“ولدتُ في صباح ممطر من عام 1994، في مخيم الشاطئ بمدينة غزة، حيث تتشابك الحياة مع صوت البحر، وحيث يولد الغزي حاملًا معه الفقر والأمل معًا. كنت مختلفة عن الآخرين منذ لحظتي الأولى؛ كل الأطفال يبكون عند ولادتهم، أما أنا فجئت إلى الدنيا مبتسمة. تحكي أمي، التي قضت ساعات في ألم المخاض بمستشفى الشفاء، أن الممرضة نظرت إلي بفرح وقالت: بنتك زي القمر، وإجت مبتسمة، يا ريت الحياة تبتسم لها. كانت جملة مباركة عابرة، لكنها أصبحت جزءًا من حكايتي، ودعاءًا يرافقني منذ طفولتي. أنا بسمة.
حين عادت بي أمي إلى بيتنا الصغير في المخيم، كان يضج بحياة بسيطة، عفوية، تعبر عنها أصوات الجارات وهن يزرن أمي ليرحبن بمولودتها الجديدة. تقول أمي إن جارتنا رسمية نظرت إليّ بإعجاب وقالت ” بنتك بتجنن، وحتجوزيها أول واحدة في بناتك”. وضحكت خالتي صباح وهي تضيف مازحة “أنا حاجزاها لابني أحمد، شوفي، ما في بنت أحلى منها”. قالوا ذلك للتهنئة والمزاح، لكن الكلمات عكست شيئًا أكبر، ففي تلك المخيمات تُرسم حياة البنات منذ ولادتهن، وتحاك أحلامهن وقراراتهن في جلسات النساء، وكأنهن دمى جميلة يُرسم لهن الطريق قبل أن يتعلمن المشي.
كبرت بين أزقة المخيم الضيقة، حيث تصطف المنازل كأنها متكئة على بعضها، وحيث لا تفصل الجدران بين الجيران إلا بأقدار بسيطة من الخصوصية. صرت طفلة مرحة، أركض بين الشوارع الرملية، اخترع ألعابًا من لا شيء، وأضحك بصوت عالٍ، كما لو أن الضحك كان دفاعي الأول عن حياة شاقة. وعندما التحقت بالمدرسة، كنت أعود كل يوم بزيي الأزرق وحقيبتي الصغيرة ذات العجلات السريعة، وأسابق معها الريح للوصول إلى البيت.
في أحد الأيام، عدت لأجد شيئًا مختلفًا في البيت، كان عمي إسحاق هناك، يجلس مع أبي، ولم أعتد رؤية عمي في بيتنا. لم أكترث كثيرًا، كنت منشغلة كالعادة بلعبي. ابن عمي عمر كان يجلس بجانب باب الغرفة، وبدأت باللعب معه، كما نفعل دائمًا كباقي الأطفال، دون أن أعرف أن هناك حديثًا يدور عني وعنه في الغرفة الأخرى.
بينما كنت ألهو، سمعت عمي يقول “بدنا بسمة لابني عمر”، رد أبي مبتسمًا “ما عندي مانع، يلا نقرأ الفاتحة”. في لحظتها لم أفهم شيئًا، كنت طفلة تلعب بحقيبتها المدرسية، ثم فجأة أصبحت جزءًا من حوار كبير لا أفهمه تمامًا. طلب مني أبي أن أقترب منه، وأمسك بيدي الصغيرة، وأنا أنظر إليه بخوف طفلة لا تفهم لماذا أصبح الجميع يبتسم. قرأوا الفاتحة، وعلت التهاني في البيت، وكأنما انتقلت من براءتي إلى مكان آخر، بسمة لعمر، وعمر لبسمة، وصارت هذه العبارة تُقال كلما ذكر اسمي، كأنها ختم وضع على عمري.
مرت الأيام، وبدأت أسمع الجارات يرددن الجملة نفسها: هي لعمر، وعمر إلها، فكان الأمر يبدو طبيعيًا جدًا للجميع، لكنه كان غريبًا بالنسبة لي، ماذا يعني أن أصبح لعمر؟ واصلت اللهو والضحك كأن شيئًا لم يحدث، لكن داخلي كان يحمل تساؤلات لم أعرف كيف أعبر عنها.
كبرت الطفلة التي وُلِدت مبتسمة، وبدأت تدرك شيئًا فشيئًا أنها لا تختار حياتها، كأن ابتسامتي الأولى لم تكن تحديًا، بل قبولًا غير مشروط لكل ما سيأتي. وبين أزقة المخيم وضجيج البيوت المتلاصقة، كنت أكبر، وأتساءل في صمت بريء، هل ستبقى حياتي كما رسمها الآخرون؟ أم سيأتي شيئًا ما يجعلني أرسمها بيدي؟
في صيف عام 2012، طويت آخر صفحات سنوات الثانوية العامة، وحصلت على معدل مميز بلغ 91%، وكانت هذه الخطوة الأولى نحو تحقيق أحلام طالما رسمتها في مخيلتي، ففي تلك الأيام قرر عمي إسحاق، الذي لطالما كان عمود العائلة وسندها، أن يزفني عروسًا إلى بيته. كنت صغيرة السن، لم أدخل الجامعة حتى، بالكاد بدأت أفهم الحياة، ولكني كنت مفعمة بالحب للحياة الجديدة، ظننت أن الزواج مجرد فستان أبيض وعرس وأغاني تُشعل القلوب فرحًا.
بيت عمي إسحاق كان كبيرًا وواسعًا، تحيط به الأشجار وتزينه الورود المتفتحة. زوجي عمر، ابن عمي، كان شابًا هادئًا ومسؤولًا، يصغره أخوه باسل، وله ثلاث أخوات جميلات: فرح، وإيمان، وصفاء. لم تكن تلك الأسرة بالنسبة لي جديدة، حياتنا دافئة خاصة وأن زوجة عمي عاملتني كابنة لها، تغمرني بدفء حبها ودلالها، فأشعرتني بأنني جزء أصيل من هذا البيت.
بعد الزفاف، لم يمضِ وقت طويل حتى جاء الخبر السعيد بحملي في طفلي الأول، ها أنا أتحول من فتاة صغيرة إلى أم تحمل مسؤولية حياة جديدة تنبض في داخلها، تزامن ذلك مع إعلان نتائج الثانوية العامة، وكان معدلي المرتفع مصدر فخر وسعادة لكل العائلة، فقرر عمي وزوجي أن أتابع دراستي الجامعية، واختاروا لي تخصص الرياضيات، على الرغم من أنني لم أكن متحمسة له. مع ذلك، رضيت بخياراتهم، وبدأت رحلتي الجامعية، على وقع الحرب الإسرائيلية على القطاع في خريف 2012.
لم تكن المرحلة سهلة، فالدراسة الجامعية مع الحمل ومستجدات العدوان ليست بالأمر البسيط، لكنني اجتهدت وتفوقت، وأنجبت طفلي الأول، إسحاق الصغير، الحفيد الأول للعائلة، الذي حمل اسم جده. كان قدومه مثل شمس أشرقت مرة أخرى في حياتنا. أضاف إسحاق الصغير روحًا جديدة للبيت، فازدادت الضحكات والمشاعر الدافئة في كل زاوية منه، شعرت في تلك اللحظات أن حياتي اكتملت، فأنا الآن أم شابة في التاسعة عشرة من العمر، ولدي أسرة تحبني وتدفعني نحو النجاح.
لكن الحياة لا تُبقي السعادة أبدية، وكأنها تعطيك الفرح لتعرفه جيدًا ثم تنترعه لاحقًا بطريقة مؤلمة، بعد أشهر قليلة من إنجاب إسحاق، حملت بابنتي مريم، وكان قلبي يتطلع إلى استقبالها، وبينما كنت أعيش تلك اللحظات الممزوجة بالترقب، اندلعت حرب 2014 الإسرائيلية علينا. كانت الحرب قاسية، قاسية حد الكسر، ولم تأخذ منا فقط شعور الأمان، بل أخذت مني أغلى ما أملك، ففي أحد أيامها المروعة، فقدت زوجي عمر، رفيق دربي وسند حياتي، واختفى ذلك الشعور الذي اعتقدت أنه دائمًا.
جاءت تلك اللحظة مع قطار الألم الذي يرافقني حتى اليوم. شعرت أن عالمي كله قد انهار من حولي، وأن الأقدار قد اختارت لي طريقًا وعرًا، مليئًا بالوجع والفقد، لكن رغم الألم الذي عصف بقلبي، كان علي أن أستمر. كنت أمًا لطفلين، إسحاق ومريم، وعليّ أن أكون قوية من أجلهما، وصارت الحياة أصعب، لكنها حملت معها في كل لحظة تحديًا جديدًا ودافعًا يجعلني أنهض من تحت ركام الحزن، لأبني من جديد عالمًا يمنحهما الأمان والحب الذي يستحقانه، هكذا بدأت مسيرتي، بين أفراح كانت قصيرة العمر، وأحزان طويلة صاغت قوتي وصبري.
بعد أن فقدت زوجي عمر وأنجبت طفلتي المدللة مريومتي، قرر والدي أن يعيدني إلى بيتنا القديم، ذلك البيت الذي غادرته طفلة صغيرة بفستان أبيض، أعود إليه اليوم حاملة طفلين يتيمين. عودة محملة بمشاعر متناقضة، فبينما كان قلبي يفرح بوصول مريم، طفت أوجاع ماضية على حياتي. في تلك اللحظة، لم تكن زوجة عمي، أم عمر، تقبل بفكرة أن أعيش بعيدًا عن عائلتها، كانت ترى أنني يجب أن أظل جزءًا من هذه العائلة، فاقترحت عليّ أن أتزوج من ابنها الثاني، باسل.
الفكرة بالنسبة لي شديدة الوجع والغرابة، كيف يمكنني أن أتزوج بعد عمر؟ وكيف لي أن أقبل بأن يكون زوجي أخاه؟ لم أستوعب تلك الفكرة بسهولة، كانت معركة بين ما تمليه علي مشاعري وما يراه الآخرون مناسبًا، ولكن عمي وزوجته كانا ينظران للأمر من زاوية أخرى، كان لديهما خوف من أن يكبر حفيداه بعيدًا عن جدهما وجدتهما، لذلك كانا يرى في هذا الزواج الحل الوحيد.
أما والدي، فلم يعارض الفكرة تمامًا، وأراد أن يزيد الاحتفال بأن يتزوج أخي موسى من ابنة عمي، فرح. موسى، المهندس الشاب الملتزم، كان قد حفظ القرآن وكان أكثر من مجرد شاب في نظر عائلتي، مثّل لهم صورة الرجل المثالي. وفرح، ابنة عمي، شقيقة عمر وباسل، كانت أيضًا شابة ملتزمة ومن حفظة القرآن، وقد كانت مترددة، لا تعرف شيئًا عن موسى سوى أنه ابن عمها، لكنه في لحظة من اللحظات الصادقة، كشف لها عن سرٍ دفين في قلبه، حيث كان مجاهدًا، يحمل روحه على كفه في أي معركة قد تندلع، ويعلم أن موته قد يأتي في أي لحظة. وافقت فرح أخيرًا على الزواج منه.
أما أنا، فقد قبلت بباسل، ليس حبًا، ولكن حرصًا على أن يكبر أولادي في حضن أجدادهما، ولم أكن أعرف أن باسل يحمل سرًا مشابهًا لذلك الذي حمله موسى، حيث كان هو الآخر مقاتلًا، يدافع عن وطنه، وكان يعلم أن الحرب قد تسرق منه حياته في أي لحظة، لكن سرّه ظل مكبوتًا في قلبه، حتى جاءت حرب الإبادة على غزة في خريف 2023. كنت في تلك اللحظة حاملًا بابني عمر، وسط ويلات الحرب التي كانت تأخذ كل شيء، ومع بدء تلك الحرب، علمت أن أسرار الحياة قد تكون أخطر من أن تُخفى، وأنني ربما كنت أعيش مع رجل يحمل سرًا ثقيلًا في قلبه، مثلما كنت أعيش أنا مع حزني.
***
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
أنا فرح. جاء موسى ليودعني ليلة السابع من أكتوبر، دون أن أدرك أنها ستكون المرة الأخيرة. وقف أمامي، وعيناه مليئة بالقلق، وقال بصوت حزين: فرح ديري بالك على تفاحتي القلب، دانا ودانيا حبيباتي، وخليكي قريبة من اختي بسمة، غلبانة وحظها قليل، وادعي لي إن كنت لا أعود. كلمات موسى كانت مثل السكاكين التي دخلت قلبي، لم أعي وقتها أن تلك الكلمات ستكون ذكراي الأخيرة عنه، فكان الوداع غامضًا، شعرت بشيء ثقيل في قلبه، شيء ينبئ بالكثير من الحزن والفقد، شيء سيطالنا جميعًا بعد أيام.
بسمة زوجة أخي باسل، المثال الحي على الصبر والتحمل أمام الفقد، فقدت زوجها عمر قبل عشر سنوات، وكانت حكاية حزنها تلاحقني حتى اليوم، وكانت ترى موسى كآخر من تبقى لها من بعده، لم يعلم أحد منا أن الحرب ستخطف موسى أيضًا. سيصبح الفقد جزءًا من حياتنا، شيء لا يمكننا الهروب منه، أما أنا، كنت أحمل مسؤولية بناتي، وكان قلبي يكاد ينفطر من خوف على مصيرهن في هذه الحرب المدمرة، لم يكن هناك خيار آخر سوى أن أهرب بهن إلى مكان أكثر أمانًا، فقررت النزوح مع أمي، ووالدي، واخواتي وزوجة أخي، إلى مستشفى الرنتيسي في مدينة غزة.
الأوضاع في مستشفى الرنتيسي صعبة للغاية، الأحزمة النارية التي كانت تقترب منا كل يوم جعلتني أفقد صوابي، كنت أخشى على بناتي من كل شيء، أرى الدمار حولنا، والناس تفر من الموت، قلبي ينزف خوفًا من أن يجرح أحدهم عزيزًا علي. وفي تلك الأثناء، جاء رجل إلى والدي ليخبره أن زوجي موسى قد استشهد.
بعد استشهاد موسى، قرر والدي أن ننزح إلى رفح، آملين أن نجد هناك بعض الأمان، رغم أن الفجائع كانت تلاحقنا في كل مكان، ولكن كما هو الحال دائمًا، لم يقف الحظ إلى جانبنا. بسمة غارقة في الصمت، فقدت شقيقها موسى ولا تعرف شيئًا عن زوجها باسل، الذي كان يقاتل أيضًا في جبهة أخرى، لا تدري إن كان زوجها قد نجا من الموت أم أن القدر قد اختطفه هو الآخر.
وصلنا إلى رفح واستضافنا رجل طيب عاملنا وكأننا عائلته، كان وجهه يحمل علامات الحزن، كأنما يقرأ ما في قلوبنا من ألم، شعر بحجم المصيبة التي نعيشها، وفتح لنا بيته بكل رحابة صدر. الأيام هناك مليئة بالصبر بينما نواجه الواقع القاسي بقلوب محطمة، نحاول الاستمرار من أجل أولادنا. كنت أدعو الله في كل لحظة أن يصبرني على هذه المحنة، وأن يحفظ أهلي وزوجة أخي باسل، وأن يبعد عنا المزيد من الفقد.
الحياة في رفح بسيطة للغاية، نستيقظ كل صباح لتناول الإفطار بما تيسر لنا، والدي يذهب يوميًا إلى منطقة تُعرف ببير كندا ليجلب لنا الماء والخبز، بينما كنا نحن نحاول تعليم أولادنا القرآن وقراءة قصص الأنبياء في أوقات الفراغ، حتى ننسى قليلًا حجم المأساة التي نعيشها.
ثم جاء اليوم الذي لا أستطيع أن أنساه أبدًا، يوم 24 مارس، عندما تلقينا خبر استشهاد أخي باسل، كان وقع الخبر عليّ مثل ضربة قاسية على قلبي، وكأن الدنيا قد أغلقت أبوابها في وجهي، يا ولي على أمي، على ابنها الثاني، لم يتبقى لها أحد…
في عز صمتها وحزنها على شقيقها وزوجها، بدأت بسمة تعاني من آلام المخاض. وضعت زوجة أخي مولودها، الذي قررنا أن نسميه عمر على اسم أخي الشهيد الأول، لحظة تشبه زهرة أمل نبتت فجأة وسط الصحراء القاحلة، وكأن الحياة تتجدد رغم كل شيء.
بعد أن اجتاحت القوات الإسرائيلية رفح، لم يبق لنا خيار سوى النزوح من الجحيم الذي أحاط بنا، فحملنا ما استطعنا من متاعٍ قليل، وبعض الذكريات التي لا تُحمل باليد بل تُثقل القلوب، أنا وأسرتي وزوجة أخي وجدنا ملاذًا مؤقتًا في مدرسة صغيرة وسط مخيم النصيرات. مدرسة بالكاد تسع مئات النازحين الذين فروا مثلنا، حاملين أوجاعهم وحكاياتهم المغموسة بالخوف والحسرة. في ذلك المكان، لم يكن للأمان معنى، ولا للراحة وجود، فكنا أشبه بمسافرين عالقين في محطة بلا قطار، ننتظر شيئًا لا نعرف إن كان سيأتي.
المعاناة هناك كأنها تُعيد صياغة نفسها كل يوم. بالنسبة لي ولزوجة أخي، كانت الحياة في ذلك المكان أشبه بامتحان يومي للصبر، أمّهات لأطفال صغار، نكافح دون أزواجنا لنؤمن ما يمكن أن يُبقيهم على قيد الحياة، أعيش من أجل طفلتيّ، دانا ودانيا. أستيقظ كل صباح وأنا أفكر: كيف سأطعمهن؟ كيف سأؤمن لهن ما يحفظ براءة طفولتهن في ظل هذا الدمار؟ هذه واحدة من أصعب المهام وهي جلب الماء، علينا أن نقف في طابور طويل يمتد لساعات، نحمل الأواني الفارغة وننتظر دورنا وسط الجموع المتعبة، بينما الشمس تحرق وجوهنا، والأنظار المرهقة تترقب قطرات تُعيد لها الحياة. كل خطوة في ذلك الطابور كانت عبئًا، وكل دقيقة انتظار كانت تستهلك من روحي، لكنني كنت أُقاوم، لأنني أعلم أن عيني طفلتيّ تنتظراني.
في أحد الصفوف المجاورة، لفتت انتباهي سيدة شابة اسمها سماح تجلس مع طفلها الرضيع، وكانت ملامحها تحمل حزنًا أعمق من عمرها، وابتسامتها التي كانت بالكاد ترتسم كانت تخفي وجعًا لا يُطاق، شيئًا فشيئًا بدأنا الحديث، وفي كل مرة كانت تكشف لي عن جزء من قصتها التي بدت وكأنها خرجت من مأساة مكتوبة. قالت إنها تزوجت قبل الحرب بشهر واحد فقط، وكان زوجها شابًا بسيطًا، أحلامهما كانت صغيرة لكنها تعني لهما العالم، ففي السابع من أكتوبر، حين بدأت الحرب، اكتشفت أنها حامل. وفي ذلك اليوم، غادر زوجها إلى الداخل الإسرائيلي المحتل، لكنه لم يعد.
منذ ذلك الوقت، كانت تعيش على حافة الأمل واليأس، البعض قالوا لها إنه استشهد هناك، وآخرون أكدوا أنهم شاهدوا جثته تُعاد إلى غزة حيث دُفن، لكنها لم ترَ الجثة، ولم تملك اليقين، فكانت تعيش يوميًا مع سؤال يمزقها: هل أنتظره؟ هل أعيش على ذكراه وأحلم بأنه سيعود في يوم من الأيام؟ أم أقبله شهيدًا وأمضي بحياتي؟
تنتهي كل حكاية، حكاية بسمة، حكاية سماح، أو حكايتي، لتكون شاهدًا جديدًا على التزاوج المطلق بين الأمل واليأس معًا، السعادة والخوف، القلق والطمأنينة… أقول لنفسي في النهاية: بينما تنقضي الفصول وتتجدد الطرق، أدرب نفسي على استقبال الأمل، أما اليأس فقد اكتفينا منه.