fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

إضراب عام في وضع خاص

لطالما ردّد نقابيو تونس "عاش عاش الاتحاد أقوى قوة في البلاد"، هل مازال الأمر ساريًا وسط مشهد سياسي كل ما فيه استثنائي؟
23 يونيو 2022

في قلب العاصمة تونس وخلف الشّارع الكبير الذي يراه الجميعُ دومًا في التّلفزيون، شارع الحبيب بورقيبة، يقع مقرّ الاتحاد العام التونسي للشّغل، المنظّمة النقابيّة الأعرق والأكبر على الإطلاق في العالم العربي. يُسمّى الشّارع الذي يقع فيه المقر “شارع محمّد علي”. 

في عشرينات القرن الماضي، عاد محمّد علي الحامي من برلين إلى تونس، محمّلاً بأفكار اشتراكية ونقابيّة. متخرجًا لتوّه من جامعة شعبيّة في الاقتصاد السياسي، ومتشبعًا بفكر يساري اجتماعي، التقى الحامي، مباشرةً عند عودته، ابنَ بلدته (بلدة الحامة جنوبي البلاد)، المصلح الاجتماعي الكبير الطّاهر الحدّاد، الخارج لتوّه أيضًا من تجربة سياسيّة فاشلة في صفوف الحزب الحُر الدّستوري (مكلّفًا بالدّعاية) بعد نفي صديقه زعيم الحزب، الشّيخ عبد العزيز الثعالبي، وقمعِ العمل السياسي الوطني من قبل السلطات الاستعماريّة. كان اللقاء حاسمًا في تاريخ البلاد. 

محمّد علي الحامي هو مؤسّس أوّل نقابة عربيّة وتونسيّة “جامعة عموم العملة التونسيّة” في العام 1924 رفقة الطّاهر الحدّاد، وآخرين. ولكن بعد أشهرٍ قليلة، تم حلّ النقابة ونفي الحامي ليموت خارج البلاد.

فشلت تلك التجربة الوليدة، لأسباب كثيرة، أحدها الدّور الكبير الذي لعبه الحزب الحر الدّستوري (القديم) في ضرب هذه التّجربة وتحالفه في ذلك مع الإقامة العامة الاستعماريّة.

انتهت التّجربة سريعًا، ولكنّها كانت بذرة أولى تراكمت فوقها خبرة نقابيّة تونسيّة انتهت بتأسيس الاتحاد العام التونسي للشّغل في العام 1946.

في “بَلكونة” ذلك المقرّ العريق، في شارع محمّد علي، يقف الأمناء العامون للاتحاد العام التونسي للشّغل في كلّ مناسبة سياسيّة أو عمّاليّة ليخطبوا في الحشود: عمّالًا ونقابيين ومثقفين ومناضلين -سياسيين واجتماعيين- وحقوقيين.

لذلك المكانِ رمزيّة كبيرة في الذّاكرة السياسيّة التونسيّة. كلُّ اللحظاتِ المفصليّة الكبرى في التاريخ التونسي المُعاصر، كان ذلك الشّارعُبالذّاتدومًا أحد أهمّ ساحاتها.

يقف بين الحُكومة والاتحاد جبلُ جليد عالٍ تُضخّمهُ أزمة المفاوضات مع صندوق النّقد الدّولي، وما تقترحهُ الحكومة من إجراءات بهدفِ الحصول على قرضٍ لحلحلة الأزمة الاقتصاديّة والابتعاد عن شبح الإفلاس وهي إجراءات يرفضها الاتحاد  بصرامةٍ ويصفها بالـ”المُؤلمة”

وفي يوم الخميس 16 يونيو (حزيران) 2022، وقف الأمين العام الحالي نور الدّين الطبّوبي، في “بَلكونة” أخرى في شارعٍ آخر، في مقرّ “وقتي” للاتّحاد (المقر الأصلي يخضعُ لأعمال صيانة)، ليخطبَ في النقابيين والعمّال المُضربين يومها في إضراب عام لمؤسسات لقطاع العام، دعت له المنظّمة بعد فشل المفاوضات حول الزيادات في الأجور مع حكومة نجلاء بودن التي عينها الرئيس قيس سعيّد أسابيع بعد “إجراءات 25 جويلية (تموز) 2021”.

بدا المشهدُ غريبًا عن المُعتاد الرّاسخ في الذّاكرة البصريّة لعموم التونسيين، عن خطب شارع محمّد علي و”بلكونته” العريقة، وبدت الصّورة فاقدةً لسحرها القديم. ورغم تأكيدات الطبّوبي في خطابه، بأنّ الإضراب ناجح وبنسبة 96%، غير أنّ كثيرين شكّكوا في النّسبة، وتناقلت مصادر إعلاميّة ونُشطاء موالون في أغلبهم للرئيس قيس سعيّد، مشاهد وصُورًا تظهر تواصل العمل في عدد من المرافق التي يشملها الإضراب. 

يأتي هذا الإضراب (في ما هو مُعلن) على خلفيّة فشل المفاوضات الاجتماعية التي خاضها الاتحاد مع حُكومة نجلاء بودن من أجل الزيادات في الأجور. غير أنّ الأزمة بين الحُكومة والاتحاد تتجاوز هذا التفصيل إلى ما هو أعمق. 

فبخلاف هذا السبّب المُعلن للإضراب يقف بين الطرفين جبلُ جليدٍ عالٍ تُضخّمهُ أزمة المفاوضات مع صندوق النّقد الدّولي، وما تقترحهُ الحكومة من إجراءات بهدفِ الحصول على قرض من الصّندوق لحلحة الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي تتخبّط فيها البلاد، والابتعاد عن شبح الإفلاس والذّهاب -بالتالي- نحو نادي باريس. 

وهي إجراءات يرفضها الاتحاد العام التونسي للشّغل بصرامةٍ ويصفها بالـ”المُؤلمة”. الأمر الذي يُعمّقُ مأزقَ الحكومة التي تحتاج إمضاءات المنظّمات الاجتماعية في البلاد للحصول على قرض الصّندوق.

وفي الواقع، فإنّ هذه الإجراءات التي تقترحها حكومة بُودن، ومنها تخفيض كتلة الأجور ووقف الانتداب في الوظيفة العموميّة والقطاع العام، تمثّل ضربة قويّة ومباشرة للاتحاد في حدّ ذاته، وهو الذي يستمد قوّته وموارده البشريّة خاصة من الوظيفة العموميّة والقطاع العام، كما أنّ الجزء الأهم من موارده الماليّة يتأتى من الاقتطاع الذي يحصل عليه من أجور الموظّفين.

وخلفَ كلّ هذا، أيضًا، يختفي أحد أهم أسباب هذا التّنافر بين الطّرفين، وهو المنشور عدد 20 الذي أصدرتهُ رئيسة الحكومة نجلاء بودن نهاية العام الماضي، المُوجّه إلى الوزراء وكتّاب الدّولة والمدراء العامين في كل الوزارات، بشأن عدم التفاوض مع النقابات إلاّ بعد العودة إلى رئاسة الحكومة، وهو الأمر الذي رفضه الاتحاد العام التونسي بشدّة، معتبرًا أنّه “ضربٌ للعمل النّقابي”. 

كان الإضرابإذننتيجة مركّبةً لكل هذا، ولكن أيضًا لأشياء أخرى.

وضعٌ مُربِك وُمرتبِك

“ليسَ إضرابًا سياسيًا” هذا ما حرص الاتحاد العام التونسي للشّغل على تسويقه منذ الإعلان عن هذا التحرّك، مؤكّدًا على أنّه إضراب ذو مطالب نقابيّة (واجتماعيّة) صريحة ودقيقة.

لكن الاتّحاد لطالما كان قوّة تأثير سياسي، ولطالما كان “جسمًا سياسيًا” بموازاة دوره الرئيسي كمنظّمة نقابية واجتماعيّة. ولا يُمكن فهم هذا الإضراب في عُمقه الفعلي، دون فهم سياقه السياسي العام الذي وُلدَ فيه، وخاصةً دون فهم علاقة الاتحاد بالسّلطة عبر التاريخ، وأيضًا دون فهم موقعه في الخارطة السياسيّة والاجتماعية في البلاد منذ عقود.

في الـ25 جويلية (يوليو) العام الماضي، عندما أعلن الرئيس قيس سعيّد عن إجراءاته التي جمّد بموجبها أعمال مجلس النوّاب وإقالة الحكومة، وتعليق العمل ببعض فصول الدّستور، انحاز الإتّحاد العام التونسي للشّغل لذلك الإعلان، وكان من أوائل، وأهم المساندين لذلك المسار الجديد في تونس. 

لكنّ “حماس” الاتحاد المُعلن والصّريح لإجراءات 25 جويلية، قابلهُ برودٌ واضح من قبل الرّئيس قيس سعيّد، الذي يتبنّى فلسفة سياسيّة قائمة على إلغاء كلّ الأجسام السياسيّة الوسيطة بين الحاكم والمحكوم، بما في ذلك الأحزاب والمنظمات الاجتماعية ومنظّمات المجتمع المدني. 

قبل أسابيع من إعلان إجراءات 25 جويلية، رفض الرّئيس قيس سعيّد بتلكؤ ولا مبالاة دعوة الاتحاد إلى حوار وطني، على شاكلة الحوار الذي قاده الأخير في العام 2013 وأخرج به البلاد من مأزقها المتردّي فترة حكم الترويكا التي تتزعّمها حركة النّهضة الإسلاميّة.

ذلك الحوار الذي رعاه الاتحاد رفقة ثلاث منظمات أخرى (اتحاد الأعراف، إتحاد الفلاّحين، عمادة المحامين) وحاز به على جائزة نوبل للسّلام في العام 2015، التي زادت بها رمزيّة وقوّة الاتحّاد لا محليًا فقط، بل دوليًا كذلك.

 على عكسِ تاريخه الطّويل، المتشابك بين السياسي والنقابي وحتى الكفاحي زمن الاستعمار، لا يجدُ الاتّحاد العام التونسي للشغل اليوم الحظوة التي لطالما كان يلقاها في السّاحة السياسية التونسية، طيلة عقود، وخاصةً بعد الثّورة .. ويبدُو الاتحاد فعلاً، في وضعٍ مهمّش ضمن معادلة الرئيس قيس سعيّد في الحكم وتسيير شؤون البلاد ..

ولكن بعد صائفة 2021، لم يُظهر الرئيس قيس سعيّد أيّ اهتمام يُذكر بالاتّحاد أو بدوره أو مواقفه. كما لم يُظهر إهتمامًا بغيره -أيضًا- من المنظمات السياسيّة والاجتماعيّة في البلاد، بما في ذلك الأحزاب التي دعمته دون شرطٍ لحظة 25 جويلية، والتي بدأ الكثير منها في الانفضاض من حوله مع الوقت. 

“يشعرُ الاتحاد بأنّه مقصيٌّ من المعادلة الجديدة بعد 25 جويلية“، هكذا يصفُ الباحث ضو الصغيّر في تصريح لـ “خط30″، موقف الاتّحاد اتجاه السّلطة القائمة حاليًا في تونس.

وبتابع الصغيّر بأنّ “الاتّحاد طالما كان يشعرُ بأنّه رقمٌ أساسي -وحتى رئيسي- في المعادلة السياسيّة في تونس. منذ تأسيسه كان الاتّحاد فعليًا في قلب هذه المعادلة، ومؤثرًا فيها. وهو وضعٌ أكّدته عشريّة ما بعد الثّورة (2011-2021) ودوره الرئيسي في الحوار الوطني عام 2013، ودوره في إخراج دستور العام 2014”. 

ويضيف الباحث أنّ “هذا الوضع تغيّر بعد صعود الرّئيس قيس سعيّد إلى السّلطة. فهو لا يؤمن بالأجسام الوسيطة، أحزابًا ومنظمات. وهو يطبّقُ حرفيًا ما كان قد تحدّث عنه في حملته الانتخابية في العام 2019.

واتحاد الشّغل (ومعه الأحزاب السياسيّة حتى تلك التي دعمت قيس سعيّد بشكل صريح في الانتخابات) وقعت في سوء فهمٍ -يبدو أنّه لازال متواصلاً- اتجاه فكر وفلسفة وسياسة قيس سعيّد. وهذا الموقف الواضحُ من الأجسام الوسيطة جعل الاتحاد في موقعٍ بعيد عن التأثير في العمليّة السياسيّة نتيجة إقصائه من قبل الرّئيس. وهي وضعيّة لم يتعوّد عليها اتّحاد الشّغل عبر تاريخه، كما أنّها لا توازي في المُقابل حجم دعمه للحظة 25 جويلية والمسار اللاحق عنها”. 

يبدُو اتحاد الشّغل فعلاً، في وضعٍ مهمّش ضمن معادلة الرئيس قيس سعيّد في الحكم وتسيير شؤون البلاد. لا يبدو أنّ له تأثيرًا على مسار الأحداث. ولا شكَّ يشعرُ بذلك أيضًا، وذلك الشّعور هو ما يكيّفُ تحرّكاته بشكل فعلي.

فعلى عكسِ تاريخه الطّويل، المتشابك بين السياسي والنقابي (وحتى الكفاحي زمن الاستعمار) لا يجدُ الاتّحاد اليوم الحظوة التي لطالما كان يلقاها في السّاحة السياسية التونسية، طيلة عقود، وخاصةً بعد الثّورة. 

وبإسقاطٍ “نفسي” على المعنى السياسي، يُمكنُ رؤية نرجسيّة جريحة تصوّرُ حالة الاتّحاد بتاريخه الكبير وثقله الوازن في المشهد السياسي التونسي، تسببها حالة “اللامبالاة” والتهميش والإقصاء التي تُقابله بها السّلطة القائمة وعلى رأسها الرّئيس قيس سعيّد، وينتجُ عنها حالة من التنافر السياسيّ المُغلّف بعناوين نقابيّة. 

يقف الاتحاد العام التونسي للشّغل، في موقع مُربِكٍ ومرتبكٍ وسط الأحداث. فهو داعمٌ صريح لهذا المسار الجديد التي شقّه الرّئيس قيس سعيّد، لكنه في نفس الوقت رافضٌ لسياسة هذا الأخير الاقصائيّة اتجاه الأحزاب والمنظمات، ودون أن يتقاطع مع المعارضة الحزبيّة (خاصة تلك التي كانت في صدارة المشهد قبل 25 جويلية وعلى رأسها حركة النّهضة وحلفائها)، وبرفضُ أن يطلق على إجراءات 25 جويلية وصف “الانقلاب”. وضعيّة تجعلُ من الاتحاد، بحجمه وتأثيره الكبيرين، في موقعٍ متمايز عن الجميع في المشهد التونسي.

“خَطٌّ ثالث” ضمن لوحةٍ سياسيّة معقّدة

في السياق العام، جاء هذا الإضراب، في وضعٍ معقّد واستثنائي. فكلّ ما في مشهديّة اللحظة الحاليّة في تونس، استثنائي.

فالوضع السياسي الرّاهنُ في البلاد قائم على ما أسماه الرّئيس قيس سعيّد بـ“الإجراءات الاستثنائيّة” التي أطلقها في 25 جويلية، والمكتب التنفيذي الحالي للاتحاد العام التونسي للشّغل وأمينه العام، قادمون أيضًا -في دورةٍ نيابيّة جديدة- على أنقاض “مؤتمر استثنائي” أعاد صياغة القانون الدّاخلي للمنظّمة ليسمح لهم بالترشّح فترة أخرى، بعد استنفاذ حقهم القانوني في دورتين.

ولفهم الموقع الحالي للاتّحاد لابدّ من تفكيك هذا المشهد التونسي القائم.

يتشكّل المشهد السياسي الحالي في تونس، في صورةِ لوحةٍ متداخلة ومركّبة. ففي حين يجلسُ قيس سعيّد في قمّة كلّ شيء في البلاد وفي قمّة الصّورة، متفردًا بسلطة مطلقة، تجلسُ من حوله بعض الأحزاب والشخصيات الوطنيّة، الذين يعلنُ بعضهم مساندةً مُطلقة لـ”مسار 25 جويلية” بينما يعلن بعضهم الآخر “مساندةً نقديّة” لذات المسار. 

في المقابلِ تتشكّل المُعارضة من خليطٍ غير متجانس، شخصياتٌ ومنظمات وأحزاب، بعضهم انصهر في جبهات سياسيّة وبعضهم خيّر المعارضة منفردًا. نجد في المعارضة وبشكل بارز مبادرة  “مواطنون ضد الانقلاب” التي تجمع نشطاء ومدونيين وسياسيين مستقلين ومتحزبين، وهي من أوّل الأجسام المعارضة التي تشكّلت أيّامًا بعد إعلان إجراءات 25 جويلية.

كما نجد في خارطة المعارضة أيضًا “جبهة الخلاص الوطني” التي يترأسها أحدُ رموز المعارضة التاريخيّة في البلاد أحمد نجيب الشابي، وتضمّ عددا من الأحزاب على رأسها حزب حركة النّهضة. 

ووسط كلّ هذا، يصرُّ الاتحاد العام التونسي على التمايز عن الجميع معلنًا عن ما أسمّاه “الخط الثالث” في تعامله مع الوضع السياسي الرّاهن المعقّد في البلاد. وفي أثناء ذلك يجدُ نفسهُ أيضًا في مرمى نيران الجميع، مؤيدي قيس سعيّد ومعارضيه. 

فهو في المُحصّلة لا يرفضُ “مسار 25 جويلية” (الذي تعتبرهُ المعارضة انقلابا)، بل يدعمهُ، ولكنه في المقابل يتّخذ مسافة منه، لا معارَضَةً ولكن رفضًا لتمشّي الرئيس قيس سعيّد ولرغبته في الانفراد برسم هذا المسار. 

وهو لا يرفضُ -أيضًا- الحوار مع الرّئيس (الذي تعتبره المعارضة مُنقلبًا)، بل يرغبُ في ذلك، لكنّه يرفضُ فرض شكل الحوار من قبل قيس سعيّد بدون تشارك في الإعداد والتصوّر، حيث يؤكّد أمينه العام أنّ المنظمة النقابيّة “لا تريد للحوار أن يكون صورة إعلامية تسوق للرأي العام وأنّ الاتحاد إذا وجد الإطار المناسب للحوار سيكون قوة خير واقتراح“. وهو أيضًا (وهذا الأهم) لا يرفضُ مبدأ إلغاء الدّستور وصياغة دستور جديد، لكنّه لن يسمح -في المقابل- بالمساس بحق الإضراب في هذا الدّستور. بالتالي، فعلاقةُ الاتّحاد مع السّلطة القائمة، معقّدة بشكل لا يُمكنُ فهمها بيُسر، ولا اختزالها في الإضراب الأخير.

فالرئيس قيس سعيّد يحكمُ البلاد بسلطة مطلقة وبالمراسيم، بدون وجودٍ فعلي لأيّ سلطة حقيقيّة  مقابلة لديها القوّة القانونيّة للحدّ من ذلك، منذ حلّه للبرلمان وقبل ذلك رفضه ختم قانون المحكمة الدّستوريّة. حُكمُ مُطلق سائرٌ إلى الأمام بدون أي تفاعل مع أي أحد أو اعتبار لحركات المعارضة والمنظمات والهيئات المهنيّة والبيانات الحقوقية والسياسيّة. مرورٌ بقوّة يمارسها قيس سعيد غير عابئ بأي شيء.

في هذه اللّحظة من الزّمن السياسي التونسي، يبدو أنّ كلا الطّرفين يريدُ أن يبلغَ للآخر، رسالة ما. الاتحاد ملوّحًا بورقة الإضرابات والتعبئة الاحتجاجيّة ورفض النقاش حول وثيقة الإصلاحات، وبنرجسيّة الثّقل التاريخي، يريدُ أن يعيدَ تثبيت نفسه ضمن المعادلة السياسيّة. والسّلطة عبر ورقة “اللامبالاة” وبالمنشور عدد 20 وبقضيّة المؤتمر الاستثنائي واللعب على شرعيّة المكتب التنفيذي نفسه، تريد المرور نحو “التأسيس الجديد” الذي يُبشّر به الرئيس قيس سعيّد، وبدون أي أجسامٍ وسيطة

وهو قوّة يستمدها،  أيضًا (وخاصةً) من ضعف معارضيه. من تشتّتُ المعارضة وعجزُها الواضحُ عن الالتحام في جبهة موحّدة أو حتى اتّخاذ مواقف متقاربة من أي قضيّة.

تشتّتٌ صَنَعته ارتدادات وآثار عشر سنوات من الصّراع السياسي غير المنظّم وغير العقلاني. عشريّةٌ عاشت على وقعها البلاد أزمات خانقة، شوّهت صورة الديمقراطيّة التونسيّة الوليدة ومسارها، وأضعفت الاقتصاد الوطني ولوثّت الأعراف السياسيّة وأفقدت التونسيين كلّ شغف أو اهتمام بالسياسة أو ثقة في السياسيين، وأوصلت البلاد إلى حالة متدنية من الإفلاس والاحتقان الاجتماعي والانسداد السياسي. وضعٌ قد يختلفُ المراقبون عن دور أو إسهامات قيس سعيّد فيه، لكنّهم يتّفقون عن استفادته -في النّهاية- منه، واستثماره بإتقان في لحظة 25 جويلية

في المقابل، يعيش الاتحاد في داخله صراعًا بائنًا، حول شرعيّة المؤتمر الاستثنائي ومخرجاته، وبالتّالي شرعيّة القيادة الحاليّة نفسها. ولا يبدو الاتحاد في وضع قوّة كما كان. جبهته الدّاخليّة متصدّعة. وشرعيّته القانونية نفسها محلُّ نزاع قضائي في المحاكم. نقطة يبدو أنّ السّلطة السياسيّة القائمة تحاول أن تُمسكه منها بقوّة.

في كلّ المناسبات النّقابيّة والتحرّكات الاجتماعية وحتى السياسيّة (خاصة بعد ثورة العام 2011) يردّد النقابيون دومًا شعارًا شهيرًا “عاش عاش الاتّحاد.. أقوى قُوّة في البْلادْ”. كلّ الأرقام والحوادث والتواريخ تؤكّد صحّة هذا الشّعار. فالاتحاد هو أكثر الأجسام تنظيمًا في تونس وأكثرها قدرة على التعبئة ويتجاوز عدد المنخرطين فيه المليون عضوًا، ويمتلك مقرّات في كل مناطق البلاد، وجيشًا من الموظفين المتفرغين ويتحصّل على خدمات من الدّولة، التي تقتطع له من أجور الموظّفين (لمن يرغب) معاليم انخراط شهريّة تذهب مباشرةً لأرصدته البنكيّة، كما يمتلك استثمارات وتأثيرًا كبيرًا في أروقة الإدارة والبيروقراطية التونسيّة وفي الاقتصاد الوطني. 

لكن في هذه اللّحظة بالذّات من الزّمن السياسي التونسي، يبدو أنّ كلا الطّرفين يريدُ أن يبلغَ للآخر، رسالة ما. الاتحاد ملوّحًا بورقة الإضرابات والتعبئة الاحتجاجيّة ورفض النقاش حول وثيقة الإصلاحات المزمع تقديمها لصندوق النّقد الدّولي، وبنرجسيّة الثّقل التاريخي، يريدُ أن يعيدَ تثبيت نفسه ضمن المعادلة السياسيّة. والسّلطة عبر ورقة “اللامبالاة” وبالمنشور عدد 20 وبقضيّة المؤتمر الاستثنائي واللعب على شرعيّة المكتب التنفيذي نفسه، تريد المرور نحو “التأسيس الجديد” الذي يُبشّر به الرئيس قيس سعيّد، وبدون أي أجسامٍ وسيطة. 

منذ البّذرة النقابيّة الأولى التي غرسها محمّد علي الحامي منذ عشرينات القرن الماضي، والتي أثمرت (بعد عقدين) ميلاد الاتّحاد العام التونسي للشّغل، خاض هذا الأخير عددَا كبيرَا من الإضرابات العامة، وكلها كانت في سياقاتٍ سياسيّة شديدة التوتّر في علاقته بالسّلطة السياسيّة، وكانت دومًا في لحظة مواجهةٍ صريحةٍ معها قد تؤدي إلى قطيعة. لكنّ هذا الإضراب الأخير، يأتي في سياق استثنائي، وضمن “طريق ثالث” بين المعارضة والموالاة وبين التقارب والتنافر. 

كما أنّ هذا الإضراب يأتي في فترة تصدّع داخلي في الإتّحاد وشكوكٍ يُهمسُ بها حول شرعية قيادته، وفي فترة تعيش السّلطة السياسيّة أيضًا حالة من الوهن التي تُحاول إنكارها وتجاهلها بمزيد من التّصميم على السّير إلى الأمام. حالةٌ يعمّقها الوضع الاقتصادي المتردّي والحاجة الملحّة للحصول على قرض صندوق النّقد الدّولي، والذي تعي جيدًا أنها لن تحصلَ عليه بدون موافقة الإتّحاد.