفسير هذه التجربة بالكلمات أو المنطق البشري.
الإيمان الحقيقي، كما يراه كيركجارد، هو علاقة فردية خالصة بين الإنسان والله، ولا يحتاج إلى تبرير أو تفسير للآخرين. وهناك سبب آخر يقترحه كيركجارد، فإبراهيم أثناء الطريق ساحبًا الابن الذبيح يفكر أن الله وعده بأن تكون له ذرية ترث الأرض التي وعده الله بها، وبالتالي فالله لن يخلف وعده، ولذا فحتى لو قتل ابنه، لن يخلف الله وعده وسيعيد له الابن المذبوح.
-الله أمره أن يذبح ابنه
-الله وعده بنسل وسلالة عظيمة.
هاتان الفكرتان لا يمكن التوفيق بينهما منطقيًا، لكن إبراهيم لم يحاول حل هذه المفارقة، بل آمن رغم استحالة التفسير . الإيمان هنا يصبح قوة تتجاوز المنطق البشري، ما سيسميه كيركجارد بـ”العبث المقدس”.
عنوان يصلح للعصر الحديدي وزمن الأديان التوحيدية، الممتد حتى اليوم.
***
الرسالة التي حملها لم تكن إلى العالم، بل إلى ذريته وحدها: إسماعيل وإسحاق. فرعان من نفس الشجرة، واحدة عبرية، والثانية عربية، يتصارعان منذ آلاف السنين على إرثٍ لم يُوقّع عليه شهود، ولم يوثق في دفتر مواريث.
إرثه كان وعدًا، غامضًا كحلم، مكتوبًا في هواء الصحراء، تحول إلى كتاب، ثم خطاب، ثم كابوس سياسي مسلح.
ما كان مجازًا صار دستورًا، والحلم أصبح حدودًا، و ما كان نبوءة صار سياسة، وما كان عهدًا بين بشر ورب، صار قانونًا نوويًا يحدد من يملك الحق في النجاة. في الماضي كانوا يتقاتلون بالعصيّ والخيول، الآن أحدهم يمتلك القنبلة النووية، والآخر طفل يخرج من خيمة، وينظر إلي السماء، ويسأل الرب.. لما؟!