في سنّ السادسة عشرة كنت أزور عمّي في محله بسوق حنا الشيخ عبر نهر العشّار، وانتظر أن يطلب مني المرور بدائرة البريد والتأكد من الرسائل بعد أن يضع مفتاحاً في يدي، تثقله ميدالية فضّية. كان لديه صندوق بريد بالرقم 72، ويتملكني الفخر بسبب قدمه.
كان محلاً لبيع العطور والكريمات وكل شيء آخر رقيق المظهر. عمّي نفسه الذي تخطى الستّين آنذاك كان رقيقاً قليل الكلام ذا عينين يشوبهمها الاخضرار. سابقاً أختصّ وشريكه التاجر الهندي ببيع المصابيح اليدوية والبطاريات، ومنذ غادر شريكه البصرة إلى لندن في أواخر الستينيات من القرن الماضي، استقل بالمحل وحوله إلى مغازة كماليات.
الهندي لم يهاجر وحده، بل تسرّبت تلك الأقليات من البصرة مع الوقت، بسبب القوانين المركزية والتضييق أو لأسباب شخصية. أغلب هؤلاء عملوا في التجارة، هنوداً ويهوداً ومن المسيحيين والفرس، وعمل البلوش في الخدمات. وباستثناء تهجير اليهود في عقدي الأربعينيات والخمسينيات فإن هجرات مماثلة لم تحدث مجدداً إلا حين قرّر النظام السابق تسفير من دعاهم بالـ” التبعيّة” أواخر السبعينيات، وكان أغلبهم من الكُرد الفيلية شطرت عائلاتهم إلى قسمين، فأبقي على جزء من العائلة التي تحمل هويّات عراقية وطرد الجزء الآخر إلى إيران.
رُحلت عائلة عيسى الخبّاز. منذ أيام استعدت بوادر عاطفة قديمة كانت تجمعني بإحدى بناتها وقد اقتعدنا السطح ليلتها مطلين على المدينة في الريح الباردة. في الصباح لم أجدهم. كانت أمسية حبّ قصيرة خُتمت بنهاية مأساوية. رُحّلت مع أبيها وأخيها الصغير. انتزعوهم في منتصف الليل ورموهم على الحدود الإيرانية، وبقيت الأم وابنتين، وبعدهم هرب آخرون بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، فالبصرة غدت جبهة حرب.
فقدت أصدقائي المسيحيين الذين رحلوا إلى بغداد وحلب، ومن ثم إلى دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. شتات غريب. لم تعد تجمعنا سوى الرسائل بين حين وآخر. تحمل الرسائل صورهم ومعايداتهم وكلماتهم البسيطة. كنت ادفع بمفتاح الصندوق متوقعاً شيئاً منهم.
في رسائلي لهم أصبحت قادراً على صياغة ملامح أفكاري في كلماتٍ تقطر يأساً وسخرية، محدّثاً نفسي كالرجل الخدر في تحفة نجيب محفوظ “ثرثرة فوق النيل“. بالأحرى كنت أفكر أكثر مما أثرثر. دينامية تفكير صامتة تشفطني مثل بالوعة. كنت أكتشف أفكارًا كبيرة.
***
كلما عدت من جبهة الحرب في السنوات التالية قصدت صندوقي وكنت أجده خاوياً. الشوارع تكاد تكون فارغة والناس تسير فزعة تحت وقع انفجارات القنابل. كانت مدفعية الجانبين تمطر المدن الحدودية بالقنابل، وفي الجبهة الشرقية رأيت الأبقار مصابة والبساتين مطحونة. كان شتاءً قارساً وموحلاً. فرّ الفلاحون تاركين كل شيء. رأيت الأبقار تتنقل دون هدى وسط تساقط القنابل بين النخيل فتقتل أو تصاب. غدت وليمة مجانية للجنود. أبقار أخرى سرقها سوّاق عربات الجيش. وعثرت على ديوان بدر شاكر السيّاب بغلافه الأحمر في مكبس تمور في حجرة صغيرة مبطنة بالخشب القديم داخل دولاب حمل أضابير حسابات وكتباً وقطعاً خزفية. احتماءً من وابل القصف حفرتُ لي ما يسمى بالمصطلح العسكري “حفرة حياة”، تحت المطر دفنت جسدي فيها مع السيّاب.
هرع أهالي الأرياف للاحتماء بالمدينة. دفنت الأنهار وأُلغمت بساتينهم وستحتلها الصحراء فيما بعد. فلاحات شابات افترشن رصيف الكورنيش خلف بسطة حلويات وسجائر وكرزات ومشروبات غازية. احتلوا دور الطبقة البرجوازية. احتلوا دور المسيحيين والنجادة القدامى واليهود. احتلوا دور البلدية والأوقاف وأملاك الأموال المجمّدة والوزارات.
أذكر في طفولتي تاجر إطارات يهودياً قصير القامة برفقة زوجه العجوز. لطالما أهداني أقلاماً ملونة، وقد حكم عليه بالإعدام بتهمة التجسّس وأفرج عنه لاحقًا فصفّى أملاكه ورحل. أثناء حبسه كانت العجوز تزورنا وكلما رأتني ذرفت الدمع. لكنه كان محظوظاً خلاف غيره من التجّار الذين أعدموا.
في التسعينيات تواصل تدفق بشري من نوع آخر لفظته المحافظات الجنوبية والأهوار، فالبصرة كما قيل تبقى “أم الفقير“، فهي تضم حقول النفط والموانئ. تغيّر حادّ في اللهجات وقسمات الوجوه والطباع. جاءت عشائر بكاملها مع ثقافتها الرعوية وقطعان حيواناتها واسلحتها وثاراتها الأبدية وتشكلت أحزمة الفقر. كانت مدن مثل “الحيّانية” تثير في داخلي شعورًا مفارقًا، وأنا أرى الرجال يقتعدون الأرصفة في العصاري يدخنون ويشربون القهوة بحميمية، بينما يتقافز الماعز على مقربة منهم بين أكوام النفايات. ذكرني منظرهم بقصائد ماشادو المترجمة وروايات غارسيا ماركيز.
***
بعد جحيم حرب الكويت في العام 91، التقطنا بعضنا في مقهى قديم أو قرب بائع صحف. كان تعارفنا سريعاً. بضعة كتاب شباب تتقد أنظارنا بالأفكار المجنونة. ترى النظرة الملتهبة كميزةٍ ثورية بائسة. كانت صدمة الانكسار مروّعة وزادتها تعاسة حملة النظام الذي استيقظ من انهياره مطارداً معارضيه. الشوارع مليئة بالجثث والكلاب السائبة. كل شيء كان ملتبساً. أشخاص طحنهم الجوع كانوا مستعدّين للقتل من أجل رغيف خبز. رُميت البصرة من حرب كونية هائلة، وما زالت الإشعاعات القاتلة تفتك بنا. كان ذهولاً وتخبطاً وأناساً ساخطين.
وقفنا على حافة الخراب. نشرنا مجموعة قصص عن طريق الاستنساخ تحت عنوان “البصرة أواخر القرن العشرين”. خمس قصص لخمسة كتّاب شباب. أثارت المجموعة التي وزّعنا نسخاً منها في بغداد حفيظة النظام مع أنها لم تكن سوى كتابات أولية. لكنه كان منشوراً خارج إطار موافقاته، تحطيمًا للتابو الحجري. لا أذكر متى دوّنت أول محاولة قصصية لي بعثت بها للنشر. ربما في سنّ الرابعة عشرة. لم أدرك حينها إلا شيئاً بسيطاً عن عذاب الأسلوبية. لكن، أعتقد أنني كنت سأعاني عذاباً أقسى لو أنني لم أكتب؛ فلا أعرف ما كنت سأفعل بمخيّلتي.
تلقى بريدي في التسعينيات تحت جحيم الحصار الدولي كتباً مستنسخة من بغداد، لي ولغيري. كان الاستنساخ الطريقة الوحيدة للحصول على كتب ممنوعة أو غالية الأثمان. استنساخ سيء لكنه كافٍ للتعرّف على فوكو ودريدا وحنّا بطاطو وغيرهم. مجلات أدبية ورسائل الاصدقاء تواترت مجدّداً.
في السادسة عشرة كانت رحلة الذهاب إلى دائرة البريد الكبيرة مبهجةً لفتى يدفعه حب الاستطلاع، ولأنني وجدت رومانسيتي في المجلات الآتية مما وراء البحار، استمراراً لتجارة عمّي السابقة. ثمة نضد مزجّج طويل يواجهني عند دخول البناية تجلس خلفه موظفات جميلات. بعضهن مسيحيّات سيتحجّبن في التسعينيات جرياً على عادة زميلاتهن المسلمات، واختفى يعضهن بعد الألفين حين جاء الأمريكان بفوضاهم وإسلامييهم، ومنذئذ تراجع دور البريد بظهور أجهزة الموبايل ووسائل التواصل الحديثة المجنونة- وهناك أيضًا موظف أو اثنان، وخلفهم حجرات استلام الطرود. مكان واسع مكيّف ومضاء، يزدحم بالمراجعين في أيام معينة.
آنذاك كان البريد محط اعتماد الناس ودوائر الدولة في التراسل، فالحصول على خط تليفون أرضي صعب المنال. لكنني أتجه يميناً واقطع القاعة الطولانية حتى أدلف من باب مفتوح إلى صالة صناديق البريد. لا يعترض سبيلي الموظف الذي يقف خلف منضدة حديد. رجلان وامرأة يتبادلون الأدوار. اعتاد الجميع ملامحي الحارّة والعرق يبلل ياقتي وصدغي. كان الصندوق في الواجهة تحت أنظارهم، جنب صناديق الأرقام المئة الأولى لدوائر وشركات وأفراد غامضين، ففي الخلف إذ تشكّل الصناديق صفوفا عالية، تتفرع بينها ممرات، تتخطى أعدادها اي حساب، وتمتزج هويات أصحابها. كنت أفكر بالنساء اللواتي يستأجرن صندوقًا للحفاظ على خصوصيتهن. تشقّ مراسلات متدفقة عباب الزمن وجغرافيا البلدان طريقها إلى هذا المكان الصامت.
لي صديقان رومانسيان، اعتمدا على صندوق بريد عمّي في تلقي الرسائل دون علمه. الأول، حصل على مشاركة عبر الكوبون مقابل مائة وعشرين فلساً عراقياً في مجلة “المجلة” التي كانت تصدر في ألمانيا الديمقراطية آنذاك، وكانت تصله بعض الكتب أيضاً، هدايا، أما الآخر فلم ينطفئ شغفه في إمطار محبوبات بعيدات برسائله المنفلوطية، تعرّف عليهن في بريد القراء بالمجلات المصرية واللبنانية والعراقية. كان يملك خطاً أنثوياً دقيقاً ورائعاً، فتصطف عباراته آسرة يخفي جمالُها ركاكة لغته.
قد يستغرق ذهاب رسالة وتلقي الرد شهراً أو اثنين، حتى أنه ينسى مشاعره الطارئة التي لطّخ حبرُها ورقة الرسالة. كانت أقرب صديقة مراسلة تبعد مائة كيلومتر جنوباً في قضاء الفاو على الخليج العربي. وعندما أطلعني على إحدى رسائلها المليئة بالشوق وكلمات الأغاني دفعته لصعود أول باص حكومي والذهاب إلى مدينتها البعيدة. كنا اكتشفنا نشوة شرب البيرة وقراءة الكتب البوليسية والروسية وكل ما نقع عليه في سوق الجمعة والمكتبة العامة. كانت عبارة “أرتدى الروب دي شامبر” في الروايات البوليسية تذهلنا ونحن نتخيّل المحقق بثيابه الأوربية الرفيعة.
وفي المكتبة العامة بقاعاتها الحارّة، اكتشفنا أدبنا العراقي، مجموعات قصصية مدفونة هناك، بعضها مملّ وجاف وكأن موظفاً سطر حروفها وأخرى شعرية وثالثة تقليدية. لكنه اكتشاف للعوالم المحلية، المدن الخانقة والرغبات الفاضحة.
خلا الباص من الركاب باستثناء السائق والجابي الذي ارتدى بذلة بنية. غنّينا وتقافزنا بين المقاعد طيلة ساعة ونصف. صعد نفر في طريق البساتين المتعرّج وترجل آخر عند اماكن تخفيها غابة النخيل. لكننا أضعنا خيط أشواق فتاته حين وصلنا المدينة التي ستحرقها الحرب العراقية الايرانية بعد سنتين، فلم يكن صديقي يملك أدنى فكرة عن عنوانها.
***
لم نكن نعرف أن الرسائل مراقبة من جهات أمنية، ولم نحفل بالأمر. كل شيء كان مراقباً. الكلمات والأصوات والظلال. لكنني كنت أفكر بشيء آخر، بشارع “الوطني” الزاخر بالنوادي ذات الحدائق المشمسة. أرى “بويات” من المسيحيين التلكيف يرشونها بالماء- التلكيف( التركيف بلهجتنا) كانوا الأفقر بين طوائف المسيحيين، ينسبون إلى بلدة تلكيف في الموصل- نينوى. يتبع أغلبهم الكنيسة الكلدانية السريانية.
كلاب تغفو تحت تعاريش حيطان تلك النوادي، رائحة عرق تهب مثيرة الحواس وأغانٍ عاطفية. وفي الشارع علقت بعض صناديق البريد. لم أكن أثق بصناديق البريد التي تتوزع في طرقات المدينة، لا أعرف السبب، لكنني لم اصدّق أن أحداً يكلف نفسه عناء جمع ما فيها. كانت هناك، ملصقة بأعمدة الاضاءة، صفراء تقشّر لونها، بشقّ عرضي وثقب مفتاح. وقد حاول ساعي البريد أسمر البشرة طمأنتي بأنهم يجمعون الرسائل دوريًا. كان يوزّع البريد وهو على دراجته الهوائية، مرتدياً بذلته وقبعته بلونهما النيلي، الرجل المحبوب الذي ينال إكرامية من هنا وهناك. من تاجر أو معلم أو زوجة منتظرة، وقد توفي لاحقاً فناب عنه رجل ممتلئ ثرثار، يقود دراجة نارية، ظهر في الصحف المحلية بعد الاجتياح الأمريكي متحدثاً عن عضويته في نادي المراسلة العالمي وولعه بجمع طوابع البريد النادرة. الظروف والطوابع وشهادات التكريم وضعها في صندوق خشب ثقيل، في منزله الفقير، وعندما تزوّج فيما بعد، انشغل بتدبر لقمة العيش ونسيها، حتى حل يوم فتح فيه القفل الصدئ ورفع غطاء الصندوق فرأى افعى ترقد على كومة ذكرياته الثمينة المهترئة. قال: “امتنعت الحيّة عن الخروج”. كنا هلعين، واضطررنا لحرق الصندوق بما فيه!
لا أعلم هل ابتكرت النهاية أم حدثت حقيقة. سيجنّ أناس شغوفون بجمع ألبومات الطوابع التي تبلغ أسعاراُ خيالية. احتفظوا بمجلات هواة الطوابع من العهد الملكي، وأنقذهم بيع تلك التحف البريدية من فاقة التسعينيات أثناء الحصار الدولي على العراق. في تلك السنوات القاحلة استأجرت صندوق بريد خاص بي. لم يكن بدل ايجاره السنوي شيئاً يذكر. تلقيت رسائلي الخاصة ومجلات وكتب الأصدقاء. أكدت فتاة مسيحية جميلة قناعتي بعدم الثقة بصناديق البريد المبثوثة في انحاء البصرة. كانت تعمل في مستوصف صحّي وفي المساء أراها في معرض لبيع الزهور. مشعّة بألوان وعطور. قالت إن الفئران تقضم رسائلها في صناديق الشوارع! وحذرتني- حرام! لا تضع فيها رسائلك!
كان منظرها المسائي جميلاً وسط رفوف خمائل الزهور ونباتات الظل. زنداها مكشوفان يقطران بياضًا وابتسامة عالقة على شفتيها. وقفت أنظر إليها عبر الزجاج حاملاً كتابي “الصخب والعنف” لفوكنر، و”أيام الصبا والشباب” لتولستوي. شدّني تولستوي بوصفه الشعري الدقيق للطفولة، لكن شيئا ما تحطم في أعماقي عندما قرأت “الصخب والعنف”. وقفت متطلعاً إليها، وهي ترمقني مبتسمة، وتشغل نفسها بتصفيف باقات الزهور، وكأني أحمل زهرة المعتوه “بنجي” في الرواية، وفي داخلي عويله، شذى العسل وضياء وجهها السمح.
كانت أمها من أصول لبنانية. دعتني مرّة على فنجان قهوة في صالة مزيّنة بأيقونات القديسين- بعد 2003 اُغتيل أخوها عازف العود على يد مجهولين طمعوا بدارهم ورفض مغادرتها. كانت بذور الجماعات المسلحة تنبت وتنمو بسرعة- تواصلنا حتى ساعة رحيلها إلى اميركا. أهدتني بعض روايات الجيب وأشياء بسيطة.
لكني، مبكراً، تجاوزت قراءة تلك الكتيبات وغطست في أعماق الفلسفة الوجودية. أعارني صديق مؤلفات سارتر. مسرحية “سجناء التونا” هزّت كياني، واستشعرت البرودة الجليدية لغريب كامو وسخرية حارس سالنجر. صديقي نفسه تحوّل بفضل كامو وسارتر من الإيمان إلى الكفر وحلق ذقنه. جاء كفره في الوقت المناسب، إذ تصيّدت أجهزة النظام العديد من الشباب الاسلاميين من المدارس والدوائر وغيّبوا إلى الأبد.
***
” إن شيئاً ما يضيع منا إلى الأبد”
كما قال الشاعر الروسي “يسنين“، أشياء كثيرة تندثر، عدا القراءات الأولى. الوسم الخفي الحارق للنفس. ففي مواجهة الخوف والمصير المجهول تقفز إحدى شخصيات رواية “الشياطين” لدويستفسكي، ذلك الفوضوي عضّاض الأذان، لتقرع مخاوفنا، بينما ينطلق “زوربا” راقصًا، مقهقهاً. كانت في تلك القراءات قوة هائلة نستمدّها. أذكر إصابتي في الحرب، أجواء المستشفى ولا أذكر الألم بقدر ما أتذكر قصتي “الراهبة والمقامر” و“المذياع” لهيمنجواي و“الندّاهة” ليوسف إدريس. كنت أضع الكتابين في كيس قماش واتوسدهما خشية سرقتهما، وكأني أحمل رغيفا حاراً أو سكراً أو دقيقاً، شيئاً عزيزاً لا يضيع.
***
في السادسة عشرة، أحياناً، يدفعني الفضول فأتسلل للكشف عما تحويه صناديق البريد الأخرى في الصالة، علني أجد مبلغاً أو غرضاً ما أو رسالة امرأة لحبيبها. لكن هذه الرغبة اللصّية لم تستمر. أتذكر تأنيباً خفيّاً تسلل مع ابتسامة العمّ الباردة وطبيعته العصامية، حتى أني التزمت بعدم التثاؤب أمامه. كانت مجلات عمّي التي تعود لشركات انكليزية لما تزل تصدر منذ الأربعينيات تثير اهتمامي أكثر بطباعتها الصقيلة الملونة، وبعض الهدايا الصغيرة، قدّاحة سجائر تعمل بالوقود أو علبة تبغ نيكل، وكنت أجد رسائل من العهد الملكي، أخطأت زمنها. أجد اشعاراً في الصندوق فأتجه إلى حجرة الطرود. الرسائل والعلب تمرّ بضابط الأمن وموظفي هذه الحجرة، تقصّ أطرافها أو تُفتح وتعرّى دواخلها.
لم أكن أفكر بتسلم رسالة خاصة من فتاة جميلة أو طرد مجلات أو كتب، لا شيء خاص بي.” لا يكون المرء جدّياً في الساسة عشرة” كما قال رامبو.. عاطفتي الفتية وحدها أحاطت ما ليس لي بهالة حنون. التخايل فخراً بأقدمية صندوق البريد – الذي فقدناه لاحقاً بعد وفاة العمّ– ومعرفة الموظفات الحسناوات اللواتي يمنحنّي ابتسامة هاربة، والسير حاملاً أشياء لا قيمة شخصية لها. اختفت صناديق البريد المنتشرة في الطرقات، وانقرضت تقريباً التليفونات الأرضية، واندثرت صناديق البريد.. ولا أذكر متى زرت دائرة البريد للمرة الأخيرة.