لم يهدأ حيّنا في تلك الصبيحة. تبادلت النساء الزيارات، وتحاشى الصبية أن يلتقوا على غير العادة. غير أن الصبية والنساء لم يتركوا منازلهم قبل أن تشد الأمهات آذان الأطفال وتوصيهم، أشد وأعنف من المرات السابقة، ألا يتناولوا أي نوع من الأكل الذي يقدمه لهم الغرباء وخاصة الجيران، مع توصية تشبه التخويف: “باه ماتخطفكش حتى أنتَ لالّة زوينة”.
كانت تلك الصبيحة التي تلت عرض فيلم “يد لساحرة” للمخرج عاشور كساي، والذي يتناول فيه لأول مرة على الشاشة الوطنية موضوع السحر والشعوذة، من خلال قصة لساحرة عجوز، اسمها لالّة زوينة، تقصدها نساء القرية حتى تقدم لهن عقاقير تخلط مع أكل الضحية المستهدفة من قبلهن.
لكن الأمر يتطور مع لالة زوينة عندما تقدم عليها امرأة غنية وتطلب منها أن تخضع حبيبها بحرز لا يخيب، لتلجأ الساحرة لوصفة قوية: خلط الكسكسي بيد ميت. وهنا تقرر أن تخطف ابن جارتها وتقتله خنقاً، وفي مشهد مرعب نرى ظلال يدها وهي تحمل الساطور لتقع على يد الفتى الصغير وتتناثر الدماء على الجدران، لتنتقل بعدها إلى الطقس الرئيسي، وتخلط الكسكسي بيده.
في الأخير يتم القبض عليها وهي تحاول رمي جثة الفتى ويحكم عليها بالإعدام.
الأطفال لا يُكذّبون أمهاتهم
لم أكن حينها قد تجاوزت الثماني سنوات وأنا أقتاد إلى الغرفة لأشاهد الفيلم عنوة، حتى آخذ درسي، وأرى الدليل المرئي على أن السحر موجود في أكل الغرباء، وأن كل تحذيرات أمي بشأن الخطر من تناول أكل غير أكلها حقيقية.
ها هي أمامك ساحرة تدس الشر في الأكل، وها هي امرأة تشبه جارتنا، عمتك الجامعية، و جلّ النساء اللواتي يمكن أن تصادفهن في الطريق، وهن يأخذن هذا الحرز ليؤذين به الآخرين وربما ستكون أنت!
لم تكن كل تلك القصص المليئة بالتهويل عن السحر المأكول التي ظلت تقصّها علينا لتكفي والدتي، ولا أن تردعني عن قبول الطعام من الغرباء، حتى أجلستني أمام لالّة زوينة وهي تخلط الكسكسي بيد الصغير، في تلك اللحظة تحولت المخاوف إلى صورة ولا مفرّ من الصورة.
كانت أمي واعية بما تفعل، وهي تدفعني إلى تجربة ستجعلني أحاول الهرب من شبح لالة زوينة، والاختباء منها تحت السرير كل ليلة. لكن الأهم، هو أن ذلك الحادث كان بداية فترة قطيعة طويلة مع أكلة الكسكسي. كان درسا يجب أن يؤخذ حتى تهدأ وساوس أمي، المتوجسة دائما من فكرة أن يسحر أحد أبنائها، عن طريق الأكل خاصة.
أمي التي لم تعش طفولة عادية، كبرت وهي تؤمن أن مرض البرص الذي أصابها كان نتيجة سحر أسود، وُضِعَ في حلوى الطمينة (أكلة يخلط فيها القمح بالعسل والزبدة والقرفة) التي قدمها لها غريب على القرية.
كان منتشراً في زمنها، أن الأمراض ليست إلا سحراً يسلطه الجن والشياطين على الضحية، فلم يكن من الصعب أن تقبل مصيرها المحتوم. كان لكل مرض وصفة لتحضير العقار وغالباً يمرر هذا العقار مع الأكل. لم تكن هذه النظرة للمرض خاصة بمنطقة الشاوية (شرق الجزائر) وحدها، بل كانت تخص مناطق كثيرة من شمال إفريقيا.
شكّلت تلك الصدمة بداية قطيعتها مع الطمينة، وأي أكلة يقدمها لها غريب. ولأن الأم تورث مخاوفها كما جيناتها لأبنائها، أورثت لنا هذا الخوف عبر توصيات لا تتوقف، خاصة في الأعراس والمناسبات والتي يكثر فيها تقديم الطمينة كصنف أساسي من الحلويات.
كان السحر حجة أمي الدائمة -وهي حجة لا تزال تراها واقعية إلى اليوم- لتسيطر على ما يدخل أفواهنا خارج المنزل، مثل ما تسيطر عليها داخل المنزل. ولكن على عكس سيطرتها داخل المنزل، لا يكون الطعام هنا في حد ذاته هدفاً لتقوية السلطة الأمومية، بل هي آلية دفاعية في وجه المجهول المتستر بالطعام، أكثر منها إثباتاً لسلطة الأمومة.
مكمن كلّ الشرور
لم أعرف سر أمي مع الطمينة، إلا وأنا أحاول جمع شهادات عن السحر المأكول من منطقتنا. كان هذا عندما لجأت إلى قصص الخالة مريم، عجوز لم تسكن غير الدشرة (القرية)، ذاكرة وصورة زمن الأجداد.
وككل مرة أحاول فيها أن أشرح لشخص موضوع المقال، أفشل، وأجد نفسي أحمر خجلاً، خوفاً من أن يفسر فضولي على أنه سعي وراء استخدام المحرم (السحر)، وهذا ما كان مع الخالة.
سحبتني وراء المنزل الحجري، أجلستني بعيداً عن أسماع زوجها وأبنائها (خرافها)، واسترسلت في الكلام حتى تسهل الأمر علي، رغم إحساسي بحيرتها من فكرة أن يكتب أحدهم مقالاً عن السحر والأكل. كأن هذه القصص تبدأ من اللسان وتنتهي عند الآذان في ثقافتنا، لا أن يكتب عنها فتى مثلي.
أفتح الكاميرا، تسألني أن تضع حجابها، أبتسم وأخبرها أن لا داعي لذلك، فالفيديو لاستخدامات شخصية، تخصّ ذاكرتي الضعيفة.
تقول الخالة مريم أن السحر الذي يكون مع الطمّينة أو الرفيس (أكلة يخلط فيها السميد والزيت بالسمن ومعجون التمر) يكون فعالاً. لكن في كل مرة أقاطعها، أسألها عن سبب اختيار هذه الأكلات بالذات، ترد: “راهم يقولوا”، وتكمل مع رفع يديها للسماء، كأنها تطلب المغفرة من الله على سرد هذه القصص أو تتبرأ منها، وتدعي: “يا ربي عافينا”.
ولإحساسها أنها لم تقنعني بهذه الإجابة، أردفت وهي تهمس: “أمي كانت دائماً ما تحذرني من أكل الرفيس والطمينة عندما أكون ضيفة على أناس أشك فيهم. أبي نفسه سحر أمي، كان متيماً بها، وهي وحيدة والدتها، رفضته حتى تبقى معها. ولهوسه وقوة عشقه لها، قصد ساحراً أوصاه بأن يطبخ الرفيس على بخار الماء الذي يغتسل به، ويطعمها منه. وهذا ما حدث، في تلك الليلة ركضت أمي إلى منزله، طالبة وده.”
لم أستطع أن أعبر عن رفضي تصديق هذه القصة، عن رفضي لهذا الهتك الواضح لكل أشكال المنطق. أردت أن أشرح لها استحالة أن يحب أحدهم الآخر فجأة بسبب أكلة! لكن ولأنني هنا للاستماع، لا للمناقشة والجدل. استمريت بالقول مؤكداً على كلامها:
“أهيه!”.
تواصل الخالة تذكر قصصها كأنها عثرت في كتاب ألف ليلة وليلة الخاص بها: “أمك نفسها سحرت بالطمينة، مرض البرص الذي أصابها في طفولتها كان نتيجة سحر الطمينة، الذي قدمه لها شخص أراد تجربة عقار سحري عليها. نعم، نعم، أتذكر هذا، لقد أتى إلى جدك شعبان معتذراً، وواعدا إياه أن هذا المرض سيزول، المسكين لم يكن يقصد أن يؤذيها”.
كانت تلك أول مرة أسمع عن أن أمي سحرت، عشت معها ثمانٍ وعشرين سنة ولم أسمع هذه القصة، لم تكن أمي بحاجة لشرح أسبابها التي منعتنا من أكل الطمينة والأكل خارج البيت، ولم أكن أنا بالوعي الذي يسمح لي بالبحث وراء الأسباب. الآن وأنا بالوعي والأسئلة التي تسمح لي بالإستفسار، لماذا لم أسألها؟ ولماذا لم أسأل الخالة عن انطباعها الحالي تجاه علاقة أمها وأبيها التي بنيت على باطل (حسب ما تعتقد)؟ هل قاطعت أباها بعد ما عرفت سره، مثلما قاطعت أنا الكسكسي بعد أن عرفت سره من لالّة زوينة؟
بعد سبعة عقود كاملة، لم تنس الخالة قصة أبيها مع أمها، ولا تغيرت نظرتها تجاه أكلتين أساسيتين من الطبق الشاوي. ما زالت تعتقد وتؤكد لي على أنهم مكمن لكل الشرور: “الطمينة والرفيس راني مثبتة منهم!”.
أثر من طعام الغرباء
”فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُواْ لَا تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمِ لُوط “ لوط (70).
ذات يوم، قدم على سيدنا إبراهيم ثلاثة ضيوف، رحّب بهم وفرح لمرورهم، ذبح لهم عجلاً وشواه، وقدمه لهم وأنتظر منهم أن يشاركوه الوليمة. لكن ما كان من هؤلاء الضيوف إلا أن يمتنعوا عن الأكل، والامتناع عن أكل طعام المضيف يحمل رمزيات كثيرة، إنه تصرّف يحمل قدراً كبيراً من عدم الثقة في المضيف، فهو ليس رفضا لنشوء علاقة صداقة وثقة بين الضيف والمضيف فقط، بل هو إعلان عن نية لإضمار الشّر والسوء له. ولهذا توجس منهم سيدنا إبراهيم.
لم يكن لرفض الضيوف علاقة بخوفهم من شرّ يضمره سيدنا إبراهيم عبر الوليمة، لكن شكل الحادث ورد فعله على امتناعهم، يحيلنا إلى العلاقة المعقدة التي تنشأ بين الضيف والمضيف حول الأكل (يتجاوز الأمر هنا علاقة مضيف/ضيف الاعتيادية إلى كل أشكال التواصل البشري من خلال الأكل)، بسبب موقف كل منهم وموقعه من هذه الثنائية: الكرم/الشك.
ثنائية خلقتها سلطة من الإيثار والوساوس، أنشأتها أساطير وقصص الأكل المسحور، تركت وراءها أثرا لم يتوقف عند علاقتنا الشخصية مع الطعام فقط، بل تتعداها إلى العلاقات الاجتماعية. فتوجّس المضيف في حالة عدم أكل ضيفه من مائدته، يقابله توجس الضيف من أن يحوي الأكل عقارا يؤذيه.
وهذا ما نراه في الكثير من القصص الشعبية المرصودة داخل المجتمع الجزائري. فيُحكى مثلاً أنه في البليدة (مدينة جنوب العاصمة) كانت توجد بينهم ساحرة زنجية، تلجأ لها المرأة إذا كان زوجها يحرمها من التصرف بحرية. تأخذ بعضاً من شعرها ومن زغبها وأظافرها، ثم تعمل تلك الساحرة على جعل هذه المكونات عقاراً. تسعى بعدها المرأة لجعل زوجها يتناوله مع أكله، لتغدو بعد ذلك سيدة نفسها.
والحقيقة أن العديد من الدراسات التي تخص منطقة شمال إفريقيا، لا تكاد تذكر سحر الزوجة للزوج، إلا وذكر فيها الإطعام، هذا النمط المتكرر، حتى في القصص الشعبية نفسها، ساعد على خلق توتر وتشوه في العلاقات الزوجية، وربط دائم للمشاكل داخلها بالقوى الخفية المتربصة دائما خلف ستار الأكل.. حصان طروادة الذي لم ينجح أحد في إيقافه.
وحسب كراولي بكتابه التصوف الوردي (ص 156) في الزوايا يشدد الشيوخ على إكرام الصحن، وهو أحد الأسباب التي تجعل الناس يتفادون ترك بقايا الطعام وراءهم. لاعتقاد الصوفية بوجود علاقة تفاعلية بين هذه البقايا والجزء الملتهم من الطعام، مما قد يمكن من يضمر الشر من الوصول إلى صاحب الصحن عبر أثره الموجود في بقايا الطعام.
وهذا التصديق الواضح من الدين بوجود السحر، كان دافعاً للإيمان بحقيقة هذه القوى الشيطانية من المسلمين، بل إن الكفر بها -في أحيان كثيرة- هو كفر بالدين نفسه. وفي نفس الوقت كان الدين كمحارب للسحر، يعدم الساحر علناً، ويلعن المتعامل معه.
وصفات لنصب الفخاخ
لم أكن الوحيد الذي عايش قصصاً مع ثقافة الأكل المسحور، أنا جزء من جيل عايش كل فرد منه تجارب متنوعة مع هذه الثقافة، كل بطريقته الخاصة. جربت أن أسأل بعضهم عن ذكرياتهم وعن ما تغير فيهم إزاء هذه الهواجس.
صديقة لي كانت تتحجج كذباً بالصيام، كل مرة تزور فيها إحدى صديقاتها بمنزلها، حتى تتهرب من العزيمة، واصفة شعورها حينها: “كنت نحشم ومانلقاش وين ندير راسي”. وأخرى تتذكر ذكرياتها مع الكسكسي: “لم أعد إلى فتل الكسكسي بعد مشاهدتي فيلم يد لساحرة، لم أقدر على الجلوس نفس جلسة تلك الساحرة وأعيد نفس الطقس، أتخيل يدي، يد الصغير في الفيلم”.
تضحك وتكمل: “لكن عندما التحقت بالثانوية، تجاوزت الأمر، أنا الآن من محبي أفلام الرعب والسحر”. كانت مرحلة العبور هذه تحيرني، من الإيمان بالسحر إلى السخرية منه، لم أكن أفهم تشكلاتها عند جيلي (ممن لا يؤمنون بالسحر). صديقي الذي كان في كل عيد حب يناولني كل الشكولاطة والحلويات التي تهديها حبيبته له، الآن وهو متزوج منها، يقول: “لا زلت مؤمنا بالسحر، إنه فعل مؤذي، ويأتي أحياناً عن حسن نية، أنا لا أقدر على الثقة بغريب، خاصة الفتيات”. ربما هو محق، فقد نجح الأمر معه على الأقل.
كل هذا يقودنا إلى ثنائية في التفكير، تنطلق من نفس المعتقدات الدينية أو حتى الشعبية. تنظر إلى الأكل بجديّة متطرفة، تحمل كل التناقض بداخلها. فمرة هي أكلات شعبية معروفة، يفتخر بها وتعتبر كرمز ثقافي (الكسكسي والطمينة)، وفي نفس الوقت، هي أكلات مشبوهة، تلتف حولها القصص الشعبية لتجعلها المكمن الأشهر لنصب الفخاخ الماورائية، يحذر منها وينصح بقراءة المعوذتين عليها قبل رفع ملعقة منها.
وكما تعدّ المناسبات فرصة لإنشاء روابط حب وصداقة عن طريق الطعام، هي في نفس الوقت ساحة حرب باردة، يخاف فيها الكل من الكل، خشية أن يسحر عن طريق الطعام.
أعراس أم حروب هاري بوتر؟
عندما سألت الخالة مريم عن الطريقة التي كانت تنتقل بها وصفات السحر بين النساء، وهل كن يقصدن ساحر/ة حتى تحل مشاكلهن. استغفرت ككل مرة، وعادت إلى التأكيد أنها لا تملك أي تجربة مع هذه القصص، وأنها لم تعرف هذه التفاصيل إلا من خلال القيل والقال.
تقول “إن السحرة كانوا ممنوعين من مزاولة هذه المهنة، بل إن بعضهم يعدم عرفياً إذا تم الإمساك به متلبساً بالتهمة. كل الوصفات التي كانت النساء تمتلكها كانت تنتقل شفهياً بينهن، كانت الواحدة تسر للأخرى عن مكونات الوصفة في حالة ما نجحت معها. وكانت أغلبها تستعمل مواد موجودة في الأكل، وخاصة المتوفر منه. كانت الأعراس المناسبة الأفضل لنشر هذه الوصفات بين النساء، إنها مناسبة ينتشر فيها الشك والخوف من الآخر، لأن الولائم تكثر فيها ولا تعرف يد من وضعت فيها خلال طبخها”.
غالباً تكون الغيرة هي السبب الذي يدفع النساء هنا للتحرك ضد بعضهن واللجوء إلى سلاح مخفي كالسحر، موقع المرأة (الضعيف) في مجتمعاتنا -لاعتبارات كثيرة-، يدفعها إلى الاختباء وراء الغيبي، في تصور الكثيرين، حتى تسيطر على زوجها الذي لا يحترمها، أو تبعده عن سيطرة أمه، أو حتى لخراب بيت صديقتها التي تغار منها. ولهذا انتشر في المخيال الشعبي هنا، أن العروس هي الهدف الأول للسحر بأنواعه، وبالذات في عرسها، الكل يغير منها، إنها نجمة اليوم.
تذكر الخالة طقساً قديماً، كان يعمل به لحماية العروس من السحر المأكول، اسمه: “الماكلة من راس العروس“. في هذا الطقس، يتم تحضير قصعة كبيرة من الكسكسي المدهون بالسمن، ثم توضع فوق رأس العروس، بعدها تمر كل النساء لتناول قضمة من القصعة، لتأكل منها أخيراً العروس مطمئنة لخلو أكلها من أي شر.
خصومة بين عائلتين
في منطقة آريس (مدينة باتنة، 400 كلم شرق العاصمة) تحكي لي صديقة عن أن صراع النساء (الطباخات خاصة) داخل أي عرس في عائلتها يتحول إلى حرب إستراتيجية، تبدأ من المناوشات بالكلام وتنتهي بنوم كل واحدة منهن عند موقدها، حتى لا تكمن الواحدة للأخرى، وتورطها بأن تضع السحر في أكلها الذي ستقدمه على ضمانتها.
على العكس، في الجنازات تختفي كل هذه المظاهر، تتصالح النساء المتخاصمات وتأكلن من طبق واحد، تساعد إحداهن الأخرى على نفس الموقد بدون خوف، وتحضرن نفس الأطباق التي حضرت في العرس.
لم يكن الأمر يخص النساء وحدهن، كان أحياناً يتجاوزهن إلى ساحة الرجال، ورغم السلام والود الذي يسود موائدهم في الأعراس. إلا أن وجود حالات فردية مسكونة بهواجس السحر والشعوذة تظهر هنا وهناك.
الخال ربيع، رجل شديد التدين والتحفظ، كان في فترة ما مهووساً بقصص الأكل المسحور، يتتبع ظواهرها وإشاراتها في كل مكان، خاصة إذا كان المكان مشبوهاً، والعرس في خيال الخال بيئة خصبة ومرتع كل الشرور التي تلبس زي الود والكرم من خلال الأكل. كان عرس ابن أخته من عائلة لم تكن بالقريبة منا، فزاد هذا من درجة الحذر عنده.
ومن سوء حظ العلاقات الدبلوماسية التي يحاول الكل أن يحافظ عليها بين العائلتين، أن تعثر قدم الخال في قشور بيض عند مدخل بيتهم. كانت عيونه تنتقل بين الجميع معلنة عن الكمين الذي حضر لنا، وفي نفس الوقت، كان يرسل نظرات الامتعاض والغضب لعائلة العروسة، كأنه يسألهم: “كيف لكم أن تغدروا بنا؟”.
في نهاية الأمر، قرر أن لا يجلس على مائدة الطعام، مما سبب للجميع يومها إحراجاً لم يعدموا وسيلة لإزالته، بداية من تفسير هذه الظاهرة الغريبة، والتي فسرها أحد أصحاب البيت بأن صغيراً أكل بيضة ورمى قشورها على الباب. يا لها من صدفة! إلى الاعتذارات والتوسلات حتى لا يفسد كل شيء.
أتذكر مع الخال هذه القصة، وأنا أسأله عن السبب الذي جعله يعتقد بوجود سحر بقشور البيض أو الشيء الذي من خلاله يميز الأكل المسحور عامة، هذا السؤال الذي أرقني طيلة هذا البحث الذاتي غير الموضوعي. يرد وهو يتخذ شكل العارف الحكيم: “كل الأكل قابل للاستخدام في السحر، ما يجب الخوف منه هو مكان تموضع هذه الأكلات، من يقدمها، الوقت، المناسبة”.
أنبهه إلى أن الأمر يستحيل بهذه الطريقة إلى شكل من أشكال الهوس والوساوس التي لا تنتهي، كيف للمرء أن يحافظ على علاقته الاجتماعية وسط كل هذا الخوف؟ يسكت للحظات ويرد: “صح! الحال صعيب”.
سحر أبيض وسحر أسود
يصف الأب دان، في كتابه تاريخ بلاد البربر (ص286)، مشهداً وهو يتنقل بين شوارع العاصمة الجزائرية في القرن السابع عشر: “حين يعسر الوضع على المرأة الحامل، ترسل أطفالا للتسوّل بين أزقة المدينة، وتمنحهم قطعة من ثوبها يمسكونها من أطرافها الأربعة، ويضعون في وسطها بيضة دجاجة. وبهذا الثوب يتسكع الأطفال وهم ينشدون الأذكار، ويخرج بذلك السكان بقلل مليئة بالماء يرمون بها الثوب لتكسر البيضة. وبهذا يتيسّر الوضع على المرأة.”
ينتمي هذا الطقس إلى السحر التأثيري، والغاية منه حسنة كما يبدو، ومعلن عنها أمام الجميع. هنا الأطفال قبلوا حمل القماش والبيضة، والناس أيضاً خرجوا وهم مدركون لطبيعة الطقس، والنتيجة نفسها لا تحمل شراً بمؤدي الطقس والواقع عليه.
هذه المظاهر تحمل خصوصية ثقافية، تعطي صورة جيدة على طبيعة المجتمع الذي يلجأ للغيب لحماية أفراده أمام غياب الشروط التي تسمح بوجود غيره. هذا النوع من الطقوس يعرف بالسحر الأبيض، وهو يختلف عن الأسود من حيث الغاية الحسنة و فكرة الإفصاح نفسها، فغالبا ما تكون الشعائر السحرية هنا معلنا عنها للجميع.
وهذه بعض الاستخدامات التي كان يعتقد أن لهذا السحر دورا فيها: الشفاء من الأمراض (لوقت ليس بالبعيد كان ينظر للطب كمهنة مستمدة من السحر نفسه)، حفظ الجنين، حفظ المخازن من اللصوص، تقوية الجماع، فتح الكنوز، إبعاد الجراد..إلخ.
المثير في الأمر هنا، أن طالب السحر في شمال إفريقيا إذا ما نوى أن يكون سحره أبيض، فيفترض به أن يكون على طهارة من الناحية الإسلامية، أن يصلي، وأن يصوم عن الأكل لمدد طويلة. ويكون الطقس في أوقات محددة، وغالبا ما يكون متعارف عليها بين الأهالي.
وفي أحيان كثيرة يستعمل الأكل نفسه لمحاربة سحر آخر، فجدتي كانت ترش الملح في زوايا المنزل أو تبخر المنزل بالجاوي والتوابل لطرد الجن، وفي استعمالات أخرى.
يذكر عبد الرزاق الجزائري في كتابه كشف الرموز (ص37) أن المغاربة كانوا يستعملون نبتة اللدونة لجعل الحليب يدر حصة هائلة من الزبدة، بتجفيف النبتة ووضعها في إناء الزبدة.
عندما تخلصت من شبح لالة زوينة
شغلت فيلم يد لساحرة على اليوتيوب، بعد تأجيل طويل، جعلني أتأخر في كتابة المقال. ولا أخفي أنني كنت خائفا من أن تعود نفس الهواجس تجاه الكسكسي بعد أن تخلصت منها منذ فترة طويلة جدا، إضافة إلى أنني لا أحبذ تماما أن أجد نفسي خائفا من شبح ساحرة وأنا أهم إلى إطفاء نور الغرفة، خاصة وأنني لا أؤمن بهذه الخرافات.
الآن وأنا أركز في تفاصيل الفيلم. التمثيل رديء ومضحك في مواضع كثيرة، خاصة لالة زوينة. لا وجود لأي حبكة والقصة شبه وعظية، كأنها حملة ذات منفعة عامة لمجابهة السحر. الكسكسي نفسه الذي أشاهده في الفيلم لا يشبه أي كسكسي أعرفه، شكل الساحرة وضحكتها الكارتونية كأنهما منفصلين عن ما شاهدته في طفولتي. ربما غيروا الفيلم؟ أو ربما أنا من تغير.
صحيح أن أول أشكال الإنعتاق من سلطة الوالدين أو أي شكل من أشكالها الكثيرة هي بدايات المراهقة، مرحلة الثورة، التي جعلتني أخرج من القائمة التي كانت تحددها أمي لما آكل، أين وممن. بشكل لا واعي ربما، والأكيد أنه لم يكن منوطاً بسؤال معقد في وقتها: ماهية الأكل المسحور أو حقيقة وجوده.
سؤال الأكل والسحر كان ضمن أسئلة كثيرة كانت خاصة بالسحر، وجدت أخيراً طريقا لها مع ظهور محرك البحث جوجل، منفذ سيكسر سلطة المعرفة التي شكلت نظرتي عن السحر خلال طفولتي كلها، والتي ستنتهي إلى جدالات مدعومة بقناعات ثم كأي شيء آخر إلى اللامبالاة.
لم أسأل أمي عن سرها، رغم الصدمة التي منيت بها، احتراما لسكوتها عنه. مع أنني حاولت استفزازها بأسئلة عن الأكل و والسحر أكثر من مرة، كانت تستغفر -ككل نساء هذه العائلة-، وتجيب بـ: “ما كانش” أو تطيل التحديق في وجهي وتسألني: “وعلاه تسقسي كاش مارح تسحر بيه؟”.
الحقيقة أنني أتفهم هذا السكوت، من يريد أن يتذكر قصة عن جني أحرق جلده؟ الآن هي لم تعد بتلك السلطوية والتحكم في موضوع الأكل خارج البيت -رغم وجود إخوتي الأصغر سنا- إلا أنها في ما يبدو تعبت، ولم يعد لموضوع الأكل المسحور ذلك الشأن الكبير في حياتها.
اليوم لا وجود لطقس مثل: “الأكل من رأس العروس”، وتوقفت النساء عن تبادل الوصفات في الأعراس. من تريد وصفة الآن ستجدها منتشرة على المنتديات المغربية، مصنفة في أقسام مختلفة، تسهل على الباحث فيها اختيار نوع السحر الذي يريده كأنه في محل تسوق.
كما أن السحر والأشكال التي يتم بها إطعام الناس في الأعراس قد اختلفت، وحتى ثقافة السحر نفسها لم تعد بالانتشار السابق لها. فكرة الأكل في الخارج نفسها تغيرت، ووجد الناس أنفسهم متصالحين مع المطاعم ومحلات الأكل السريع، عصر الألفية الثانية وما أدراك.