أفكر كثيرًا أن التوقيت المناسب لبدء الحكاية، هو صيف 1990، وستبدأ من الكويت، عمري ساعتها 11 سنة، جئتُ مع أهلي إلى مصر لقضاء إجازة الصيف، ثم غزا العراقُ الكويت، وبالتالي استحالت عودتنا مرة أخرى، فاستقرت الأسرة كلها في القاهرة . في مارس 1991 بعد التحرير عاد أبي وحده للكويت، وبدأت الحياة تأخذ شكلًا مغايرًا عن الفترة التي سبقت، رغم عمل أبي بالخارج لم أشعر بغيابه، كان يأتي إجازة كل شهرين تقريبًا وأحيانًا كل شهر، وكان على دراية بكافة تفاصيل حياتنا اليومية. لكن ساعتها بدأت تولد أسئلة بداخلي.. كيف ستنام ماما وحدها في السرير الكبير؟ كنت وأخوتي الصغار نتعارك كل ليلة تقريبًا عن من سينام بجوار أمي تلك الليلة، وبدأت أشعر بإحساس غريب لم أقدر على الإحاطة به ساعتها.
في 1999 عاد أبي واستقر في مصر، وهكذا التأم شمل العائلة مرة أخرى، لكن لم يستمر الوضع طويلًا، في بداية 2001 سافر أخي لدبي، ما زلت أذكر يوم سفره وبكائي الشديد، ساعتها بدأت أفهم قليلًا ذلك الإحساس الذي يعصر قلبي عصرًا.
بعدها تحولت حياتي إلى تواريخ.. في 2007 توفيت أمي، في 2008 سافر زوجي، في 2014 سافر أخوتي الأصغر للعمل والإقامة في الخارج، تلا ذلك بشهور وفاة أبي.
عبر هذه السنوات فهمت ما يطلقه فيّ السفر من شعور بالفقد والوحشة والاشتياق، وكثيرًا ما سألت نفسي عما يوجع أكثر.. فراق الأحبة بالسفر أم فراقهم بالموت؟
مرت سنوات كثيرة دون أن أواجه تلك الأفكار والمشاعر التي لم أسميها، حتى سنة مضت، حين سافر ابني لفرنسا من أجل الدراسة، هنا أدركت أن ما كنت أخشى من تسميته صار له اسم الآن، جزء مني تركني ومضى، ومما زاد الأمر ثقلًا أن بعدها بأشهر سافر زوجي للعمل مرة أخرى في الخارج، وبقيت أنا وابنتي وحيدتان، وأصبح البيت من جديد شديد الاتساع. الأمر الأغرب بالنسبة لي أن ابنتي الآن في نفس عمري عندما سافر أبي.
كأن المشهد بقى ثابتًا بكل تفاصيله عبر سنوات كثيرة فقط تغيرنا نحن الأفراد داخل المشهد، كأني تحولت إلى أمي جديدة؛ كانت تعد عددًا من الأكلات التي كان يفضلها أبي قبل سفره كي تكون جاهزة للتسخين، ووجدت نفسي أفعل الشيء ذاته قبيل سفر زوجي، بزيادة أني أقوم بذلك أيضًا مع ابني.
أسأل نفسي كثيرًا، كيف تتواجد أزمنة مختلفة في نفس الوقت؟ كيف رأيت مكانًا عشت فيه كمغتربة من مكان آخر عشت فيه أيضًا كمغتربة؟ كيف نتعامل مع مخاوفنا إذا اعتاد كل منا على العيش بمفرده؟ واحتار في الرد على أسئلة زوجي عن كيف كانت علاقتي بأبي وقت سفره المتكرر ومشاعري وقتها علّ تلك الأجوبة تساعده في التعامل مع ابنتنا التي تكبر في غيابه، وهو ما زال غير قادر على استيعاب تلك الفكرة.
ما زلت أحاول إدراك إجابة ابني عندما سألته عن تجربة السفر والغربة فرد قائلًا: “ماما أنت عارفة إن أطول مدة عيشتها معاكم خلاص خلصت.. يعني دي هتكون آخر أكبر فترة في حياتي معاكم”.
أنهي مكالمة مرئية مع ابني وأشكر الله كثيرًا على هذا التطور في وسائل الاتصال، أتذكر أن أبي ثبت لنا موعدًا أسبوعيًا للحديث معه عبر اشترك في تليفون دولي كان يكلف كثيرًا، ثم جهاز آخر في زمن ما قبل برامج التواصل الرقمية، استعملته أثناء إقامتي في دبي للحديث مع أفراد أسرتي في مصر ثم الآن كل إمكانات المكالمات المرئية.. لكني أعرف أن كل هذا التطور لم يمنع إحساسي الرهيب بالوحشة.
كأنها صدمة تعيد نفسها، هل أعيش زمنًا لا يخصني؟ هل أعيش ماضي أمي التي سافر زوجها وابنها بعيدًا عنها؟ أم أعيش حاضر ابنتي التي سافر أبوها وأخوها وظلت هي مع أمها؟ وبالتالي من أنا حقًا.. المرأة القوية التي تشجع زوجها وأولادها على السفر واكتشاف العالم؟ أم البنت الصغيرة التي تحاول إدراك مشاعرها تجاه الماضي؟
ربما دمج الماضي بالحاضر لا يساعد كثيرًا في تصفية أفكاري، ولكنه يدفعني إلى إدراك حقيقة مشاعري، وهي أن قلبي موزع على أماكن وبلاد كثيرة.. هل كان يمكن أن يكون الأمر على خلاف ذلك؟ لا أعرف.. تضعنا الحياة دائمًا على طرق لم نتخيل وجودها قط، وأيضا لم نتصور تبعات السير في تلك الطرق.. ولكن على ما يبدو هذه هي الحياة.