بخفةٍ لا مثيل لها، يتحرّك إبهامنا صعوداً، ثمّ نزولاً. نعيد الكرّة من جديد بحركةٍ آلية حفظتها عضلات أصابعنا؛ فيديو من الموسيقى الكلاسيكية، يليه مشهدٌ من القتل والقنص الممنهج. فيديو سريع لتحضير طبقٍ شهيٍّ من الباستا، وبعده آخر يوثّق حصاراً ومجاعة مفتعلة.
أكثر من 469 يوماً، وصور الإبادة في غزّة تقبع في جيوبنا. شاشة صغيرة تتسابق فيها الصور والفيديوهات، وتنتظر إصبع من أصابعنا بإيعاز من الخوارزميات. نتفرّج على الإبادة الأولى في البشرية التي تبثّ بشكلٍ حيّ. بثٌ تختلط فيه صور الدماء بالطعام ويمتزج الموت فيه بالحياة، وتتوازى فيه مشاهد الإبادة مع كل صورةٍ أخرى. في النهاية الموت هو منشور آخر يختفي في ضجيج آلاف المنشورات التي نتصفّحها لبضع ثوانٍ فقط قبل أن ننتقل إلى غيرها بكبسة واحدة تخلّصنا من الجثث، ومن أصوات الطائرات ومن قرقرة البطون الفارغة.
طبيب يسير بمفرده
سار مدير مستشفى كمال عدوان الطبيب حسام أبو صفية وحيداً وسط ركام المستشفى الذي دمّرته إسرائيل في غزّة. كانت هذه صورته الأخيرة قبل الاعتقال، وتبدو ديستوبية إلى أبعد الحدود. فهو وسط الركام والدمار والإبادة، بقي حتى اللحظة الأخيرة في خدمة الجرحى في مستشفيات غزة الخالية من أي مقوّمات للحياة. والآن هو يمشي وحيداً، مطرقاً من دون وجهة محدّدة، فيما يجعله رداءه الطبي الأبيض أشبه بالأبطال الخارقين، نظراً لتشابه ردائه من الخلف مع الأردية التي يلبسها أبطال يستطيعون التحليق مثل سوبرمان وباتمان.
يظهر تباين الضدّين في معاني صورة أبو صفية ورمزيتها، تلك الصورة التي التقطت من الأعلى فبدا الطبيب صغيراً وسط أكوام الركام؛ القتل الممنهج مقابل العزم على الحياة. الرغبة في قتل كلّ شيء تقابلها الرغبة في إحياء كل شيء. الركام الداكن ورداء الطبيب الأبيض. جبن العدو مقابل بسالة الطبيب والغزيين.
يمكن أن يُقال الكثير في هذه الصورة التي لن يخفّف مرور السنوات من الثقل الذي تحمله.
جلد داكن للشرّ والبطولة
انبرى عدد من السيميائيين لتحليل الرموز والأدلّة والعلامات، اللغوية وغير اللغوية المحيطة بالصورة، مثل عالم الاجتماع البريطاني (من أصل جامايكي) الماركسي ستيوارت هال، الذي يرفض التسليم بموضوعية الصورة وبراءتها. لهذا يمحّص في ماورائياتها؛ من مصوّرها إلى ناشرها فمتلقيها بالإضافة إلى الغاية من وراء نشرها والأهمّ السياق الذي تتواجد فيه. وفي إبادة تُبثّ يومياً أمام أعيننا، لا يمكننا إلا التساؤل عن الخفّة التي تتحرّك فيها تلك الصور المثقلة بالدماء والموت على وسائل التواصل الاجتماعي.
يدرس هال الصورة ضمن سياق وجودها. فيتحدّث في كتابه “التمثيل: التمثيلات الثقافية والممارسات الدالة” (1997)، عن “مشهدية الآخر” وكيف تصوّر وسائل الإعلام البريطانية “الآخر”، أي أولئك المختلفين عرقياً وإثنياً عن العرق الأوروبي الأبيض، مركّزاً تحليله على صور الرياضيين السود، المنشورة في الإعلام المكتوب تحديداً. بالنسبة لهال، تحمل الصورة معانٍ وتأويلات كثيرة، ولكن برأيه يجب النظر إلى مجموعة الصور التي تحيط بها والتي تمنحها معانٍ إضافية، لا تُحصى؛ أين تنشر، ومِن قِبَل مَن، وضمن أي سياق سياسي واجتماعي. الصور بالنسبة إليه لا تحمل معانٍ نهائية، بل هي قابلة للتشكّل دائماً وفقاً لأطر عديدة منها الكلام الذي يرافق الصورة.
عزّزت الصور بحسب هال، موضع الآخر بوصفه “مشهديةً غريبة”، وموقعه في ثنائية الـ “نحن” والـ “هم”، أي من يشبهنا بتصرّفاته ولباسه وشكله، ومن هو غريب عنا. وتعزّزت هذه الثنائية في وسائل الإعلام البريطانية عبر نشر مجموعة الصور التي تدور في منظومة فكرية واحدة. الصورة نفسها قد لا تقول أيّ شيء محدّد بالضرورة، وقد تبدو مجرّد لقطات تظهر أناساً عاديين أو أمكنة عادية يمكن التعثّر فيها في أيّ مكان في العالم. وليس مبالغة القول إنّ السياق هو من يبني الصورة ومعانيها المختلفة التي تتقلّص أحياناً إلى معنيين متناقضين لا ثالث لهما (هويتين في هذه الحالة) كما في المثال الذي يستعين به هال.
ضمن ثنائية “نظام التمثيل المبني على العرق”، تعزّز الصور الفوتوغرافية ديناميكيات القوّة القائمة، وتحجّم الاحتمالات الهويّاتيّة لمن يظهرون فيها، جاعلة منها هويات حاسمة وعاجزة عن مجاراة تشعّب حيوات أصحابها
يحلّل عالم الاجتماع صورة غلاف مجلة The Sunday Times الصادرة في التاسع أكتوبر 1988، والتي تظهر العدّاء الكندي الأسود بن جونسون وهو يفوز بنهائي سباق المئة متر للرجال في الأولومبياد، حائزاً على الميدالية الذهبية. في الصورة، تحيط بجونسون مجموعة من الرياضيين السود المتربّعين على عرش السباق. ويصاحب صورة الغلاف عنوان “أبطال وأشرار” في إشارة إلى جونسون من جهة وإلى الرياضيين الآخرين من جهة أخرى، خصوصاً بعدما خسر جونسون ميداليته الذهبية لصالح المتسابق الأسود كارل لويس، حين تبيّن تعاطي جونسون للمنشطات الرياضية قبل السباق.
صور كهذه تعزّز ديناميكيات القوّة القائمة، وتحجّم الاحتمالات الهويّاتيّة لمن يظهرون فيها، جاعلة منها هويات حاسمة وعاجزة عن مجاراة غنى وتنوّع حيوات أصحابها. ضمن ثنائية “نظام التمثيل المبني على العرق” الذي تحدّث عنه المفكر الماركسي، لا يمكن للآخر، الرياضي الأسود، إلّا أن يصنّف ضمن قطبي “الشرير” أو “البطل الخارق“، ولا خيار ثالث لهما. يحكم هذا النظام الإقصائي الرمزي على الأجساد السوداء التي يصبح تصويرها إمّا تظهيراً لدونيتها وعدم حضارتها، أو تجسيداً للفيتيشية التي ترى صور أجساد الرياضيين السود بنظرةٍ جنسية تلصصية يرافقها خطاب فيتيشي.
غلاف مجلة The Sunday Times الصادر في 9-10-1988
ضحية مثالية
انطلاقاً من هذه الخيارات المحدودة لتمثيل الآخر، يصبح تحليل نظام التمثيل في الصور والفيديوهات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي عن الإبادة ومنها، أكثر تعقيداً. لا منبع واحد أو وجهة واحدة أو حتى طريقة واحدة للنشر. تتداخل معاني الصور ضمن آلاف المعاني الناتجة من المحتوى المزدحم على هذه الوسائل. فالفيديوهات والصور التي كانت وما زالت تُنشر من قبل صحافيي غزة مثل وائل الدحدوح وبيسان عودة وهند الخضري وكثيرين غيرهم، أكان عبر صفحاتهم أو الوسائل التي يعملون فيها، تختلف معانيها بالطبع وبشكلٍ جذري عن تغطيات الصحافة الغربية. فتتموضع ضمن سياقي الضحية والمقاوم، سياقان قد يتلاقيان أو ينفصلان، وقد يقدّم كل شخص أحد السياقين أو الاثنين معاً وفقاً لمواقفه الشخصية والسياسية. أما حين ينشر الجيش الإسرائيلي تلك الصور، فهي تأتي ضمن حربه النفسية وكمحاولة لتعزيز سطوته وفرض ديناميكيات القوة والهيمنة، وتبرير قتله المدنيين في غزّة، فيخرج إقصاء الآخر من طابعه الرمزي ويبلغ المدى الحقيقي المتمثّل بالقتل.
تبحث المصورة الغزية سمر أبو عوف، عن لقطات من السعادة والحياة وسط آلة القتل في غزّة. وليست صور الفرح التي تلتقطها في هذا السياق نكراناً لأهوال الموت، إنّما هي إصرار على التنقيب على الحياة، كوجهٍ آخر من المقاومة. امرأة تخرج من باب منزلها المدمّر مرفوعة الرأس، مرتديةً الكوفية الفلسطينية، أو طفل يولد وسط الإبادة ويحيط به أطفال آخرون بالشموع في مشهدية تذكّر بولادة المسيح اللاجئ في غزة هذا العام وليس في بيت لحم.
تعزّز محاولات إثبات إنسانية أهل غزّة النظرة الفوقية اتجاههم. كأنّ الإبادة مرفوضة فقط لأن ضحاياها يشبهون بقية العالم، أي هم مثقفون مثله ولديهم حياة وأحلام تشبهه، وبالتالي ينتمون إلى الـ “نحن” وليس إلى الـ “هم”
برزت محاولات مكتوبة وبصريّة كثيرة لأنسنة أهل غزة ومحاولة استجداء تعاطف من لم يرَ فيهم أناساً يشبهونه، من خلال الفيديوهات والمنشورات التي ركّزت على حياتهم وتعليمهم وجمال بيوتهم قبل أن يهدمها الاحتلال وينقضّ على أحلامهم. مما لا شك فيه أن أنسنة أيّ قضية تساهم في تذكير من يراقب هذه الأهوال بأن ضحاياها بشر، أي أنهم لا يستحقون الموت.
لكن هذه المحاولات تخاطر بالدخول في لعبة الثنائيات وتعزيز النظرة الفوقية. كأنّ الإبادة مرفوضة فقط لأن ضحاياها يشبهون بقية العالم، أي هم مثقفون مثله ولديهم حياة وأحلام تشبهه، وبالتالي ينتمون إلى الـ “نحن” وليس إلى الـ “هم”.
من الظالم بحقّ الغزيين أن العالم يريدهم دائماً في صورة الضحية المثالية، وأن تشبه صورة الضحيّة هذه العالم إلى حدٍ كبير حتى يتمكن من التعاطف معها ورفض التطهير العرقي بحقّها. والصور حين تتموضع ضمن هذه السرديات حصراً، فإنها تعزّز ثنائية إما ضحايا فقط أو مقاومون فقط، ومن شأنها في الحالتين أن تأطر سرديات الغزيين والفلسطينيين وتجاربهم وحيواتهم بأكملها.
صورة لا تصل
في غضون لحظات تنقلنا الصورة من إبادة جماعية إلى حفلةٍ صاخبة. وحتى حين تجتاز صور القتل الرقابة المفروضة على مواقع التواصل، فإنّنا نتلقّفها بخفّةٍ. نراها لحظة ثمّ تختفي في غمرة صورٍ أكثر سعادة. نتجاهلها بسهولة، وننتقل نحو أخرى نتقبّلها أكثر، ونكون بحاجة إليها لكي ننسى ما رأيناه للتوّ. في هذه الهندسة الافتراضية ثمّة تطبيعٌ مع العنف والقتل كجزءٍ يومي من حياتنا، كصورة إلكترونية بعيدة تحدث في عالمٍ موازٍ ويمكننا أن نشيح نظرنا عنها متى تعبنا.
في وسائل مثل “انستغرام”، تُرافق التحذيرات بعض الصور والفيديوهات لتنبيه المشاهد إلى أنها تحوي عنفاً.. فيمكنه أن يقرّر عندها تجاهلها أو أن يتجهّز نفسياً قبل أن يراها. في هذه الحالة، بإمكان المتلقّي أن يطفئ العنف ويمنعه من الوصول إليه ولكنه لا يمكن أن يوقف حدوثه على أرض الواقع. وحتى استهلاك واستيعاب صور وفيديوهات الحرب على مدار الساعة لا يأتي بالنتيجة المرجوّة بالضرورة، ولا يلقى الأثر نفسه لدى الجميع.
تشبه الصور التي نتلقفها عبر وسائل التاصل الاجتماعي إلى حد كبير اختبار رورشاخ النفسي، الذي يعرض صوراً مختلفة لبقع من الحبر ويدرس استجابة المريض لها وكيفيّة فهمه لها، فيكون فهم الصور مدخلاً إلى ذات المريض. إذ لطالما كان أثر الصورة في متلقيها، لا سيما صور الحروب، مادّةً للجدال.
الكاتبة النسوية الإنكليزية فرجينيا وولف رأت في كتابها “ثلاثة جنيهات” المنشور سنة 1938 أنّ الحرب صناعة رأسمالية أبوية يعزّز فيها الذكور حبهم للسيطرة. كتاب وولف جاء ردّاً على رسالة محامي يسألها “كيف نوقف الحرب؟”. وقد رأت أن صور الحرب والقتل قد توحّدها مع المحامي، رغم أنّهما من جندرين مختلفين، خصوصاً عبر المشاعر التي تثيرها الصور مثل النفور، والرغبة المشتركة في إنهاء الحرب.
غير أنّ وولف تتنبّه مبكراً إلى أنّ نشر صور العنف غير كافٍ وحده لوقف الحرب أو لتفكيك الأسس والمنظومة التي تقوم عليهما. تُحرّّك الصور أمراً داخلنا، ولكن العواطف التي تثيرها فينا ليست موحّدة. فبدل الرغبة في إنهاء الحرب، قد يؤدّي ذلك إلى التطبيع معها أو قد تؤجّج مشاعر الفخر والبطولة وحتى الرغبة في المزيد من الحرب لدى الرجال الذين تربوا في مجتمع يحثّهم على العنف. فهم صور الحرب ليس مساراً يقتصر على أعيننا، إنما لعقلنا دورٌ كبير في تفكيكها على ضوء كل التجارب السابقة التي مررنا بها. توغل الروائية والناقدة الأميركية سوزان سونتاغ عميقاً في تعقيدات صور الحروب في كتابها “الالتفات إلى ألم الآخرين” (2005)، فترى أنّ هذه الصور فعّالة في تحويل الواقع الذي يجهد كثيرون إلى تجاهل حدوثه، إلى حقيقة ظاهرة وموثّقة لا يمكنهم التغاضي عنها. لكن الصورة، وتحديداً صورة الحرب، ليست خالية من الثقل الاستعماري، وبالتالي فهي ليست متساوية في إثارة ردّة فعل واحدة؛ لم تثر صور حروب الديكتاتور الأسباني فرانشيسكو فرانكو الاستنكار حين كان ضحاياها من المستَعمَرين، أي أصحاب البشرات الداكنة وغير المسيحيين، في حين أنّها بدأت تأجج الجمهور حين أضحى موضوعها الإسبان نفسهم.
والحرب بالنسبة لسونتاغ ليست مجرّد عمل عنيف، إنّما هي فعل سياسي معقّد بالدرجة الأولى. ولرصد تعقيدات التحيّز السياسي الذي تثيره صور الحرب، تستحضر سونتاغ الحرب على مخيم جنين عام 2002، وكيف أثّر بث قناة ”الجزيرة” الإنكليزية المتواصل للدمار والقتل في المخيّم على جزء كبير متابعي القناة. لكن هذه المشاهد لم تؤثّر بحسب سونتاغ في من لم يكونوا على استعدادٍ للتصديق بأن هذه الأعمال من صناعة الجيش الإسرائيلي. كان من الأسهل لهؤلاء التصديق بأنّ الصور والفيديوهات مفبركة ومعدّة مسبقاً للكاميرا، على أن يناقضوا معتقداتهم الراسخة.
الكاتبة المناهضة لحروب الولايات المتحدة، لا تُنكر أثر صور الحرب في إثارة ردة فعل عامة مضادة، وتحرّكات داعية للسلام أو ببساطة زيادة الوعي حول قضية ما. فقد أثار تسجيل الطفلة ليان حمادة الأخير مع الهلال الأحمر الفلسطيني موجات من الغضب. وأتى اتصالها بعد مقتل أفراد عائلتها المحاصرين من قبل جيش الاحتلال في سيارتهم، لكنّها قتلت مع الطفلة هند رجب وطاقم الإسعاف الذي قدم لإسعافهما. خرجت احتجاجات طلابية حول العالم منددةً بما حصل رافعةً صور الطفلة هند، وسيطر طلاب جامعة كولومبيا الأميركية على ”قاعة هاملتون هول” وحولوها إلى قاعة هند.
يد من جثة طفلٍ وحيد، آخر شاخصٌ نحو السماء منتظراً بعض المطر، والدٌ مكسور على رحيل ولده، كلّها صور يتفرّج فيها العالم على آلام الغزيين، على فقدان أغلى ما يملكون، وعلى مستقبل الحياة الذي يسلب منهم. صور كان المصور بلال خالد من خلالها شاهداً للعالم على التطهير العرقي للفلسطينيين. ورغم جودة الصور وحقيقتها بوصفها وثائق يوميّة آتية من غزّة، تعامل عدد كبير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي مع صور الإبادة كأنها غير موجودة، وتعامل الآخر معها على أنّها مفبركة ومفتعلة، إن اضطر إلى الإقرار بوجودها. آخرون في أقاصي الأرض تضامنوا، فظهرت دعوات وتظاهرات عالمية تدعو إلى وقف التطهير العرقي والتهجير. خرج الطلاب حول العالم بتظاهرات تدين الإبادة وتدعو إلى وقف فوري للحرب. وقد كان واضحاً أيضاً، ظهور وازدياد دعوات المقاطعة الثقافية والاقتصادية لإسرائيل. لكن ألم يكن كلّ هؤلاء معبأين ومهيأين مسبقاً ليصدّقوا ويتفاعلوا ويتضامنوا؟ أم أنّهم انتظروا لتتراكم الصور كلطخات دموية يصعب محوها على مدى أشهر من أجل التحرّك لوقف الحرب؟
مرّت الصور من أمام متفرّجين آخرين كأنّها لم تكن، هذا القسم آثر العيش في حالة نكران والحفاظ على أفكاره المسبقة عن الفلسطينيين والعرب. ففي تظاهرة في سلوفينيا تنديداً بالحرب بعد شهر على بدايتها، مرّت شابة قرب التظاهرة وصرخت بصوت حانق، “هؤلاء إرهابيون“، “حماس إرهابيون“. رفضت تلك الشابة كما رفض الكثير غيرها في أوروبا والعالم الخروج عن معتقداتهم المعلبة عمّن هم الضحايا وعمّا إذا كانوا يستحقون تعاطفاً أم لا. هؤلاء إرهابيون، ولن تغيّر أي صورة مهما حوت من أشلاء الأطفال رأيهم هذا.
تصوير: بلال خالد
حساء بمكوّنات المجاعة
في سباق التريند المحموم، يصبح الموت أيضاً سلعة استهلاكية. مجرّد صورة أو فيديو تزيد من عدد المشاهدين ونسب التفاعل أو تنقص منهم. هكذا هي حسابات المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي؛ منهم من آثر الصمت المطبق إزاء ما يحصل خوفاً من انخفاض عدد متابعيهم أو خسارة محتملة لعقد عملٍ مستقبلي، ومنهم من ثابر على المتابعة والنشر رغم خطر حجب صفحاتهم، أي مصادر رزقهم، بل خسارتها كلياً.
وفي ضجيج الصور الكثيرة، سعى بعض المؤثرين الغزيّين وغير الفلسطينيين إلى رفع صوتهم أعلى من الضجيج، باستخدام الطعام الذي يُعدّ سلعة رائجة على وسائل التواصل الاجتماعي. والأمثلة كثيرة من بعض المؤثرين من غزة مثل الطفلة ريناد عبدالله التي قدّمت محتوى طعام مبتكر من خيمة لجوئها في القطاع، والشيف محمود المدهون الذي قتلته إسرائيل، هو المتطوع شمال القطاع لإطعام النازحين، ومدوّن الطعام حمادة شقورة الذي اشتهرت فيديوهاته مقطّب الجبين وهو يطبخ لمئات النازحين.
بابتسامةٍ بشوشة لا تفارق وجهها، تنشر ريناد عبدالله ابنة الـ 11 عاماً بمساعدة من عائلتها فيديوهات الطهي من خيمة لجوئها في غزة. تبتكر ريناد طرقاً كثيرة لكي تصنع أكلة بمكوّنات المعلبات الغذائية، تلك التي تصلها من معونات الدول، أو ما تتمكّن من شرائه أو الحصول عليه من مساعدات. تتبع فيديوهاتها شروط صناعة المحتوى الرائج، ابتداء من تناسق المضمون المرتكز على الأكل الفلسطيني الغزاوي، وصولاً إلى إنهاء الفيديوهات بعبارتها الشهيرة: “حان وقت الحقيقة” تخبرنا قبل أن تتذوّق طعامها. تستعين ريناد بعناصر تشويقية كبيرة مثل أصوات الطهي أو حتى مشاهد الطهي في الطبيعة، وعوامل أخرى من تلك التي يعتمد عليها مؤثرو الطعام للترويج لفيديوهاتهم.
من بين فيديوهات الأكل الكثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، انتشر أخيراً تريند الطهي في الطبيعة، باستخدام أدوات قديمة كالفرن الحجري. غير أنّ ريناد وبعض المؤثّرين الآخرين من غزّة، ليس بوسعهم المفاضلة بين الأدوات، ولا يملكون رفاهية صناعة محتوى الطعام من المنزل أساساً. هم فقط يستفيدون من الطابع الرومانسي الذي يحمله هذا النوع من الفيديوهات للوصول إلى شريحة أكبر من المشاهدين. لا يقول الطباخين في غزّة أنّهم جائعون، بينما بيطبخون بما يتيسّر لهم من طعام. لقد اختاروا بإرادتهم مزاحمة فيديوهات صناعة المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، باستعارة لغتها الدارجة للإضاءة على معاناتهم في القطاع. هذا ما فعله أيضاً مدوّن الطعام حمادة شقّورة الذي اعتاد قبل الإبادة أن يقيّم المأكولات في مطاعم غزّة، لكنه بات الآن يطبخ للنازحين في القطاع. بطريقة أو بأخرى، يُذكّر شقورة بالطباخ التركي بوراك الذي يطبخ بأوانٍ عملاقة بينما ينظر إلى الكاميرا ضاحكاً، لكن شقّورة يبقى متجهّماً في فيديوهاته التي يطبخ فيها كميّات كبيرة يوزّعها على النازحين. يُجري حركات متوتّرة لتحضير الطعام، بينما لا يزيح عينيه عن عدسة الكاميرا وعن المشاهد بالتالي، كأنّه لوم لا ينتهي عن الصمت المطبق الذي يواجه به العالم الإبادة.
والكلّ بات يسمع، اللغة لم تعد عائقاً. إذ تخرج الكثير من الفيديوهات بكابشن وترجمة باللغة الإنكليزية، في عملية محترفة لصناعة المحتوى، وإن بالمكوّنات المتوفرة. يُصنع هذا المحتوى للعالم الأول، باستخدام لغة الطعام، التي لا نبالغ إن قلنا إنّها اللغة التي تتصدّر وسائل التواصل الإجتماعية. كلّ هذا لا يخفي المفارقات الطبقية التي تكمن في استخدام الطعام لصناعة المحتوى في الوقت الذي ترزح فيه غزة تحت ثقل المجاعة. كأنّ المؤثرين الغزيين فكّوا شيفرة العالم الأول والمحتوى الذي يشدّه ويبقيه منصتاً، وإن على حساب بطونهم الفارغة.
يخرج محتوى الغزيين عموماً ومحتوى صناعة الأكل خصوصاً وسط مجاعة وإبادة جماعية، يحاول فيها الغزيون استجماع سبلهم كافة للمقاومة بكل أشكالها. بدل مرافقة الفيديوهات بمؤثرات صوتية تدغدغ الأذنين، ترافق المشاهد أصوات الطائرات الإسرائيلية فوق مخيمات اللجوء. بدل المكونات الفاخرة أو الصحيّة، يستخدم طهاة غزّة ما توفّر لهم من معلبات أو طعام طازج للطهي. وفي كلّ مرة يصورون وينشرون فيديوهاتهم من بين الركام، يخاطرون بأن يكونوا فريسة للاحتلال الإسرائيلي.
من أكثر الأمور اللافتة في صناعة محتوى الطعام في غزة، أنّها وبالرغم من انصياعها للمعايير الرأسمالية في صناعة المحتوى والتأثير، إلا أنها غالباً ما تتواجد في سياق الجماعة في مقابل السياق الفردي الغربي، خاصةً فيما يتعلق بالطعام. هذا الأمر لم يقتصر على طهاة غزيين، بل شاركهم في ذلك العديد من مدوني الطعام الذين حوّلوا منصاتهم من منصات طهي إلى سرد قصصي عن فلسطين، وإلى نشر وصفات لأطباق فلسطينية. هؤلاء كلهم أعادوا صناعة استراتيجية تواصل جديدة، يقدمون فيها الطعام كعمل سياسي بالدرجة الأولى خصوصاً عبر تقديم طعام فلسطيني استلبه الإسرائيليون ثقافياً.
لقطات مشغولة بتنظيف الدماء
تجسيد الحروب بأساليبٍ تصويرية مثل الرسم ليس أمراً جديداً إنّما عمره من عمر نقوش الإنسان الحجرية على الكهوف. نسخت الصورة الفوتوغرافية هذا الهوس البصري بالحروب، ومنذ ظهورها الأوّل، أخذت موقع الصدارة في التمثيل البصري لحدثٍ ما كونها تنقل الواقع المرئي كما تراه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفيديو. مع هذا، تحتمل الصور الفوتوغرافية والفيديوهات أوجهاً كثيرة للتلاعب، إلا أنّها تبقى صورةً للواقع، ولو كانت الصورة الواحدة اجتزاء لحقيقة أشمل. ومع ظهور صور الذكاء الاصطناعي، التي يبدو بعضها في الظاهر صور فوتوغرافية حقيقية، تضاعف التشويش البصري.
تُنافس صورة الذكاء الاصطناعي “النظيفة” والتي تعرف كيف تتلاعب بالخوارزميات، صوراً أخرى حقيقية، خصوصاً في سياق تصويرها للإبادة. تستلب صور الذكاء الاصطناعي الحقيقة. تسرق من القضية مساحتها، وتفرض نفسها كصور نظيفة، لا دماء فيها ولا أشلاء ولا أطفال مشوّهين. هي صورة تتضامن مع قضية، تتعمّد في الوقت عينه إخفاء ندوبها وآلامها ومآسيها، فتصبح مثالية لمن يريد أن يتفرّج على المطر من دون أن يبلّل ملابسه.
اجتاحت صور الذكاء الاصطناعي الفضاء المرئي على وسائل التواصل الاجتماعي، ومعظمها صور تضامنية نشرت جماعيّاً على الصفحات وعبر خاصيّة الـ story، أبرزها صورة رفح ومعها شعار “كل العيون على رفح”. الصورة التي نشرت أكثر من 45 مليون مرة على “انستغرام”، لا يعرف الكثيرون أنها منتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وهي ليست صورةً لرفح في الأساس، لكنّها مجرّد تصوّر عن المنطقة المنكوبة.
تستلب صور الذكاء الاصطناعي الحقيقة. تسرق من القضية مساحتها، وتفرض نفسها كصور نظيفة، لا دماء فيها ولا أشلاء ولا أطفال مشوّهين. هي صورة تتضامن مع قضية، تتعمّد في الوقت عينه إخفاء ندوبها وآلامها ومآسيها، فتصبح مثالية لمن يريد أن يتفرّج على المطر من دون أن يبلّل ملابسه
استطراداً في شرح ستيوارت هال لفهمنا وتفكيكنا للصور، فإن هذه الصور لا يخلقها الذكاء الاصطناعي من عدم. بل إنه يعيد تدويرها من كل ما تعلمته الآلة من أنماط فوتوغرافية، وما يملى عليها وما تدربت عليه سابقاً. لذلك، قد تشبه هذه الصور الواقع إلى حد كبير. إلا أنها، ووفق المنصة التي تخلقها، مضبوطة بمعايير مثل عدم إنتاج صور عنيفة وفجّة. يتعلّم الذكاء الاصطناعي من الأنماط التي يراها، وبالتالي فإن محتواه يخلق نمطاً أحادياً يصوّر به الواقع. هكذا تضيق رقعة تمثيل أي قضية لتتشابه الصور المنتجة حد التكرار وحد خلق سردية أحادية عن ما يجري تعكس موازين القوى القائمة. والقوة هنا للأكثر تمثيلاً وانتشاراً وموازين القوى ليست لصالح الأقليات أو الأضعف كون تمثيلهم الافتراضي لا ينافس تمثيل الأكثرية المهيمنة.
ليس تلميع وتنظيف المأساة هو الأمر الوحيد الذي تتورّط فيه هذه الصور، إنما أيضاً مساهمتها في خلق الشكوك حول مصداقية الإبادة والتهجير القسري والتطهير العرقي الذي يتعرّض له الغزيون. إنّها تفتح الباب للتشكيك فيها، وبالتالي للتشكيك في الإبادة بأكملها، كأن الفلسطينيين يملكون أموال وإعلاميي العالم وشركاته ليسخروها في خدمة البروباغندا لصالحهم.
يخلق الكثير صوراً عبر الذكاء الاصطناعي لإثارة تعاطفنا نحو قضية ما. إلا أن الصور المخلوقة، وبالإضافة إلى إثارة شكوكنا، فإنها في الوقت نفسه تتجرد من كل المشاعر الإنسانية التي يحملها الرسام في رسمته أو المصوّر في صورته. بخلقه صورةً نظيفة، يخلع هذا الذكاء العواطف عن الصورة، يجردها من بشريتها، ويجعلها نسخة آلية باردة للقضية. كذلك يسلب الـ AI من أصحاب القضية أصواتهم، فيصبح متواطئاً مع العالم الذي يحارب بشراسة لكمّ أفواههم. واستلاب الصوت يشبه إلى حدٍّ كبير ديناميكيات الكثير من الحركات الناشطة الغربية التي تستلب في مناصرتها، أصوات أصحاب القضية وتختزلها.
تكمن استخدامات الذكاء الاصطناعي المفيدة للمصورين في سرعة التعديل أو تعريب الصور وسهولة العودة إليها في الأرشيف عبر تقنيات التعرف على الوجه أو تحديد المكان مثلاً. في الوقت عينه، فإن هذه الخاصيات نفسها تستخدم لإرساء العسكرة والمراقبة. وقد كشفت تحقيقات عدة استخدام إسرائيل لأدوات الذكاء الاصطناعي بشكل مباشر في حروبها، عبر تحديد رقعة أوسع من “الأهداف” بشكل بالغ السرعة مثلاً.
في بداية الـ 2025، وبعد أسابيع من تولي رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب منصبه، حدّثت الشركة العملاقة “غوغل” مبادئها الأخلاقية للذكاء الاصطناعي. فأزالت من شرعة أخلاقياتها تعهّداً بعدم استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في المراقبة أو التسليح. وليس الأمر مستغرباً على العملاق التكنولوجي الذي يقدّم بالشراكة مع “أمازون” مشروع “نيمبوس” بكلفة 2.1 مليار دولار لخدمات الحوسبة السحابية وأدوات الذكاء الاصطناعي للجيش الإسرائيلي.