fbpx

عن “العادي” المؤجل منذ فترة طويلة

عجز؟ كسل؟ اكتئاب؟ حالة مؤقتة؟ ارتبكتُ وخفتُ أن أعجز عن حمل الكاميرا بعدها إلى الأبد
28 يناير 2021

عن

سنوات أحمل الكاميرا وأخرج للشارع. إن لم يكن عندي مهمة محددة فالسيدة زينب أو وسط المدينة هما الأقرب لنزهة يومية على الأقدام. أمر بميدان التحرير إن سلكت شارع قصر العيني أو بميدان باب اللوق لو مشيت في سكة الفلكي. أصل ميدان سليمان باشا -اسمه منذ زمن طلعت حرب، لكن اسمه السابق يحلو لي.. فتمثال طلعت حرب كان بإمكانه أن يقف أمام البنك الذي أنشأه– أكمل إن شئت حتى ميدان مصطفى كامل أو أعود أدراجي الى المقهى.

ألتقط الصور أحيانًا للحياة في الشارع، أداعب المارين والباعة بالتصوير، أتناقش معهم إن خجلوا من عدستي المتعدية. في أغلب الأوقات أحظى بموافقتهم ومباركتهم.

عن

عن

عن

عن

عن

كنت أعود خلال فترة عملي مصورة في جريدة “الأهرام ويكلي” من مقر الجريدة إلى البيت مشيًا على قدمي. الطريق يمر أيضًا عبر وسط المدينة. عام 1999 قامت وزارة الخارجية بقيادة عمرو موسى بتجديد مبنى النادي الدبلوماسي (نادي محمد علي) الذي بُني في 1907 بشارع سليمان.

احتفالًا بالتجديدات وبمباركة الوزارة قامت الجريدة بإرسالي مع محررة قديرة للعمل على صفحة عن تاريخ المكان العريق، وبحديث صحفي مع مدير المكان مصاحب بصوري. عدت لرئيس التحرير بعد أن حمّضت وطبعت الصور التي اخترتها للنشر. لاحظ أنني قد صورت الغرف والسطح والتفاصيل ونسيت أن التقط صورة للمبنى ككل من الخارج. اعتذرت وأكدت له أنني سأقوم بتصوير المبنى في رحلة العودة إلى البيت.

من الرصيف المقابل للمبنى وقفت لالتقاط صورة. ظهر عامل غاضب من المبنى يصرخ من بعيد ويأمرني بالابتعاد. حين أكملت التصوير جاء بعسكري المرور وأمره أن “يزيلني”.

ضحكت وقلت أنني لست سيارة وقد يكون الأحسن لصق مخالفة المرور على ظهري. كنت سأخرج له رسالة الدعوة التي تلقتها الجريدة بالموعد مع سعادة السفير ولكنه ضربني بقبضة قوية في كتفي. صرخت والتقطت صورة اضافية وتركت المكان وأنا استشيط غضبًا وألمًا.

قررت العودة بغضبي للجريدة بدلًا من المنزل وطلبت من رئيس التحرير أن يأخذ لي حقي. كتبت عريضة شكوى للسيد عمرو موسى ووقع عليها الأستاذ حسني جندي رئيس التحرير..

بعدها بيومين استدعيت لمكتب الوزير. دعاني لاحتساء الشاي في مكتبه واعتذر عن الموقف. طالبنى بصورة الحارس الذي ضربني – لكني رفضت معتذرة أن السلوك وليس شخصاً بعينه هو المدان.

عن

عن

عن

أحمل عبئًا إضافيًا.. سلّمًا خفيفًا صغيرًا -أحمد لله أن بيتي لا يبعد كثيرًا- أحتاجه لأرتفع. أنا قصيرة وتعجز ذراعي الممتدة إلى التقاط صورة جماعية للحشود في الميدان. أذرع كثيرة تمتد بجهاز التليفون المحمول والكاميرات – كلهم يريدون تسجيل وتجميد اللحظة ليتوقف الزمن عند نظرة وصيحة الكرامة والتمسك بصورة ابتسامة الأمل والثقة في أيام قادمة أكثر عدلًا.

يوم جمعة أصل الميدان مزدحمًا، نسيت السلم الصغير، أرى على المنصة قسيسًا وشيخًا يخطبان، أدخل وسط الزحام وأتأفف من قصر قامتي وأفكر أنه لا سبيل للتصوير إلا لو كنت فوق المنصة.

أحاول التسلل عبر الأجساد. أكتشف أنهم نادوا بتسوية الصفوف.. أمامي صفوف طويلة من الرجال الملتحين، أشرح لأحدهم أني أحاول الوصول إلى المنصة. بصوت جهير يصيح بمئات الرجال “وسع للأستاذة”.. لينشق البحر فأعبره إلى أن أصل، صفوف السيدات يفسحن لي ويساعدنني. شيخ معمم فوق المنصة يحمل عني الكاميرا ويمد لي يده حتى يتسنى لي تسلقها.

عن

عن

عن

عن

عام 2014 أبدأ العمل في موقع إخباري جديد.. يحلمون بمقالات نقدية وقصص مصورة طويلة. أذهب مع زميلة تصوير شارع “سويقة اللالا”. يحتفي بنا أهل الشارع ويعجبون بقصصنا عن “شهبندر التجار” الذي كان يسكن فيه وحده قبلهم.

يتساءلون أين كانت الحديقة الغناء التي وصفناها لهم وسط بيوتهم الصغيرة. نذكرهم بأغنية أوبريت الليلة الكبيرة “صيتي من القلعة لسويقة اللالا” يبتهجون ويدلونا على الجامع القديم ومكان الحمام الذي أزيل.

نودعهم ونخرج مبتسمين للشارع الكبير. سيدة طويلة حادة الملامح تمسك بزميلتي. “انتو تبع ايه وجايين هنا ليه؟ معاكم تصريح؟” تحاول زميلتي الشرح دون جدوى. تفقد أعصابها وتسألها “حنكون جواسيس يعني؟” “أيوة جواسيس ولازم تصريح”.

أشد زميلتي بسرعة لداخل الشارع الصغير، نلهث توترًا. يستقبلنا صاحب القهوة الذي صورناه. يدعونا لكوبين شاي ويهدئ من روعنا. يطلب مننا وصف السيدة.. “مش من عندنا ما تخافوش خليكم قاعدين معانا شوية”.

عن

عن

عن

طلبت مني صديقة تصوير سوق الخضراوات بسوق السيدة زينب لكتابها الجديد. كنا في 2017 لكنه السوق الذي أزوره وأشتري منه مرة في الأسبوع على الأقل على مدار العشرين عامًا السابقة.

خفت وترددت لأول مرة أن أحمل الكاميرا وأخرج بها للشارع. بعد ثلاثين عامًا من امتهاني التصوير للناس والأماكن والأحداث في الشارع.

لم أتميز في التصوير سوى بعلاقتي الحلوة التي تنشأ سريعًا بالناس في كل مكان ولو كانت المرة الأولى التي ألتقيهم. أجيد الاستماع ونقل الحكاية بالصور، لم أكن يومًا عضوة في نقابة الصحفيين، ولم أحمل أوراق أو تصاريح أحتمي بها. لم أخف طوال مسيرتي ولم أتوقف عن التصوير.

المصورون والطلبة اللذين نزلوا معي للشارع عادة ما يندهشون. الخبرة الثمينة الوحيدة التي باستطاعتي نقلها اليهم – الناس لا يخيفون أبدًا ولا الشارع- اعتذرت عن المهمة.

عجز؟ كسل؟ اكتئاب؟ حالة مؤقتة؟ ارتبكت وخفت أن أعجز عن حمل الكاميرا بعدها إلى الأبد. بعد يومين قررت مواجهة نوبة الذعر. حملت الكاميرا ونزلت لتصوير أهل الحي الذي أسكن فيه منذ طفولتي، البقال والمكوجي والخياط وبائعة الخضروات.. هؤلاء يعرفونني ولن يأذونني.

عن

حتى اليوم أؤجل تصوير الناس في بلدنا الواسعة لحين ميسرة.

عن