كلّ شيء له ثمنٌ في الأسواق الشعبيّة الجزائرية، حتى ما لا يُرى. البخور يُباع بالميزان، والبركة بخيطٍ أخضر، والحكمة تُعرض على الطاولات إلى جانب التمائم؛ لعبة نرد، أو ضربة على بندير، نغمة عابرة من آلة الغايطة تعبُر السوق من أوّله إلى آخره، فتدفع أحدهم إلى التوقّف عن المشي مندهشًا.
هل نشتري فعلًا؟ أم نبحث بلا استسلامٍ عمّا يُطمئن القلب؟ ما الذي يجعل إنسانًا يدفعُ مالًا مقابل حكمة يُقال أنّ شيخًا يملكها؟ أو مقابل بخور يجلب الرزق و يطرد الحسد؟
داخل أسواق السبت والأحد غربي الجزائر، تتجاور التوابل والملابس والبضائع مع الماورائيات الشعبية. الأبواب مشرّعة على كلّ ما نؤمن به وما نخافه، وكلّ ما نبحث عن شرائه دون أن نعرف اسمه الحقيقي. أدور بكاميرتي، أحضر مهرجانات الخيول التي تُسمّى “الوعدة” (مشتقّة من كلمة “وعد”)، والتي تأتي بعد موسم الحصاد فرحًا بالمحصول. يحتفل الناس هنا بالركوب على الخيول، وبالبارود الذي ينفجر بجوار قباب الأولياء الصالحين في مناطق توسنينة (ولاية تيارت)، ومنطقتي قلتة سيدي سعد والبيضاء (ولاية الأغواط)، وصولًا إلى مدينتي أفلو.
في كلّ ركن من السوق طقس صغير للراحة؛ رجل يمسح على ذراعك ليطرد العين، ويد تلوّح بخيطٍ أخضر، رجل يسأل عن مستقبل ابنه، وأعين تترقّب لعبة النرد بحماس. ستقع على شيخ يداوي من العين، هو ابن رجل صالح أو حفيد ولي، أو طالب درس في الزوايا، لكن الأهمّ أن يكون قد سمع أسرارًا، الكثير منها، وأن يكون قد حفظها دون أن ينكسر.
تتنقّل الفرق الشعبية الصوفية في الأسواق مثلما تتنقّل الحكمة بين الأجيال، وبين ولي صالح وأتباعه.. تعبر على إيقاع الأمل والحظّ والعرق والحكمة. في كلّ فرقة عازف للغايطة وآخر للبندير، ورجل يصدح بالأدعية والأشعار الملحونة، والأمثال الشعبية، هو نفسه من يجمع المال من المستمعين. يهزّ البندير الجسد، وتوقظ الغايطة شعورًا مبهمًا في القلب. يبكي شيخ ويطلب من العازف أن يعيد تلك النغمة بصوت خافت مثقل بالرهبة وبالتقدّم في السنّ. “أعد تلك النغمة”، يقول مغمضًا عينيه كما لو أنّه يتذكّر أمرًا قديمًا. يتمايل الأطفال أيضًا على كلمات أشكّ في أنّهم يفهمون معانيها. هل ترث الأجساد حركات آبائها وأجدادها؟ أم أنّ الرغبة بالنجاة هي ما يقودها؟
كلّ صورة تبعث سؤالًا: هل تؤمن بما لا يُرى في السوق؟ هل تشتري ما لا يُمسك؟ كم تدفع لترتاح؟ وهل ترتاح حقًّا؟ أم أنك، مثلي ما زلت تبحث عن الراحة أو عن وهْمٍ صغيرٍ قد يمنحك لحظة طمأنينة؟