أسامة هابيل - (شياطين)

يوميات طالب جامعيّ في دمشق

كتبتُ هذا النصّ على فترات متباعدة بين عامي 2005 و2010، أثناء سنوات الاختصاص الطبي، وتنقّلي بين عدد من المستشفيات الجامعية في دمشق وضواحيها. في تلك السنوات ذاتها، كان أسامة هابيل منشغلاً بأعمال الحفر التي تتجلّى فيها روح دمشق بالأبيض والأسود
ــــــــ الحركة في المدينةــــــــ المـكـان
9 أكتوبر 2025

خريف 2005، في ضاحية حرستا بدمشق، على الجهة الخلفية من مستشفى البيروني لمرضى السرطان، أراني مريض من دُوما شجرة جوز ضخمة، تلوح في البعيد فوق سور المستشفى، وقال: “زارعها القاق”، ربما لأن الغراب قد يدفن جوزة مسروقة وينساها فتنبت شجرة في غير محلّها، خارج البساتين وباحات البيوت. اختفت من غوطة دمشق غياضُ الحور، شجرة مريم البتول لدى أوائل المسيحيين السوريين، وتبقّى المثل الشعبي الذي يشبّه الموت بقبقاب الحور، لا بد لكلّ إنسان من انتعاله ذات يوم.

في البداية، قسّمتُ مسوّدة كتاب “قبقاب الحور” على فصلين- الأوّل هو “تحوُّلات كلمة لم تُقَلْ في اللحظة المناسبة”، والثاني هو “العين والخطوة” (العنوان آتٍ بدوره من مثلٍ آخر، كرديّ هذه المرة: “الإنسان عينٌ وخطوة”).

المقتطفات المنشورة هنا مأخوذة من “تحوُّلات كلمة لم تُقَلْ في اللحظة المناسبة” الذي انفرد بنفسه ككتاب مستقلّ. استهلاله عبارة النفّري: “بدنك بعد الموت في محلّ قلبك قبل الموت”، ثم يستغرق الصوت بضع ساعات من صباح مشرق قارس البرودة من يوم جمعة في شباط/فبراير، جوّاباً شوارعَ دمشق الخالية ومقهى الروضة الفارغ. كتبت هذا النصّ الطويل على فترات متباعدة بين عامي 2005 و2010، أثناء سنوات الاختصاص الطبي في علم الأمراض، وتنقّلي بين عدد من المستشفيات الجامعية في دمشق وضواحيها. في تلك السنوات ذاتها، كان أسامة هابيل منشغلاً بأعمال الحفر التي تتجلّى فيها روح دمشق بالأبيض والأسود. كانت العين التي حفرتْ والعين التي كتبتْ تعبران الأمكنةَ واللحظات نفسها، دون أنْ يعرف كلانا الآخر، ثم ذهبت أصابع أحدنا إلى الأحماض والأصباغ والأوراق، وذهبت أصابع الآخر إلى الكلمات، حتى التقينا، بعد كلّ هذه السنين، في المكان الخياليّ الذي يتيحه لنا الفنّ والأدب.

 أسامة هابيل: “خشب”، قطعة خشب محبرة بالضوء، 23×40سم، 2023 

تحوّلات كلمة لم تُقَلْ في اللحظة المناسبة

منعطفاً عند الناصية، حيث جامع بعيرة، تهبطُ شارع العابد. شارعٌ يُشرِّع، وعابدٌ يُعبَّد (تستقبحُ هذا الجناس التعِس). وحيد الاتجاه. جمالُه في انحداره المحدّب الخفيف. نهايته مقهى “الروضة” الذي تجلسُ فيه، مُولياً ظهرَك للبرلمان. مبناه طابق أرضي وحيد. في باحته الخلفية يشحب ضوء الشتاء، متخللاً مظلة من النايلون الأصفر، السميك. ظلُّ قطٍ يمشي، فوق الطاولات الخالية، باتجاه الشجرة قرب النافورة. لو يهبط عن هذه الغصون، ليتمسّح بكاحلك ويدفئ ببطنه الوثير قدميك. أين قرأت، منذ سنين، عن قطط تنقلب وداعتها فجأة، فتتشاجر حتى يتطاير الوبر، دامياً طافياً في هواء شباط، قبل أن تلتهم بعضها البعض؟ المنتصرون يلتهمون المهزومين التهاماً تاماً، باستثناء الذيول التي لا تنفكّ تتلوّى حتى يذبل انتفاشها وتهمد في ساحة العراك، الفارغة كباحة هذا المقهى الآن. لا يزال الوقت مبكراً ليختلط دخان المعسّل بروائح البلاليع.

جُلّ جسدك في خُضرة الظلّ. الشمس تلامس حذاءَك العسليّ الوحيد، نصفَ ساقك اليمنى. ساقك إبرة سوداء في مِزْولة. لا تقلق. ليست شدّة الضوء وطولُ مكثك بكافيين لكي تنصلَ ألوانُ ثيابك. ليس الضوءُ ماءً ليتفشّى، في الهواء حولك، لونُ ما ترتديه (مثلما صدئت أزرارُ قميصك الجينز وتفشّى صباغه، بعدما نسيته منقوعاً في الطشت تحت سريرك). ابتعدتَ عن البابين الرئيسيين عند اختيارك مجلسك. بينهما حلاق أصلع لم يجئْ بعد. بائع الجرائد غائب لِلَقْوةٍ لَوَتْ وجهه. المذياع مطفأ، وكذلك التلفاز. لا أحد هنا لتتوهّم المتحدّثين يغتابونك. المقهى على خوائهِ لا يزال. كراسيه جمعاء من خيزران. لا تريح قساوتها المزعزعة ضمور عجيزتك التي قد تثقبها حرقفتاك كمجحاف البسبوسة. كرسيك بعيد عن مدخل سوق الصالحية عشرين متراً. أهذه هي بوابة الصالحية التي يستدلّ بها الناس، ويتواعدون عندها، ويصيحون لسائقي السرافيس: “بّوابة، زكاتك”؟

النادل يتثاءب. إنه لا يعرفك، لحسن الحظ. ربما علم باسمك فناداك به، مَن يدري؟ لا تُجِبْه، وكُن منه على وجَل. لستَ ممّن يصافحون النُدُل ويشدّون في المصافحة، أو يتذمّرون ويعنّفون إذا تأخّرت طلباتهم. لن تصبحهُ خيراً عند قدومه. قد يقع هذا منه موقعاً عظيماً، فيشي بك. ستقتضِب في حديثك، ولن تشكره. تخفِتُ نداءك كمَن يتدرّب على مراقبة شفتيه لئلا تُفشيا سرّاً. وإذا أتاك قلتَ كالمراهقين: “أنت مخطئ. ما ناديتك، كنتُ أختبر صوتي”. لن تصفّق له فيُهرع إليك. لن تصفّرَ من دون استخدام أصابعك. لن ترفعَ يدك مُطَقْطِقاً بوُسْطاك وإبهامك.

كم مرة رددتَ لنفسك وصية “لن” هذه:

من الآن فصاعداً، قبل أن تغادر أيّ مكان، لن تقول: “اَوصوني”؛ لن تسرع، ولن تتلكأ في وداع بطيء تذيّله الالتفاتة، كيلا تنخر مخّك الجملةُ الأخيرة التي تفوّهتَ بها ولم تُصِب؛ ستقلّل ابتساماتك، ولن تبتسم حين تفكّر؛ لن تتلعثم إذا سُئلت عن معارف لا تعرفهم جيداً، لعلك واجدٌ حلاً نهائياً لعسر اختتام المكالمات الهاتفية، وأنت تماطل وتحتار وتسكت؛ لن تؤكد بالهمهمة متابعتَك لمجرى أيّ حديث؛ مهما أسهبت، أو اقتضبت، أو صمتّ، لن تقول لجليسك: “ألمْ أضايقك؟ ألمْ أضجرك؟”؛ لن تستخدم: “على قدم المساواة” ولا “على جناح السرعة”؛ لن تحكّ كالبُلَهاء قمّة رأسك؛ لن تشكر البقالين، ولا عمال المطاعم؛ لن تُحيّي أصحاب المحلات، ولا سائقي سيارات الأجرة؛ لن تكرّر أي رجاء؛ لن تدسّ يدك بين فخذيك على الملأ كسائقي الشاحنات؛ لن تؤجّل نهوضك عن قساوة المقعد لتنزل من باص النقل الداخلي حتى تنتهي أغنيةٌ ما على إذاعة “صوت الشعب”…

تجنَّبْ ما يلفت الأنظار: لا تقرأ في السرفيس. لا تحملْ حقيبةَ كتف. لا تطِلْ شعرك. حذارِ أيّ لفظ يتواتر أثناء حديثك فتوصَم به في غيابك كأنه عرّة تقلّص خدّك رغماً عنك، أو أي لازمة من قبيل: “صدقاً” أو “فلنكن واقعيين” أو “وما إلى هنالك…”. لا تقضمْ ما يتقشّرُ من جلدٍ ماتَ حول أظافرك. تذكّرْ أن تشرب عصيرَ الجزر هذه المرة، لا عصير البرتقال عند جار “أبو شاكر” (ستوصيه بالجزر الأسود الذابل. الذبول يزيد الحلاوة. تؤكّد على طلبك مرتين لأنّ عمال محلات العصير مدوَّخون بصخب الخلاطات، كما تخدّرهم روائح الفواكه. تفاجئك برودة أيديهم حين يناولونك بقية النقود، الباردة أيضاً).

على رسلك. دع عنك هذا النُّصْح الطنّان. استهترْ. حاولْ. كرّر المحاولة. أثناء قدومك، كنتَ تتملّى لوحاتِ المركبات، وأسماءَ المدن النافرة في حديدها، وهل تتبع “الشرطة” أو “الجيش”، ثم نبشتَ جيوبك، فاختفى غرضٌ ما لم تتذكره. ماذا فقدتَ مرة أخرى؟ لا تلتفت. انسَ أنك قد ترمي إلى القمامة شيئاً ثميناً، لستَ تعرفه ولا تملكه. كيف لا تجرؤ على رمي قصاصة علبة السجائر إلى سلة القمامة، إذا كانت خاوية لم يرمِ أحدٌ فيها شيئاً قبلك؟ لماذا تحتفظ بعقب سيجارتك؟ أتخافُ أنْ يتهمك أحدٌ بفعلٍ يمارسهُ الكثيرون من دون أدنى تفكير؟ تحارُ أين ستضع العقب. تنصبه على الطاولة ريثما ينطفئ من تلقائه، ثم تواريه جيبك، المحشوّ بمناديل اهترأت، لن تنساها هذه المرة عندما تغسلُ بنطلونك المخمل الذي حالَ سواده. الحزوز على ركبتيه أشدّ لمعاناً كسكك الحديد، تشي بأنّه قد شارف على الاهتراء.

 أسامة هابيل: “همزتان”، حفر ميزوتينت على نحاس، مطبوعة على ورق هانيموله، 20×35 سم، 2025

لا تحدّق في جيوب الآخرين، فأنت مَن سيسدّد الثمن. مرتبكاً قدام الباعة والأصدقاء، تحشر النقود في جيبك على عجل، فتتجعّد كأوراق المهملات قبل رميها إلى القمامة. وبالٌ تصرّفك هكذا. لن تصبح ذا مالٍ أبداً.

واحدٌ من أسرارك، الآن، محتوياتُ جيوبك:

بطاقة “المهندس ماجد شيخ ورق، الإلكترونيات الطبية، برج دمشق، الطابق 13″؛ وصفة طبية “سيتو كودائين” للسعال، رفضتْ الصيدلانية أنْ تصرفها لك، لشكّها بتزوير الختم؛ صورة مقتطعة من مجلة فلسطينية قديمة: ياسر عرفات أو تمثاله الشمعي، مع خبر “النمل ينبع من عيني طفلة إيرانية”؛ صورة لنقولا زيادة في صحيفة لبنانية: “قرن كامل من العطاء، المواظبة على القراءة وقاية ضد الألزهايمر”؛  تذكرة غير مستخدمة للعب بكرة الطاولة في مدينة الجلاء الرياضية؛ وصل تبرّع بخمسين ليرة للمحاصرين في غزّة؛ رقم الهاتف الأرضي لفتاة صادفتها مرة واحدة، بائعة لدى محل “سراب للشموع” في حمص، بجانبه تعليق: “فتاة حزينة كالفضّة”… بطانة جيوبك من قطن، طرية بيضاء. تغتبط بنصوعها. تتمنّاه لوناً لأعماقك، إذا استطعتَ أنْ تفرغها، ثم تقلبها لتشبعها هذا الهواء الساطع، مثل الأغطية التي تتدلّى من نوافذ الطلبة في نهارٍ مشمس.

عمال لا تعرفهم يَجْلون كؤوس الأمس. يصفّفون المنافض، المعدنية المربّعة، في أعمدة تميل ولا تنهار. إنهم أقرباؤك الكُرد على الأرجح، كادوا يستأثرون بأشباه المهن هذه. تقاسموا صناديقَ مسح الأحذية وعربات العتّالين. أسرفوا مثلك في الشُّكر والاعتذارات.

معِدّ القهوة والشاي يراك من كوّته ولا تراه. لن تنادي العامل العفرينيّ، الجابي بشاربه الكثّ، المصبوغ في كهولته الصلعاء. لا تفهم لهجته جيداً. سينهض من وراء برّاد ببسي كولا، ويجيئك من تلقائه ليتشمّم إبطك. سيتفرّس مُتعَباً في وجهك. كرديٌّ مثلك. سيتعرّفك من دم قسمَاتك، ودُكْنةِ ثيابك، ورطانةِ لُكنتك. سيلتصقُ صوتك بحلقك، أو سيتناءى عنك ولن يشبهك. ستُبطئُ من استعجاله وتُغلِظه لتوحي بالرزانة، مصفّياً وضوحه من ارتجافات قلبك المتسللة إليه.

صوتك مجرّح قليلاً. ربما حبلاك الصوتيان مشقّقان كشفاه العطشى. مَن تكلّمه يتشنّج وجهه، وتمتدّ يده لاإرادياً إلى أذنه. لا بدّ أنّ الصمت الطويل قد غيّر صوتك، فصار أحدَّ مما مضى، كأنّ في داخله دولاباً يتزحلق على الجليد عند الضغط على المكابح. ربما هناك مراهقة محبوسة في حنجرتك، تفشل في تقليد أسمهان حين قلّدت الطيور، أو طفل معاقَب في وجهك يُحْني الندمُ صوتَه وعينيه، فيعاقِبُ بالصمت مَن عاقبوه. يحيّرك تفاوتُ نبراتك. ليست لك نبرة واحدة تناسب جسدك الذي يخشى شيئاً لا تعرفه. إذا نطقتَ سمعت صوتك أقرب إلى وشوشة، مثل صفحة يقلبها موظّف في دار المحفوظات، أو أقرب إلى حفيف مثل النقود الجديدة في اليد الخشنة لفلاحٍ مديون. صوتك غريبٌ عنك. يتردّد صداه داخلك، لا حولك. لا تريده هدّاراً مبحوحاً، لائقاً بالمذيعين، ولا رخيماً تقطر الكلماتُ منه كالدسم الذائب، ولا رقيقاً، مرتجفاً، هامساً همساتِ العشّاق والجواسيس. تريده واضحاً (إذْ قد يتلجلج حتى في نطق جملة واحدة)، كي تتمكّن الآن من مناداة النادل، عبر هذا الفراغ، طالباً كوباً من الكمّون الساخن بالليمون، مشروبك العكر كماء المطر في بركة موحلة. ستدفئ به يديك قبل جوفك.

تلوّح للنادل تلويحة واحدة، كأنك تودّعه، مع محاولة ابتسام. ستكتب طلبك على قصاصة، لأنك لا تستطيع أن تتكلّم. ألا يدوّن المحتضرون رغباتهم الأخيرة هكذا، إذْ يطلبون بصمت، قبل مغادرة العالم، كأسَ شاي أو كوب عصير؟

ستفقأ كرةُ صوتك فقاعةَ صمتك. لهجتك لغةٌ مخرَّبة، هجينٌ مضحك، إدانةٌ دامغة. فصاحتك تخصّ خيالك وحده. تباغت نفسك. بزاوية عينك اليسرى تسدّد على ساعة الحائط البيضاء طلقةً من مسدّس خيالك، لأنك تخشى تجسيم المسدس حتى بأصابعك. قلّما سدّدت ضدّ ما يحيط بك ما تستطيعُ تسديدَه ضدّ نفسك. تلقائيتك الوحيدة بينك وكلماتك. لن تنبسَ، إذْ لا تجد ما تقوله حتى لنفسك – فقدانُ الثقة، فالسكوتُ، فالملَلُ، فالرهبةُ التي لم يتناسب حجمها يوماً مع حجم مُسبّبها، المبْهم في جلّ الأحايين: الرهبةُ من صِلاتٍ لن تتمتّن مع الآخرين، الرهبةُ من تضاعفاتِ الرِّيَب التي ستكتنف مَنْ يخالطك…

أطلتَ التحديق بالجمادات والنباتات فأعدَتْكَ بِصَمتها. رأيتَ بصماتِ نعال، إمضاءاتِ مراهقين، خربشات من مخالب قطط وحمامات… مطبوعة على الإسمنت، تيبّست مع تاريخ ذكراها. لاحظتها لأنّك مُطرق غالباً. لم تكن إطراقتك طأطأة ولا طمعاً بما سقط سهواً من أيدي العابرين وجيوبهم. أينما نظرتَ، كيفما تلفّتَ، ثمة ما يجلّلك بالخزي. يخجلك ما لم تفعله. وإذا ما رفعتَ رأسك قليلاً، توقّعتَ بصقةً تنقذف من السماء لتلتصق بمنتصف جبينك.

أنت منتهكُ ما تجهله، خارقُ قانون لن تفهمه، غالباً على قدر من الخطأ لا تتبيّن حدوده. لا يزول الإحساس بأن هناك شيئاً آخر يعنيك في الصميم، على مقربة منك. واقفٌ على مشارفه، لكنك لا تراه، ولا تعرفه. مُفلتٌ منك، مهما انتبهت. ربما هو ما ينقصك، أو ما تركته دون أن تنجزه، حتى لم يتبقَّ وقت للرجوع وإنجاز أيّ شيء سوى الصمت. لن يتبقّى سوى الصمت لإيجاز كلّ شيء.

يعاودك الإحساس بأنّك تأخرت، مثل حافلةٍ في منام تقلع بالضبط آنَ وصولك إلى الكراج، لاهثاً حافياً في الزحام. هناك دوماً خطوة ناقصة. هناك دوماً ما يجب القيام به على الفور في اللحظة المواتية: مزحة، أو اقتباس، أو إسعاف جريح… هاجس التأخر يعضّ قلبك من الداخل.

لا نأمة، مهما ضؤلت، تخترق زجاج هذا المقهى. ربما ذبذباتُ راديو بعيد يستعدّ مذيعوه على الهواء لنقل مباراة كرة قدم من الدوري المحلي (لا تزال تقول: “تفرّجت على مباراة في الراديو”، أو “شاهدتُ مسلسلاً إذاعياً”)، مطرقة خشبية تضرب سكّة الكزيلوفون، الجلبة المكتومة لمكنسةٍ كهربائية، رنينُ هاتف وانٍ لا يردُّه أحد، رنات الميكرويف الثلاث بعد الانتهاء من تسخين خبز بائت لفطور رجل وحيد في واحدة من هذه الشقق. تلمح ثغرة يخلقها النسيم ويسدّها حين يحرّك ستارة بترولية اللون، في نافذة بالطابق الثاني، على الجهة المقابلة من الشارع. لعلهم مضطرون إلى التهوية. ستارة أخرى تركوازية، تتماوج كثنايا التنانير أمام خفاء معتم، تنتفخ كجفونك، ولا تُزاح. لا بدّ أنّ دفء ذلك المنزل يسرّع تيار الهواء في هذا الصباح البارد، الساكن.

بغتة تزرقّ الستائر، كأنّ السماء الصافية تحاول الدخول عبر كلّ النوافذ معاً.

 أسامة هابيل:“قطعة من مقبض باب”، حفر بالضوء على ورق هانيموله، 22 x 37 سم، 2024

لو تهبُّ زوبعة فتلصق بجبينك قطعة نقود وحيدة لا تبلى ولا يستهلكها الشراء، بعثتها لك السماء هديةً على صبرك؛

لو تستلقي على بطنك، فوق فروة كبش، قرب مدفأة أولمر، فيدوس طفلٌ ميزابة ظهرك، يعجن آلامك بقدميه حتى تطقطق فقراتك، من الوهدة في الأسفل إلى التلعة بين الكتفين، حيث ينكس الوثّاب؛

لو تنقل عشّ الزراقط من زخارف المنارة في جامع ابن عربي إلى ثغرةٍ بين الأشواك في سور قلعة دمشق، فتستفيق تلك المخلوقات ساحرة الطنين من سباتها الشتوي بجوار قبر صلاح الدين، وتطنّ أجنحتها حين تحوم، منذ انبلاج الفجر، حول تنكات التوت الشامي، وفوق قطرات عصيره الدامغة على درج النوفرة، وراء الجامع الأموي؛

لو مئذنة الشحم قطّارةٌ لرمَد عينيك؛

لو تهشّ البعوض برفق، وسط الصفصاف، وأنت تنزِل المهودَ الفلكلورية الفارغة، المعلقة إلى الحبال فوق قناة بانياس، بين المدابغ وجامع أبي الدرداء، وتصفّفها في الممشى الحجري (الخالي عادة، أحجاره رمادية لامعة، مصفوفة وزلقة كالصابون) منتظراً أنْ تدهسها السيارات فتسمعها تتهشّم، فيما أنت جالس في الحديقة البيئية تحتسي خلطة العطّار للنفخة والغازات؛

لو يلتقط لك المصوّر الجوّال العجوز، بكاميرته البولارويد، صوراً فورية عند فندق سميراميس الذي لم تدخله أبداً، فتقف في مساء من مساءات حزيران، ونظرتك على خطّاف واحد فقط، وسط أسراب زرقاء سريعة من خطّاف المخازن، تحلّق على ارتفاع خفيض فوق زحام السيارات، لأنها لا تزال، عند كل رجوع، توازي في طيرانها مجرى بردى، رغم أنه مسقوف بالإسفلت. جمود وقفتك، استعداداً لالتقاط تلك الصورة المشتهاة، تذكّرك برجل في نوبة جامود شاهدته بأمّ عينيك يتخشّب هناك، أصمّ عن زعيق السائقين وأبواقهم والشتائم- قدمه معلّقة في الهواء، كأنّه تمثال شخص يمشي، لأنه لم يستطع أنْ يكمل الخطوة التالية اللازمة لقطع الممشى، عند إشارة المرور، بين جسر فكتوريا وفندق سميراميس. كان ذاهباً ليشاهد فيلم جاكي شان في “سينما دمشق”، وكنت أنت عند كشك الشائب العابس مطانيوس جبلي، حائراً أي مطبوعة ستنتقي: مجلة “المضحك المبكي” أم جريدة “الكلب”؟ أحياناً، يدهمك الصمت بين كلمتين، كهاوية تنفتح بغتة فلا تستطيع اجتيازها دون الوقوع فيها، فتقول: “والله…” ثم تعجز عن إكمال ما تبقى. صبيحة اليوم التالي، كانت الحادثة قد لخّصت، خبراً دون توقيع، في زاوية “صورة اليوم” من صفحة المنوّعات لصحيفة “بلدنا”: “أمس واليوم وغداً، ما أروع العيش لو أنّ الفتى حجر”. الأشدّ مضاضة أنْ تتحجّر ويبقى ألمك، خفياً ولامعاً كعرقٍ من البلّور. أصابعك تتقرّى في خطوط بشرتك نقشاً مبهم الخطوط. ربما أنت حجر ألمك.

 أسامة هابيل: “مدخل”،  حفر بتقنية القلفونية و الماء القوي على نحاس، مطبوعة على ورق هانيموله،22×30 سم، 2025

ستعلّق، فوق تمثال يوسف العظمة، هلالاً شائباً كرموش الفرّانين؛

ستضع أمامك حجراً من أحجار الرصيف، المربَّعة المخلوعة، وتلعب الداما مع نفسك؛

ستجعلُ مكانَ سيارات “سابا” الفارسية حناطيرَ تجرُّها البغال، دوابّ أهَرَّ القيظُ أو الزمهريرُ وبَرَها على خشُونةِ الحيطان، تترنّحُ تحت أثقالِ الفجل والخسّ. لن يسع الطريق إلا رتلاً واحداً من السيارات، بعضها مكشوفة السقوف، وأبوابها تنفتح بالمقلوب، فيما أنت تداعب البياض الخشن كالطباشير حول أنوف حمير قزمة، وبرها دافئ كاللبّاد؛

ستُركِب الشرطةَ أحصنةً مُطهَّمَةً مع أكياسٍ لتلقُّفِ روثها، فقد يُسمِّدون به الدوالي في الفيلات الغربية؛

ستوسِّعُ هذين الرصيفين، وتزرعُ فيهما مقاعدَ من صوّان لا يتوسّخ، يتدفّأ جُلساؤها ليلاً على نيران الأشواك النابتة في شقوق السطوح، جاعلاً فوق كلّ مقعد على حِدة سحابةً منشورة، وسحابةً أخرى تُحاذي خُطى كلّ مَن ينهضُ ويمضي؛

ستدرزُ هذين الرصيفين بأشجارِ أكيدنيا هرمة ترفع جذورُها البلاطات وتشقّق الإسفلت وجدران المباني؛

ستنقل، من مدارس أبناء الشهداء إلى هذا الشارع، أشجارَ أرزٍ سامقة تلامس ذُراها نوافذَ الطوابق العليا؛

ستعلو قربك سروةٌ وحيدة، يجيئها مُطقْطِقاً بجانحيهِ عند المغيب لقلقٌ وحيد؛

ستشتري من باحة الشموع الساحرة، وراء سوق الصوف، شمعة ثخينة شاهقة الطول، مخصصة لمذبح الكنيسة عادة، ستخصصها لانقطاع الكهرباء؛

ستتراصّ العصافير في اصطفافاتها على أسلاك غسيل الشرفات، دون أنْ يجفلها مرورك؛

سترفرف مئات الغربان عن الأشجار المعمّرة للمتحف الوطني، فيبقّع ذرقها الورديّ الرصيفَ، والمناضدَ الخشبية الخفيفة لباعة اليانصيب وتغيير بطاريات الساعات، ومقاعدَ الدراجات الهوائية، الموثقة بالسلاسل إلى السياج الأزرق لنزلة جسر الرئيس، ثم تُغِير غربانك على محلات الإكسسوارات والمجوهرات، التقليدية منها والحقيقية، بمحاذاة مقهى المدّعين هذا، فتنهبها وتريحك من دمامة البريق، وتفجّر بمناقيرها بالوناتِ القلوب المنفوخة احتفالاً بعيد العشّاق، ثم تطير عائدة إلى أعشاشها وفي مناقيرها مقابض أبواب نحاسية سرقتها من محلات هذا الشارع فتتوهّج، عالياً بين أشجار المتحف، عند غروب الشمس؛

ستخلع المحجّبات حجابهن الكحليّ، متين التثبيت لا تفلت من حدوده شعرةٌ واحدة، فارداتٍ شعورهنّ الكستنائية الطويلة داخل غرف دافئة، حائرات أين سيعلّقن مناديل رؤوسهن، وبدلاً من المشاجب وراء الأبواب، ستدقّ لهنّ في الجدران مساميرَ مصنوعة من شعاع قمر، هنّ دمشقيات رقيقات البشرة، ملساوات، الابتسامة تثلّم خدودهنّ بالغمّازات، أسنانهن مسيَّجة بأسلاك التقويم، بيضاوات يستحممن بالحليب، ويُزِلنَ شعرَ سيقانهنّ بدماء الخفافيش، مرِحاتٌ، منتوفات الآباط، ترتجف خدودهنّ ارتجافاً ناعماً حين تطرق كعوب أحذيتهن أدراج المهاجرين؛

سيشقّ خيالُ تعبك بين المباني الملتزَّة شارعاً مختصَراً تتجرجر فيه قدماك المكدودتان (تحبّذهُ مستقيماً، لسبب وحيد هو أنّ الاستقامة أقصر ما يختزل المسافات، وإلا فمشتهاك الدروب الملتوية)، ثم تُثْني برجَ طلاس فوق بناء يلبغا (الواقف كتهديد دائم بالانهيار لتدمير المستشارية الثقافية الإيرانية)، ثم تسند البرج بريشة عنقاء، بنفسجية عملاقة، أنت الوحيد القادر على تطييرها بنفخة.

تفتقد صديقتك. لم تنسَ كابوساً روته لك: ثلاثة أطفال زرق العيون يحشرونها داخل درع السلحفاة الحجرية في ساحة الألعاب بحديقة الجاحظ، ثم يهربون. لم تلمحها في سرفيس “الميدان” تلمحك، واقفاً عند “نبيل نفيسة” وصحن المدلوقة الورقي في يدك، فأرسلتْ لك SMS : “صحتين!” فيما لقمة القشطة بمبروش الفستق تذوب في فمك. انفجرت أمّ دم داخل رأسها. كان انفجارا صغيراً لم يسمعه أحد، ولا شهود عليه. حتى هي، مَن كان مخّها مكانَ الحدث، لم تتذكّر ما جرى في ليلة حبّ. لكنها بعد الخروج من الغيبوبة، سمعت النوافير الثلاث التي درجت على سماعها تسقسق في هنيهات الهدوء النادرة، حين تهبط مشياً تحت أشجار الجاكارندا، من مصاطب حديقة خورشيد إلى حديقة تشرين، ثم رأت من نافذة غرفتها في مستشفى الحكمة، شمس الخريف تذهّب رؤوس الشجر، ولأيام لا تُنسى، كالعائدين بعد ما مُحيت ذاكرتهم، ظلّتْ ترى كلَّ ما حولها جميلاً، حزيناً، مشعّاً باليأس.

لامتناع أيّ حلّ، تفكّر بحامل الراديو الصغير في شارع الملك فيصل، إبرة الموجات واقفة عند بثّ مشوّش على الدوام، وحين يسمع فرقعة بين الذبذبات والخشخشة، ينادي: “إنها تمطر في مكانٍ ما!” وحده من يرى بروقاً في السماء الصافية. يرفع لاقطه ويحرّكه في الهواء حركاتٍ مروحية كشبكة الصياد لتصفية الإرسال، في ذهابه وإيابه الدؤوبين بين مطعمي الخوالي ونارنج، ثم يلصق منخل مكبّر الصوت إلى أذنه ليستلم رسائل الموتى، المرسلة إليه من كواكب أخرى، يدوّنها بحذافيرها تحت شجرة الكبّاد في حديقة القشلة، على الوجه الخلفي للفافاتٍ من تخطيطات قديمة لقلوبٍ مات أصحابها (للوهلة الأولى، ظنّ تعرجاتها المسنّنة تخطيطات زلزال)، لكنه لا يستطيع قراءة حرف واحد مما يكتب، لا لأن الموتى يتكلمون باللاتينية أو بلسانٍ من ألسنة ما قبل الكتابة، أو لأنهم يكتبون بالمسمارية أو الهيروغليفية أو بأبجدية أخرى غير مكتشفة، بل لأنهم يتكلّمون الأرمنية، “الموتى كلّهم يتكلّمون الأرمنية”، كلماتهم موجّهة عادة إلى مَن لا يفهمها، مختارات من كتاب لا ينتهي، ولن يظهر إلى الوجود أبداً لكيلا يزعجوا أحداً بما فيه (قرأت هذا الخبر في مجلة “شبابلك”: “بائع نظارات في القصّاع يستلم رسالة من جدّه ديكران الثاني ملك الملوك”).

 أسامة هابيل: “قنطرة”، حفر ميزوتينت على نحاس، مطبوعة على ورق هانيموله،25×35 سم، 2025

الليل فكرتك، والضوء خالقُ عينيك. العالم مملكة الشمس. لا إلهَ إلاها. ربما عبدها أجدادُ أجدادك لأنها أعمتهم أولاً. هذه السنة، أبكرتِ الخضرةُ بضعة أسابيع. “الدنيا ربيع، والموت ما بي”- لا تزال تسترجع هذا المثل السائر بين بدو الخابور. فهمته بالعامية في صغرك: “لا موتَ في الربيع”، والآن تفهمه بالفصحى: “الموتُ ما بيَ في الربيع”. تستلفت نظرك ورقة كينا، ربما بزغتْ هذا الصباح، لصق الجذع في حوض شجرة الدلب على هذا الرصيف، فلم تتشرّبْ بعدُ دخان السيارات. شفّ احمرارها، برغم كتامتها. وريقة غضّة كبرعم في أوّل انشقاقه عن تويجات وردة. غبطة كالبرق، فكيف تُصان؟ لغتك، قدامها، الحيادُ أو الشلل. تلزمك لغتك كلّها لوصف ورقة. خيالك جدول ضحل، تمشي فيه حافياً، مشمّراً بنطلونك إلى ركبتيك. إنه مرصوف بأحجار الكلمات- ملساء، مزوّاة، قليلة الألوان. تحبّ الكلمات. تُهتَ معها كل هذه السنين، وكلما انجرحتْ كلمة تحبّها تبرّعتَ لها بالوقت والصمت. لولاها، كيف يُستعاد ما مضى؟ من الزمان كلّه، تتبقّى هذه اللحظة، وها قد مضت. مذهولاً، تحار كيف ستصف ورقةً أينعت، تحت شمس هذا الصباح، في غير مكانها. من جديد، يعجزك العثور على الكلمة المناسبة. أيّ النعوت سيلتصق بها كلصاقة سعر تصعب إزالة دبقها؟ “نقية”؟ “النقاء” صفة ثقيلة تكاد تسحقها. “خفيفة”؟ “الخفّة” أوقح مما تطيق، لا لأنّ الوسِخ أثقل من النظيف، ولا لأنّ البراءة أخفُّ من الذنوب، بل لأنك تستفظع هذا الشرخ المباغت بين لحظتين متتابعتين كلتاهما نقيضُ الأخرى. هذا الشرخ هو فمك. سيّان ترقرق كلامك كالنبع، أو نزّ كالصديد. سيان كان الوسخُ هو الأصل أو الإضافة. يفنى الشكل، وتبقى المادة. تذهب الكلمة، ويبقى الضوء.

ستخرجُ من هنا إلى مسرحِ الحمراء لترى من بعيد، مرة أخرى، الرجلَ الملتحي، ذا النظارة السوداء والشعر الأسود المستعار، البالغ كتفيه. لعله الحارس في رواق ذاك القبو، قبالة نادي الضباط. رأيته مرة، في حلمٍ نسيتَ معظمه، شممتَ فيه عرق الممثلات الهاويات، وهن يتدرّبنَ، ككلّ صباح، على بروفات مسرحية “الخادمات”. أطْعمنك في شارع الفردوس، كما حلمتَ فجرَ أمس، ثمرةَ صبار غير مقشَّرة، مثلّجة ومنكّهة بالريحان، رُحْنَ يدفشْنها برأس مظلةٍ في فمك، حتى انغرزت الأشواكُ الدقيقة في بلعومك. أفقتَ على شذى الريحان في أنفاسك، بدلاً من لعاب السجائر المرّ.

سترى في سينما الزهراء، كما تشتهي، ملصقاً قديماً لثلاثية ساتيا جيت راي “آبو” إلى جوار “الغرانيق تطير” في لوحة الإعلانات، فتودُّ لو عشتَ في فيلمٍ بالأبيض والأسود عوضاً عن حياتك.

ستزور صالة السيد. قد ترى، من نافذتها الواسعة، راهبةً خفيفةَ الخطى، سوداءَ الثوب بيضاءَ الِخمار، تفتح بوابة المستشفى الإيطالي. لكنك تحضر المعارض في خفَر، واستفسارك لاهٍ، أيها الساذج الذي لا يزال يتساءل حول المعنى: ما هي المدةُ التي يقتضيها الوقوف أمام أيّ لوحة؟ فلو أسرعتَ استخففتَ، وإذا تباطأتَ وأنعمتَ النظر استحمقوك.

مرة، خلَتْ لك القاعة في صالة أتاسي، فكتبت في دفتر الزيارات تعليقاً مذيلاً بإمضاء “عابر سبيل”، ثم أضفت، في زيارة ثانية إلى المعرض نفسه، أسئلة عديدة قصيرة، مع اسمك وعنوانك، موجّهة إلى الفنان الذي أجاب عنها برسالة مكتوبة بخطّ يده- عشرات الصفحات غريبة التفاصيل، فاجأتك حقاً حين وصلتك إلى بريد الجامعة.

 أسامة هابيل: “همزتان 2″، حفر ميزوتينت على نحاس، مطبوعة على ورق هانيموله، 20×35 سم، 2025

تمسح صدغك، كمَن يلاعب طفلاً يوهمه بالمصافحة في البداية، ثم يرفع يده، مغيّراً الوجهةَ في اللحظة الأخيرة، ويمرّرها على صدغه. مشطك أصابعك، نصفُ المنقبضة. التجاعيد على براجمها كغضون وجهك. تتملّاها فتتذكّر أنّ الموت حقّ. يتشابه انقباض الأصابع في الراحة وفي الموت، كأيدي المتسوّلين يستعطون صدقة بضع ساعات من ملاك الوقت (أهو نفسه عزرائيل؟)، أو يستعجلون رحمة النهاية. تعتصر يدك وتهزّها، خانقاً الهواء فيها. لا تصميم في قبضتك. يدك وسخة، متشنجة كأيدي المرغمين على الوقوف أمام الكاميرا. فكيف ستسرّحُ شعرَك الآن؟ مِن أجل من؟ كنت تقول: “لا يكفي الشمّ لمحو الشكّ. تذكّر بعينيك تتطهّرْ”، ممعناً النظر في رغوة يديك، لتتذكّر كيف تلاشت فقاعات الصابون واحدة تلو أخرى. كنت تتنظر انصراف السرفيس الذي قفزت عن مقعده مبقور الإسفنج، لتتفقّد ما يمكن أن يكون قد تبقى وراءك (من بقايا السهو أو قمامة غيرك، منديلاً منسياً أو قشور فستق العبيد، أو رقم هاتف على قصاصة ورق…)، مختلساً النظر إلى فراغك الذي يبتعد عنك. كل فراغ مشحون بقلق العودة. كلُّ فراق وعدٌ بقلق جديد. أنت تنظف غيابك بنظرة وداع. يؤسِفك أنّ النظر أخذٌ لا عطاء. مرادك نظرة أخرى تعطي ولا تأخذ. تريد ماضياً مستحيلاً لا يمكن أن تضاف إليه لحظة واحدة. تريد ماضياً فارغاً، مسحته فعلاً برموش العين، أيها المتلفت كآخر راكب على رصيف محطة غادرها جميع الواصلين.

ترمقك عينان من سيارة عابرة فيختلّ مشيك. تتلكأ وتعرج قليلاً. هل إحدى ساقيك أقصر من الأخرى؟ يلازمك ظلُّ النظرة من الخلف بضع خطوات. يضطرب تناغم مفاصلك. تتجمّد على شفتيك بسمة مصطنعة، لا تدري سببها. تستفزّك، قبل أنْ تستفزّ غيرك. تطول ذراعاك، متأرجحتين كالأذرع الطوال لدمى القماش. تنظر إلى ظلّ رأسك على الرصيف. جمجمتك زورقٌ أخضر، أو برجٌ أزرق. مرآتك ظلُّك، أمامها تسوّي تسريحتك إذا شعّثتها الريح. مرآتُك الزجاجُ الظليل لدار الكتاب المقدّس ذات الأبواب الخشبية، مرآتك نوافذُ ملهى الوسيم، القاتمةُ في شارع 29 أيار… رأسك لا يناسبُ جسدك – صغير، أم أكبر من اللازم؟ تدقّق رؤوس العابرين خلسةً، مقارناً حجومها بجسومهم.

تقزّمك أعمدة المصابيح، وأشجارُ الفلفل المستحي حين تمرّ تحتها، مفرّقاً بظاهر يديك غصونها المسدلة كالصفصاف الباكي، وحين تفرك بين راحتيك بضعة من أوراقها وعناقيدها تُثمِلك الرائحة كالتربنتين.

يا ضئيل، يا من تُراز بنظرةٍ سريعة، ضآلتك لا تكفي للتواري عمّا يهدّدك. تخفض ناظريك لتقيس ارتفاعك عن الأرض. تقيس سماكة صدرك، لتتحقّق من أنّ له ثلاثة أبعاد، ولستَ صورة تمشي. تشدّ ظهرك. تسطّح بطنك بنفَس عميق تحبسه. منكباك متهدّلان. أيّ وزرٍ سترفع من كتفك اليسرى إلى كتفك اليمنى لتتوازن الكفّتان كميزان الذهب؟ تحاول أنْ تقوّم اعوجاجَ إليتيك غير المتناظرتين، تقوّسَ ساقيك، تفاوتَ نهديك في المستوى والاكتناز، ميَلان خطّ الشعر في منتصف بطنك. عيناك أيضاً ليستا متناظرتين، مثل دائرتين سوداوين صغُرَتا في جناح فراشة ميتة.

المشي المتواصل احتجاجٌ مبهم، تبديدٌ للإخفاقات. قد يمدّك بحلٍّ ما.

ستقصد شوارعَك المنحدرةَ الأثيرة: شارع المتحف الوطني، الفسيح بهوائه الوضّاء، أو شارعَ الحلبوني، حيث عبرت تحت نافذة غرفة استأجرها صديق لك لم ترَه مذّاك قطّ، وحِرتَ جواباً إذْ فوجئت بصاحب مكتبة يسألك عن أحواله.

ستقفُ فوق جسرِ الثورة فجراً، في منتصفه حيث تهبّ الريح باردة ومفاجئة تجمّد جبهتك رغم سكون الهواء، فتكاد تنبطح كمن حيّرته جهة قدوم الطلقات في العراء المفتوح لحقول الرماية. تستهويك المصطنعات التي تُصمَّم لتخطّي العقبات ثم تُنسى غاياتها، مثل الجسور فوق الأنهار والطرقات. في منتصف جسر الثورة، فتحت يدك كأنك رامٍ، إلى عرض شارع الثورة، شيئاً ما يصعب تخمين طبيعته. كان هذا، فيما مضى، مؤشراً ليبدأ صديقك، بكاميرا “نيكون”، تصويرَ صديقكما الآخر وهو يقرأ الجريدة، ماشياً بين السيارات، ملتهماً تفاحة بأكملها مع بذورها، في واحدة من جلطات المرور الصباحية.

من فوق جسر الثورة، سوف ترى بعينيك الثاقبتين جسرَ الربوة، في ذاك الأوتوستراد المستقيم الذي يعلو بجانب “مقهى الشرق”، حيث تتفرّج أحياناً على مباريات شطرنج الحكمُ فيها بطل الجمهورية عماد حقي (يُمتِعك لمعانُ الخوذ النحاسية على رؤوس البيادق كأبراج الكرملين) من خلفك سوق الحرامية أو سوق الدراويش، إلى يسارك أشباح العصافير والأسماك التي تلاشى سوقُها في القرماني (لا تزال تراك من هناك، ساكنةً في الهواء والماء)، إلى يمينك البحصة حيث لملمة البسطات وضبُّها سريعًا في مداهمات الشرطة، مثل فكّ البارودة الروسية وتركيبها في دروس التربية العسكرية، وأنت تقرأ عن بعد، وسط المتجمهرين أمام باصات جمرايا، المكتوبَ بخطّ اليد على قطعة كرتون سمراء، بين الأفلام المقرصنة: “غسان مسعود بطل “قراصنة الكاريبي”، صلاح الدين في “مملكة السماء”. لم تشاهد كلا الفيلمين. تتشابه أسماء المؤلفين على بسطات الكتب المستعملة، عند خروجك من نفق الثورة. ربما بسبب انزمام جفونك، في الضياء القوي ودخان المواصلات، يختلط عليك فلوبير وموليير وفولتير، سوينبورن وساندبرغ، كالدويل وكارليل وكلوديل، أبناء الرحابنة وأحفادهم…؛ وعند زاوية ساروجا، حيث يعلّق باعة كتب آخرون بضائعهم إلى سياج جامع “ستّ الشام”، يستوقفك “نوح حزين”، اسم مترجم “قلب الظلام”، ثم يتحوّل وجه دافنشي إلى وجه تولستوي (برغم العبارة الصريحة: “إذا كنتُم تثمّنون الحرية، فلا تبوحوا بالسرّ: وجهي سجن الحب”)، وتحت ابتسامة نزار قباني، على الغلاف المقوّى لأعماله الشعرية الكاملة: “قصائد كانت ممنوعة. هل مات شاعر العصر مسموماً؟ فنّدوا الإشاعة! بعد أعوام على رحيل الشاعر الكبير، لا يزال صندوق بريده في بيروت يفيض برسائل المعجبات المجهولات”… حتى تنتشل عينيك، من هذا الشواش، قبةٌ ذهبية تشعّ في أحد الملصقات. قبة الصخرة. تطابقها بالليمونة في يدك. تشمّها، صاعداً في الزحام درجَ الجسر الحديدي. مَن قال إنّ “نصف ليمونة قبةُ كاتدرائية”؟ انسَ، ثم انظُرْ. سيعفّن الوقتُ ثمرتَك الذهبية، فتخضرّ كالبرونز في كنيسة سيدة النياح، كالبرونز في تمثال صلاح الدين.

هنا، في مقهى الروضة، لن تلعب الكونكان مع نفسك، مثلما تفعل في غرفة وحدتك، حين تفتش عن جوكر مفقود، فلا تجده، فتنصح نفسك: “كُفَّ عن التفتيش تجدْهُ”. تحلّ “كلمة السرّ” في الجريدة المفروشة تحت صحن عشائك، ثم تتأكّد من عدد أوراق اللعب مرتين أو ثلاثاً، ثم ترسم جوكراً ملائكياً، وتلوّنه. قد تغشّ نفسك في اللعب. تعيد فتحَ الفأل نفسه “فأل نابليون”، تعلّمته عن أبيك في ألعاب الشتاء. تنسى أحياناً أنْ تتمنى شيئاً قبيل البدء، ثم تخصّص لكلّ أمنية ثلاث محاولات، تربط نجاحها بالزوّار الذين قد يسألون عنك، أو يتّصلون بك. تقسم الأوراق نصفين، وتخلطهما ببطء مثل مشطٍ يسرّح شَعْراً ملبّداً. تعاود الكرّة. تخبط ركبتك بقبضتك، متنهّداً. تتمتم بدعاءٍ إلى الله عسى أنْ يغيثك في المحاولة الثالثة، أنتَ الذي لم تصَلِّ قطّ.

سترى، عمّا قليل، السياراتِ الضخمةَ للسيّاح الخليجيين. فارهة، مكيّفة. يقودها أحياناً مراهقون صقَلاء السمرة، شواربهم طرية لم تُحْلَقْ بعد. سترى الأجانب –عجائزَ، أو فتياناً شُقراً- يسيرون راجلين، متنكّبين حقائبَ ثقيلةً تتقوّم بها ظهورُهم وتستقوي، فتقوّم ظهرك الذي قوّسه احديدابُك على الطاولات. أمسِ، بعدما شممت زهور الميموزا في ساحة المدفع، أوشكت تعود أدراجك وتشعل بسيجارتك إحداهنّ، لتتأكّد هل زهرة الحرائق سريعة الاشتعال فعلاً. عناقيدها الذهبية الخفيفة أشبه بكُرات فلين تحمي الأغراضَ الهشّة للمسافرين. كنتَ ترنّ بمفتاحك على قضبان السياج، قبل دخولك حديقة السبكي، حين تظاهرتَ بأنك لا تكترث بجنود الأمم المتحدة وهم يجوبون الشعلان، فيما عافيتُهم أحزنَتْك حقاً.

غداً أو بعد غد، ستمرّ أمام سوبرماركت نورا، حيث أبهتت الشمسُ على زجاج الواجهة لصاقةَ “قاطعوا البضائع الدانمركية”، ذاهباً في المساء لتسمع أجراس كنيسة يوحنا الدمشقي، مستمتعاً ببلبلة نظراتك أمام الكوى المبعثرة على واجهة السفارة اليابانية. مرة دخلتها. صديقك، أحد حرّاس هذا المبنى الخانق، المستفزّ، الغامض، دعاك لتذوق الساكي أثناء الاحتفال بعيد ميلاد الإمبراطور. وددتَ لو رشفته بغصن خيزران، وقدامك صحن أبيض من الماء البارد تطفو فوقه مازّة من براعم خيزران. وددتَ لو داعبت براحتك برميل الخمر، الخشبيَّ الصغير، المغطّى بالقش. وُزّعت أقداح صغيرة، ثقيلة من فخار، منضدة في عُلب من خشب الصنوبر مبطّنة بمخمل كحلي. القدح الأول ساخن، والثاني بارد. سمعت مستعرباً شابّاً، يقول بلسان عربي مُبين:

توضيح لا بدّ منه- لا صلة لخمر رزّنا بالساقي في الخمريات الفارسية، ولا بالقاصّ السكوتلاندي ساكي. شمال أرخبيلنا (في جزيرة ما -ربما هوكّايدو- لم تتبين اسمها حين لُفِظ باليابانية)، كان الفلاحون والصيادون يلعبون بـ “الكلمات”- بين هلالين ( قالها مقوّساً سبّابتيه)، لأن لساننا ليس أبجدياً. ابتكروا لعبة مسلّية من الأشباه والأضداد. فبدلاً من توزيع “الكلمات” بين مذكر ومؤنّث وحيادي، صنّفوها إلى مأساويّ وهزليّ. البادئ بالمأساة يُجاب بالهزل، والعكس بالعكس. فعلى سبيل المثال، الحياة مأساوية. الكرز هزلي. التبغ مأساوي. الموت هزلي… وهلمّ جرّا. أما الفروق والمقارنات فأصعب قليلاً. النجمة مرادف البنفسجة. لماذا؟ لا أقدام لهما. العالم والوردة ضدّان. ضدُّ الخلاص هو الألم. الربُّ ضدُّ العين…

في كراريسِ “الهاشمية” للجيب، كنتَ تدوِّنُ في السر ما يسترعيك، على عِلَله، فقط كيلا تتذكّرهُ لاحقاً. ما استأنستَ بهذه المُلمْلَمات. ما عادت تستدرَّ البسمةَ إذا قلت: “لماذا رميها، فقد تنفعك ذات يوم!” ما أرسيتَ لها أيّ ترتيب. ظننت أنّ ترتيب الألفاظ أهمّ مما تعبّر عنه، ونبرة قولها أهمّ من معانيها، حتى شقّتْ عصا طاعتك لتسخر من حماقاتك، وتركّعك. صارت الألفاظ قدّامك كالعراقيل. ما عادتْ تستحقّ أنْ تنفقَ أياماً أخرى في تنسيقها من جديد، في قراءةِ أحلامٍ نسيتَها، مؤرَّخة ومُعنْوَنة، مُصَاغة جيداً ومحوَّرةٍ بالطبع، إلى جانبِ صفحاتٍ كاملة من الصفاتِ المبتكرة، من المفردات الملتقَطة عشوائياً، من اليوميات المحروقة، أو الممزَّقة إلى نتفٍ شديدة الصغر لئلا يقرأها أحد، حتى لو انتشلها واحدة واحدة من سلة المهملات، ليعيد ترتيبها ويفضحك. آثرْتَ الإحراق، لولا الريبة التي سيخلّفها الرماد؛ إذْ ما المكنونات الخطيرة التي تستدعي هذه الإبادة الهادئة؟

 أسامة هابيل: “قطعة عظم”، حفر بتقنية القلفونية والماء القوي على نحاس، مطبوعة على ورق هانيموله، 30×40 سم، 2025

سيكون مطلعُ الصبح وقتاً ملائماً لزيارة كنيسة حنانيا مرة أخرى، خلواً من السيّاح، أو لزيارة قصر العظم ومدحت باشا اللذين لم تزُرْهما قطّ.

اذهب زُرِ المكتبة الظاهرية، أو متحف الخطّ العربي في المدرسة الجقمقية.

قُمِ انهضْ واستمتعْ بنهارِ الجمعة المشرق هذا.

تملَّ النخلتين العاليتين، في آخر شارع الحمرا، مثل ساقي لقلقين يقف كلٌّ منهما على ساق واحدة؛

اجتزْ، ببضعِ خطوات، الزقاقَ بالغ الضيق الذي قرأتَ على جداره “كسّ العقربة”، بين بنايتين في نهاية الصالحية، وليشرحْ صدرَك شارعُ الباكستان العريض. شاهدِ الألقَ الأسير في قناني “أبسولوت” في محل هاواي (تشدّك نقاوة الكحول أكثر من مذاقه)؛

زُرِ التمساح، القزم عفنيّ اللون مثل شُجيرة بونساي، يزجّي وقته رابضاً بين زجاجات شيفاز، في واجهة “مشروبات كندة”؛

تملَّ الشبابيك الطويلة في الطلياني؛

انظُرِ السيارات مصفوفةً كحشرات نافقة في شارع مؤسسة السينما، الضيقِ والأجمل من إبرة جنيّ، الطويلِ المستقيم في انحداره، الظليل دائماً…

إلا أنك ستبدأ جولةً أخرى لا تقصد في أثنائها أيّ مكان. ستستقلُّ أولَ حافلة حمراء، سُمّيَتْ شركتها “ياسمين الشام”، تمرق بك فتركبها، وهي تتهادى، من الباب الخلفي، دون أنْ تقطع التذكرة. ستستقلّها أياً كانت وجهتها، كاسراً مرة أخرى المخطّطَ الدقيق الذي أعددْتَه لنزهاتك ليلة أمس، قُبيل نومك. ارتسمت الخريطة خلف جبينك الساخن، وأنت تمهّد لخروجك بتخيل المشي فوقها، لكنك أرجأتَ في الصباح الغدَ الذي تهيّأتَ له البارحة. تواصل التهيّؤ لأن عليك مواصلة التهيؤ. تفتتح بعينيك ضياءَ العالم الذي لا ينتظرك ولا يراك، وأنت في الصميم توَّاق لإغماضة أخرى، نومٍ يدوم دهرَ الداهرين.

دقيقٌ في تهرّباتك. حدسك لا يضلّ في خلوتك المتنقّلة، مستخدماً كلَّ مَن تعرفهم في الهروب مِن كلّ من تعرفهم. في سيرك، حثيثاً أو متريّثاً، منشودك التركيز. تريد التفرّغَ للنظر والتفكُّر لا سواهما. لعلك ترى حقاً جمال الموجودات التي لا علاقةَ لها بك البتة، تتملاها حتى ترتجف حافاتها كأجساد المحمومين، لكنها لا تنهار. أما أنت فستتبخّر تحت شمس الصباح كآثار خطواتك المبلّلة على جسر النحّاس.

أنت حيّ. دمك جارٍ في عروقك (تعجّبت من قتامته حين فصدوه لك في بنك الدم). تحيا كمن يسمعُ على الدوام لحناً ناشزاً. تسلياتك انتهت-

كأنْ تنقّط شمعةً على ظاهر يدك، وترى جلدَها يشفّ عن احمراره؛

أو تقطع بجمرةِ سيجارتك خيطاً انسلّ من زرّ قميصك؛

أو تحفرَ بظُفر بنصرك أهلةً بنية في تفاحة صفراء؛

أو تفقأ بدبوسٍ الفقاقيعَ التي تنتأ بعد تجليدِك كتاباً سيرافقك طويلاً، وطيّ صفحاته وريقةٌ بالأخطاء المطبعية؛

أو تُذيبَ في لعابك بلّورةَ سكّر يتناقلُها رتلُ نمال مزدوج؛

أو تصطادَ بكفّك ذبابةً مخمورةً مثلك في الليل، ثم تلطمها بالحائط؛

أو تحنّطَ أمّ أربع وأربعين، ثم تقطع أرجلَها وتُحصيها لتتيقّن من صحّة الرقم…

ما عدتَ تبني بيوتاً بعيدان الثقاب على منضدتك (وإذا ما كفاك عددُها التجأتَ إلى العيدان المحروقة في المنافض)؛

ما عدتَ ترسم تلالاً بسبابتك على سطوح المركبات الموحلة بعد المطر، أو ثعابين على قشور البيض المسلوق، أو وجوهاً بالقلم الأخضر على أوراق التين، تحت أقفاص الحساسين، في بيت الكردي “الشيوعي الأوّل” خالد بكداش، أو زهوراً ومسوخاً على هوامش محاضراتك الجامعية…

لكنك لا تزال تنفّذ بضعة رسوم سهلة، بالطريقة نفسها التي لُقّنتها صغيراً، في روضة الأطفال بكنيسة السريان في بلدتك الكردية:

بجرّة واحدة من سبابتك أو القلم، في حركة مغزلية الشكل، على سطح مرآة مغطاة ببخار أنفاسك أو على سطح ورقة، تظهر سمكة، سرعان ما تجعلها فماً أو عيناً؛

بجرّة أخرى، وحيدة وسريعة ونزقة قليلاً، تظهر نجمة حادة الزوايا كنجوم الأعلام الوطنية…

بغتةً، تكتسي السفاسف والنوافل أهمية قصوى. لا تزال مهموماً بمن ستلتقي، وأين ستنام، ومع من ستتناول الطعام، لكنك ما عدتَ تعطّر فمك بسكاكر زاهي؛

ما عدت تعلك علكة “منطاد” بعد سناك السجق والعيران لدى سيروب؛

ما عدت تتقرّى وجوهاً في الملاط المتقشّر للجدران وتجاعيد شرشفك والغيوم والصخور وسيلان الماء على أدراج قاسيون وأوراق النعي المتقشّرة عن عواميد البنايات…؛

ما عدتَ تصحّحُ الأخطاءَ الطباعية التي تعترضك في الصحف والكتب واللافتات وإعلانات “المستقبل”؛

ما عدت تركل بأنف حذائك شظيةَ زجاج أو برغياً، مرتجياً ثوابَ إماطة الأذى عن الطريق؛

ما عدت تسحق بعقب حذائك عقبَ سيجارة رماه غيرُك على الأرض دون أنْ يُطفأ؛

ما عدتَ تقوّم اللوحات المائلة على الجدران…

أنت الآن، للمرة الألف، في سكونٍ تفكّرُ:

بنخورِ أسنانك الواضحةِ الاصفرار إذا ضحكت؛

بالقلَحِ المتحجِّرِ وراء قواطعك السفلى، تداعبُ خشونته بذروةِ لسانك حتى يوشك يلتهب ويتقرّح؛

بقطرة مجهولة المصدر، مجهولة الطبيعة، دسمة كالمرق، حملتها ريح الصباح فلطّخت كمّك، راقبتها كيف تتّسع تدريجياً ويتغيّر لونها؛

برائحةِ أنفاسك إذا تجشّأتَ كيف ستُشَمّ؛

بانتفاخات لثّتك وشحوبها ونزيفها المحتَمل؛

بالشعر الزائد نابتاً أسفل قذالك، أو متطاولاً من منخريك، أو بشعرة واحدة طويلة جداً اشرأبت من الجلدة بين حاجبيك؛

بحوافِّ بنطلونك التي لطالما دِيست، واحتكّتْ بالإسفلت وحجارة الأرصفة حتى تشرشرت؛

بأظافرك التي طالت فجأة وشحبت؛

بالقذى في لِحاظك؛

بالزغب على شحمة أذنك؛

بالوبر الذي اسودّ وخشن على خدّيك؛

بوسخِ ياقتك الذي لا تراه؛

بحذائك الذي فاجأك اغبراره، فاتّضحت خدوشه أكثر وتعمّقت تجاعيده؛

بإبطيك يفوحان فوحاً خفيفاً فتجبرك رائحتك على المشي دون تحريك ذراعيك…

إلى أن ينتابك، مرة أخرى، الصداعُ الذي يعقبُ عادةً استغراقَك في مثل هذه التفاهات. هذه هي انشغالاتك الآن. تضغط، بسبابتك ووسطاك، قوسَ حاجبيك، الجيوبَ الهوائية فوقهما وبينهما. تضغط الزاويتين، أسفل أذنيك ووراء فكّك، حتى الحفرة أسفل جمجمتك، حيث آلامك الصغيرة تترسّب كالرمل. أهذا هو الموضع الأقصى الذي تهشّ صوبه اضطرابك، لتتراكم صُور الغيابات والفقدانات الصغيرة والنسيانات الصغيرة التي لم تجد لها اسماً؟

 أسامة هابيل: “شياطين”، حفر بالضوء على ورق هانيموله،30×40 سم، 2025

لاستحالة أيّ يقين، تمسّكتَ بالكلمة. اليقين! يا لها من نكتة!

لا تزال متمسكاً بالكلمات، لأنها جذورك الوحيدة. وحدها تقول لك إنّ الذين ماتوا غابوا ولم يموتوا، لأن الموتى لا يموتون، لا يركبون توابيتهم كمهود تُلقى في نهر النسيان، لا يسكنون القبور بل يسكنون الكلمات- الصديقات، المجنّحات، مثاويهم الطائرة، فيصحبونك أينما كنت، يُبعَثون أمامك من حيث لا تدري، ويخرِجونك معهم من الزمن، كاسرين لعنة الثواني المتعاقبة من البداية إلى النهاية:

تنتبه، كمن استيقظ بغتة، حين تلمح ميتاً في التفاتة امرأة تودّع ابنتها الوحيدة إلى باص المدرسة، أو في مارّ بين المارّة لا تميّز جنسه من بعيد، موليك ظهره مسرعاً في الزحام، أو في يدٍ تناولك من كوة زجاجية بطاقة سفرك بالباص…

الموتى لا يسكنون الكلمات الفضفاضة كالخوف والحبّ… إلا الحرية، هذه الكلمة الجريحة، الأوسع من أكبر مقبرة جماعية تسع الأرض من مشرقها إلى مغربها.

الموتى يسمعونك تردّد كلماتهم، ولا يتذمّرون حين تركبهم على متن أيّ شتيمة ليفارقوك بالحسنى، كما يسمعون من تحت التراب صوتَ زهرة برّية تتفتّح فوق التراب بعدما أطعموها رفاتهم،

ثم تدخل وجوهُهم القرنفلاتِ، فلفليةَ الضَوْع، في أيدي الباعة الصغار الواقفين عند إشارات المرور،

زهورَ الهندباء على جنبات الأزقة الظليلة في حارة اليهود،

عشبةَ القديسين عند ضريح جورج الحمّال في دوّار البيطرة،

شقائقَ النعمان الصفراء عند نافورة الجزَري معلّم الحِيَل،

زهرةَ السكران عند صخرة الدم في مرقد هابيل،

عبّادَ الشمس ذا الرؤوس الصغيرة في مساكب الربوة،

زهورَ البُشام الكثيفة حول سكة قطار الحجاز،

الحندقوقَ على طرف الأحجار السوداء للمنعطف وبقايا سكّة “ترام المهاجرين” قبالة سينما الكندي،

العسليةَ البرية في أحراج كيوان،

الوزّالَ بين أشجار الكرز الثلاث المزهرات وراء الشيراتون،

الأقحوانَ الأصفر في شقوق الرصيف مقابل موقف الأزبكية…

دم الربيع أصفر كشمس طفولتك.

لطالما قادت عيناك خطواتِك إلى تلك النيران الصفراء الصغيرة، ريثما يتلاشى كلُّ أثر للحزن في خلاصتك:

 

“ميتةٌ لغتي”

لأن الموتى يحبّونك كالزهور. يحملونك وتحملهم. يحلمونك وتحلمهم.

ناياتهم من عظام الديوك الرومية،

مزاميرهم من لحاء الحور بيضاء كعظامهم،

صفّاراتهم أوراقُ العشب وقشورُ جوزٍ وبندق…

إنّهم يصفّرون لك كقطارٍ آتٍ من بعيد، فاسمعْ وافرَحْ.

افرحْ.

لا يزال قدّامك وقتٌ وَ ضوء.

دمشق 2005-2010

سان دني، فرنسا 2023

(إلى دلشاد أحمد وبيار معزول)