fbpx

آخاب يبحث عن فراخ بانيه

يبدو أحيانًا أن كل من عاصر 2011 وما تلاه يحاول تجاوزه بطريقة ما إلا السلطة التي تضع ما حدث نصب أعينها ولا تتوقف عن محاولة إزالة أثر ما حدث على كافة الأصعدة، وأيضًا عن ذكره والتنديد به
25 يناير 2023

يحكي هرمان ملفيل في رويته الأضخم والأشهر “موبي ديك” قصة رحلة صيد، آخاب القبطان العجوز الذي فقد ساقًا في صراعه مع حوت أبيض، يخرج مرة أخرى في رحلة لصيد الحيتان مع عدد من البحارة، الهدف المعلن والطبيعي للرحلة في اصطياد أكبر عدد ممكن من حيتان العنبر تحديدا والعودة إلى بأكبر كمية ممكنة من زيت حوت العنبر الرائجة تجارته وقتها.

آخاب مغرور، وحيد، وضع أمام عينيه هدف أوحد، يريد أن ينتقم، لم يعد يهمه أي شيء سوى الوصول لهدفه، يواجه وحده محيطات الدنيا، لديه إرادة قوية خيّل له أنه سيستطيع ليس فقط أن يصل لعدوه ولكن أن يقتله… مسكين يا آخاب

أفكر، ألا نشبه آخاب بدرجة من الدرجات؟ يحمل كلٌ منا في داخله آخاب، يدفعه للسير لمواجهة هدفٍ ما؛ الانتقام، الوصول، التغيير، الحصول على شيء يبدو بعيد المنال. ألا يوجد في حياة كلا منا حوت اقتطع منه جزءًا، ونسعى وراءه من أجل الانتقام، ليس من أجل استرداد الجزء المفقود، ولكن لإيقاف ألم الفقد.

ظهر الحوت الأبيض في 2011، التهم أطرافًا وعيونًا وأصدقاء وأخوة وأمكنة وأركانًا أحببناها وبلادًا بأسرها. أعرف كثيرين خرجوا يطلبونه، في محيطات مضطربة نسميها منافي، مهاجر، عيادات طب نفسي، مضادات الاكتئاب، مخفضات الهلع، صالات الرياضة، استديوهات اليوجا والتأمل، تلال سجائر، زجاجات خمر، خطوط كوكايين، جرامات تتراكم من مخدر يحترق يوميًا بحثًا عن ذلك الحوت.. أو هربًا منه.

اليوم آخاب لا يعتلي ظهر سفينته ويجوب محيطات العالم، ولكن آخاب يمشي متنقلًا بين محلات السوبر ماركت باحثًا عن أرخص سعر لكيلو الفراخ البانيه من أجل وجبة غداء لأسرته، في ظل ارتفاع جنوني للأسعار في مصر، كل نوبة شراء هي صدمة جديدة من الأرقام المتزايدة المعروضة على السلع.

يقارن آخاب بين الأسعار ولا يستطيع أن يبعد نفسه عن صوت الرئيس المنبعث من تلفاز إحدى المحلات مُذكرًا إيانا بأن ما يحدث هو نتيجة لـ “اللي حصل في 2011”.

حتى لو أراد آخاب النسيان لا يتوقف السيد الرئيس عن العودة إليه والتذكير به والتحذير من تكراره، يبدو أحيانًا أن كل من عاصر الحدث يحاول تجاوزه بطريقة ما إلا السلطة التي تضع ما حدث نصب أعينها ولا تتوقف عن محاولة إزالة أثر ما حدث على كافة الأصعدة، وأيضًا عن ذكره والتنديد به.

خيوط الألوان السائلة تبدو أيضاً خائفة” .تصوير: محمد فرج

حاشية

لسبب ما طلب أطفالي مشاهدة فيلم “الجميلة والوحش” ليلة رأس السنة، لم أشاهد الفيلم من قبل، بحثت عن نسخة مدبلجة من الفيلم، ووجدتها -شكرًا للقراصنة- الدوبلاج باللهجة المصرية في الفترة التي كانت شركة والت ديزني تطرح النسخ العربية باللهجة المصرية قبل أن تقرر الانتقال إلى الفصحى ثم قبل شهور أعلنت الشركة عن عزمها العودة مرة أخرى للهجة المصرية.

دوبلاج متقن، أصوات الممثلين المصريين ممتعة أحاول التعرف على من يؤدي أي شخصية، ألتقطت صوت ماجد الكدواني ولم استطع تحديد باقي الأصوات.

تركت الأطفال أمام الفيلم الغنائي ورحت أنجز بعض الأشياء في البيت، التقطت أذني جملة من إحدى أغانيه “شط البحر هعيش فيه أما العالم هرميه.. ده المتقاعد من بدري يا هناه” أحببت الجملة، فكرت هل سنتقاعد يومًا ما؟ لا أعرف وأشك أن الجيل الذي شاهد الفيلم حين عُرض  عام 1991 كأطفال وقت عرضه سيعرف معنى التقاعد. في ظل أنظمة العمل المتقطع التي نتحرك فيها جميعًا لا يبدو أننا سنستطيع الوصول لمرحلة نكف فيها عن العمل بينما نتقاضى رواتب تقاعد تكفينا حتى النهاية، على الأرجح سننتهي قبل ذلك، فكرة التقاعد أصلا حديثة وسرعان ما تملصت منها الرأسمالية، وتحاول بكل السبل التخلص منها تمامًا.

شاهدنا الفيلم عدة مرات في الأيام التالية، أحببت جملًا أخرى في الأغنية التي يؤديها خدمٌ حولتهم الساحرة، عقابًا لهم على غرور أميرهم، إلى أشياء؛ ساعة، شمعدان، طقم شاي، دولاب وهكذا… لم أفهم سبب عقابهم بفعل لم يقترفوه لكن هكذا هي الحكاية، يحلم كل منهم بالأشياء التي سيفعلها لو عاد إنسانًا مرة أخرى.

“نرجع بشر ياريت، فعلًا بشر في بيت، مش أشياء منسية وأدوات”، مرة أخرى تتكرر الجملة السابقة لكن مع إضافة “لمّا العالم يرجع له معناه”. جميلة الأمنية؛ أن نعود بشرًا وليس مجرد أشياءً منسية وأدوات. هل كنا بشرًا من الأساس؟ نحن نعيش ونعمل كـ “أشياء”. نحن مجرد مجموعة من الأدوات في دولاب العمل، ويتم التخلص منّا بشكل دوري. يبدو أن حتى هذا الحلم بأن نعود بشرًا انتُزع منا، فالعالم لم يُنشئنا كي نكون بشرًا بل آلاتٍ متعددة القدرات كي تستطيع الصمود في سوق العمل.

 في المشاهدات التالية انتبه إلى كلماتها الأولى حيث يتمنى الشمعدان “أنوار” أن يعود “قمر زمان” ويمشي شابكًا “مدموزيل في كل دراع”، ويختطف “قُبل زمان” لترد عليه “مدام خزف” بأن هذا “هيجنن الأجواز يا طماع”. بدا المعنى صادمًا للوهلة الأولى، ما الذي كانوا يلقنونه للأطفال -صرنا أمهات وآباء الآن- أليس هذا ما يعد الآن تحرشًا أو تعديًا؟ في النسخة الحية من الفيلم -قامت هوليوود في السنوات الماضية بإعادة إنتاج أشهر أفلام التسعينيات الكارتونية بنسخ قام بأدائها ممثلون حقيقيون أو حتى حيوانات مثل “علاء الدين”، و”الأسد الملك”، و”الجميلة والوحش” وغيرها- التي طُرحت في 2017، حُذفت الأغنية من الفيلم.

وبالتالي راحت الأمنية بأن نرجع بشرًا مرة أخرى، لأن الرأسمالية قررت تغيير أخلاقها بدون أن تعتذر.

الجيل الذي طُرح الفيلم من أجله يسميه المنظّر الإيطالي فرانكو “بيفو” بيراردي في كتابه “معزوفة مقلقلة” (ترجمة أحمد حسان)، “جيل الفيديو- إلكتروني” وهو المولود في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات –تعرّفه أدبيات أخرى بأنه جيل واي Y- والذي تشكّل عقله ضمن الشروط التقنية للفيديو، هذا الجيل هم أمهات وآباء جيل “ألفا” المولود ما بعد 2010.

هذا الجيل -Y- “الذي تشكّل عقله ضمن الشروط التقنية للفيديو- إلكترونيات، ثم بعد ذلك يأخذ (عقله) في التشكّل داخليًا وفقًا للشروط الاتصالية للإنترنت، يعمل بطريقة لا تتسق بصورة متزايدة مع العقل الأبجدي، النقدي، التاريخي، بمعنى ما عقل البشرية الحديثة، التي آمنت بالإمكانية السياسية للاختيار بين البدائل”.

هذا الجيل وما تلاه “يتعرض كيانه العضوي الواعي والحساس لضغطٍ تنافسي، لتسارعٍ في المثيرات، لإجهادٍ انتباهي دائم. ونتيجة لذلك يصبح المناخ العقلي، الدائرة المعلوماتية التي يتشكّل فيها العقل ويدخل في علاقات مع العقول الأخرى، مناخًا مولدًا للمرض النفسي”.

هذا المرض النفسي الذي يصفه بيفو بأنه “وباء اجتماعي، وبشكل أدق وباء اجتماعي- اتصالي. إذا أردت البقاء فعليك أن تكون تنافسيًا وإذا أردت أن تكون تنافسيًا يجب أن تكون متصلًا، أن تتلقّى وتعالج كميةً ضخمةً ومتزايدةً من البيانات، وهذا يثير إجهادًا انتباهيًا دائمًا، خفضًا في الزمن المتاح للوجدانية. وهذان الميلان المرتبطان بلا انفصام، يثيران تأثير الدمار على النفس الفردية: الاكتئاب، والهلع، والقلق، والحسّ بالوحدة، والبؤس الوجودي”.

كتاب بيفو صدر في 2009 وبالتالي لم تتح له الفرصة أن يضيف لتلك الأعراض السابقة، أعراض الحياة بعد 2011 وما تلاه؛ أعراض هزيمة ما بدا أنه حركة جماهيرية، أعراض تحوّل انتفاضات إلى مذابح، والعيش بقلق ورعبٍ دائمٍ من شبح الاعتقال، والتعرّض اليومي لأخبار تخص من بداخل السجون، ومن يفدون إليها كل يوم، وبجرح لا يتوقف عن النزف.

عند حلول الذكرى عادة ما يتم إفراغ البلاد“. تصوير: محمد فرج

 الفصل رقم 122 من موبي ديك -الرواية تقع في 135 فصلًا- هو أقصر فصول الرواية، يشبه صلاةً يرددها أحد البحارة وقت هبوب عاصفة شديدة تعصف بالباقوطة -اسم السفينة- أثناء اقترابها من الوصول إلى الحوت الأبيض الشهير بـ موبي ديك، الفصل كالتالي

“م، م، م. أوقف ذلك الرعد، هذا رعد كثير في الأعالي. ما فائدة الرعد؟ م، م، م. لا نريد رعدًا. نريد رمًّا. أعطنا كأسًا من الرمّ؛ م، م، م!”

يمضي آخاب يفتش عن أسعار أرخص، ويفكّر أن الرعد هنا ليس في الأعالي، الرعد داخلنا، بجوارنا، نحن نعيش تحت قصف رعدٍ دائم، رعد الحاضر المخنوق بتصعيب سبل العيش، رعد الأخبار المرعبة، رعد الذكريات التي تغيب ثم تهجم بضراوة، رعد يجعل أعصاب الجميع شديدة التوتر ولكنها لا تنفجر.

يفكر آخاب هل نريد رمًّا؟ الخمور في مصر رديئة، رغم أن المصريين القدماء اخترعوا البيرة، لكن شركات احتكار الخمور المحدثة تصنع خمورًا بائسة. وفي 2014 قرروا استبدال عبوات الخمور الأكثر شعبية من الزجاج إلى البلاستيك، لتصبح رديئة الطعم ومهينة المنظر، مساكين مدمني الكحوليات، حتى في ذوبانهم الشخصي يذوبون بأحماض سيئة الصنع.

ربمّا لا نريد رمًّا ولكن نريد أن يتوقف القصف… فما فائدة الرعد؟

***

في الأطروحة التاسعة من مقال فالتر بنيامين “أطروحات في فلسفة التاريخ” يقول بترجمة أحمد حسان ..” تبين لوحة لكلي Klee اسمها “Angelus Novus” ملاكًا يبدو كما لو كان موشكًا على الابتعاد عن شيء يتأمله باستغراق. عيناه تحدّقان، وفمه مفتوح، وجناحاه مفرودان. هكذا يتصور المرء ملاك التاريخ. وجهه ملتفتٌ صوب الماضي. وحيث ندركُ نحن سلسلةً من الأحداث، يرى هو كارثةً واحدةً وحيدة تظلُ تُراكم الحطام فوق الحطام وتلقيه أمام قدميه.

يودُّ الملاك أن يبقى، أن يوقظ الموتى، ويعيد لأم أشلاء ما تحطم. لكن عاصفةً تهب من الفردوس ؛ وقد اشتبكت بجناحيه بعنف بلغَ منه أن الملاك لم يعد يستطيع أن يطويهما. هذه العاصفة تدفعه بصورة لا تُقاوم إلى المستقبل وظهره مُتّجهٌ نحوه، بينما يرتفع كوم الأنقاض أمامه إلى عنان السماء. هذه العاصفة هي ما نسميه التقدّم.”

بدرجة، نشبه جميعًا ذلك الملاك، أعيننا معلّقة إلى تلك النقطة، وإلى الركام الذي يتضخّم حولها بينما نتحرك مدفوعين إلى الأمام بظهورنا، نمشي في الشوارع نبحث عن وجبة الغداء عاجزين عن أن نطوي أجنحتنا.

لم أسمع عنها تلك الخضراء.. لكن يبدو أن أحدهم قرر تخليدها“. بورسعيد. تصوير: محمد فرج

حاشية

في 14 ديسمبر 1825. قاد عدد من ضباط الجيش الإمبراطوري الروسي حوالي 3000 جندي في احتجاج ضد تولي القيصر نيقولا الأول العرش بعد تنحي أخيه الأكبر قسطنطين بافلوفتش عن قائمة ولاة العهد.

كانت المحاولة تهدف إلى الحيلولة دون تربع نيقولا الأول على العرش، وإجراء إصلاحات ليبرالية سياسية واجتماعية في روسيا. طالب الضباط بتشكيل حكومة مؤقتة وإلغاء نظام القنانة، واعتماد دستور للبلاد وجعل جميع المواطنين يحظون بالمساواة في الحقوق وإعلان حرية الصحافة والضمير وممارسة المهنة وتأسيس محكمة المحلفين وإلغاء الخدمة العسكرية العامة وتعيين كبار المسؤولين في الدولة بعد انتخابهم من قبل الشعب.

أصدر الإمبراطور الجديد أمرًا لحرسه بمهاجمة المتمردين واطلاق النار عليهم بالمدفعية. وسقط قسم منهم وانسحب القسم الآخر إلى نهر نيڤا المغطى آنذاك بالجليد. فوقعت قذائف المدفعية على الجليد وكسرته، مما أدى إلى غرق الجنود والضباط الهاربين. وانتهت الانتفاضة بحلول الليل تاركة مئات الموتى في شوارع وساحات العاصمة. وسقط معظم الضحايا نتيجة الازدحام الناتج عن الفوضى التي عمّت سكان العاصمة. وأسفر التمرد العسكري عن مقتل 1271 شخصًا بمن فيهم 9 نساء و19 طفلا. وباءت الانتفاضة بالفشل التام.

ألقي القبض على مئات العساكر، وأحيل عدد كبير منهم إلى المحاكمة، وصدربحق 36 شخصًا حكم الإعدام، وحُكم على قسم منهم بالاعمال الشاقة والنفي إلى سيبريا ونزع المناصب وألقاب النبالة منهم.

تُعرف تلك الانتفاضة في التاريخ باسم “انتفاضة الديسمبريين”. ثم في أغسطس عام 1856 أصدر الإمبراطور ألكسندر الثاني مرسوم العفو عن كل من له ضلع في أحداث ديسمبر عام 1825. وذلك بمناسبة توليه عرش السلطة القيصرية وعلى إثر ذلك عاد قسم من النبلاء المنفيين من سيبيريا إلى موسكو وبطرسبورج.

هؤلاء هم من قابلهم تولستوي بهدف كتابة رواية عن “انتفاضة الديسمبريين”، لكنه اكتشف أن الكتابة عن الحدث الذي وقع في 1825 تستلزم الرجوع إلى الوراء. فشرع في عمله التاريخي الضخم “الحرب والسلام”. 

عبر السنوات من 1865 حتى 1869 نشر تولستوي الرواية مسلسلة في جريدة “المراسل الروسي”، لتتناول فترة الحروب النابليونية بين عامي 1805 و1820. تغطي الجدارية الروائية الهائلة حملات نابليون على روسيا والتي بدأت في 1805 وانتهت بالدخول إلى العمق الروسي في 1812.

لا تصل أحداث الرواية الضخمة -أربعة أجزاء في الترجمة العربية التي أنجز جزئيها الأول والثاني سامي الدروبي والثالث والرابع صيّاح الجهيم- للانتفاضة، لكن القارئ يفهم أن شخصيات الرواية في نهايتها، رغم النهاية السعيدة التي تُتختم بها الأحداث، تنوي أن تصنع شيئًا ما.

على مدار الرواية، يبدو انشغال تولستوي الأكبر هو دحض فكرة أن التاريخ يصنعه العظماء، والقادة والحكام. التاريخ عند تولستوي هو ما يصنعه الأفراد العاديون؛ فتاريخ المعارك الحربية لا يمكن الحصول عليه من الخطط التي وضعها القادة في مكاتبهم، وسير المعارك لا يمكن الوقوف عليه من قراءة المراسلات بين القادة. التاريخ الحقيقي في شهادات الجنود الذين خاضوا المعركة باندفاع وبشجاعةٍ أحيانًا وجبنٍ أحيانًا، وبنظام يخص اللحظة لا الخطة الحربية التي يتم التعديل عليها وقت كتابة كتب التاريخ بعد انتهاء المعارك التي كان وقودها الجنود لا القادة المحمّلين بالنياشين.

في كتابه “سياسة الأدب” يقول الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير (ترجمة سهيل أبو فخر) عن رواية “الحرب والسلام” ورؤية تولستوي للتاريخ إن: “فلسفة التاريخ هذه ليست كما يعتقد هواة الجمال جسمًا غريبًا مضافًا بلا تحفّظ إلى مسيرة الخيال وفن الأدب، فالأدب هو الذي يتحدث بنفسه عندما يعارض بين تاريخ القادة الكبار وبين تاريخ الجموع. وواقع الأمر أن وجهة النظر الخاصة بالأدب هي التي تضعها الرواية مقابل وجهة نظر المؤرخين الذين كانوا دائمًا يكتبون المعركة من جديد ما أن تنتهي. ولديهم مستنداتهم من أجل ذلك وهي خطط الاستراتيجيين التي تصف المعركة المتخيلة والتي لم تطبّق قط (…) أما الأدب فلديه مستندات أخرى، هي كما يقول تولستوي مجموعة المرويات والرسائل والشهادات لأولئك الذين عاشوا، بهذه الدرجة أو تلك، أحد تلك الأحداث الصغرى التي يشكل تداخلها غير المتوقع ما يسمى بـ “المعركة”.

يتابع رانسيير “أن الأدب بوصفه هكذا هو الذي يفرض نفسه في خطاب الحقيقة (…) إن ثورة علم التاريخ قد حصلت في الأدب أول الأمر إذن، بل هي الثورة نفسها التي أوجدت الأدب”.

 أفكرُ، ألا تستحق تلك السنوات الماضية أدبًا بقيمة الحرب والسلام؟ هل ستبقى روايات وشهادات في ظل حملات المحو المنظم؟ إلى أي نقطة يستلزم الرجوع حتى يمكن رواية ما حدث؟ إلى أول سنوات الألفية، إلى مظاهرات الانتفاضة الثانية، إلى تظاهرات غزو العراق، انتخابات 2005، ربما أبعد إلى سنوات التسعينيات؟ إضراب عمال الحديد والصلب مثلًا في 1989؟ ربما أبعد وأبعد، هل كُتب أدب بحجم حدث مثل هزيمة 1967؟ على الأرجح ولكنه على الأرجح أيضًا سيكتب.. عندما نلم الأشلاء ونوقظ الموتى ونستمع إليهم.

مظروف فارغ لطلقة خرطوش تم التقاطه من أحد شوارع القاهرة ليلة 28 يناير 2011“. من معرض وهمي بعنوان “الثورة جرح غير قابل للالتئام” أقيم في نيو أورليانز 2017. تصوير: محمد فرج

ففي الأغنية المحذوفة من “الجميلة والوحش” يقول الكورس..” عندي يقين من غير شك إن السحر هيتفك”، أنا أيضًا على يقين أن كل هذا سينتهي يومًا ما، كل الطواغيت يسقطون، مما بقى في أذهاننا من لحظة 2011 الممتدة أنه لا خلود لأحد، بينوشيه سقط، وشاوشيسكو، صدام حسين، مبارك، القذافي، زين العابدين بن علي كلهم ينتهون يومًا ما.

تبقى مشكلة أننا نهرم ونشيخ ولن نشهد تلك الأيام، لكن التاريخ لا يهرم. في سياق آخر مرة كتبت أن العالم يخرج من هيستريا إلى أخرى بسلاسة تامة، أجل يحدث هذا ولكن على مستوى أكثر تطورًا.

آخاب الدائر في الشوارع، المعلقة عيونه على النقطة التي تتراكم حولها الأنقاض، المدفوع بقوة رياح التقدم سيحكي حكاية لنفسه ولأطفاله وللأصدقاء الأصغر سنًا وهكذا سيساهم هو الآخر في زراعة البذرة التي ستسقط الأوغاد يومًا ما.

***

“م، م، م. أوقف ذلك الرعد، هذا رعد كثير في الأعالي. ما فائدة الرعد؟ م، م، م. لا نريد رعدًا. نريد رمًّا. أعطنا كأسًا من الرمّ؛ م، م، م!”