“بلادك بحاجة لجيش ثابت عالحدود/ وبدّك قيادة ثابتة تربّي جنود”.
“وإلنا لأرزتِنا نغنّي دْهور/ بس أرزتنا شو عطيتنا”.
ما ذكر، يبدو كلامٌ عن اللحظة اللبنانية الراهنة الضائعة بين خطابين سياسيين متنافرين. أحد الخطابين يتحدّث عن سيادة دولة لبنان، وسلطة الجيش اللبنانيّ، و”الأرزة” في ظلّ مرحلة سياسية جديدة تغضّ كامل النظر عن انبثاقها من تدخّل خارجيّ أميركيّ. وينطلق الخطاب الآخر من النظر إلى جنوب لبنانيّ رزح، وباقي المناطق، تحت حروب إسرائيليّة، واحتلال لبعض القرى اللبنانية الحدوديّة، حتى بعد إعلان وقف إطلاق نار العدوان الأخير، ما يناقض خطاب السيادة.
المفارقة أنّ هذه الأبيات الشعرية تعود إلى حفلات أحياها شعراء فرقتي “الزغلول” و“القلعة” في النصف الثاني من القرن الماضي في لبنان، وتحديدًا خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي امتدّت “رسميًّا” بين عامي 1975 و1990، لكنّ أبياتها تبدو كأنّها تُقال اليوم، وتتردّد كتعبير صوتي عن الانقسام الأزلي حول معاني السيادة والعدوّ والوحدة الوطنية، فيما تكاد تُجمع بمعظمها على قيمة الذكورة التي تغذّي “أنا” الشاعر.
تاريخ الزجل.. “اللبناني”
تأخذنا كلمة “زجل” بعيدًا في تاريخ الأدب العربيّ، وتحديدًا إلى عصر احتلال الأندلس الذي ظهرَ فيه الزجل كفنّ شعريّ شعبيّ محمّل بتأثيراتٍ من القصيدة العربيّة الكلاسيكيّة وأوزانها، وفي الوقت نفسه متحرّر من ضوابطها الفصيحة. يستعرض المؤرّخ والناقد المصري شوقي ضيف في كتابه “تاريخ الأدب العربي” (1960 – 1995) نظريّات عدّة حول تاريخ ظهور الزجل في الأندلس، فيستبعد أن يكون قد ظهر في القرن الثالث الهجري، مشيرًا إلى أن المراجع الأندلسيّة لم تذكر شيئًا عن الزجل ما قبل القرن السادس هجري. ينقل ضيف عن ابن قزمان، الشاعر الذي أرسى مقوّمات وخصائص الزجل، قوله أنّ قبيل منتصف القرن السادس هجري، لم تكن قد استقرّت لدى الشعراء القاعدة الأساسيّة للزجل، وهي أن يكون “بلغةٍ عاميّة تخلو من الإعراب والتفاصح بالألفاظ العربية الجزلة”، وهذا ما حافظ عليه الزجل طوال القرون الماضية وبات أحد سماته الأساسية.
الخلاف حول تاريخ الزجل يجرّ معه عددًا من الإشكاليات التي ساءلت منبته وتأثيراته الأولى، وهنا يخالف ضيف العديد من المراجع الإسبانية التي تشير إلى أنّ الزجل نظّم بداية على أوزان الشعر الغربية، مثبتًا أنّها نظّمت على أوزان الشعر العربية، راصدًا المواضيع المشتركة ما بين الزجل والموشّحات، والتي تتمحور حول الغزل ووصف المتع بالخمر، ووصف الطبيعة، والمديح والرثاء والهجاء..
لا تتّفق المراجع أيضًا على أصلٍ واحدٍ لكلمة “زجل” أو التسمية السابقة له (“المعنّى” أو “القول”) لكنَّ “الصوت” حاضرٌ في جميع التعريفات العربيّة والسريانيّة، أو “التطريب”، وفق شوقي ضيف. الصوتُ، إذًا، هو ركن الزجل الأساسيّ والمتمثّل بالإلقاء العلنيّ للقصائد الزجليّة. أمّا الزجلُ، وإن أخذ رواجًا كبيرًا في لبنان على المستويين الشعبيّ والرسميّ، إلّا أنّ انتشاره سبق تشكيل الدول في المنطقة، حين وصل إلى تراث بلاد الشام السوريّة والفلسطينيّة والأردنيّة.
تتعدّد النظريات حول أصل الزجل “اللبنانيّ” تحديدًا، لكن الكاتب اللبناني الراحل مارون عبود يعتبر أنّ الشعر متمثّلًا بالزجل، هو ذروة “القول اللبناني” بقوله “ومشى لبنان والزمان في منعرجات التطوُّر، فاستعرب وراح يتذوَّق آداب لغته الجديدة مذ دارت الضاد على لسانه، وأبى عليه طموحه أن يقعد حسيرًا، فضرب فيها بسهم، وطفق يقول الشعر، فلم تَنْقَدْ له اللغة فكان الزجل”. في كتابه “الشعر العامّي” (1968) يشير عبّود أيضًا إلى أنّ الزجّال اللبناني الأوّل هو المطران جبرايل بن القلاعي اللحفدي، الذيي عاش في القرن الخامس عشر ميلادي، ويعتبره عبّود بأنّه امرؤ قيس الزجل اللبناني، كونه “نَظَم زجله أو شعره على عروض خاصٍّ، استمدَّ توقيعه من لغته الأولى — السريانية — وخلَّف للأجيال هذا الوزن، تراثًا أو أساسًا لشعرنا العامي الذي ارتقى إلى ذروة الفن الأدبي”.
من تنظيرات مارون عبود حول الزجل اللبناني، ينطلق ربّما الرأي القائل بأنّ الزجل متأصّل في التراث “اللبنانيّ”، وبأنّ هذا الزجل حمل تأثيرات من الشعر السريانيّ القديم الذي انتشر في بلاد ما بين النهرين قبل أن يمتزج باللغة العربيّة، ويأخذ الشعراء أوزانه مستخدمين اللغة العربيّة المحكية في المنطقة.
أمّا الوجه الحديث للزجل اللبناني فهو أسعد الخوري الفغالي، الملقّب بـ “شحرور الوادي” الذي أسّس أوّل جوقة رسميّة للزجل سنة 1926. وبعد عامين أُعلن عن ولادة أوّل جوقة زجلية حملت اسم الشاعر “جوقة شحرور الوادي”، ليتبع ذلك ولادة عدد كبير من الجوقات تنقّل بينها الشعراء دون أن يطول وجود معظمها.
ينقل كتاب “شحرور الوادي … والمنبر” عن رواة أنّ الشاعر المصري أحمد شوقي هو من أطلق هذا اللقب على أسعد في حفلةٍ أقيمت في مدينة زحلة وسط لبنان (في منطقة تُدعى “وادي العرايش“)، وينقل عن رواة آخرين أنّ الكاتب المصري طه حسين اعتبره “شحرور وادي العرائش ووادي النيل أيضًا“. تسيّد الزجل الفنّ الشعبي – والاهتمام النخبويّ أيضًا – المنتشر في تلك الفترة، حيثُ أسّس خليل أيّوب الحتّي مع الشاعر يوسف بشارة الباحوط جريدة “الزجل اللبنانيّ” كجريدة زجلية أسبوعية في العام 1933، وكثرت بعدها المجلات والصحف المهتمّة بالشعر والزجل تحديدًا كـ“الزجل اللبنانيّ” و“الشعر القوميّ” و“أرزة لبنان” و“البلبل” و“بلبل الأرز” و“العندليب” و“مرقد العنزة” و“الشحرور“.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
من النشيد الوطني إلى الثنائيّات السياسيّة
نال الزجل اللبناني الاهتمام السياسيّ الرسميّ منذ فترة الاحتلال العثماني وصولًا إلى الاحتلال الفرنسي (ما يُعرف بـ “الانتداب الفرنسي”) وهو ما استمرّ حتّى بداية القرن الحادي والعشرين، مع اختلاف سياق كلّ مرحلة. يتجلّى هذا في منح رئيس جمهورية “لبنان الكبير” شارل دبّاس في نيسان عام 1933 وسامًا للكاتب والشاعر الزجلي رشيد نخلة لقّبه فيه بـ “إمارة الزجل”. علمًا أن نخلة هو نفسه من كتب النشيد الوطنيّ اللبنانيّ في العام 1926، بعنوان “كلّنا للوطن”، أي أنّ جذور النشيد الوطني اللبناني تعود إلى الشعر الزجلي، بتوقيع رشيد نخلة الشاعر الذي بايع الشحرور (شحرور الوادي) في رسالة رسميّة قالَ فيها: “فإذا صحَّ أن يكونَ للزجلِ أميرٌ، فأراكَ أنتَ خليفتَه، إن شاء الله، وطال بقاؤك”.
من النشيد الذي يفترض أن يكون جامعًا للبنانيين، وجد الزجل طريقه إلى الاصطفافات السياسية الداخليّة، مستفيدًا من قدرته على إثارة حماسة الجمهور، خصوصًا في المبارزات، ما أكسبه رواجًا شعبيًا واسعًا بسبب سهولة وصول كلماته وتلقّف معانيها من الشعب، بمختلف مستوياته الطبقية والثقافية. تُبنى المبارزات على أساس معارك شعريّة يهدفُ كلُّ شاعرٍ متبارٍ فيها أن يكسبَها ليحفظَ صورة الفحولة بمعنييها الذكوريّ والأدبيّ/ الشعريّ (القديم). وهنا تقوم مادّة الحفلات الزجليّة على قدرة الشاعر على تطويع الصور والكلمات الشعريّة لتُعلي شأنه وصورته وتهدم صورة الشاعر الخصم، وإن كانا في “الجوقة الشعريّة” (الفرقة) نفسها. ويحافظ هذا الشكل على ثباته في المعارك الزجلية مهما اختلفت المواضيع الشعريّة خلالها.
يحتملُ الزجل إذًا، ثنائيات الخير والشرّ، والولد والابن، المرأة والرجل، والعقدُ والحلّ، فعلى سبيل المثال يسعى الشاعر، إمّا عبر الارتجال أو التحضير المسبق، إلى مدح نفسه من خلال التزامه بالدفاع عن موضوع المبارزة ليكون “المنتصرَ” في النهاية، أمام اللجنة – إن وجدت – وأمام الجمهور الذي يكون منحازًا إلى شاعر دون غيره، أو يتفاعل لحظتها مع الأبيات المرتجلة. هذا الانحياز، استحال انحيازًا سياسيًّا صارمًا خلال فترة الحرب الأهلية التي انخرط فيها “الزجّالون” في معارك شفهيّة بموازاة المعارك الدائرة على الجبهات اللبنانية.
معارك الحرب في مبارزات “الصوت”
انتشرَ الزجل في مختلف المناطق الجنوبيّة والشماليّة في لبنان منذ ما قبل تأسيسه كدولةٍ مستقلّة في العام 1943. فقد ظهرت جوقات عدّة اشتهر بعضها بسبب استمرارها لسنواتٍ طويلة، أشهرُها جوقة “الزغلول” التي انطلقت سنة 1944، وحملت اسم مؤسّسها الشاعر زغلول الدامور (اسمه الحقيقي جوزف الهاشم)؛ وجوقةٌ أُخرى هي “جوقة الجبل” أسّسها الشاعر خليل روكز في العام 1954، وتحوّلت إلى اسم “جوقة خليل روكز” بعد وفاته في العام 1962 قبل أن تأخذ اسم جوقة “القلعة” لاحقًا.
وفي حين تعاقب الشعراء على مختلف الجوقات، ظلّت جوقتا “الزغلول” و”القلعة” محور الحفلات الللبنانيّة وقطبيها، خصوصًا في العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، واشتهر في الأولى الشاعرين زغلول الدامور وزين شعيب، وفي الثانية الشعراء موسى زغيب وإدوار حرب وأسعد سعيد.
كان لا بدّ للحرب الأهليّة أن تفرض تأثيرًا على حفلات الزجل الشعبيّ تلك، إمّا لسببٍ “لوجستي” يتعلّق بأماكن الحفلات في مناطق متفاوتة بوضعيها الأمنيّ والسياسيّ، أم لناحية تشكيل جوقات زجليّة متنوّعة طائفيًّا، ما يجعلها مقبولة في المناطق المختلفة. غير أنّ أساس هذا الانخراط السياسي قام على مضمون الشعر الزجليّ – بين المرتجل والمحضّر مسبقًا – الذي لم يترك فريقًا وموضوعًا سياسيًّا إلا وأُقحمَ فيه، إلى حدّ امتزاج الخطاب الزجليّ بالسياسة اللبنانيّة خلال الحرب وتحوّلاتها، عبر اصطفافات وانتماءات متناقضة، وصولًا إلى فكرة “الوحدة الوطنية”.
انعكست الخطابات السياسيّة، المستمرّة حتّى الآن (رغم تبدّل الظروف)، في تلك الحفلات وبين طيّات مواضيع المبارزات فيها، رغم تنوّع تلك المواضيع والحفاظ على المبدأ الأساسيّ: مدحٌ للآخر والنفس وإغناءٌ للذكورة. لا يسهلُ تحديد سنوات الحرب التي خلت من حفلات الزجل، لضعف الأرشيف المنظّم، ولضعف تأريخ الحرب الأهليّة نفسها والمحطّات الأساسيّة التي تخلّلتها من معارك بين المناطق والأطراف. لكن رغم تفاوت التقنيات الفنية واللغات الشعرية المستخدمة حينها، ثمّة محاور أساسية شكّلت الخطابات السياسيّة المستمرّة وانعكاساتها في صلب المفهوم السياسيّ لهويّة دولة لبنان، وتجلّت في مجموعة من الحفلات التي أقيمت بين عامي 1982 و1989، أي خلال فترة توسّعت فيها جبهات الحرب الأهليّة. وقد حصلت هذه المبارزات بين جَوقتي “القلعة” و”الزغلول” أو ضمن جوقةٍ واحدة منهما، لكنّ اختيارها في هذا المقال، يأتي لأهميّـها في اختصار عشرات حفلات الزجل التي أقيمت خلال تلك المرحلة الصاخبة من تاريخ الحرب الأهليّة، وهي حفلتان في بلدة بكفيّا في المتن (1982)، وحفلة في كرم سدّة في زغرتا (1982)، وحفلة في بيت الدين في الشوف (1985)، وحفلة في مدينة سيدني الأستراليّة (1987)، وحفلة في بلدة شحور جنوبي لبنان (1989).
أرزة شامخة، أرزة مُنحنية
منذ رسمها في قلب العلم اللبنانيّ، لم تغب الأرزة عن الخطابات السياسية في تاريخ لبنان الحديث، بل إنّها تقع في صلب الخطاب الذي يقدّم نفسه كخطابٍ وطنيّ يؤكّد انتماءه إلى لبنان ودعوته إلى السيادة، حتى أصبحت الأرزة وحدها تبدو خطابًا، وإن كان هشًّا، أو في أحسن الأحوال، رمزًا عامًّا غير محصّن بمعنى سياسيّ واضح، يمثّل لبنان ووطنيّة المخاطِب أو المتكلّم. وبالخفّة نفسها، استعان الزجل (كفنّ شعبيّ منتشر “جامع” بين مختلف المناطق والطوائف في تلك الفترة) بالأرزة، ومعها العلم والجيش اللبنانيّان لإنتاج هذا الخطاب. وفيه، لا يسمح الشاعر لنفسه، وكأنّه عُرفٌ غير مكتوب، أن ينتقدَ الأرزة وإن ضمن المبارزة الشعرية. ولا يقتصر توظيفها على أحداث فترة الحرب الأهليّة فحسب، بل يعود إلى أوائل القرن الماضي، لارتباط الأرزة بصورة “لبنان” الأولى، بصرف النظر عن اختلاف الاحتلالات التي رزح تحتها البلد.
تظهر هذه المقاربة في وجود الأرز كرمزٍ للبنان في شعر شحرور الوادي الذي يطلب أن يُدفن تحت ظلّ الأرز في قصيدة أخيرة قبل وفاته: “ويا شعب لبنان اندبني/ وتحت ظلّ الأرز غيّبني/ ويا أرز خيّم فوق راس ابني/ ومتل ما ضمّيتني ضمّو/ لَحِبّكْ بحيث محبّتك ديني”. يشير شحرور الوادي إلى شموخ أرز لبنان الأبدي، ضمن عقيدة تبقى فيها الأرزة صامدة فيما أبنائها يُوارون أمامها في التراب.
لم يكن تموضع الأرزة خلال الحرب حياديًا على الصعيدين المناطقي والطائفي. تنبتُ الأرزةُ طبيعيًا وشعريًّا في شمال لبنان ونادرًا ما تظهر في الحديث عن جنوبه، وبالتالي تُذكر دائمًا خلال حفلات الزجل المُقامة مناطق الشمال
تُعاد ثنائية الشموخ والإنحناء في حفلة في بكفيّا عام 1982، حيث يضيء بطرس ذيب على سرّ “شموخ” الأرزة، ليتماهى مع شموخها بوصفه نسرًا، فيقول: “الشجرة اللي بيتعمَّرْ بفيّتها قُصور/ وشلوشها بالأرض بتبجّ صخور/ في سرّ بين شموخها وبين الهوا/ ما بيقدر يعرفه إلّا النسور”. يوافق إدوار حرب على شموخ الأرزة، لكنّه يشرطُ ذلك بانحناء جذورها، مستعينًا بطبيعتها البيولوجية والجغرافية: “وإن كِنْتْ بالأشجار يا بطرس خَبير/ اِن شَمْخِتْ شُروش الأرزْ ببطّلْ نَضير” (أي تختفي منه النضارة).
لم يكن تموضع الأرزة خلال الحرب حياديًا على الصعيدين المناطقي والطائفي. تنبتُ الأرزةُ طبيعيًا وشعريًّا في شمال لبنان ونادرًا ما تظهر في الحديث عن جنوبه، وبالتالي تُذكر دائمًا خلال حفلات الزجل المُقامة في الشمال اللبناني، حيث يصبح المثّلث الشعريّ “الوطني” هو الأرزة والعلم اللبناني والجيش اللبناني. على المنوال نفسه، تثبت هذه الثلاثية في المبارزة الشعرية وتكون الجامع بين الشاعرين المتباريين والأبيات المضادّة قبل أن تعود الندّية سريعًا بينهما. في حفلة كرم سدّة في قضاء زغرتا عام 1982، يعدُ الشاعر موسى زغيب أن يرفع التحيّة لجيش لبنان وأرزته بعد أن يعمّ السلام في لبنان: “حتّى بَعِد ما يْعمّْ لبنان السلام/ إيدي الشِمال لْجيشكن تِرفع عَلم/ وإيدي اليمين لأرزكن تُضرب سَلام”.
يصادقُ الشاعر زغلول الدامور على القيمة الكبيرة لجيش لبنان وأرزته، ولكن يمتزج الردّ، كجزءٍ من المبارزة الشعريّة، بضرورة مدح “الذكورة” أي صورة الشاعر القوي الذي يهزم الشاعر الخصم، فيدعو الزغلول خصمه للاستسلام أمامه: “أُضرب سَلام لْجيش لُبنان العَلي/ وبِشمالك تْهيّا بتاني مَرحلة/ وسلّم على الأرزة الـ عْلينا مُفضِلة/ وعود العَشِر صابيع إرفعهن سوا/ وسلّم وإرفع عَشِرْ صابيعك إلي”.
الأرزة، إذًا، تحملُ كلّ صفات الفضيلة والصمود والشموخ التي تصبُّ بالنهاية في التعبير عن لبنان، حتّى أنّها أحيانًا تتماهى معه فتصبح استعارة له. ويخاطب الشاعر “الزغلول” (“جوزف الهاشم” ومؤسس جوَقة “الزغلول“) حفلة للمغتربين اللبنانيّين في سيدني في أستراليا، يرجّح أن تكون في العام 1987، ويستعيرُ الأرزة للتعبير عن لبنان الذي يرزح تحت الحرب: “جفاكن دفّع الأرزة ضريبة/ كفاكن عالفراق تعذّبونا“. ويصبح الأرز هو الرازح تحت الحرب عند زين شعيب الذي ينحدرُ من قرية الشرقيّة في جنوب لبنان، والذي يقارنه بنفسه أيضًا، فيصبح الأرز كزين: “وأرز لبنان هالرمية ارتماها/ انأَسَر مِتلي بقُرنة جهنميّة“.
الجنوب.. كلمة الحرب الكاشفة
اعتاد الجنوبُ اللبناني المحتلّ أن يقسم الكلمة الشعرية، ويوضح الموقف ويعرّي صاحبه، كأنّه يكشفُ أصل العداء وأصل الصداقة و”الحقّ” و”الباطل”. في حفلتي بكفيا وحفلة كرم سدة وفي سيدني، يندر الكلام عن الجنوب وإن ذكر فحاله حال “السيادة” و”الأرزة”؛ كلام عام، إلّا من لسان زين شعيب، الذي لا ينفكّ يكرّر، في كافّة الحفلات، أنّه من الجنوب أو “جنوبيّ صامد”. في المقابل، حين يتصدّر لبنان وسيادته الكلام، لا يُذكر الاحتلال الإسرائيلي لمعظم قرى الجنوب، والبقاع الغربيّ في الثمانينات، أي خلال السنوات التي كانت تجري فيها الحفلات.
تظهر هشاشة فكرة “الأرز” وعلاقتها بلبنان وسيادته في الحفلات التي أحياها الجنوب أو الجبل، المناطق الداعمة للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. في حفلة قرية شحور الجنوبية، يصف زين شعيب أرز لبنان بـ “مقبرة الضحايا” إشارةً إلى الحرب التي عاشها لبنان، ولكنّ التشبيه الأبرز يتجلّى في شعر طليع حمدان الذي يخلق ثنائية “الأرزة” وبرتقال الجنوب، فينتقدُ الأرزة التي لم تعطِ لبنان وجنوبَه شيئًا بعكس المقاومة الجنوبيّة. ويضمّنُ حمدان صورًا من أفعال المقاومة الشعبيّة خلال الاجتياح الإسرائيلي في الثمانينات، والتي عادت إلى الأذهان في الأيّام الأخيرة مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي لقرى حدوديّةٍ رغمَ وجوبِ انسحابِه وفقَ اتّفاقِ إطلاقِ النارِ مع لبنان: “إنتِ يا أرضْ جنوبنا المحرور/ عِطيت شعبْ صامدْ بساحتِنا/ ومن زيْت زيتونكْ غِلي المِغرور/ لمّا انغلى عَ إيد حَجِّتنا/ ومنْ كلّ زهرة بْغصنْها المقهور/ فتّحْ مُقاومْ قالْ ما مِتنا/ وإلنا لأرزتِنا نغنّي دْهور/ بسْ أرزْتنا شو عِطيتنا/ كلّْ ليمونة عَ شاطي صور/ لازم ترسموها بْعلمْ لبنان/ وغصونْها الطيبة عَ تِربتنا”. وفي بعض الأبيات، يصبح الشهيدُ أو المقاومُ الجنوبيُّ المدافع عن أرضه هو النقيض لـ “زعماء الكراسي” وللسياسيّين “العملاء والخونة” لتعاملهم مع إسرائيل. وتكون المعارك التي خاضها، في هذا السياق “أمل” و”الاشتراكي” و”أبناء جبل عامل” هم الأطراف التي تواجه الاحتلال في الحرب. من حفلة بيت الدين، في منطقة الشوف، يُعلن الشاعر أسعد سعيد وقوفه مع الجنوب الذي تحدّى الصهاينة، ويعادي العملاء والخائنين: “يا شوف، شوف جنوبَك بباعه الطويل/ بالّدم هدّم بِكرْ صهيونيّ تْقيلْ/ وأسعدْ جَنوبْ الشعر ما بْيرحمْ دَخيل/ ولا هَيْمنة خاينْ ولا خيانة عميلْ”.
يسردُ خليل شحرور الذي ينحدر من قرية “هونين” المحتلّة حينها، أحداث المعارك وسير المقاومين الذين استشهدوا دفاعًا عن الجنوب، من جبل لبنان (الباروك وبحمدون) إلى الجنوب (الشهيدان محمّد سعد وخليل جرادي في قرية معركة) وبلال فحص الاستشهادي في قضاء الزهراني وغيرهم، ويضع هذه المسيرة في وجه “الكراسي” السياسيّة: “يمين ع مدبح الأوطان ضحّينا البنين/ ومش بس تَ نردّ اليهود اللاصقين/ من تلة الباروك لَبحمدون مين/ لبواب خلدة استشهد وصان العرين؟/ وبمعركة سعد وجرادي المؤمنين/ والسابقين الـ قبلهن واللاحقين/ ومتلن بلال العاملي حالف يمين/ ووَجد ونضال اللي معه متخالفين/ تيغيّروا سن الحكم والحاكمين”.
وبشكل واضح، يصف طليع حمدان المستضيفين في بكفيّا بالعملاء: “أخطرْ من المحتلْ تفكيرْ العميل”، معتبرًا أنّ زين دخلَ في عيون “آرييل شارون”، وزير الدفاع الإسرائيليّ خلال اجتياح بيروت في العام 1982. يستفزّ هذا التشبيه زين الذي يردّ، تأكيدًا على رجولته “الصحيحة” المعتادة التي تحملُ وجهَ المُحِقّ لا العميل، ووجهَ المقاتل البطل – “الرجل”:
“شارون ما بدخل نعس عَ مَضجعه/ بدخل جنوبي انتحاريّ بمدفعه/ ان ما قدرت إعميله عيونو وركّعه/ أَعوْر متل موشي ديان برجّعه” (كان وزير الخارجية الإسرائيلي خلال فترة “كامب دايفيد“). ويخاطب خليل شحرور العملاء في حفلة شحور في صور، ويشبّبهم بأنور السادات، الرئيس المصري الذي وقّع على اتفاقية السلام “كامب دايفيد” بين مصر وإسرائيل: “بعتوا القدس والتحرير بعتوا/ ورا كلّ عرش في سادات تاني/ بجنوب العزّ يمكن ما سمعتوا/ الـ دفع لشعبه ضريبة دم قاني/
لا شفناكن لتحريره اندفعتوا/ لا قدّمتوا التعازي ولا التهاني/ بمقاومته الفتيّة ما سمعتوا“.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
الحرب ضدّ “أفعى” و”طيور غريبة”
شملت الحرب الأهليّة كافّة الأراضي اللبنانية بنسبٍ متفاوتة وبوتيرة مختلفة. وخلال الأعوام الخمسة عشرة، لم تأخذ شكلًا واحدًا، بل تخلّلتها بعض محاولات التوصّل لتسويات دون نجاح. تغيّرت أشكالُ الصراعات، بشرحٍ مبّسطٍ جدّا، بين يمين ويسار؛ بين “جبهة لبنانيّة” تمثّلت بأحزاب وشخصيّات يمينيّة يقابلها “حركة وطنيّة” تشكّلت من أحزاب يساريّة وعروبيّة وعلمانيّة وقفت بمعظمها إلى جانب القضيّة الفلسطينيّة وتحديدًا “منظّمة التحرير الفلسطينية”. وتخلّلت الحربَ الكبرى حروب صغيرة بين الأحزاب والأطراف ضمن الجبهة نفسها، منها ما عُرف بحرب “الجبل” (1983 – 1984) بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان، وحرب “المخيّمات” (1985 – 1988) بين حركة “أمل” و”منظّمة التحرير الفلسطينيّة”، وأخرى بين “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكيّ (1987). والحرب الأخيرة كانت بين ميشال عون وبين حزب القوّات اللبنانية برئاسة “سمير جعجع” عُرفت بـ “حرب الإلغاء” (1990)، بالتزامن مع “حرب التحرير” (1989 – 1990)، وبالتزامن تقريبًا مع معارك شهدها الجنوب اللبنانيّ بين “حزب الله” و”حركة أمل” (1988 – 1990).
ظهر التدخّل الخارجي في كافّة أحداث الحرب، وتمظهر ماديًّا بدخول الجيش السوريّ إلى لبنان وقوّات الردع العربيّة. وكان للسفارة الأميركيّة في بيروت دور كبير، تخلّله ظهور قوّات “المارينز” على شواطئها. ومن الجنوب، بدأ الاجتياح الإسرائيلي منذ عام 1978 واستمرّ بعد الحرب الأهلية حتّى تحريره والبقاع الغربيّ في العام 2000، وشهد وصول القوّات الإسرائيليّة إلى بيروت في العام 1982 بعد اجتياح ثانٍ ومجازرَ أشهرُها مجزرة “مخيّمي صبرا وشاتيلا” بالاشتراك مع “القوّات اللبنانية”.
تبدو الحرب الأهلية في بعض أبيات الزجل كأنّها “أسُقطت” على الناس بسبب السياسة وفتنها أو بسبب “طيور غريبة” أو “أفعى”، ويبدو التقسيم “شبحًا” هاجمت فيه “وجوهٌ مستعارة” لبنان
وفي حين كانت الحرب خلال تلك السنوات واضحة الأطراف والمشاريع السياسيّة والدعم الخارجيّ، إلّا أنّ صورة الوحدة الوطنيّة التي تحاول رفضَ الحرب، أُفرغت من خلفيّة نشوء الحربِ نفسها، ومن العقائد السياسيّة المختلفة للأطراف المتحاربة، مثلما أُفرغت هوّيّة “لبنان” من موقعه في المنطقة والعالم. لذلك، يُفرّغ الخطاب و”يُميَّع” فيصبحُ لبنان في مواجهة حرب “فُرضت” عليه من مصدرٍ مجهول يحملُ عدّة أسماء مموّهة، وهي سياسة واضحة تتعمّد استخدام مُسمّيات فضفاضة مُستعارة مثل مفهوم “الأرزة”. وبحسب حفلات الزجل في المناطق المختلفة، يُحارب كلّ طرف العدوّ نفسه أو يكون العدوّ هو “محاولة تقسيم” غير معروفة الفاعل و”لاسيادة” فرضها الآخر غير المعلوم، فمن الطبيعي أن يُصبحَ المطلوب هو “التغيير” من كافّة الأطراف دون معنى واضح له.
من بكفيّا، يتحدّثُ الشاعر بطرس ذيب كطرفٍ واحد مع آل الجميّل عن محاربةٍ غير متخاذلة لمجموعاتٍ غير محدّدة خلال ثماني سنوات (أي منذ بداية الحرب في العام 1975): “بْمدّة تْمانْ سنين حاربْنا جُموع/ لا راسْ حاني لا تخاذلْ لا رُجوع”. وفي حضرة الاحتفال ببشير الجميل رئيسًا، ينتقي موسى زغيب صيغة الجمع للإعلان عن نصر وصمود ضدّ أعداء غير معروفة أيضًا. وتارةً يكون العدو “أيادي الغير” وطورًا يكون “كلّ عاجزٍ”: “ونحنا بعد سنوات التْماني/ خَلعْنا القَيْدْ وكْسرنا عَبيده/ ووقت صفّى وطنّا بْلا سيادة/ وأيادي الغيرْ لِعْبتْ في بَنينو/ حَدَفنا كل عاجز عَ حْيادة”.
في حفلة بكفيّا الثانية، يشير زين شعيب إلى سببين قد يستشهد اللبنانيون من أجلهما، السبب الأوّل هو الأرزة بما تحمله من قيمة وطنية (توسّطها العلم اللبناني)، والسبب الثاني هو “زين شعيب”، إذ ينصّب شعيب نفسه حاكِمًا للزجل اللبناني، قائلًا: “اللي استشهدوا بالمعركة كِرمال مين؟/ كرمال إسمين الـ عَليْهن غاليين/ أوّل إسمْ أرْزْ اللي مرفوع الجبين/ المحروسْ بالعين الشمال وباليمين/ وتاني إسم كلّ الخليقة بتعرفه/ حاكِم زجلْ لبنانْ زين العابدين”.
يحملُ الشاعران موسى زغيب والزغلول صورةَ التقسيم كتهديدٍ للبنان وسببًا لآلامه في الحرب. وهنا، تبدو الحرب الأهلية في الداخل والخارج كأنّها “أسُقطت” على الناس بسبب السياسة وفتنها أو بسبب “طيور غريبة” أو “أفعى”، ويبدو التقسيم “شبحًا” هاجمت فيه “وجوهٌ مستعارة” لبنان. يعتبر موسى زغيب أنّ “السياسة” هي التي زرعت فتنًا بين المسلمين والمسيحيّين في لبنان وسبّبت تقسيمه: “وإذا بدّها السياسة تضلّ تزرع/ فتن ما بين إسلام ونصارى/ بدّه شعبنا المظلوم يطلع/ بثورة تلهب خدود الحجارة/ وتحمي الأرض والتقسيم تمنع/ وتكشف هالوجوه المستعارة”. أمّا الزغلول، فينادي ضدّ تقسيم لبنان، وكأنّ هذا التقسيم يبدو معروفَ الأطراف و”تحصيلًا حاصلًا”: “لبنان يا شريان عم يغلي غلي/ بدمّ الكرامة والكرم والمرجلة/ ممنوع تتقسّم يا قلبْ العائلة/ التقسيم بِزيدك خَراب وبلبلة”. وفي حفلة أستراليا، يلومُ زغيب “الطيور الغريبة” التي سبّبت الحرب مشيرًا إلى التدخّل الخارجيّ أو إلى الفلسطينيّين أو السوريّين ربّما: “الذنب مش ذنب هالشعب المعتّر (المسكين/ الـ عم يحصّل رغيفه بالغَصيبة (بصعوبة)/ ذَنْبْ اللّي خلّوا الأرض بَيْدر/ وطعّموا الحَبّْ للطيور الغريبة”.
لا شكل واضح للعدوّ إذًا سوى في استعارات تزيده غيابًا، فهو يظهر مموّهًا على الدوام كما في حفلة بيت الدين في الشوف، التي صدح فيها صوت الشاعر طليع حمدان (من جوقة “الزغلول” والمنتمي للحزب التقدميّ الاشتراكيّ) متحدّثًا مع أعداء “الشوف” دون تحديد هويتهم.
تبعت الحفل مصالحة بين حزبي “حركة أمل” والاشتراكي، الذي أحيى الحفل على شرف هذا الصلح في العام 1985 بعد خلافات بينهما. وما الاستعانة بالزجل إلّا إشارة إلى دور هذا الفنّ الشعبي في الانخراط في التحوّلات (والاحتفالات) السياسية خلال الحرب وإلى استخدامه من قبل الأحزاب مثلما استخدم الأقدمون شعراء البلاط ومثلما كان يدعو “الوجهاء” شعراء “المعنّى” في القرى والبلدات في بدايات القرن العشرين.
عضلات الزجل المفتولة
يبقى الثابتُ في حفلات الزجل، بعيدًا عن الشكل التقنيّ، وباختلاف مواضيعها السياسيّة والاجتماعيّة، هو “ذكورة” الشاعر وصورة الرجولة فيه. تلك الرجولة التي تشكّل جوهر التحدّي الزجليّ، حين يغذّيه “الردّيدة” الذين يحيطون بشعراء الجوقة. وغالبًا ما يؤجّج هؤلاء الهتافات لبعض الجمل الشعريّة التي يستعرضُ فيها الشاعر العضلات الرجولية أو “المرجلة” كما يُقال باللهجة اللبنانية العامية، وخاصّة في حالة زين شعيب الذي يشيرُ إليهم فورَ إلقائه جملًا تثيرُ صورة “الذكورة” لديه.
منذ المراحل الأولى للزجل المنبريّ في لبنان والمنطقة، اعتُبِر الزجّال القوّي هو من يطوّع جميع الصور لخدمة صورته ولإظهار قوّته. ففي أولى الحفلات المنبريّة في تاريخ لبنان الحديث، قدّم شحرور الوادي نفسه فيها كالرجل الذي يهدّ الكونَ بيدٍ واحدة ويدمّر الخصم في كلّ المجالات: “بْكَبسة يدْ الكون بهدّ/ بْشلّ الضدّ بْكلّْ مْجال/ بْكرسي الخدّ الرمحْ بصدّ/ وما بينعدّ عليّي رْجال”.
يطوِّع الشعراء الشخصيّاتِ الدينيّة والأدبيّة والأسطوريّة وحتّى صورة “الله” لتفعيل صورة ذكورتهم وقوّتهم وشجاعتهم التي تنحدرُ، بالضرورة، من إرثِ شعراء ما يُسمّى بالعصر الجاهلي، حين كانت “فحولة” الشاعر تحلَّل وفقًا للإبداع في الصور الشعريّة أو لناحية إعلاء صورة الأنا
احتوت ساحة الحرب الأهلية اللبنانية كافّة العناصر التي يحتاجها الشاعر لصقل رجولته، فانضوت صورة الذكورة ضمن الموقف السياسي والعنف الاقتتالي الحاصل. لا يبقى الشاعر محصورًا في الدفاع عن صورة الذكورة القوية عنده بل عند حزبه أو مجموعته الزجليّة أيضًا مقابل غيابها عند مجموعة الخصم. كذلك، امتزجت صورة لبنان وأرزته وتماهت مع صورة الشاعر، وبامتداح الأوّل كان يُمتدح الثاني حكمًا. كذلك الأمر بالنسبة إلى صورة “الجنوبيّ”، مثلًا، عند زين شعيب كان الجنوبيّ متلاحمًا – بالضرورة – مع صورة الذكورة التقليديّة؛ هو الولي الذي يُخجل التاريخ ويرفض مبارزة طليع حمدان له في بيت الدين: “يا صفحة التاريخ عن زين اخجلي/ يَمَّا ابعتيلي شي وَلي يْصارعْ وَلي/ حمدان تاني ميل كلمة مش إلي/ جنوبي أنا من الأوّلي للخردلي”. (من جسر الأوّلي إلى نهر الخردلي أقصى الجنوب).
عبر إلمامهم بمعرفة دينيّة وثقافيّة، يطوِّع الشعراء الشخصيّاتِ الدينيّة والأدبيّة والأسطوريّة وحتّى صورة “الله” لتفعيل صورة ذكورتهم وقوّتهم وشجاعتهم التي تنحدرُ، بالضرورة، من إرثِ شعراء ما يُسمّى بالعصر الجاهلي أو عصر ما قبل الإسلام أو ما بعده، حين كانت “فحولة” الشاعر تحلَّل وفقًا للالتزام بالمعايير الفنيّة التقنيّة أكان لناحية الإبداع في الصور الشعريّة أو لناحية إعلاء صورة “الأنا“. ويتفرّد كلّ شاعر باستعارةٍ متكرّرة في هذه الحفلات وغيرها تغذّي صورته على المنبر. زين شعيب يصبح هو الإمام زين العابدين بن علي وابن الجنوب الشيعيّ، والزغلول يشيدُ بصوته الجميل كالزغلول، وموسى زغيب يعرّف عن نفسه بالنبي (موسى). وتطوّع كافّة الشخصيّات الدينيّة والأدبيّة لغرض إعلاء صورة الشاعر “الرجل“، حتّى أنّ بعض الشخصيات قد تأخذ طابعين بحسب السياق، وبكلّ ما يتطلّب الأمر من صور الذكورة والرجولة النمطية وما يندرج تحتها: الشاعر عنترة بن شدّاد، مثلًا، يكون الفارس الشجاع في حال قارن الشاعر نفسه به، ويصبح “العبد الأسود” في حال أرادَ تشبيه خصمه به.
من “الجماعة” إلى “الجوقة” التجاريّة
لم يكن شكل حفلات الزجل خلال بداية مرحلته المدوّنة في أوائل القرن العشرين هو الشكل الذي عهده الجزء الثاني من القرن. فقد أخذَ شكلًا ماديًّا نقلَه من هواية أو إحياء مناسبات قرويّة ودينية وأعراس إلى حفلة تستوجبُ بطاقات دخول ودفع بدلًا مادّيًا.
أحيت “الجماعة” أو “الربع” حينها هذه الحفلات والسهرات والتقى الشاعر، “القوّال” بحسب التسمية القديمة، بقوّال آخر ليبدأ سجالٌ ارتجاليٌّ في مواضيع تدور حول المدح والفخر والهجاء والغزل والفكاهة. وعادة ما يدعو أحد الوجهاء شعراء الزجل إلى حفلة يأتون إليها مع مجموعة من الشباب يسمّونهم “الزُمرة” أو “الحوسة”، وتبدأ الحفلة بمدح صاحب الدعوة وبعدها تنطلق “المعارك الكلامية للمفاخرة والحماسة والادّعاء”، بحسب ما يُنقل عن الشاعر علي الحاج، رفيق الشحرور في جوقته.
ويُنسب هذا التحوّل “المنبريّ” (حفلات المنبر) في الزجل إلى شحرور الوادي نفسه، مع تأسيسه الجوقة الأولى.
ينقل الكاتب الصحفيّ فاضل سعيد عقل في “مجلّة الشعلة والعقل” في العام 1966 أنّ “الجوقة” أتت لتأخذ مكان “الجماعة” بكيان يتألّف من أربع أفراد يعتلون منبرًا ويستعملون الدفّ أو الطبلة أو الدربكة وفقًا لإيقاعٍ معيّن. وأصبحَ “الزجلُ” احترافًا في حفلاتٍ ذات مواضيع خاصّة تدور حولها المساجلة، وذات محطّات زجلية تأخذ ترتيبًا محدّدًا من أنواع الزجل (يختلف عدد أبياتها وإيقاعاتها وأوزانها)، ليصبح هذا الترتيب هو التقليد الثابت في الحفلات: القصيد، القرّادي، الموشّح الغزلي وبعدها القرّادي. تضمّنت كلّ “جوقة” مجموعة ثابتة من الشباب “الردّيدة” يردّدون اللازمة الشعريّة ويحمّسون “الزجّالين” ويُشعلون روح المنافسة بين الجوقتين المتباريتين. وبذلك، أخذَ الزجل وحفلاته طابعًا تجاريّا للمالِ دورٌ أساسيّ فيه، وربّما كان أساسًا في شهرته خلال العقود التالية.
استثمر الشعراء والجوقات الزجلية بمعارك الحرب الأهلية، واستثمر السياسيون بالجوقات الزجلية للدفاع عن آراء ومواقف أحزابهم. استقبل آل الجميّل و“الكتائب اللبنانية” و“القوّات اللبنانية” حفلتين في الفترة نفسها، وفي كرم سدّة في زغرتا استقبلهم سليمان فرنجية (الأب)، وفي بيت الدين استقبلهم جنبلاط، وكان لـ “حركة أمل” عدّة استضافات للفرقتين، فيما خاض الشعراء صولات وجولات بين أستراليا والكويت وسوريا.
شعراء برعاية المواقف أو الليرات؟
يكاد يكون هناك إجماع على مدح شعراء الزجل لمستضيفي الحفلات من السياسيين. في حفلة بكفيا مثلًا، يظهر موسى زغيب دعمَه الكامل لآل الجميل ويصفُ بشير بـ “الفارس المقدام” قبل أن يصف سليمان فرنجية بـ “الفارس المجلى” في العام نفسه، رغم اختلاف موقفيهما إلى حدّ التنافر: “سْقينا الأرض من دم الشهادة/ بْدَفق شلّال ما بينضب نَعيمُه/ ووِقفْ شيخ “الكتائب” في بِلادي/ ووِقف حدّه بشيره مع أمينه” ( يقصد الرئيس أمين الجميّل شقيق بشير).
أمّا زين شعيب، فيسيرُ على خطى موسى في حفلات الشمال ولكن كضيف “جنوبيّ” يمدحُ المستضيف كانئًا من كان، فتصبح بكفيّا وبيار الجميّل كالله مصدر استنارة الناس: “نحنا بِضيعة بو أمين وبو بشير/ إلّا بالله وعزمهم ما منستنير”.
بالنسبة إلى شعراء الجنوب، نال نبيه بري وحركة “أمل” الحصّة الكبيرة من مديحهم، وتحديدًا زين شعيب وأسعد سعيد وخليل شحرور. في حفلة شحور في قضاء صور في 1989، يصبح نبيه برّي قائدَ الأمّة الوفيّ لأنّه حمل أمانة الإمام موسى الصدر، مؤسّس حركة “أمل”، بعد اختطافه عام 1978، فلا يخاف زين شعيب على الجنوب ما دام برّي موجودًا: “ما بفزَع يا جنوب على صحابك/ ما زال الصدر عَ حقوقك تأمّن/ ونبيه تسلّم بإيده الأمانة”.
في الشوف، اعتاد طليع حمدان على تقديم المديح الأكبر لوليد جنبلاط الذي استحوذ على أكثر من نصف مقدّمة الحفل في بيت الدين. يهنّئُ حمدان أبا تيمور (وليد) برئاسة الحزب: “يا بو تيمور من بعد التعاسة/ طلعت يا ريس الـ قدّ الرياسة (بقدر الرئاسة)/ إنت عكرستك بكتير أكبر/ من كلّ اللي طلعوا عالكراسي”.
وتتجلّى المواقف السياسيّة وخضوعها لرأس المال السياسيّ في حفلة بيت الدين بين طليع حمدان، الثابت على موقفه في مدح طرف واحد، وبين زين شعيب الذي يتهمه حمدان بالتلّون بين الكتائب وحركة “أمل”.
يشير هذا، أوّلًا، إلى أن الزجل وحفلاته بات مهنة أساسيّة لمعظم الشعراء، ومصدرًا يعتاشون منه، وثانيًا، يظهر دور الموقف السياسيّ المتوقَّع في “المناطق المختلفة” ما يشكّك في فكرة الوحدة الوطنية والسيادة، وربّما يبرّر شكلها العام، وثالثًا، تظهر الندّيّة الواضحة والأطراف والعدوّ على عكس التعميمات في الحفلات الأخرى، وإن ظلّت التسميات فضفاضة. فطليع حمدان يعتبر أنّ مواقف زين يشتريها المال، فتارةً يغنّي عند “الكتائب” وطورًا يغنّي عند أعدائهم: “بتتركهن بْقلب الخنادق صامدين (يقصد الشيعة والدروز)/ وبتروح تِتغنّي مع الطير الحزين/ دِينَكْ جيابَك ما بتعرف غير دين/ ومِنْشان تِربح بِكَمْ ليرة يا فطين/ الـ بتقولهن بالشوف برعاية وليد/ بتقولهن بالمتن برعاية أمين” (يقصد الجميّل).
أطلقت هذه البيوت الشعريّة الصرخة في صفوف الجمهور وابتسم زين ابتسامة خجولة، قبل أن تمسَّ بذكورته وبصورته – لا أمام الجمهور فحسب – بل ربّما لدى برّي وجنبلاط، فأطلق العنان كلامًا وأداءً ليخبر أنَّ شعره لدى أطراف سياسيّة مختلفة لا ينقص من قيمته بل هو من يضفي على تلك الحفلات قيمة، فهو النعس الذي يدخلُ إلى عيون الناس والشمس التي تظهرُ عليها: “بشوف بمتن بشمال بجنوبي المنيع/ مهما الدروب تسكّرت صدري وسيع/ متل النعس بدخل بعينين البشر/ ومتل الشمس بضهر على عيون الجميع“.