خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

خيوط الدخان.. يدُ إسرائيل الطويلة في تونس

منذ ذلك الخريف، أصبحت تونس إحدى جبهات حرب الظلال بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية. وهي حرب أخذت أشكالاً كثيرةً، علنية وسريةً، وطالت أهدافاً متنوعةً ولم تنته حتى اليوم
ــــــــ ماضي مستمر
6 نوفمبر 2025

من بين المسافرين الذين يمرّون عبر الجمارك في مطار تونس، يظهر رجلٌ طويل القامة، بدا حضوره كأنه يشقّ الهواء بسيف، في ذلك المساء الخريفي الثقيل. خطواته هادئةً. سترة داكنٌة خفيفة تتدلّى من كتفيه، وتحت حافة قبعته المنخفضة، شاربٌ أنيق ومنضبط يُؤطّر شفتين لا تبتسمان. أما عيناه فتُبرقعهما نظارة التهمت نصف وجهه. سلّم جواز السفر بحركة خفيفة من معصمه. رفع الموظف عند المنضدة نظره، ثم رمش بعينيه. ختم الصفحة دون أن يتكلم. أومأ الرجل برأسه باقتضاب ومضى، وتبعته رائحة التبغ الخفيفة إلى الممر الرطب. 

إنه محمد داوود عودة (أبو داوود)، مساعد القائد الفلسطيني أبو إياد، يصل تونس تاركاً ورائه الصخب والدماء في ميونخ، صباح الثامن من سبتمبر/ أيلول 1972.  انزلق الرجل الطويل إلى المقعد الخلفي لسيارة كانت تنتظره. بعد نصف ساعة، وصل إلى فندق مُطل على البحر. وفي الردهة الصغيرة عند الاستقبال وجد أبو إياد في انتظاره. كانت عيناه حادتان كزجاج مكسور. تأمل القائد مرؤوسه طويلاً، كما لو كان يقيس ما تبقى من روح الرجل بعد ساعاتٍ عصيبة في المدينة الأولمبية بميونخ. ثم طلب منه ألا يصعد إلى غرفته، لأنهما سيغادران تونس على عجلٍ.

قبل ذلك وفي مساء الخامس من سبتمبر/ أيلول اقتحمت مجموعة فدائية من منظمة أيلول الأسود، التي أسسها أبو إياد، المدينة الرياضية في ميونخ، أين كانت تقام دورة الألعاب الأولمبية واحتجزت عدداً من أعضاء الفريق الإسرائيلي. وكان مطلبهم الإفراج عن مئات الأسرى في السجون الإسرائيلية. لكن العملية انتهت بعد يومين بمقتل إحدى عشرة رياضياً إسرائيلياً وخمسة من الفدائيين الفلسطينيين وشرطي وطيار مروحية ألمانيين. 

خلال العملية رصدت المخابرات الألمانية اتصالاً هاتفياً من مقر الفريق الإسرائيلي أجراه أحد الفدائيين مع خطٍ هاتف تونسي، تبين لاحقاً أنه هاتف بيت السفير الأردني السابق في تونس، فرحان شبيلات، كان قد أعطاهم إياه أبو محمد العمري، مساعد أبو إياد. وقد تصادف ذلك مع وجود أبو إياد في تونس، ما دفع الألمان والإسرائيليين إلى استنتاج وقوفه وراء العملية. غضب الرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة، وأمر وزير داخليته، الهادي خفشة، بأن يطلب من أبو إياد ومجموعته مغادرة البلاد حالاً.

ألحقت العملية تونس ببنك أهداف إسرائيل، التي أطلقت عقب ذلك حرباً واسعة لاصطياد القيادات الفلسطينية سمتها «غضّب الربّ». كانت تونس تحت حكم الحبيب بورقيبة لا تعتبر دولةً معاديةً لإسرائيل حتى ذلك الوقت. ظل بورقيبة ينادي منذ سنواتٍ بسلامٍ مع الكيان وفقاً لقرار التقسيم ومع ذلك فقد حافظ على دعم مستمر لمنظمة التحرير. ومنذ ذلك الخريف، الذي صار بعيداً، أصبحت تونس إحدى جبهات حرب الظلال بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية. وهي حرب أخذت أشكالاً كثيرةً، علنية وسريةً، وطالت أهدافاً متنوعةً وما بدأ في 1972 يبدو أنه لم ينته حتى اليوم. لكنها حرب في اتجاهٍ واحدٍ. ظلت فيها إسرائيل مطلقة الإرادة وطويلة اليد، فيما ظلت تونس تلاحق خيوط دخان عمليات الموساد على أرضها بلا جدوى.

تونس، 1985

رماد فوق حمام الشط 

أكتوبر 1985 – مساء التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1985 وصل ياسر عرفات إلى مطار تونس قادماً من المغرب. من بابٍ خلفي تعود الخروج منه، خرج واختفى في لمح البصر داخل سيارةٍ صغيرةٍ كانت تائهةً في موكبٍ طويلٍ من السيارات. كانت تلك عادة أبو عمار في إخفاء طرقه ومسالكه. إلى جانبه، جلس الحكم بلعاوي، السفير الفلسطيني في تونس. بعد دقائق من المسير أمر أبو عمار سائقه بالخروج عن سرب السيارات الطويل، والانزواء يميناً نحو مرسى النسيم حيث بيت بلعاوي، فيما واصل الموكب طريقه العادي نحو حمّام الشطّ، بالضاحية الجنوبية للعاصمة. تغيير مفاجئ لم ينتبه إليه عملاء الموساد، الذين رصدوا وصوله في المطار. 

في بيت السفير، طلب أبو عمار من بلعاوي الاتصال برئيس الوزراء التونسي، محمد مزالي وإبلاغه رغبته في لقائه في أقرب وقت ممكن. في التاسعة مساءً وصل أبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد وفاروق القدومي ومحمود عباس أبو مازن والحكم بلعاوي إلى بيت الوزير مزالي في ضاحية سكرة. ونقلوا إليه رسالة شفوية من الملك الحسن الثاني مفادها فيها أن جنوداً ليبيين يتهيؤون لدخول التراب التونسي بزيّ الجيش التونسي. كانت الأزمة حينذاك بين القذافي وبورقيبة قد دخلت نفقاً مسدوداً بعد طرد السلطات الليبية لحوالي ثلاثين ألف عاملٍ تونسي وتركتهم على الحدود. 

يروي الضابط في جهاز حماية الشخصيات والمنشآت التونسي ورئيس فرقة المرافقات والحراسات للقيادة الفلسطينية نوري بوشعالة، في مذكراته، أنه بعد الخروج من منزل مزالي، عاد أبو عمار نحو بيت السفير الفلسطيني، حيث أشرف هناك على بعض الاجتماعات إلى ساعة متأخرة من الليل. ورغم اقتراح بلعاوي المبيت عنده، فإن عرفات أصر على المبيت في حمّام الشطّ. غير أنه قرر فجأةً، وهو في الطريق، الاتجاه صوب مكتب أبي جهاد (خليل الوزير) بضاحية المرسى ليقضي بقية ليلته.

قبل ذلك بأيام، كانت القيادة الفلسطينية قد أبرقت إلى عدد من قادة أركان الثورة وكوادرها العسكرية في الجزائر واليمن والسودان والعراق كي يلتحقوا بالعاصمة تونس في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول لمناسبة انعقاد المجلس العسكري في حمام الشط. لم يكن موعد الاجتماع ولا مكانه معلوماً إلا لحلقة ضيقة من القيادة العليا، لكنّ خرقاً أمنياً كبيراً تعرّضت له المنظمة جعل مواعيدها مكشوفة لدى العدو. 

كانت حمّام الشطّ ضاحية هادئة ترقد عند الساحل الجنوبي للعاصمة تونس، وتبعد عن وسط المدينة نحو 25 كلم. اختارتها القيادة الفلسطينية مقراً لكوادر منظمة التحرير الإدارية والإعلامية، ومركزاً للقيادة، منذ وصولها في 1982. اتخذت من فندق سلوى في الضاحية مقراً رئيسياً، وجعلت محيطه ما يشبه مربعاً أمنياً اجتمعت فيه المقرات الإدارية كافة، إلى جانب مكتب الرئيس أبي عمار وبيته الخاص ومقر القوة 17 (قوة الحماية الخاصة لعرفات). أما المقاتلون، فاستقروا في معسكر وادي الزرقاء بين ولايتي باجة وجندوبة، إلى شمال غرب العاصمة، قرب الحدود الجزائرية.

صباح الأول من أكتوبر/ تشرين الأول، وفيما كانت أجهزة الرصد الإسرائيلية تعتقد أن أبا عمار نائم في بيته بحمام الشط، تجمّع القادة العسكريون عند التاسعة والنصف صباحاً في البهو الخارجي لمقرّ القيادة. استيقظ عرفات متأخراً، وطلب تأخير الاجتماع نصف ساعة لبعد المسافة بين مرسى النسيم وحمّام الشطّ، ففضلت القيادات المنتظرة التفرق وإعادة التجمع لاحقاً. كان أبو عمار قد وصل منطقة بن عروس التي تقع على بعد ربع ساعة من حمّام الشطّ، وهناك سمع أصوات قصف عنيف. 

قبل ساعاتٍ أقلعت عشر طائرات إسرائيلية نحو تونس. تم تحديد ساعة الصفر في الحادية عشرة صباحاً. نفذ الهجوم في موجتين، حيث تم قصف الأهداف الجنوبية أولاً بسبب الرياح الشمالية، لمنع الدخان من تغطية الأهداف الشمالية. كانت الأضرار التي لحقت بمقرات منظمة التحرير الفلسطينية بالغة، حيث دُمرت مكاتب رئيس المنظمة، ومكتب رئيس قسم العمليات، ومكاتب القوة 17، والإدارة المالية، ومكاتب تنظيم الصاعقة. تبخرت الطائرات وسط الدخان الكثيف مخلّفةً وراءها ستين شهيداً فلسطينياً وثمانية عشر شهيداً تونسياً ومئة جريح، فيما نجا ياسر عرفات بأعجوبة، في عملية أطلقت عليها إسرائيل اسم «الساق الخشبية». أما التلفزيون التونسي فقد ظل يبث برامجه بشكل طبيعي، ولم يعلن عن الغارة إلا بعد ساعاتٍ، وعن الفاعل إلا بعد يومٍ، فقد ظن الجميع أن الغارة كانت ليبيةً !!

الهجوم الإسرائيلي في حمام الشط

جاءت الغارة رداً على سلسلة من الأعمال الفدائية، التي كانت تتصاعد في تلك الفترة. وأبرزها عملية يوم الغفران في 25 سبتمبر/ أيلول 1985، عندما سيطرت خلية من ثلاثة فدائيين من مجموعة أبو جهاد على يخت إسرائيلي يُدعى «فيرست» كان راسياً في ميناء لارنكا بقبرص كوحدة بحرية متنقلة للموساد. وبعد مفاوضات قصيرة، قام المسلحون بقتل الإسرائيليين الثلاثة الذين كانوا على متنه وسلموا أنفسهم للسلطات القبرصية. كان القرار بشن الغارة يهدف إلى ردع منظمة التحرير الفلسطينية، وإثبات أنه لا يوجد لا يمكن أن تطاله يد إسرائيل. شكّلت المسافة الهائلة التي بلغت حوالي 2000 كيلومتر، تحدياً لوجستياً وتشغيلياً غير مسبوق لسلاح الجو الإسرائيلي. على الرغم من أن التخطيط الأولي للمهمة شمل النظر في بدائل، مثل الوصول عن طريق البحر أو تشغيل قوات برية خاصة، إلا أن الخيار الجوي فاز في النهاية. 

كان السبب الرئيسي لاختيار سلاح الجو هو أن لديه خططاً احتياطية جاهزة لهذه الأهداف، بالإضافة إلى عامل انخفاض مستوى المخاطر النسبية وقصر فترة الإنذار التي يمكن لسلاح الجو تنفيذ المهمة فيها. تقرر أن يقوم بتنفيذ الهجوم طائرات من طراز F-15، ست منها من سرب «رأس الحربة» وأربع من سرب «فرسان الذيل المزدوج». لكن ثماني طائرات فقط نفذت الهجوم، في حين كانت الاثنتان المتبقيتان بمثابة دعم حتى نقطة اللاعودة. وقد تم تزويد الطائرات بقنابل موجهة من طراز  GBU-15، وهي ذخائر ذكية ومتقدمة جداً، بالنسبة لذلك العصر، لضمان أقصى قدر من الدقة والتدمير.

وفي الجانب الاستخباراتي، اعتمد جمع المعلومات على مصادر بشرية والتنصت على الإشارات. بعد أيام قليلة من الغارة، اكتشف المسؤولون في مركز الإنذار ضد الإرهاب التابع للبحرية الأميركية أكواماً من الوثائق السرية في غرفة مكتب المحلل في خدمة التحقيقات البحرية جوناثان بولارد، التي لا علاقة لها بعمله. سرعان ما تعقبه مكتب التحقيقات الفيدرالي واستجوبه في نوفمبر/ تشرين الثاني 1985. بعد بضعة أيام، حاول بولارد الفرار مع زوجته، وشق طريقه إلى السفارة الإسرائيلية في واشنطن طالباً اللجوء السياسي لكن الإسرائيليين رفضوا منحه اللجوء ليجد نفسه معتقلاً لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي بتهمة نقل معلومات سرية إلى دولة حليفة، دون نية الإضرار بالولايات المتحدة، وليقرّ بأنه مذنب بتهمة التجسس لإسرائيل في يونيو/ حزيران 1986. 

كانت المهمة الأساسية التي طلبها الطرف الإسرائيلي من بولارد هي معلومات حول المشاريع النووية والعسكرية والتقنية التي تخص الدول العربية وباكستان والاتحاد السوفياتي، وليس الولايات المتحدة وفقاً لتقدير وكالة المخابرات المركزية لعام 1987 الذي رفعت عنه السرية في عام 2012. وتحت العنوان الفرعي «ما لم يطلبه الإسرائيليون»، يشير التقدير إلى أنهم «لم يبدوا أبداً اهتماماً بالأنشطة أو الخطط أو القدرات أو المعدات العسكرية الأميركية». ويلفت أيضاً إلى أن بولارد تطوع لتقديم ثلاثة ملخصات استخباراتية يومية لم يطلبها مشغلوه لكنها أثبتت فائدتها لهم، وفي النهاية، سلم ما يقرب 1500 رسالة من ملخص الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وملخص الاستخبارات الساحلية للبحر الأبيض المتوسط، وملخص استخبارات المحيط الهندي الساحلي. 

قدمت الوثائق التي أرسلها الجاسوس الإسرائيلي معلومات دقيقة جداً عن مقر منظمة التحرير في تونس، وعن قدرات محددة لأنظمة الدفاع الجوي التونسية والليبية، وتقارير حول القوات البحرية ومنشآت الموانئ وخطوط الاتصال لمختلف دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. 

منذ وصولهم إلى تونس كان الفلسطينيون تحت أعين المخابرات الأمريكية، وهو ما تكشفه عدد من الوثائق التي رفعت عنها الوكالة الأمريكية السرية، كلياً أو جزئياً، في إطار قانون حرية المعلومات. فقد اشتغلت محطة المخابرات الأمريكية في تونس على إعداد تقارير تحدد فيها مواقع المقاتلين وعددهم وأنواع الأسلحة التي بحوزتهم وكذلك مواقع المكاتب الرئيسية ومنازل القادرة. 

وفي تقرير مؤرخ في العام 1985، تشير المخابرات الأمريكية إلى أن المقر الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس هو على الأغلب «مركز لخدمة مكاتب المنظمة حيث يتعامل بشكل أساسي مع الأمور الإدارية الروتينية. ويتواجد فيه عدد قليل من المقاتلين، بين 100-150 مقاتلاً، والعديد منهم يستعدون للانتقال إلى العراق». وقد انتهت جميع هذه التقارير في يد جوناثان بولارد. وعبره في أيدي قادة وعملاء الموساد.

حمام الشط 1985

النزول إلى الشاطئ 

أبريل 1988 – كان خليل الوزير (أبو جهاد) جالساً قرب الطاولة، ثم فجأةً دفعها جانباً، وأسرع ليأخذ مسدسه من الخزانة. سمعت زوجته صوت كسر الباب والصراخ، فأدركت ما يحدث. اندفع أبو جهاد نحو باب غرفة النوم. رأت أم جهاد مجموعة ملثمين، لا يظهر منهم سوى أعينهم وشعرهم. اقترب منه أحد الإسرائيليين وأطلق عليه النار من مسافة قريبة، فسقط. احتضنته، فقام جندي إسرائيلي بتوجيه مسدس إلى ظهرها وأبعدها إلى الحائط. ثم أطلق جندي ثالث النار عليه مرة ثانيةً، تبعه جندي ثالث و رابع. بعد لحظات من توقف إطلاق النار، سُمع صوت قائدة المجموعة، موشيه يعالون، عبر شبكة الاتصال يقول: «المدير وعماله الثلاثة في طريقهم إلى عالم الخلود». وهذا يعني أن المهمة قد أُنجزت بنجاح. هكذا لخص العدد الثالث عشر من مجلة «الدفاع الإسرائيلية» قصة نهاية الرجل الثاني في منظمة التحرير، بعد أن رفع الرقيب العسكري قيود النشر حولها في عام 2011.

كان أبو جهاد من بيته في تونس يدير الانتفاضة الفلسطينية الأولى. ورغم ذلك البُعد المكاني، كانت يد إسرائيل طويلةً. ليلة العملية انطلقت خمس سفن من حيفا ورست قبالة تونس. كانت السفن بعيدة عن الساحل التونسي لتجنب الرادار. سبق وصول قوات الجيش إلى الشاطئ عمل حثيث من عناصر الموساد؛ حيث استأجروا ثلاث سيارات نقل من ثلاث شركات مختلفة، باستخدام هوية لبنانية مزورة ودفعوا نقدًا وجمعوا معلومات دقيقةٍ وخرائط عن الموقع وتحركات الحراسة وانتشار الأمن التونسي. 

بدأت العملية بنزول عناصر الكوماندوس البحري إلى الشاطئ الهادئ والمهجور باستخدام قوارب مطاطية. بعد إرسال إشارة متفق عليها، نزلت قوارب مطاطية إضافية تحمل مقاتلي وحدة «ساييرت متكال». استقل مقاتلو الوحدة سيارات النقل التي قادها عملاء الموساد، والذين كانوا يعرفون المدينة جيداً، واتجهوا مباشرة نحو فيلا أبو جهاد في رحلة قصيرة. توزع المهاجمون على أربع فرق حول الفيلا بصمت تام حوالي الساعة الثانية صباحاً. كان أبو جهاد لا يزال مستيقظاً. اقترب ناحوم ليف و«جيم» أولاً من المنزل. كان «جيم» متنكرًا في زي امرأة تحمل خريطة، متظاهرة بأنها تسأل الحارس عن الاتجاهات. اقترب ناحوم ليف حاملاً علبة تبدو كعلبة شوكولاتة، كانت تخفي مسدساً مزوداً بكاتم صوت. وجه ليف البندقية نحو رأس الحارس، والذي من هول اللحظة لم يستطع رؤية النقطة الحمراء على جبهته، فسقط على الفور. اقتحمت مجموعة صغيرة الفيلا وقتلت حارساً آخر كان في القبو.

كان أبو جهاد، شأنه شأن بقية قادة الثورة الفلسطينية، موجودًا دائماً على قوائم الاغتيالات الإسرائيلية منذ سنوات. لكنه ومنذ منتصف الثمانينات أصبح على رأس القائمة قبل عرفات، بوصفه مسؤولاً عن النشاط داخل الأراضي المحتلة. فبعد الخروج من بيروت والاستقرار في تونس، وجد أبو جهاد أن المرحلة السابقة من الثورة في الأردن ولبنان غرقت كثيراً في الحروب الفرعية ولم تلتفت للداخل الفلسطيني، لذلك توجه للعمل على إعادة إحياء خلايا فتح داخل فلسطين.

في ذلك الوقت قدرت الاستخبارات الإسرائيلية أن أبو جهاد قد شرع في إستراتيجية قتالية جديدة ضد إسرائيل عبر البحر. مما دفع جهاز الموساد إلى إنشاء وحدة بحرية خاصة لجمع المعلومات حول سواحل البحر الأبيض المتوسط. فقد عمل أبو جهاد على تدريب وحدة كوماندوس بحرية فلسطينية مختارة بعناية، من حوالي 30 فدائياً فلسطينياً خضعوا لتدريبات شاقة استمرت 11 شهراً، شملت القتال في المناطق المبنية، والسباحة، والقنص، وتدريبات اللياقة البدنية، وحتى تعلم اللغة العبرية. كانت الخطة تهدف إلى إرسال هؤلاء المقاتلين لتنفيذ عملية مساومة واحتجاز رهائن في قلب معسكر «الكرياه» في قلب تل أبيب. ورغم أن هذه العملية قد فشلت إلا أن أبو جهاد أصبح منذ ذلك الوقت هاجساً إسرائيلياً.

كانت معضلة اغتيال أبو جهاد في تونس مرتبطةً بموقع تونس الجيوسياسي، بوصفها حليفاً للغرب وللولايات المتحدة. لذلك تشير المصادر الإسرائيلية إلى أن النية كانت اغتياله دون ترك «بصمات إسرائيلية»، لكي لا تقع الولايات المتحدة في حرجٍ مع حليفها الأصغرّ بورقيبة، مثل وقعت في ذلك عقب غارة حمام الشط، التي كلفت ريغان عدم رفع الفيتو لإدانة إسرائيل في مجلس الأمنوتشير هذه المصادر إلى أن المحاولات الأولى لاغتيال أبو جهاد نُفذت على الأرجح من قبل الموساد. فقد نجا من هجومٍ بقنابل صغيرةٍ، كانت مزروعة في سيارته، كما نجا من حوادث إطلاق نار. ومع فشل الموساد المتتالي، أسندت المهمة في نهاية عام 1987 لوحدة «ساييرت متكال» العسكرية، كان الدافع في ذلك الوقت دوره في تأجيج وتنظيم مجريات الانتفاضة. قاد الوحدة المقدم موشيه يعالون، الذي سيشغل لاحقاً منصبي وزير الدفاع ورئيس الأركان. وكان نائبه ناحوم ليف. فيما تولى إيل رغونيس، الذي عاد للخدمة خصيصاً، منصب ضابط استخبارات الوحدة. وعلى الرغم من تأجيل العملية مطلع عام 1988، إلا أنها تلقت الضوء الأخضر من القيادة السياسية بعد عملية ديمونة في 8 مارس 1988، عندما قام ثلاثة فدائيين باختطاف حافلة إسرائيلية تقل عمالاً إلى مركز للأبحاث النووية.

حمام الشط 1985

الصوف الذهبي 

مارس 1990 – في أحد الصباحات اقترب أحد عناصر الموساد يدعى حلمي الصاوي ويجيد الحديث باللكنة المصرية، من طاولة فطور عدنان ياسين بفندق ميريديان مونبارناس في الدائرة الباريسية الرابع عشرة. كان ياسين يشغل دوراً هاماً في مكتب منظمة التحرير في تونس، مكلفاً باللوجستيات والخدمات في المقر العام. بالإضافة إلى مهامه الرسمية، كان يساعد قادته في تأمين راحتهم الشخصية، بما في ذلك تنسيق إجازاتهم، وترتيب علاجهم الطبي. كان حلمي يرتدي ملابس أنيقة وذو مظهر عربي، يقرأ صحيفة مطبوعة على ورق أخضر فاتح، وقد وضع مفتاح غرفته أمامه. كانت تلك طقوس حميمية يستخدمها كل عناصر وحدة «تسوميت» لإقامة الاتصال الأولي مع عميل محتمل. وهي الوحدة الأهم والأكبر في الموساد، المسؤولة عن عمليات التجسس في الخارج وإدارة العملاء. بدا حلمي غير متكلفٍ. ذلك أن إظهار الإلحاح المفرط قد يثير الشكوك. وقد حالفه الحظ عندما سأل أحد مرافقي ياسين عن محتوى الجريدة، فأدار له صفحتها الأولى، وإذّ هي جريدة «الشرق الأوسط». ثم انهمر الحديث بينهم بودٍ وعفويةٍ.

في كتابه «انهض واقتل أولًا: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية» (2018)، ينقل الصحفي الإسرائيلي، رونين برغمان، وقائع تلك العملية التي أطلق عليها اسم مستمد من إحدى الأساطير اليونانية: «الصوف الذهبي»، مشيراً إلى أن آفي داغان رئيس وحدة «تسوميت»، أعطى في أواخر عام 1989، موافقته على عملية تجنيد عدنان ياسين. استناداً إلى عوامل حاسمة جعلت ياسين هدفاً مثالياً. أولها، السلوك المتكرر والموقع المحدد، حيث  كانت زوجته تتلقى علاجاً للسرطان في باريس، ولذلك كان الزوجان ينزلان باستمرار في فندق ميريديان مونبارناس، وقد وفر ذلك موقعاً يمكن تعقبه وجدولاً زمنياً متكرراً. وثانياً وهو الأكثر أهميةً، هو القيمة الاستخباراتية، فقد كان ياسين يمتلك ثروة من المعلومات حول منظمة التحرير لا توجد حتى عند ياسر عرفات نفسه.

نجح حلمي بعد طول مراسٍ وعملٍ في استمالة ياسين من خلال المال. والذي أثبت لاحقاً أنه استثمار استثنائي للموساد. ومقابل بضعة عشرات الآلاف من الدولارات، قدم كمية هائلة من المعلومات عالية الجودة خلال جلسات إفادة منتظمة جرت جميعها في باريس، على طاولة الفطور نفسها. وقد شملت المعلومات التي قدمها، بياناتٍ مفصلة عن الأنشطة اليومية والخطط التي يتم وضعها في المقر. والكشف عن تغييرات الهيكل التنظيمي، ومن يجلس في أي مكتب، ومن يلتقي بمن. وكذلك معلومات حول عمليات نقل الأسلحة والأساليب المتبعة لتأجيج الانتفاضة، التي كانت جاريةً في الأراضي المحتلة، والتحضيرات للهجمات الفدائية، وتجنيد الأفراد. فضلاً عن شؤون عرفات الخاصة. فقد كان عدنان ياسين أول من أشار إلى العلاقة الوثيقة الناشئة بين سهى الطويل وياسر عرفات، الذي عيّنها مستشارة في مكتبه، وتزوجها لاحقاً.

ولم تمض شهور إلا وبدأت ثمار تعاون ياسين مع الموساد في الظهور. في عام 1992، نجحت السلطات الإسرائيلية في إحباط محاولة اغتيال لإسحاق شامير وأرييل شارون، دبرها جبريل الرجوب، أحد مساعدي أبو جهاد، انتقاماً لاغتيال قائده في تونس عام 1988. نجح الرجوب في تجنيد إسرائيلي يدعى رافائيل أفراهام لتنفيذ العملية. لكن أفراهام اعتقل بمجرد وصوله مطار بن غوريون. كانت خطة الرجوب كلها مكشوفةً لياسين، الذي كان متخصصاً في تعقب جميع الأهداف، لأنه كان المكلف بحجز الرحلات الجوية والفنادق.

وفي العام نفسه ساهم ياسين في محاولة فاشلة لتصفية الأمين العام للجبهة الشعبية جورج حبش، عندما جاء تونس لحضور اجتماعات منظمة التحرير. في العاصمة تونس تعرض حبش إلى جلطة خفيفة، ساهم ياسين من خلال التلاعب بالمستندات الطبية في تضخيمها لنقل الحكيم إلى باريس. وبناءً على معلومات ياسين، نظر الإسرائيليون في إمكانية تصفية حبش، عندما سمحت له السلطات الفرنسية بزيارة باريس لتلقي العلاج الطبي. لكن بدلاً من قتله، اختار الموساد تسريب خبر زيارته إلى وسائل الإعلام، مما تسبب في إحراج كبير للحكومة الفرنسية، ودفع السلطات القضائية إلى محاولة إلقاء القبض عليه. ويذهب رونين برغمان  إلى أن ياسين لعب دوراً محورياً في تصفية القيادي الفلسطيني، عاطف بسيسو، في أحد غرف فندق ميريديان مونبارناس في 8 يونيو/ حزيران 1992.لكن مسيرة ياسين الجاسوسية لن يكتب لها الاستمرار.

جورج حبش

أغسطس 1993 – بينما كانت المفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير تقطع أشواطاً نهائية قبل اتفاق أوسلو، زار ﻋﺪﻧﺎن ياسين، محمود عباس (أبو مازن) في مكتبه. كان ياسين قليل الخروج من مكتبه في السفارة بسبب انشغالاته الدائمة. لكن أبو مازن لم يستغرب زﻳﺎرﺗﻪ، ولم يسأله عن سببها . لم ﻳﺠﻠﺲ طويلاً، ثم ﻗﺎل لأبي مازن: «ﺳﺄﺣﻀﺮ لك كرسياً مريحاً وﺟﻬﺎز إﺿﺎءة ﻟﻠﻤﻜﺘﺐ».

يقول أبو مازن في شهادته: «شكرته على هذا الأمر وعلى اهتمامه بي، وغادر ولم أره ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ. في ﻧﻬﺎﻳﺔ سبتمبر، ﻏﺎدرت ﺗﻮﻧﺲ إلى المغرب في زﻳﺎرة اﺳﺘﻐﺮﻗﺖ أﻛﺜﺮ من أﺳﺒﻮع، اتصل بي مرافقي الخاص، وبلغني أن ﻋﺪﻧﺎن ﻳﺎﺳـﻴﻦ أﺣﻀﺮ اﻟﻜﺮﺳﻲ وأداة اﻹﺿﺎءة، وأﻧﻪ وﺿﻌﻬﻤﺎ في المكتب. ﻋﺪت ﻣﻦ المغرب ورأﻳﺖ اﻷدوات الجديدة. وﻗﺪ جلست ﻋﻠﻰ اﻟﻜﺮﺳﻲ واﺳـﺘﻌﻤﻠﺖ أداة الإضاءة بضعة أﻳﺎم، ﺛﻢ شغلت ﺑﺎﺟﺘﻤﺎع  المجلس المركزي. ﻏﺒﺖ عن المكتب ﻋﺪة أﻳﺎم، ﺳﺎﻓﺮت بعدها إلى القاهرة لحضور اﺟﺘﻤﺎﻋﺎت لجنة التنسيق اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔاﻹﺳﺮاﺋﻴﻠﻴﺔ. وخلال فترة غيابي جرى اكتشاف أداة الإضاءة. ﺑﻌﺪ عدة أﻳﺎم ﻣﻦ تسليم اﻟﻜﺮﺳﻲ لوزارة اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﺔ، ﻃﻠﺒﻨﻲ اﻟﻮزﻳﺮ، فذهبت إلى ﻣﻜﺘﺒﻪ لأفاجأ بأنه ﻣﻠﻐﻮم ﺑﺠﻬﺎز إرﺳﺎل ﻣﺘﻄﻮر، لا تستطيع أن ﺗﻜﺘﺸﻔﻪ اﻷﺟﻬﺰة اﻟﻌﺎدﻳﺔ المستعملة ﻟﺪى وزارة اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ اﻟﺘﻮﻧﺴﻴﺔ. وفي الحال، اﺗﺨﺬت الوزارة إﺟﺮاءاﺗﻬﺎ لاعتقال ﻋﺪﻧﺎن ﻳﺎسـﻴﻦ وﺿﺒﻂ كل ما لديه من أﻣﻮال وأدوات وأﺳـﻤﺎء ووﺛﺎﺋﻖ». وبعد شيوع الخبرّ، على لسان قادةٍ من منظمة التحرير، رفضت السلطات التونسية الإعتراف بذلك، وعممّت على وكالات الأنباء العالمية خبر تكذيبٍ للقصة من أصلها.

جزّ الرؤوس 

يونيو 1995 – وصل فتحي الشقاقي إلى مطار قرطاج قادماً من بيروت بجواز سفر ليبي باسم إبراهيم شاويش. يتحرك بعزم هادئ نحو البوابة الرئيسية حيث كانت سيارة سوداء معتمةً مستأجرة تنتظره. أما الوجهة فهي  طرابلس. كان الشقاقي، زعيم حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، هدفاً رئيسياً للمخابرات الإسرائيلية بعد تصاعد موجة العمليات الاستشهادية، خاصة عقب هجوم بيت ليد في يناير/ كانون الثاني 1995. وعلى الرغم من أن الشقاقي كان يتخذ من دمشق مقراً له، إلا أن اغتياله في سوريا كان محفوفاً بالمخاطر السياسية. في مطلع ذلك العام وقّع رئيس الوزراء إسحاق رابين شخصياً على أمر قتله. وقد أظهرت المراقبة الاستخباراتية أن الشقاقي كان على اتصال منتظم مع معمر القذافي. ولتجّنب الحظر الجوي المفروض على ليبيا آنذاك، كان يسافر جواً من بيروت أو دمشق إلى مالطا، ثم يكمل رحلته إلى تونس، ومنها إلى ليبيا براً. وقد رأت الأجهزة الإسرائيلية أن هذه الطريق السريعة، التي كانت شبه مقفرة، هي المكان المثالي لاستهدافه. تطلبت هذه العملية دعماً من الجيش، حيث لم يكن الموساد قادراً على تنفيذها بمفرده. وقد احتاج ذلك لإشراك وحدات الكوماندوس البحري بقيادة يواف غالانت.

كانت الخطة  تقوم على زرع قنبلة على جانب الطريق الصحراوي بين تونس طرابلس، فيما سيتكفل عناصر الموساد بتركيب جهاز إرسال في السيارة المستأجرة للشقاقي في المطار. في الرابع من يونيو 1995، وصل إشعار بأن الشقاقي حجز رحلة إلى مالطا في الأسبوع التالي.أبحرت سفينتان حربيتان تابعتان للبحرية من حيفا، تحملان المعدات والكوماندوس، في رحلة استغرقت يومين ونصف، ثم رست على مسافة آمنة قبالة الساحل، بالقرب من الحدود بين تونس وليبيا. 

كان إلحاح قتل الشقاقي أقوى من العلاقات الدبلوماسية القائمة حينذاك بين إسرائيل ونظام زين العابدين بن عليّ. في عام 1995 التقى وزير الخارجية التونسي الحبيب بن يحيى، وزير الخارجية الإسرائيلي إيهود باراك في إسبانيا على هامش مؤتمر برشلونة الأوروبي-المتوسطي، وخلال اللقاء قرر الطرفان تطبيع العلاقات من خلال إقامة مكتب اتصال ورعاية مصالح في كل من تل أبيب وتونس. 

لكن الأقدار كانت أقوى من عزم الموساد. فقد فشلت محاولة اغتيال الشقاقي قبل أن تبدأ لأسباب غير متوقعة، حيث تبين أن معلومات الاستخبارات كانت دقيقة بشأن تحركات الشقاقي، لكنها لم تتوقع وجود سباق للسيارات يمر عبر هذه الطريق الصحراوية في ذلك اليوم، وهو سباق يمتد من المغرب إلى مصر. أجرى غالانت مشاورات مع قائد القوة البحرية عامي أيالون، خلصا فيه إلى أن خطر الكشف عن العملية من قبل السائقين أو احتمال قتل متسابقين من جنسيات غربية كان كبيراً جداً. واستغرق الأمر أربعة أشهر أخرى للعثور على فرصة مواتية لاغتيال الشقاقي، وهو ما حدث في مالطا في أكتوبر 1995، حيث تمكن الموساد من تنفيذ العملية بنفسه دون دعم عسكري.

فتحي الشقاقي مع القذافي

ديسمبر 2016 – كان جالساً في سيارته ينتظر أجله. في 15 ديسمبر/ كانون الثاني 2016 في مدينة صفاقس جنوب تونس، بالقرب من منزله، قُتل محمد الزواري رميًا بالرصاص. عشرون رصاصةً، من مسدسين مزودين بكاتم صوت، أصابت ثماني منها جسده، وكشفت عن حياةٍ سرية عاشها الرجل على مدى ثلاثة عقودٍ في الظل. كان الزواري مهندس طيران يبلغ من العمر 49 عاماً عند مقتله، وصفته حركة حماس بأنه «أحد القادة الذين أشرفوا على برنامج أبابيل» لتطوير الطائرات بدون طيار التابع لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري للحركة، وأنه انضم إلى جناحها العسكري قبل عقد من الزمن. وقد تنقل طويلاً بين السودان وسوريا ولبنان، قبل أن يعود إلى تونس عقب الثورة. لم يقتصر نشاط الزواري على الطائرات المسيرة فحسب؛ فقد ذكر شقيقه، رضوان، أنه كان يعمل أيضاً على تطوير غواصات صغيرة يتم التحكم فيها عن بعد. ولذلك وضع تحت مراقبة الموساد، بعد أن رصد خلال دخوله إلى قطاع غزة، ثم عودته إلى تونس عبر لبنان وتركيا.

 من جانبها أعلنت السلطات التونسية رسميًا عن تورط «جهات أجنبية» في الاغتيال. وقال الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، حينذاك، إنه «من المحتمل أن تكون إسرائيل» هي المسؤولة. أما  حماس وحزب الله فقد وجها الاتهام مباشرة إلى الموساد. وفي تطور لاحق، أعلنت السلطات التونسية أنها حددت هوية القاتلين. 

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2018، كشفت وزارة الداخلية عن أسماء اثنين من المشتبه بهم يحملان الجنسية البوسنية، وهما ألبرت سارّاك وآلين كاميدي. كما كشفت عن تفاصيل حول دخول المشتبه بهما إلى البلاد، حيث دخلا تونس عبر ميناء بحري في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2016، أي قبل أسبوع من الاغتيال. وقاما بجولات في مدن جربة وتوزر والمنطقة الجنوبية تحت غطاء تمثيل وكالات سفر. وأن التخطيط للعملية استغرق 18 شهراً، وشمل التنسيق وتجنيد مواطنين تونسيين. 

وفي مارس/ آذار 2018، أُفيد بأن أحد القتلة المشتبه بهم، وهو مواطن بوسني، قد اعتُقل في كرواتيا. وقد أثار خبراء متخصصون في الموساد شكوكاً حول تورط الموساد بشكل مباشر في عملية التنفيذ. فقد أشار يوسي ميلمان، وهو صحفي متخصص في الشؤون الأمنية، ومؤلف كتاب «حروب الظل: الموساد ومجتمع الاستخبارات»، إلى أن المسلحين لم يتصرفوا بالاحترافية التي تميز الموساد. كما أن الطريقة التي نُفذ بها الاغتيال، بإطلاق عشرين رصاصة، لم تستخدم من قبل الموساد منذ تصفية فتحي الشقاقي في مالطا عام 1995، حيث يفضل الموساد حالياً استخدام العبوات الناسفة أو حقن السم. في المقابل، لم يستبعد آخرون، مثل أليكس فيشمان، أن يكون الجواسيس قد تعمدوا ترك آثار لإرسال رسالة واضحة لحركة حماس. ومع ذلك يزل الموساد المتهم الأول في العملية، التي تكشف عن تحول أساسي في عمليات الجهاز، نحو توظيف المرتزقة الأمنيين، بدلاً من استخدام عملاء من الجهاز، والذين دائماً ما ينحدرون من دول أوروبا الشرقية والبلقان.

التسلّل خلف الخطوط

سبتمبر 2025 – ليل الثامن من سبتمبر/ أيلول سقطت كتلة لهبٍ على سفينة فاميلي، التابعة لأسطول الصمود العالمي، عندما كانت راسيةً في ميناء سيدي بوسعيد في تونس. لم تُطلق الطائرة المسيرة النار مرة ثانيةً. استدارت ببساطة، ومالت شرقًا، واختفت في الظلام تاركةً وراءها الخوف والدخان. مباشرة أعلنت قيادة الأسطول أن أحد سفنها الرئيسية قد تعرض لهجوم بطائرة إسرائيلية مسيرة. لكن السلطات التونسية كذبت الخبر، وقالت إن  ما يتم تداوله بشأن استهداف مسيرة لباخرة راسية في ميناء سيدي بوسعيد هي أخبار لا أساس لها من الصحة. وأن ما حدث كان ببساطة سببه حريق يعود إلى اندلاع النيران في إحدى سترات النجاة على متن السفينة، نتيجة اشتعال قداحة أو عقب سيجارة ولا وجود لأي عمل عدائي أو استهداف خارجي.

لكننا جميعاً شاهدنا مقاطع الفيديو، التي وزعتها قيادة الأسطول والتي تكشف بوضوحٍ سقوط جسم ملتهب من السماء على ظهر السفينة، فضلاً عن وجود سوابق من هذا المثال، عندما تعرضت سفينة «الضمير» التابعة لتحالف أسطول الحرية، لهجوم بطائرات مماثل في مايو الماضي، قبالة سواحل مالطا، ومع ذلك انحاز جمهور واسع إلى رواية السلطة. لكن ما حدث في الليلة التالية أسقط كل خطط السلطة في إخفاء ما يجري في ماءٍ بارد. مُسيرة أخرى تحوم فوق الأسطول ثم تطلق جسماً ملتهباً على السفينة ألما. دفع ذلك السلطات إلى الإقرار بأن الهجوم كان مدبراً وليس مجرد حريق. لكنها لم توجه أي اتهامات لأي جهة، مع الوعد بأنها ستجري «كل التحريات والأبحاث لكشف الحقائق كلها حتى يطلع الرأي العام، لا في تونس وحدها بل في العالم كله، على من خطط لهذا الاعتداء وعلى من تواطأ وعلى من تولى التنفيذ» على حد قولها.

 كانت إسرائيل تريد ضرب السفن الرئيسية في الأسطول إما لمنعه من الإبحار أو تأخير إبحاره نحو غزة، وقد نجحت نسبياً في مهمة التأخير. لكن الهدف الإستراتيجي كان الظهور بمظهر القوة الفائقة. في اليوم نفسه الذي قصفت فيه تونس، قصفت فيه الطائرات الإسرائيلية الدوحة وجنوب لبنان وغزة وسوريا. وكان المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا والسفير لدى تركيا، توم باراك، قد أقرّ بشكل غير رسمي بأن إسرائيل مسؤولة عن الهجوم بالطائرات المسيرة في تونس، مشيراً إلى أن «إسرائيل تهاجم الجميع»، وذاكراً تونس إلى جانب سوريا ولبنان. ومع ذلك لم تواجه السلطات التونسية هذا الإقرار بأي شجبّ أو تنديدّ أو حتى بيانٍ. في الوقت الذي يتحدث فيه الرئيس قيس سعيد منذ انقلابه عام 2021 عن ما يسميه «حرب التحرير الوطنية»، التي يبدو أنها موجهة للداخل وليس للخارج.

لكن اللافت في هذه العملية ليس هدفها السياسي المعلن، ولا طريقة تعاطي السلطة التونسية معها، فذلك كان متوقعاً، وصار تقليداً لكل السلطات والأنظمة السابقة والحالية، ولكن طريقة التنفيذ، التي تعتبر نقلةً نوعيةً في عمل اليد الإسرائيلية الطويلة في كل مكانٍ.

عقب العملية نشرت شبكة «سي بي إس نيوز» تقريراً نقلت فيه عن مسؤولين استخباراتيين أمريكيين، قولهم بأن إسرائيل أطلقت طائرات مسيرة من غواصة وأسقطت أجسام حارقة على سفن الأسطول، وذلك بأمرٍ مباشر من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لكن رواية الغواصة لا تبدو دقيقة أمام المعطيات التي ستكشف عنها التحقيقات التونسية، أو أنها تندرج ضمن عملية إعلامية إسرائيلية للفت الأنظار عن الطريقة الحقيقية للتنفيذ. في نهاية سبتمبر الماضي أعلنت السلطات التونسية عن توقيف شخص أجنبي بتهمة الاعتداء على سفينة تابعة لأسطول الصمود. وتشير مصادر إعلامية إلى أن الموقوف يحمل الجنسية الكرواتية، وكان يدير من بيته في منطقة المعلقة، غير بعيدٍ عن ميناء سيدي بوسعيد، عمليات الاستهداف من خلال طائرات مسيرة صغيرة الحجم، تم تهريبها إلى تونس للقيام بهذه المهمة.

تكشف طريقة التنفيذ عن تحول أساسي في عمل الأجهزة الإسرائيلية الاستخباراتية والعسكرية في الهجمات التي تنفذ خلف الخطوط، وهي نموذج مصغرّ لعملية أكبر وأوسع نفدتها إسرائيل في إيران بموازاة الضربات الجوية في يونيو الماضي. وتقوم أساساً على استراتيجية التسلل السري وتجاوز الدفاعات التقليدية من خلال تهريب مكونات الطائرات المُسيّرة سراً إلى داخل الأراضي المستهدفة على مدى أشهر، ثم إنشاء قواعد إطلاق داخلية، بالقرب من البنية التحتية المستهدفة.

ميزة هذا النهج هي أنه ألغى الحاجة إلى عبور الطائرات المُسيّرة لمسافات طويلة عبر المجال الجوي عالي المخاطر. وبدلاً من ذلك، يتم الإطلاق من داخل الحدود، مما يؤدي إلى التحايل على أنظمة الدفاع الجوي التقليدية المصممة للكشف عن التهديدات القادمة من الخارج. وهو ما حدث في إيران بشكل واسعّ، وحدث في تونس من خلال خلية يبدو أنها تعمل من الباطن لفائدة الموساد.

ويبدو واضحاً التأثير الأوكراني في  الاستراتيجية الإسرائيلية، لاسيما وأن الإسرائيليون اعترفوا صراحة بالتعلم من الخبرة الميدانية الأوكرانية المعروفة باسم «عملية سبايدرويب»، في مواجهة روسيا، والقائمة على التسلل السري طويل الأمد، وتجميع الأنظمة داخل الدولة المستهدفة، والتفعيل عن بُعد. وهو ما يشير إلى أن مستقبل الأيدي الإسرائيلية الطويلة على الوطن العربي، سيُهيمن عليه أسراب من الأنظمة المستقلة وغير المكلفة، والمدمجة بالذكاء الاصطناعي، متناهية الصغّر مثل المُسيّرة الصغيرة وعاليةً الفعالية وقليلة المخاطر.