طوال الوقت تشعرني صور أبي وأمي القديمة بتأثير قوي، عندما أشاهد تلك الصور بالأبيض والأسود أشعر بطاقة من الحب والحنان تنفتح أمامي، وأحيانًا أتساءل هل ستترك صوري نفس التأثير على أولادي.
أعرف أن الصورة الفوتوغرافية تمتلك القدرة على الإمساك بالزمن، على أن تعيدك لفترة ماضية ربما لم تكن موجودًا فيها، على أن تجعلك تستعيد ذكريات ربما ظننت أنك قد نسيتها.
ربما لهذا عشت بإحساس أنه لا يوجد عندي صورًا كافية لأمي كي ترسخ صورتها في ذهن أولادي، فبعد وفاتها لم أجد صورًا كثيرة تجمعنا، عدا صور خطبتي وزفافي، ولم أبدأ التصوير باحتراف إلا بعد وفاة أمي، قبلها كان لدي إحساس دائم بالرغبة في تصويرها، والتقاط صور لنا معًا، لكن لم يمهلني الزمن كي أترجم رغبتي لفعل.
إيماني بأن الفوتوغرافيا تساعدنا على تذكر الأحداث، جعلني أخاف من نسيان ذكرياتي معهما، أن أنسى الحكايات، رغم أن ابنتي أخبرتني ذات مرة: “أنا بحب نانا من غير ما أشوفها.. من حكاياتك عنها”.
أسأل نفسي أحيانًا هل وفاتها المبكرة حرمتنا من صناعة ذكريات/ صور أكثر؟ هل فاتني توثيق كل مرحلة من مراحل حياتنا كي لا تتسرب من الذاكرة دون أن أدري؟
دائمًا ما أحببت شكلهم في صور الأبيض والأسود، أشعر أني أنظر إلى ماضيهم أكثر مما أنظر على الحاضر الذي عشته معهم، وكثيرًا ما تخيلت نفسي معهم بالأبيض والأسود، وكأني أريد أن أعيش شبابي مع شبابهم.
ربما لو عاد الزمن بي مرة أخرى لالتقطت صورًا أكثر تجمعنا سويًا، ربما من هنا عملت على أن أنقل ذكرياتي مع أبي وأمي لأولادي كي تظل تلك الطاقة من الحب من حولنا.
أود أن أحكي لأولادي حكايات كثيرة، عن بيتنا القديم بحي السالمية في الكويت الذي ما زلت أذكر تفاصيله حتى الآن، ثم بيتنا الثاني بمنطقة “الشعب”.. كان مليئًا بالنباتات، وعن بيت القاهرة الذي سكناه بعد عودتنا من الكويت وقت اندلاع حرب الخليج، البيت الأعز إلى قلبي، الذي بدأ في التغير منذ وفاة أمي، وعند وفاة أبي تسارعت وتيرة التغيير فطالت كل شيء.. البناية، الشارع، حتى حركة الناس في الشارع اختلفت.. بعد وقت أحسست كما لو أن كل الروابط التي كانت بيني وبين المكان قد اختفت.
أحيانًا عندما أفكر في تلك التفاصيل الصغيرة التي جمعتنا أنا وأمي وأبي أشعر أني معهما من جديد، أغاني أبي المفضلة التي كنا نسمعها معًا ليال الخميس، محل آيس كريم كانت أمي تأخذنا له دومًا، تلك الفرحة التي كانت تجتاحني عندما يناديني أبي باسمه “ممدوح الصغير” لما يشعر به من تشابه بيننا، ظل يد أبي تصنع أشكالًا على الحائط والآن تبادلت أنا وأبي الأدوار.. ظل يدي الآن على الحائط وأولادي يشاهدون.
أشعر بالفرح وأنا أرى أولادي يحبون الطبخ، وخاصة داليدا ابنتي التي تحب صناعة الحلويات، أراها وهي تصنع الزلابية وأتذكر أبي وهو ينادي أمي “زلابية” لأنها كانت صاحبة أشهى طبق زلابية في محيط العائلة والأصدقاء.
حكايات كثيرة لا أعرف هل سأجد الوقت والظرف المناسب لحكايتها، أحيانًا أندهش أن ذكريات كثيرة قد تحولت إلى أشياء، أكواب من الكريستال داخل النيش، منفضة سجائر على طاولة، ركن كان أبي يحب الجلوس فيه في شرفة منزلي.
أتأمل الأشياء وأتذكر تفاصيل مع عشته من قبل، وأحول مشاعر الافتقاد إلى حكايات أحكيها لابني وبنتي، وأحاول خلق تفاصيل أعرف أنها يومًا ما ستصبح ذكريات.