fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

الموصل.. اختبارات البقاء والرحيل

الكنيسة أخبرتنا بأن رحيلنا جميعاً سيهدد الوجود المسيحي في سهل نينوى والعراق. وعدونا بأنهم سيعوضوننا عما خسرناه. أمي أصرت على البقاء وأرادت أن تكون قريبة من الموصل، وزوجتي أرادت العودة إلى عملها كمعلمة
ــــــــ المـكـان
27 نوفمبر 2024

عندما انسحبت قوات الجيش العراقي من مدينة الموصل قبل عشر سنوات، كان “زهير شابا” يعتقد أن هذا الانسحاب المفاجئ ليس سوى خطوة “تكتيكية” تهدف إلى حصر المجموعات المسلحة التي هاجمت المدينة في مواقع محددة، ليتمكن الجيش لاحقاً من الانقضاض عليهم واعتقالهم متلبسين بحمل السلاح ضد الدولة.

احتاج زهير، المسيحي ابن الموصل، أقل من شهر بعد انسحاب الجيش العراقي ليكتشف أن الذين سيطروا على المدينة هم عناصر “تنظيم الدولة الإسلامية” المعروف اختصاراً بـ”داعش”، وذلك بعدما فرضوا على المسيحيين بمن فيهم زهير بعد سقوط الموصل في 10 حزيران(يونيو) 2014 باثنين وثلاثين يوماً بالضبط، أربعة خيارات لا خامس لها، إما الدخول في الإسلام، أو البقاء على دينهم مع دفع الجزية، أو الرحيل عن المدينة دون أخذ أي ممتلكات شخصية مهما كانت صغيرة، أو مواجهة الموت.

يقول زهير الذي يبلغ اليوم من العمر 51 عاماً مستذكراً تلك الأيام: “كتبوا حرف نون على جدار منزلنا في منطقة قصر المطران، وهو الحرف الأول من كلمة نصراني“. يصمت برهة ثم يستدرككتبوه كذلك على باب ورشتي لتزيين السيارات“. ويضيفحدث هذا.. كنا نسمعهم وهم يعرضون علينا الخيارات عبر مكبرات الصوت ثم مرّروا ورقة بالخيارات نفسها من تحت بابنا الخارجي. كانت ساعات مرعبة، وقلبي كان يدق مثل الطبل من الخوف، ليس على نفسي، وإنما على والدتي وزوجتي وابني الصغير“.

هروب إلى السهل

غادرت أسرة زهير الموصل بما عليهم من ثياب فقط بعد أن سلّموا مفاتيح منزلهم وورشتهم لأحد عناصر التنظيم. دون أي تردد، توجهوا شرقاً على الطريق الرابط بين الموصل وأربيل، قاصدين قضاء الحمدانية في سهل نينوى، وتحديداً بلدة قره قوش أو كما يسميها أهلها “بخديدا”، البلدة ذات الأغلبية المسيحية الآشورية التي يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام.

في اليوم ذاته الذي نزحت فيه أسرة زهير، خلت مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد) من المسيحيين لأول مرة منذ نحو 20 قرناً. أصبحت 35 كنيسة وديراً، بعضها يعدّ من الأقدم في الشرق الأوسط، تحت سيطرة تنظيم “داعش”، الذي عمد إلى تدمير قسم منها، فيما حوّل البعض الآخر إلى محاكم تابعة له بعد أن عبث بمحتوياتها وسلب مقتنياتها. وجدت نحو عشرة آلاف عائلة مسيحية كانت تقيم في الموصل ملاذاً في سهل نينوى، الذي كان خاضعاً لسيطرة قوات البيشمركة التابعة لإقليم كردستان منذ عام 2003، باعتباره إحدى المناطق المتنازع عليها بين حكومة الإقليم وحكومة بغداد. اعتقدت تلك العائلات أنها ستكون في مأمن هناك من خطر القتل والاضطهاد.

فكر زهير ببناء طابق إضافي في منزل شقيقه ببلدة قره قوش المؤلف من طابق واحد، ظنا منه أن ما يجري في الموصل شيء مؤقت، يقول عن ذلك:”لقد كنت واهماً، فالمسلحين لم يكتفوا بالموصل، وكانت خطّتهم متابعة الاستيلاء على المزيد من المدن العراقية بما فيها بغداد“.

“داعش” من جديد

في ليلة السابع إلى الثامن من آب/أغسطس 2014، شن تنظيم “داعش” هجوماً واسع النطاق على منطقة سهل نينوى، ما دفع قوات البيشمركة إلى الانسحاب نحو إقليم كردستان. ترك هذا الانسحاب سكان المنطقة، ومعظمهم من الشبك القاطنين في نحو 65 قرية، والمسيحيين في بلداتهم التاريخية مثل قره قوش وبرطلة وتلكيف، بالإضافة إلى الإيزيديين في بعشيقة، تحت حكم “دولة الخلافة”.

يضرب زهير جبهته بيده ويتحدث بانفعال: “خيّرونا مرة أخرى بين أن نصبح مسلمين، أو ندفع الجزية ونبقى في بخديدا، أو يقطعون رؤوسنا، أو نرحل دون أن نأخذ أي شيء معنا”. شيئاً فشيئاً تهدأ حدّة صوته: “لم يكن معنا شيء لنتركه لهم على أي حال. لذلك جمعنا عائلتينا، أنا وشقيقي، وتوجهنا إلى أربيل، حيث بقينا هناك حتى أواخر عام 2016”.

نظراً لعدم إجراء تعداد سكاني في العراق منذ عام 1987، لا توجد إحصائية دقيقة بأعداد المسيحيين في البلاد. غير أن مصادر غير رسمية تشير إلى أن أعدادهم في عام 2003، وهو العام الذي انهار فيه النظام العراقي السابق، كانت تبلغ نحو مليون ونصف المليون نسمة. لكن هذه الأعداد تقلصت بشكل كبير بسبب استهدافهم من قبل الجماعات الدينية المسلحة، ليصل العدد إلى نحو 400 ألف في عام 2014، توزعوا بين محافظات البصرة وبغداد ونينوى وإقليم كردستان.

يؤكد الناشط ومؤسس تحالف الأقليات العراقية، لويس مرقوس أيوب، أن عدد المسيحيين في سهل نينوى ومدينة الموصل قبل سيطرة تنظيم “داعش” عليهما كان يبلغ حوالي 200 ألف نسمة. لكن ممثلي الكنائس ومنظمات معنية بالأمر يقدمون تقديرات أقل، ويتحدثون عن وجود نحو 120 ألف مسيحي فقط في نينوى عند سقوطها بيد داعش.

على أي حال، يشير القس رائد عادل، مسؤول كنائس الموصل للسريان الكاثوليك، إلى أن عدد العائلات المسيحية التي عادت إلى المدينة بعد تحريرها الكامل في تموز/يوليو 2017 يتراوح بين 60 و70 عائلة فقط، تضم مجتمعة أقل من 150 فرداً. بينما يوضح لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان، أن 60% فقط من المسيحيين عادوا إلى مناطقهم في سهل نينوى بعد التحرير، بينما اختار 40% آخرون البقاء نازحين في إقليم كردستان أو الهجرة إلى الخارج، رافضين العودة إلى مناطقهم الأصلية.

أسباب للعودة 

يعدد زهير مستخدماً أصابع يديه الأسباب التي دفعته للعودة إلى سهل نينوى: “الكنيسة أخبرتنا بأن رحيلنا جميعاً سيهدد الوجود المسيحي في سهل نينوى والعراق. وعدونا بأنهم سيعوضوننا عما خسرناه. أمي أصرت على البقاء وأرادت أن تكون قريبة من الموصل، وزوجتي أرادت العودة إلى عملها كمعلمة”.

يتوقف زهير قليلاً، ويفكر قبل أن يطوي إبهامه: “أنا… لا أعرف. لم أعد أشعر بأن هذا وطني. أشعر أنني غريب تماماً. الوجوه مختلفة، ليس في قره قوش فحسب، بل حتى في الموصل التي زرتها مرة واحدة فقط بعد التحرير، وبدت لي كأنها مدينة أخرى، ليست المدينة التي ولدت فيها وعشت أكثر من أربعين سنة”.

العديد من العائلات المسيحية التي رجعت إلى مدينة الموصل بعد تحريرها في صيف 2017، والتي لم يزد عددها في أفضل الحالات، عن 70 عائلة، سرعان ما غادرت مرة أخرى متجهة إلى إقليم كردستان أو خارج البلاد. أما من تبقى في الموصل، فيقول مصدر كنسي من المدينة: “غالبية هؤلاء لهم صلة بالكنائس أو بالمدارس المسيحية الدينية”.

الوضع في سهل نينوى لا يختلف كثيراً، إذ يشير البطريرك لويس روفائيل ساكو إلى أن مائة عائلة مسيحية تهاجر شهرياً من العراق. ويبرر ذلك، بعد مرور أكثر من سبع سنوات على طرد داعش من المنطقة، بقوله: “المسيحيون عاشوا مأساة ما زالت مطبوعة في الأذهان. صحيح أن داعش هُزم، لكن أيديولوجيته لا تزال قوية ومؤثرة”.

وأضاف البطريرك “الصدمات الناتجة عن الحرب، بالإضافة إلى انتشار الطائفية في البلاد، والأوضاع المقلقة الراهنة في الشرق الأوسط، والتخوف من اندلاع حرب شاملة في المنطقة، تدفع المزيد من المسيحيين إلى الهجرة بحثًا عن مستقبل أكثر أمانًا خارج العراق.”

بينما يؤكد مؤسس تحالف الأقليات العراقية، لويس مرقوس، أن الأسباب التي تحول دون رغبة المسيحيين في العودة إلى سهل نينوى والموصل، وتجعل العائدين يفكرون باستمرار في الرحيل، تتمثل في التمييز ضدهم في منح الوظائف، ويوضح أن المسيحيين لا يحظون بأي مناصب إدارية أو وظائف خاصة في حكومة نينوى، ويقصد بذلك مناصب إدارية في حكومة المحافظة.

ويشير مرقوس أيضاً إلى عدم وجود قوانين تحمي المسيحيين وتكفل لهم حقوقهم كمواطنين من الدرجة الأولى، إضافة إلى أن نسبة التعويضات المقدمة لمن سلب تنظيم داعش أموالهم أو دمر ممتلكاتهم لا تتجاوز 10% إلى 15% من حجم الخسائر. ويضيف إلى تلك العوامل الصراعات المستمرة في سهل نينوى بين حكومتي المركز وإقليم كردستان. “هذا يجعل فرص العمل في هذه المناطق شبه معدومة، ويزيد من شعور المسيحيين بعدم الأمان والاستقرار“.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

هكذا تغيرت نينوى

يمتد سهل نينوى من شمال إلى أقصى شرق مدينة الموصل، ويضم ثلاث وحدات إدارية رئيسة ترتبط بمحافظة نينوى، وهي أقضية الحمدانية، وتلكيف، والشيخان. ويعد موطناً للعديد من الجماعات العرقية والدينية.

إلى جانب المسيحيين الذين يسكنون في قره قوش وبرطلة وألقوش وتلكيف وتلسقف وبعشيقة وغيرها، يعد السهل موطناًَ للشبك، وهي جماعة عرقية يزيد تعدادها عن 250 ألف نسمة، يتحدثون لغة خاصة تعرف بالشبكية، وينقسمون مذهبياً إلى شيعة وسنة، ويتوزعون في أكثر من 60 قرية، أبرزها علي رهش، كوكجليل، بازوايا، الفاضلية، وطيراوة. كما يضم السهل الإيزيديين، الذين يتركزون بشكل أساسي في بعشيقة وقضاء الشيخان، وإلى جانبهم يعيش الكاكئيون، الذين يتواجدون في قرى مثل تل اللبن وزنكل.

بالإضافة إلى ذلك، يقطن في سهل نينوى العرب، والتركمان، والكرد، موزعين في القرى والبلدات المختلفة ضمن قضائي الشيخان وتلكيف، مما يجعل السهل واحداً من أكثر مناطق الشرق الأوسط تعدداً دينياً وعرقياً.

منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، بسطت قوات البيشمركة سيطرتها المطلقة على سهل نينوى، واستمرت هذه السيطرة حتى آب/أغسطس 2014. وبعد تحرير السهل في أواخر عام 2016، عادت قوات البيشمركة لتستعيد نفوذها، لكن هذا الوضع لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما حلت محلها قوات الحشد الشعبي، وتحديداً اللواء 30، الذي أصبح القوة المسيطرة على المنطقة، والذي كان يضم حوالي 1500 مقاتل معظمهم من الشبك الشيعة، بقيادة النائب وعد القدو. 

ومع صعود نفوذ هذا اللواء، بدأت ملامح التغيير في السهل تظهر بشكل واضح، فأصبح الشبك الشيعة القوة الطاغية، وبدأوا بالتوسع على حساب باقي الأقليات، ولا سيما المسيحيين والإيزيديين، وترافق هذا التمدد مع اندراس كبير للوجود المسيحي والإيزيدي، فتضاءلت أعدادهم بشكل ملحوظ. 

أحد الصحفيين المقيمين في الموصل والمختص بقضايا الأقليات يقول: “لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل فرض عناصر اللواء 30 قيوداً صارمة على الباقين منهم، ومنعوا أي شخص يقيم خارج السهل من التصرف في أملاكه أو استغلالها، مما عزز قبضتهم على المنطقة وأثقل كاهل الأقليات التي كانت تعتبر السهل موطناً تاريخياً لها”.

وتابع “هكذا تغيرت هوية سهل نينوى وأصبح النفوذ محصوراً في يد طرف واحد، بينما بقيت الجماعات الأخرى تشعر بالتهميش والإقصاء، غير قادرة على استعادة وجودها السابق في هذا الموطن القديم”.

ولكي يبقى المسيحيون متواجدونولو نظرياًعلى خارطة التحالفات المذهبية والعسكرية، أصبح لهم كذلك ميليشا يطلق عليهاكتائب بابليون، لكنها من الناحية العملية تضم مقاتلين من الشيعة، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحشد الشعبي الشيعي، ويقودها شخص يدعىريان الكلداني، يُعد، جنباً إلى جنب مع وعد القدو، أحد أبرز الشخصيات المثيرة للجدل في المنطقة، وكانا من بين أربعة أسماء فرضت عليهم وزارة الخزانة الامريكية عقوبات سنة 2019 بتهم تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ.

فصائل ومذاهب

تنامي نفوذ الشبك في سهل نينوى أعاق تنفيذ مشاريع عديدة كانت تهدف إلى الحد من هجرة المسيحيين وتشجيع النازحين منهم على العودة، وفق ما يوضحه الكاتب والباحث سلوان مجيد. يقول مجيد “كان هناك مقترح من المسيحيين لتحويل سهل نينوى إلى كيان إداري مستقل، لكن مع التراجع الحاد في أعدادهم، تخلوا عن الفكرة. أي انتخابات تجرى في المنطقة ستنتهي لصالح الشبك، الذين أصبحوا الأغلبية السكانية”.

وأشار مجيد إلى مشروع آخر جرى تداوله بشكل غير رسمي، يتمثل في تقديم طلب إلى الأمم المتحدة لوضع سهل نينوى تحت إدارتها وحمايتها. لكنه يستدرك قائلاً: “المسيحيون لم يعودوا يطرحون هذا الخيار بشكل جدي، لأن الهجرة لا تزال مستمرة، ما أدى إلى تقليص وجودهم وتأثيرهم بشكل كبير”.

وأكد مجيد حدوث تغيير ديموغرافي كبير في سهل نينوى خلال السنوات الماضية. فعلى سبيل المثال، قضاء الشيخان، الذي كان الإيزيديون يشكلون أغلبية سكانه قبل عقود، أصبح وجودهم فيه الآن لا يتجاوز 30 بالمئة. كما أن أعداد المسيحيين انخفضت إلى حوالي 40 بالمئة مما كانت عليه قبل عام 2014. 

وأضافالشبك أصبحوا يحلون محل الأقليات التي تغادر المنطقة. فهم يمتلكون القوة العسكرية عبر الحشد الشعبي، وتحديداً اللواء 30، بالإضافة إلى النفوذ السياسي في بغداد من خلال الأحزاب الشيعية التي تدير الحكومة“.

ليست فقط أرقام

بهذا الواقع، باتت خريطة سهل نينوى السكانية تتغير بشكل جذري، حيث يتراجع وجود الجماعات الدينية لصالح الشبك الذين يواصلون تعزيز نفوذهم. يعبر زهير شابا عن مشاعر الإحباط والخذلان مما يحصل قائلاً: “لم نعد نثق بالآخرين!”. يصمت لحظات كأنه يحاول انتقاء كلماته، ثم يضيف: “الأمر ليس مجرد أرقام أو خسارة ممتلكات، بل يتعلق بفقدان الثقة بجيراننا الذين عشنا معهم طوال حياتنا، وبانعدام الأمل في مستقبل آمن ومستقر لنا في سهل نينوى أو حتى في العراق بشكل عام. الكثير من المسيحيين رأوا ممتلكاتهم تستباح في عام 2014، ووجد العائدون بعد التحرير أن فكر داعش ما زال مترسخاً في عقول الناس، حيث ينظرون إلينا على أننا مجرد نصارى”.

يشير زهير إلى أن معظم العائدين إلى سهل نينوى كانوا من كبار السن المرتبطين بالمكان، بينما النازحون والمهجّرون الذين فضلوا البقاء في إقليم كردستان أو خارج البلاد وجدوا حياة أفضل، حيث “يحصل اولادهم على الأقل على تعليم جيد، وخدمات وأمن، وفرص عمل”.

ينظر حوله ويختم كلامه قائلاً: “لا شيء من ذلك موجود هنا.. أشعر بندم شديد لأنني لم أصغِ لشقيقي ولم أقدم طلب الهجرة مع عائلتي.. لو فعلت، لكنت الآن في أستراليا، أو أوروبا، أو أمريكا، أو أي مكان آخر لا يشعر الإنسان فيه بالخطر”.