عدتُ لصور الدمار التي التقطتها في قرى الجنوب وفي بيروت. نظرتُ مرارًا إليها محاولًا إزالة الركام عنها وعن البيوت التي غادرها أصحابها، لكنها احتفظت بشيء منهم
بعد أسابيع على انتهائها، عدتُ لأصوّر الحرب الإسرائيلية على لبنان. وصلتُ بعد الكارثة وليس لحظة حدوثها. أن ترجع عندما يكون عصف الحرب قد انقضى (جزئيًّا، إذ لا يزال القصف مستمرًّا في الجنوب)، بعدما استمرّ لثلاثة أشهر في لبنان، يعني أن تأتي وقد استقرّ المشهد عند نهايته.
ثمّة حركة واحدة فرضتها المناطق المدمّرة على أبنائها، وهي البحث إلى ما لا نهاية، بالإضافة إلى إيماءة قهريّة هي النظر، وفيها تبدو العيون معلّقة بدورها على الغياب. في لحظات كهذه تتعرّف العيون إلى قصورها، تُخفق في الرؤية ما لم تستعن بالذاكرة، كما أنّها لن تستطيع الإيغال أبعد من مرمى النظر، لأنّ المجازفة في ذلك ستطيح بكلّ ما راكمته الذاكرة عن تلك الأمكنة.
***
***
سنة 1935، طرح فالتر بنجامين مصطلح اللاوعي البصري، الذي شرح من خلاله أنّ ثمّة ما يفوت العين، مثل اللاوعي الذي يغيب عن النفس في يقظتها. وفق بنجامين هناك طبيعة خاصّة تحاكي العدسة حصرًا من خلال الضوء، وفيها ينكشف اللاوعي البصري بومضةٍ واحدة. بيد أنّه هذه الطبيعة التي تلتقطها الكاميرا تغيب عن العين البشرية. تفتح هذه العبارة احتمالات كثيرة للرؤية، ولما يُمكن أن تقبض عليه العدسة من دون أن ينتبه إليه المصوّر لحظتها. تفاصيل كثيرة تعبر وتبدو أنّها لاوعي البيوت، أو ذاكرتها التي جفلت بعدما انكشفت للخارج بفعل الدمار. ربّما هذا ما قادني للعودة إلى الصور بعدما التقطتها في قرى الجنوب وفي بيروت. نظرتُ مرارًا إليها محاولًا إزالة الركام عنها وعن البيوت التي غادرها أصحابها، لكنها احتفظت بشيء منهم.
***
***
أثارت الصور الداغيرية الأولى (نسبة إلى المصوّر الفرنسي لويس داغير) الذعر، نظرًا للحضور البشري الذي ظهر بحقيقته للمرّة الأولى. مهما بدا هذا الحضور بعيدًا، أوحت الصور أنّ أشخاصها ينظرون مباشرة إلى المتفرّج، وأنّ بإمكانهم رؤيته، وهذا ما دفع مجايليه حينها إلى إيجاز هذه الرهبة قائلين: “لم نملك الثقة الكافية للتحديق طويلًا في الصور”.
***
***
لكلّ صورة رعبها الذي لا يغيب أيضًا عن اللقطات الخالية من الحضور البشري المباشر. هذه تبثّ رهبةً أخرى، كونها تكتنز الحضور الشبحي للسكّان، من خلال أغراضهم؛ كأس مكسورة، عروسان ثبّتهما الدمار في لحظة العرس، صورة لمغنٍّ شهير، وسترة بقيت معلّقة على حبل الغسيل. كيف تُقال البيوت بعدما يغادر أصحابها، وما الزوايا التي تختصر أعمارهم في الداخل؟ يبدو التصوير بلا حيلة أو مرادفًا للطمس حين تكون اللقطات مهدّدة بالرضوخ إلى سطوة الركام. كلّ صورة تشارك، بطريقة أو بأخرى، باستبعاد تفاصيل وملامح من الأمكنة. لذلك كان لا بدّ من مواصلة التفتيش بالاستعانة بميزة الـ zoom، أقرّب على المشهد وأوغل فيه، فتتكشّف أمامي لمسة بشريّة احتفظت بها العدسة دون قصد.