fbpx

كيف تضع حياة كاملة في حقيبة؟

مع توسع العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان وبقاعه وضاحية عاصمته، وبوتيرة متسارعة، هل يتسع الوقت لأهل هذه المناطق للتفكير بالحقيبة أصلًا؟
ــــــــ البيت
28 أكتوبر 2024

بدأ الطوفان فحضّر أبي الحقيبة.

لا أدري إن كان طبعه أم خبرته، كإبن جيل حرب، لكن بالتزامن مع الثامن من تشرين أول/أكتوبر قبل عام وضّب أبي حقيبة السفر؛ سفر مؤقت، سفر قسريّ، سفر لا نعرف كم سيطول أو متى سيبدأ، لكنّ كلّ ما أعدّه كان ضروريًا.

انتقاء أبي للأغراض التي سنأخذها معنا كان خاضعًا للأولويات. مرة يضيف ومرة ينقص، فباتت الحصيلة المترتبة والمرتبة داخل الحقيبة على مدى أشهر، أن ضرورياتنا هي أوراق ثبوتية واوراق نقدية ومقتنيات ذهبية.

مع توسع العدوان الاسرائيلي على جنوبي لبنان وبقاعه وضاحية عاصمته، وبوتيرة متسارعة، لم يتسع الوقت لأهل هذه المناطق للتفكير بالحقيبة أصلًا.

فمنهم من وجد يديه تلتقط “ضرورياته” على عجل فامتلأت بما لا يمكن أن تحتويه حقيبة أو تتكرم عليه برفاهية الاختيار، ومنهم من لم تصل يداه الى مقبض الباب، فبقي في بيته يعانق أحجاره والحقيبة.

أسأل ..

أتبكينا البيوت حين نتركها، أم حين نبقى وتحتضن أجسادنا و حقائبنا؟

من منزلي في الضاحية الجنوبية لبيروت، الى منزل جدتي في منطقة عائشة بكار في بيروت.

أسطر ذكرياتٍ غير مكتملة، واقفال لصناديق ليست بحوزتها. سارة، النازحةُ دائمًا، أصلها من القرى السبع المحتلة، هونين، انتقلت من النبطية إلى بيروت.

من الجنوب، من قرية حومين الفوقا إلى منطقة قريطم في بيروت. الحاجة أم أحمد، خاتمها ساعتها ولعبة حفيدتها.

تحضر الحاجة سعاد من الضاحية الجنوبية لبيروت كل أوراقها القديمة، وتنسى هويتها الجديدة.

دفتر الحاجة سعاد، وعدد الصلوات نيابة عن زوجها.

رحلة الطيور، من ضيعة حولا الحدودية، إلى ابريخا، ثم الحمرا.

من تولين الجنوبية إلى مركز النزوح في بيروت.

من غرفة ام ناجي في مبنى “حمرا ستار” في شارع الحمرا، قبل أن تجبرها القوى الأمنية هي وكل النازحين على إخلاء المبنى الذي كان مهجورا منذ ثماني سنوات. أم ناجي قررت العودة الى منزلها في الضاحية الجنوبية.

من الجنوب الى مبنى حمرا ستار، قبل إجبار النازحين على إخلاء المبنى بأمر من النيابة العامة التمييزية.

في رحلة نزوح مستمرة، الشظية التي أصابت جعفر، ابن الـ 14 عامًا، أحضرها معه من قرية ميس الجبل الحدودية إلى بيروت، ثم تولين ثم برعشيت ثم صريفا وصولًا الى الخندق الغميق في بيروت.

يوم الاثنين ٢٣ سبتمبر/ أيلول، بعد تعرض جنوب لبنان لقصف عنيف وعشوائي، نزحت العائلات لتصل بيروت بعد 12 ساعة وأكثر . الزعتر الأخضر، حضّرته واحضرته الحاجة أم مهدي في سطل، من برعشيت إلى بيروت، تحسّباً لأن يجوعوا أثناء الطريق. الحاجة أم مهدي تذكّرت الزعتر لكنها نسيت أوراقها وهويتها.

ما جلبه الحاج أبو مهدي وابنته كوثر معهما.

من قلاواي في الجنوب إلى بيروت.. لم تسمح الثواني المتاحة إلا بالتقاط المفتاح.

مبنى سكني في النويري في العاصمة بيروت، قصفته اسرائيل، من دون أي إنذار، فاستشهد عشرات اللبنانيين. لم يكن من المفترض أن يوجد ركام، لم يكن من المفترض أن يوجد كل هذا الدمار، وهذه الحقائب كانت معدة لأغراض أخرى.. لكن هذا ما يحدث يوميًا.

كأنها كلمات البيت الأخيرة.