في قلب جبال الأوراس، شرقيّ الجزائر، تمتدّ ولاية باتنة كواحدة من أبرز المناطق الجبلية في البلاد. تحتضن المنطقة أعلى قمة جبلية في الجزائر وهي جبل شيليا (2.328 مترًا)، إلى جانب سلاسل جبلية أخرى مثل أوراس النمامشة، ما يمنحها طابعًا طبيعيًا غنيًّا. تلك الجغرافيا التي تجمع بين القمم، والهضاب الفسيحة، والوديان شكّلت تحصينات طبيعية للمقاومة الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي خلال الخمسينيات. تغطّيها غابات كثيفة بمساحات شاسعة تمتدّ في ولاية باتنة، وفيها أشجار الأرز الأطلسي، والصنوبر، والبلوط الأخضر، ما يجعلها موطنًا لأنواع نادرة من النباتات والحيوانات.
خلال ساعات الفجر الأولى، حين يلفَّ الضباب حقول قمم جبال الأوراس، تنبعث روائح الأعشاب العطرية مُعلنة بداية طقس يومي. يؤذن الصباح ببدء موعد رحلة تقطير النباتات، التي لا تقتصر على عملية استخراج الزيوت والمستخلصات بقدر ما تستحضر طقوسًا قديمة توارثتها نساء المنطقة. في هذا التوقيت، تقف سليمة بورنان بين النباتات التي غرستها بيديها، تمرّر أصابعها برفقٍ فوق أوراق الزعتر والنباتات العطرية والطبية الأخرى التي تنمو ضمن مناخٍ بيئي فريد بفضل الطقس الجبلي المتوسطي في الولاية، حيث يشتدّ برد الشتاء وثلجه في المرتفعات، بينما يكون الصيف معتدلًا في المناطق الجبلية وحارًّا في السهول.
تحتضن هذه التضاريس الوعرة مجموعة واسعة من الأعشاب والنباتات الطبية التي استخدمها سكان المنطقة منذ القدم في التقطير و العلاج والتداوي الشعبي. فغابات الأوراس هي مأوى لأكثر من 120 نوع من النباتات الطبية، بعضها ينمو فقط في هذه الجبال، مثل الزعتر، والشيح، والضرو، وإكليل الجبل. نباتات كهذه، لم تقتصر على الاستخدام العلاجي فحسب، بل طالت أيضًا مجالات التجميل والطهي، لتترسّخ كجزء أساسي من الموروث العلاجي التقليدي في المنطقة. تبدو سليمة كأنها تحرس هذه النباتات بطريقتها، فالمرأة الستينية تتمسّك بطرق تقليدية في الفلاحة ورثتها عن والدتها منذ أن كانت ترافقها في رحلاتها اليومية لجمع الأعشاب والنباتات قبل أن تتحوّل إلى علاجات شافية بعد تقطيرها.
على ألسنة النساء
لن نجد في الكتب والمنشورات معلومات عن الأعشاب البرية واستخداماتها، بقدر تلك التي قد نجدها على ألسنة النساء في المجتمع الريفي الجزائري. تلعب النساء دورًا أساسيًا في تناقل المعارف الشفهية حول الأعشاب والنباتات الطبية، فتتوارث الأمهات هذه المعرفة من الجدّات، وتنقلها إلى بناتهنّ، ضمن سيرورة محكمة من الموروثات الثقافية لعلاقة الإنسان مع الطبيعة. تُعتبر المرأة الريفية الحارس الأمين لهذه التقاليد والعادات لمساهمتها في زراعة النباتات الطبية، والحفاظ عليها، وتعليم الأجيال الجديدة كيفية استخدامها في العلاج التقليدي، الطهي، والعناية بالجمال.
كشفت إحدى الدراسات أنّ 92.6℅ من النساء الريفيات يتحاورن مع ابنائهن حول العادات والتقاليد المتوارثة، مما يعكس أهمية دورهن في نقل التراث الثقافي للأجيال القادمة، في حين أن 7.4℅ فقط لا يقمن بذلك، لأسباب قد تتعلق بتأثير الأنماط المدينية الحديثة أو تغير أنماط العيش. ليس التواصل بين الأجيال مجرّد تبادل للمعلومات، بل هو عملية اجتماعية وثقافية تضمن استمرار القيم والمعتقدات التي تشكل الهوية المحلية خصوصًا في المجتمعات الريفية. هذا ما يدلّ على أنّ النسيج الاجتماعي في المناطق الريفية لا يزال متماسكًا، على عكس بعض المجتمعات الحضرية التي قد تشهد تراجعًا في هذه العادات. تتطرّق الدراسة نفسها، إلى دور المرأة الريفية في الحفاظ على الموروث الثقافي وتأثير التكنولوجيا الحديثة على استدامة هذا التراث، وقد أظهرت النتائج أنّ أغلبية النساء الريفيات يعتمدن على النشر الشفهي للثقافة بنسبة 96℅، في حين أن 4℅ فقط ترى أن استخدام الانترنت والتكنولوجيا الحديثة هو الحل الأمثل للحفاظ على الحرف والممارسات التقليدية.
تتوقّف الدراسة عند التحديات التي تواجه المرأة الريفية في هذا السياق، والتي تشمل صعوبة التسويق الرقمي، وغياب التوجيه التقني الذي يساعدهنّ على الاستفادة من التكنولوجيا في الحفاظ على التراث، لا سيما أنّ التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة داعمة، في ظل تزايد استخدام الانترنت في الترويج للحرف اليدوية. ولعلّ هذا النقص في الاستفادة من التكنولوجيا، يرجع بالدرجة الأولى إلى تحفظ النساء الريفيات على وسائلها انطلاقًا من اعتبارها تهديدًا محتملًا لممارساتهن، بالرغم من أنّ دمج التكنولوجيا في هذه العملية قد يوفر فرصًا جديدة لضمان استدامة هذا الموروث للأجيال القادمة.
خطــ٣٠ // باستخدام Ai // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
ذاكرة الأيدي
لدى استعادتها لبدايات تعلّمها تقنيات التقطير، لا بدّ أن تعود بنا سليمة إلى أيام شبابها وطفولتها. تستعيد ذاكرتها مشاهد عن أيدي أمها وخالاتها وجدتها ونساء العائلة اللواتي كنّ يجلسن في ساحة المنزل الطينية ويفصلن أعشاب الشيح، والعطرشية، وإكليل الجبل والزعتر والنعناع، قبل أن يضعنها في قدور التقطير النحاسية ليستخرجن منها ماءً مقطّرًا طبيعيًا من أجل استعماله في علاج الأمراض.
لم يكن هذا الأمر مجرد عادة يومية بالنسبة لهن، إنما أشبه بطقوس تجتمع فيها النساء لتبادل الوصفات العلاجية والتجميلية، وليتناقلن الحكايات عن أسرار الطبيعة التي حفظنها من أمهاتهن وجداتهن.
وبينما كانت تراقب الماء يتصاعد في جهاز التقطير التقليدي، أسرّت سليمة في حديثها معنا “لطالما كان سرّ العافية يكمن في بيوت الجزائريين”، مشيرة إلى قارورة الماء المقطر والزيوت المستخلصة التي تحملها بيدها. تضيف المرأة “أخشى أن يأتي يوم ننسى فيه هذه الأسرار القديمة”.
كبر إرث الجدات ممع سليمة فأصبح جزءًا لا يتجزأ من يومياتها، وحرصت على نقله الى أبنائها. لم تتوقّف عن تعليم بناتها الجامعيات فنون التقطير واستخلاص الزيوت، أما ابنها الذي اختار طريق العلم، فقد حمل عبق الشيح إلى أبعد الآفاق. في فرنسا، حيث درس الطب، قدم رسالة تخرّجه عن ماء الشيح وفوائده الطبية وخصائصه العلاجية. كان ذلك البحث تكريمًا لإرث عائلته، واعترافًا بقيمة المعرفة التقليدية التي تناقلتها الأجيال، ومثالًا عن كيفية تحويل حكايات الجدات إلى دراسات علمية. أصبحت أسرار الطبيعة جسرًا يربط بين الماضي والحاضر، بين التقاليد والعلم والتطوّر التكنولوجي، في خطوة مصالحة مع التكنولوجيا يتّخذها الأبناء بدلًا من أمّهاتهم.
التقطير بنفسٍ طويل
تلك المناطق النائية لا تعزل النساء الريفيات عن التحديات الكثيرة التي تواجههنّ، وتحديدًا التحديات الاقتصادية مثل النقص في دعم مشاريعهن، وصعوبة تسويق المنتجات الطبيعية في الأسواق الكبيرة. اختارت سليمة مجال التقطير كوسيلة لإعالة نفسها وأسرتها، مستثمرةً هذا الموروث الفلاحي الذي يتطلب جهداً كبيرًا. توضح لنا أنّ عملية جمع الأعشاب ليست سهلة، إذ تحتاج إلى مهارة وصبر، حيث يجب قطف الأزهار بعناية دون الإضرار بالأغصان، مع انتقاء الأوراق الصغيرة والخضراء التي تقطر لاستخراج الزيوت الثمينة، واختيار الموسم المناسب لذلك، وتضيف “هذه العملية تتطلّب يدًا عاملة، وتعتمد بشكل أساسيّ على النساء اللواتي اكتسبن خبرة في تقنيات الجمع.
تمرّ عملية التقطير بمراحل عدّة، فتوضع النباتات في قدر مملوء بالماء، ثم تُرفع الحرارة تحتها تدريجيًا، ومع الغليان، تتبخر الزيوت الطيارة وتحملها الأبخرة الى أنبوب التبريد، عندها تتكثف وتتحول إلى سائل
تتقن المرأة فنّ التقطير واستخلاص الزيوت من النباتات العطرية، على رأسها ماء الزهر. هذا الماء المبارك يسكن كل بيت جزائري، متوجًا الموائد، ولحظات الفرح والقلق التي يعيشها الناس. وبالنسبة لكثيرين ليس ماء الزهر مجرّد سائل عابر، بل يُرش كقطرات الندى على العروس، ويداوي الأطفال من الحمى، ويُغذي البشرة، مانحًا إياها نضارةً. أما في المطبخ، فهو النكهة التي لا ينجو منها أيّ من الأطباق التقليدية مثل “المقروط والشراك ” و”قلب اللوز”، والأطباق الرمضانية مثل “الشاربات” والحلويات الجزائرية.
تمرّ عملية التقطير بمراحل عدّة تضمن الحصول على الماء المقطّر، وتبدأ بجمع النباتات العطرية والطبية بعناية في الصباح الباكر، لأنّ هذه الفترة تكون فيها الزيوت العطرية بأعلى تركيزها. بعد ذلك، تجفف أوراق النباتات مثل الزعتر وإكليل الجبل تجفيفًا جزئيًّا قبل التقطير لضمان استخلاص الزيت. تأتي بعدها مرحلة التقطير الفعلية، فتوضع النباتات في قدر التقطير المملوء بالماء، ثم تُرفع الحرارة تحتها تدريجيًا. مع الغليان، تتبخر الزيوت الطيارة وتحملها الأبخرة الى أنبوب التبريد، عندها تتكثف وتتحول الى سائل. وهنا تأتي الخطوة الأخيرة التي تقوم فيها سليمة بفصل الزيت العطري عن الماء المقطر، لتحصل على ماء نقي مثل ماء الزهر، الذي تملأه بعناية في زجاجات ليستخدم في الطهي، التجميل، وحتى في بعض العلاجات التقليدية. هذه الخطوات تحتاج إلى خبرة متأنية وفق سليمة التي تشرح “أنّ درجة الحرارة، وتوقيت القطف وحتى نوع المياه المستخدمة، كلها عوامل تؤثر على جودة المستخلص النهائي”.
ومع التطور العلمي وظهور المستحضرات الصناعية، تراجع الاعتماد على هذه النباتات في بعض المناطق، إلا ان العديد من النساء خاصة في القرى والريف، لا يزلن يحافظن على هذه التقاليد. ففي السنوات الأخيرة، عاد الاهتمام بالمنتجات الطبيعية بفضل الدراسات العلمية التي أكّدت على فوائدها، مما ساهم في إعادة احياء هذه الحرفة وتحويلها إلى قطاع اقتصاديّ مستدام. يمثّل التقطير مصدر دخل أساسي لسليمة، إلا أن التحديات الاقتصادية والمناخية، مثل غياب الدعم الكافي، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وصعوبة الوصول الى معظم الأسواق الكبرى، والتغيرات المناخية التي تأثر على جودة النباتات والاعشاب لاتزال تعيق توسيع نشاطها وتحقيق استدامة مالية حقيقية. ومع ذلك، فقد ساهمت جهود الدولة في تعزيز دور المرأة الريفية من خلال دعم المؤسسات المصغرة بقروض متوسطة.
من باتنة إلى الجزائر
نقلت سليمة حرفة تقطير الأعشاب إلى مناطق أخرى، عبر مشاركتها في معارض وأسواق تقام في كافة مناطق الجزائر وصولًا إلى العاصمة. مرّت هذه الرحلة بمشقّات كثيرة، إحداها الصعوبات التي واجهتها في البداية بسبب محيطها. بالنسبة للمجتمعات الريفية، كان على المرأة أن تمارس هذه المهنة ضمن الحيّز العائلي والريفي.
تخبرنا سليمة “في بداية مشواري، عندما بدأتُ أُعبر عن رغبتي في المشاركة في معارض الإنتاج الطبيعي، قوبلت بالرفض من محيطي، لأنني امرأة فحسب. لم يكن يُسمح لي بالخروج الى الأسواق او المشاركة في المعارض أو حتى السفر للترويج لحرفة التقطير”، لكنها تجاوزت كلّ هذه العقبات، لتصبح أوّل امرأة تروج للتقطير بالطريقة التقليدية الصحيحة في الشرق الجزائري. وقد تُوّجت جهودها بالحصول على “بطاقة الحرفي”، لالتزامها بالممارسة الصحيحة للتقطير وفق الأساليب المتوارثة، بعدها، بدأت تقدّم المساعدة للفتيات والنساء، في منطقتها، ونقل هذه الحرفة إليهن. واليوم، تسعى إلى تمكين النساء في جميع ولايات الوطن، وتشجيعهن على الحفاظ على هذا الموروث لنقله للأجيال القادمة.
خطــ٣٠ // باستخدام Ai // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
جولة بين النباتات الأوراسية
تحمي النساء تلك الجبال التاريخية بأيديهن، بزراعتهن للنباتات العطرية ورعايتها، يساهمن في الحفاظ على التنوع البيولوجي الفريد للمنطقة، خصوصًا أنّ نباتات كهذه تتميّز بقدرتها على التأقلم مع الظروف المناخية القاسية والنمو في الأراضي الوعرة، ما يجعلها خيارًا بيئيًا مثاليًّا لولاية مثل باتنة تحتضن أكثر من 120 نوعًا من النباتات الطبية التي تستخلص النساء خصائصها المفيدة عبر التقطير.
حتى اليوم، لا تزال النباتات و الأعشاب تعرف في الولاية بأسمائها المحلية الأمازيغية، ما يظهر ارتباطها العميق بالمجتمع، مثل إكليل الجبل التي تعرف بـ “أزير”، والزعتر البري بـ “لقريش أجرثيل” و الشيح وماء الزهر أو الورد وغيرها من النباتات التي تتفرّد كلّ منها بأوصاف واستخدامات مختلفة.
الشيح: تحمل نبتة الشيح لقبًا قديمًا يدعوها بـ “أمّ النباتات”، كونها تتميز بقيمة علاجية فعّالة، برغم نكهتها المرّة ورائحتها النفاذة. يصل طولها إلى متر واحد كحدّ أقصى. بأوراقها الخضراء الداكنة، وحبيباتها الفضية التي تنمو عند جوانب الجذع، تواجه هذه النبتة القلق وتساعد على تهدئة الأعصاب، والنوم. تعرف أيضًا بخصائها المضادة للالتهاب والبكتيريا، فتستخدم في علاج اضطرابات الجهاز الهضمي، والحمى، ومشكلات الكبد. ومثلما تحرس الجسد البشري، تواجه هذه النبتة الآفات الزراعية التي تصيب النباتات والمحاصيل ما يجعلها حلًّا طبيعيًّا يلجأ إليها المزارعون في الزراعة العضوية.
لا تزال النباتات و الأعشاب تعرف في الولاية بأسمائها المحلية الأمازيغية، ما يظهر ارتباطها العميق بالمجتمع، مثل إكليل الجبل التي تعرف بـ “أزير”، والزعتر البري بـ “لقريش أجرثيل”
إكليل الجبل – “أزير”: ترتبط نبتة إكليل الجبل بالذاكرة، وتختصرها أحيانًا نظرًا لرائحتها التي تعبق وتطيل المكوث في الجو، وبسبب استخدامها لعلاج أمراض الذاكرة. تنتمي إلى نفس عائلة النباتات التي تضمّ الحبق والزعتر والنعناع. تنمو النبتة في المناطق الجبلية الصخرية، كونها تتطلّب بيئة جافة ومشمسة، ويجب أن تقطف أوراقها في مواسم معينة لضمان أعلى تركيز للزيوت العطرية. تتصدّر إكليل الجبل النباتات التي تعالج التشنجات العضلية والتهاب المفاصل، وتستخدم في الأدوية التي تعالج الاكتئاب، وتدخل كمكون أساسي في تحضير مستحضرات العناية بالشعر لما لها من قدرة على تقوية الجذور ومنع التساقط.
الزعتر البري – “لقريش أجرثيل”: ستميّز نبتة الزعتر البري من بين عشرات النباتات الأخرى، بفضل رائحتها العابقة في البراري الصيفية، وأزهاراها البنفسجيّة التي تظهر بين شهري حزيران (يونيو) وأيلول (سبتمبر). إنّها الأكثر انتشارًا من بين أنواع الزعتر الكثيرة فتتمدّد كحصائر منخفضة على الأرض. تعرف بخصائصها العلاجية المتعدّدة، فتستخم كمضاد للالتهابات ومعالج للأمراض الجهاز التنفسي، ومسكن للآلام المعدة، وتستخدم أيضًا في صناعة المراهم العشبية وتستهلك كمشروب في فصل الشتاء لعلاج نزلات البرد.
الضرو – ” ثيذقت“: تحافظ شجيرة الضرو على خضرتها طوال السنة. في أواخر الربيع وبدايات الصيف، تنبت أزهارها الصغيرة. ذكور هذه النباتات تحمل أزهارًا حمراء ضمن عناقيد كثيفة، فيما تتميز إناثها بأزهار خضراء داكنة تميل إلى اللون البني وتكون أكثر تباعدًا. بعدما تجمعها النساء في فصل الخريف، يُستخرج الزيت من ثمار الشجيرة. يتطلّب إنتاج ليترًا واحدًا من الزيت حوالي 15 كلغ من الثمار، لهذا تعدّ من الزيوت النادرة وذات قيمة عالية نظرًا لأهميته في علاج مشاكل التنفس والشعب الهوائية، والحروق والجروح، كما يساعد في سيلان الدم.
جفاف طويل
تتسبّب التغيّرات المناخية في الجزائر، بارتفاع درجات الحرارة في الكثير من المناطق، من بينها منطقة باتنة شمال شرق الجزائر حيث تعيش سلمية التي باتت تلاحظ في السنوات القليلة الماضية “فترات جفاف طويلة، وأمطار غير منتظمة، وارتفاع درجات الحرارة”، مما يؤثّر بشكل مباشر على فعالية انتاج النباتات الطبية مثل الشيح والضرو والزعتر. تضاف هذه التحديات إلى التغيّرات التي تواجه المزارعات في الأرياف، كما تخبرنا المهندسة الزراعية وفاء زموري، والمتخصّصة في الحماية الكيميائية للنبات، مشيرةً إلى أنّ “الإنتاج يعتمد أساسًا على توفّر المواد الأولية، لكن بسبب التغيرات المناخية والتلوث البيئي في بعض المناطق، تقلّصت المساحات الطبيعية لنمو النباتات العطرية والطبية، مما أثر على فعاليتها وجودتها”، ولهذا السبب “بات من الضروري الحفاظ على البيئة الأصلية لهذه النباتات الطبية والاعشاب، لضمان استخلاص زيوت عالية الجودة. على سبيل المثال، يجب قطف النباتات والاعشاب في ذروة انتاجها، مثل فصل الربيع، حيث تكون العناصر الفعالة في أعلى مستوياتها.”
ظهر التغيّر المناخي في فترات الجفاف الطويلة نتيجة عدم انتظام الأمطار في منطقة باتنة وارتفاع دراجات الحرارة، ما أثّر بشكلٍ كبير على كمية انتاج النباتات الطبية، وعلى جودة المركبات الفعالة لهذه النباتات
ألقت التغيرات المناخية بتأثيرها الملحوظ، الذي انعكس في فترات الجفاف الطويلة التي تشير إليها زموري، نتيجة عدم انتظام الأمطار في منطقة باتنة وارتفاع دراجات الحرارة، ما أثّر بشكلٍ كبير على كمية انتاج النباتات الطبية، وعلى جودة المركبات الفعالة داخل النباتات والتي تجعلها غير فعالة. لهذا تشدّد زموري على ضرورة قطف هذه النباتات في ذروة انتاجها، وعلى الحاجة ملحة للعمل بالحلول الزراعية التكيفية التي تتأقلم مع هذه التغيرات، مثل استخدام مناطق زراعية بديلة، وتوفير نظم ري مناسبة لتقليل أثر الجفاف على هذه النباتات المهمة.
خطــ٣٠ // باستخدام Ai // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
بين الحرفة والطب
كان لا بدّ من التوجّه إلى زموري بالسؤال عن الفوائد العلاجية للنباتات الطبية والعطرية. أكّدت المتخصصة على أهميتها قائلة “النباتات الطبية كانت ولا تزال جزءًا من التراث العلاجي، ولكن الاعتماد الحصري عليها دون استناد الى الأبحاث العلمية قد يكون غير دقيق. بعض المستحضرات الطبية الحديثة تستخلص مركباتها الفعالة من هذه النباتات، إنما بعدما تخضع لعمليات تنقية وتركيز تضمن فعالية ودقة الجرعة، وهو ما يصعب تحقيقه عند استخدام الأعشاب بشكل تقليدي”، مضيفة “الزعتر والشيح معروفان بخصائصهما المضادة للالتهاب، ولكن الجرعة وطرق التحضير تؤثر على فعاليتها. وفي حين أنّ بعض الأمراض يمكن علاجها بوصفات طبيعية، إلا أن هناك حالات تستدعي التدخل الطبي”.
أوضحت المهندسة على أهمية استمرارية حرفة التقطير واستغلال النباتات الطبيعية في مجالات العلاج والتجميل مشيرة الى هذه الممارسات التي تحولت مع الزمن الى نشاط اقتصادي وتجاري هام. وأضافت “المرأة الريفية في الجزائر ظلت متمسكة بهذا الموروث، مستلهمة خبرتها من الأجيال السابقة”، وبالرغم من التطورات والعولمة “إننا نشهد جيلًا جديدًا يساند أمهاته في هذا المجال، حيث أصبحت العديد من النساء رائدات أعمال يشاركن في المعارض المحلية والدولية، مما عزز مكانتهن في الاقتصاد المحلي”.
وهنا تشير زموري إلى أهمية الجانب الاقتصادي لهذه الحرفة التي باتت وسيلة النساء في تحقيق الاستقلال المالي عبر استثمار مورد طبيعي مألوف. لكنها لفتت إلى أنّ “التحدي الأكبر الذي تواجهه النساء هو نقص التمويل اللازم والمتابعة لتوسيع مشاريعهن، فالعديد منهن يعانين من صعوبة في الحصول على رأس المال لتطوير انتاجهن والوصول الى أسواق أكبر”.
من جهته، يؤكد الدكتور آيت عمر الخبير في الصيدلة والعلاج العطري، أنّ استخدام الزيوت العطرية المستخلصة من النباتات الطبية ممارسة شائعة في المجتمع الجزائري منذ القدم، ومع ذلك، تشير الأبحاث العلمية الحديثة، الى أنّ هذه المواد المستخلصة يمكن أن تكون أكثر فعالية حين تتم الاستعانة بطرق علمية مدروسة، لضمان نقاء المركبات الفعالة وتحقيق الفوائد العلاجية المطلوبة.
وأشار الخبير إلى أنّ استخدام الزيوت العطرية يتطلّب وعيًا علميًا دقيقًا، فالمزج العشوائي يمكن أن يسبب مضاعفات صحية غير مرغوبة، مثل الحساسية والمشكلات الجلدية. لهذا يجب التركيز على أهمية تخصص الأشخاص الذين يمارسون فن التقطير، لضمان التطبيق الآمن والاستفادة من الهبات الطبيعية. كما شدّد على أنّ هذه الزيوت والمستخلصات “ليست مجرد عطور طبيعية بل تمتلك قدرة كبيرة على علاج الأمراض والتخفيف منها”. وحتى على الصعيد النفسي، اثبت هذه المستخلصات فعاليتها في تهدئة الاعصاب، تقليل التوتر والقلق، وتحسين المزاج، خصوصًا لدى استخدامها في جلسات التدليك.
قطاع اقتصادي واعد؟
ثمّة عوامل عدّة ساهمت في تزايد اهتمام الشباب، تحديدًا خريجي الجامعات، بحرفة تقطير النباتات الطبية والعطرية واستخلاص الزيوت، أولها الوعي المتزايد بأهمية المنتجات الطبيعية والطلب المتزايد عليها محليًا ودوليًا، أمام تزايد المخاطر الصحية للمركبات الكيميائية الموجودة في مستحضرات التجميل والعناية بالشعر والبشرة، التي سببت لهم حساسية جلدية، وتهيج في فروة الرأس وحتى اضطرابات هرمونية عند الاستخدام الطويل. تؤكّد دراسة صادرة عن “مجلة الاقتصاد الصناعي” على هذا الاهتمام اليافع بحرفة تقطير النباتات العطرية والطبية في الجزائر التي أصبحت مصدر اهتمام متزايد لخريجات الجامعات في تخصصات الكيمياء والبيولوجيا. وهنا تشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من 70 مؤسسة مصغرة تنشط في مجال المنتجات الطبيعية على المستوى الوطني، ما يعكس الاهتمام لمتزايد بهذه الحرفة كقطاع اقتصادي واعد.
أمام المدّ الحضري والتغيّر المناخي، توصي الدراسة بضرورة تبني استراتيجيات لدعم هذه الحرفة من خلال توسيع المساحات المزروعة بالنباتات الطبية والعطرية لضمان توفر المادة الأولية، واستخدام التكنولوجيا الحديثة مثل نظم المعلومات الجغرافية (gis) لتحديد المناطق المناسبة للزراعة. ومع تزايد الطلب المحلي والعالمي على المنتجات الطبيعية، يمكن لحرفة تقطير النباتات الطبية أن تلعب دورًا رئيسيًا في تعزيز الاقتصادي المحلي، خاصة إذا تم دعمها عبر سياسات تحفيزية لتمكين الشباب والنساء من الاستثمار فيها. وبينما تسير هذه الحرفة بخطى ثابتة نحو التطوير، يبقى الحفاظ على الموروث الثقافي وتحديث أساليب الإنتاج مفتاحًا لضمان استدامتها في المستقبل.
إلى جانب قيمتها الاقتصادية والثقافية، تتمتع حرفة التقطير بفوائد بيئية مهمة، فهي تعتمد على الاستغلال المستدام للموارد الطبيعية، اذ تشجع على حماية النباتات الطبية والعطرية، مما يحدّ من عمليات القطع الجائر واستنزاف هذه الثروة النباتية في منطقة باتنة، كما أن إعادة تدوير مخلفات التقطير (مثل بقايا الأعشاب والنباتات) يمكن أن يسهم في إنتاج سماد عضوي طبيعي يستخدم في تحسين التربة الزراعية بدلًا من اللجوء الى الأسمدة الكيميائية الضارة، وفي مكافحة التصحر من خلال المحافظة على خصوبة وحيوية التربة.
* يُنشر هذا المقال ضمن مشروع “غرين بانتر” بالتعاون مع مؤسسة “تاز بانتر“