علَّقت كل تلميذة منَّا بفخر شارةً نحاسيةً حمراء مستطيلة على سترتها البنية. كُتِبَ على الشارة «أمينة مكتبة». أمَّا أمينة المكتبة الفعلية، ميس ليليان، التي كانت امرأةً طويلةً أنيقةً قصيرة الشعر، يمنحها شراء الكتب الجديدة إحساسًا بالسعادة، وساعدناها بدورنا في إلصاق أرقام عليها ووضعها في أماكنها الصحيحة على الأرفف. كل شهر، كانت تأخذنا، نحن أمينات المكتبة المتطوعات، في رحلة داخل القاهرة، وفي واحدة من تلك الرحلات -كان ذلك في السبعينيات- رأيت لأول مرة مساجد السلطان حسن والرفاعي وابن طولون.
أخذتنا أيضًا لزيارة وكالة الغوري، ومتحف الفن الإسلامي، وقلعة صلاح الدين، ومسجد الإمام الشافعي. روت لنا بحماس تاريخ الأماكن وقصص المدينة، مؤكدةً: «مصر ليست مجرد أهرامات». أحببتُ الشوارع والمباني والتاريخ، وما زلتُ حتى اليوم شغوفة بالتوهان واكتشاف أماكن جديدة. ولسنوات، كنتُ أفكر سرًا بميس ليليان أثناء زيارتي وتصويري لخبايا القاهرة. لطالما فكرتُ في الشغف الذي غرسته في. وحاولتُ جاهدةً البحث عنها وشكرها.
دعيت قبل أسابيع للمشاركة بمعرض لصوري في “أسبوع القاهرة للصورة“. اخترت “القاهرة 90” كعنوان للمجموعة، كانت تلك السنوات عصري الذهبي في اصطحاب كاميرتي في شوارع المدينة دون خوف، بداية رحلتي للتعرف على الأماكن والناس الذين يخلقون المدن، أشاركهم وأتعلم منهم. لم يكن الأمر حنينًا لزمن التسعينيات، ولكن محاولة لتوثيقها بحلوها ومرها. بالأماكن التي تغيرت، فالمدن تتغير، بالأماكن التي بقيت والكثير منها الذي انمحى.
بحثتُ عن ميس ليليان مجددًا. وجدتُ صفحةً على «فيسبوك» لخريجات المدرسة. دخلتُ بحماسة قدَّمت نفسي وقلت إنني أبحث عن ميس ليليان. أعطتني إحدى الخريجات عنوانًا ظنَّته عنوانها، وتحدثت أخرى عن جمالها ومعرفتها، وقالت ثالثة إنها رأتها قبل ثلاث سنوات، وأعطتني رابعة رقم هاتفها. حاولتُ الاتصال به ولكنه كان مغلقًا. وأعطتني خامسة عنوانًا مختلفًا فوق سوبر ماركت شهير. اتصلتُ لأسأل العاملين به إن كانت قد طلبت مؤخرًا أشياء منهم، لكنني لم أحصل على أي معلومات.
بعد أسبوع، راسلتني إحدى الخريجات على انفراد. قالت لي إن ميس ليليان لا تزال على قيد الحياة، لكنها تعاني فقدان الذاكرة.
ما زلت أمشي اكتشافًا للأماكن. أصورها. أوثِّق حياة الناس وملابسهم وتسريحات شعرهم. وأيضًا العمارات وإشارات الطرق. أحاول نقل مشاعر وتطلعات وأحلام لحظات معينة. تزول البيوت والمدن وتُفقد الذاكرة. ومع ذلك، تبقى الصور أداة لمقاومة الزوال والفقد. أنا أقاومُ بالتصوير.