كلما تزايد غضبي بسبب الضوضاء الآتية من الشارع والبيوت المجاورة تذكرت الفيلسوف الروماني سينيكا (4 ق.م- 65م). عاش الخطيب والكاتب المسرحي قرب نادٍ رياضي. كانت الجدران رقيقة، والجلبة مستمرة. يصف سينيكا مشكلته في رسالة إلى صديقه لوسيليوس، قائلًا: “تخيل مدى تنوع الضجيج الذي يتردد حول أذنيّ.. على سبيل المثال، عندما يتدرب رجل متحمس برفع أثقال نحاسية، أو يتظاهر بكونه يتدرب بجد، يكون بوسعي سماع زمجراته ولهاثه بصفير عالٍ. وعندما يتحول انتباهي إلى رجل آخر أقل نشاطًا، يكون بوسعي سماع صفقات يد المدلِّك على كتفيه”. ويعدد أنواع الضجيج ذاكرًا أصوات الباعة في الشارع ونداءاتهم المتنوعة، وجلبة رواد المتاجر وغيرهم.
في كتابه “عزاءات الفلسفة: كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة”، يقدم الكاتب الفرنسي آلان دو بوتون العزاء بشأن الإحباط، كما استخلصه من حكاية الفليسوف الروماني المتعايش مع الضجيج. يقول دو بوتون إنه كي نهدىء أنفسنا في الشوارع الصاخبة، لا بد “أن نثق أن من يصدرون تلك الجلبة لا يعرفون شيئا عنا”.
وفقًا لنصيحة دو بوتون، وضعت “حاجز حماية” بين “الجلبة في الخارج والإحساس الداخلي بعقاب مستحق”. أحاول دائما أن لا أغرق فيما يصفه بـ “سيناريوهات تتضمن تأويلات تشاؤمية بشأن دوافع الآخرين”.
يظل ذلك التعايش ممكنًا طالما كنت في بيتي الذي تزوجت فيه. أعيش في ذلك البيت، مع زوجتي وابنتيّ، منذ بضع سنوات. لكن ما إن أذهب إلى بيت أبي وأمي حتى ينهار “حاجز الحماية” الدوبوتوني. بيت العائلة في منطقة تمثل قبلة المصطافين صيفًا في الإسكندرية.
هناك، لا وجود لليل والنهار. يحدث أن تباغتك الأغاني المصحوبة بالطبل والتصفيق في ساعة متأخرة من الليل، قرب الفجر مثلًا. في شهور الصيف، يصير غضب أخي غير قابل للاحتواء. أراه وهو يردد في ضجر ويقين أن تلك الشقة صارت غير صالحة للعيش. يقترح على أبي وأمي الانتقال إلى أخرى، إلا أنه على علم ٍ تام باستحالة تنفيذ والدينا لاقتراحه. لا أحد ينتقل من مسكنه في مثل هذه السن التي وصلا إليها.
أقول لأخي إنه آن الوقت كي ينتقل إلى مسكن آخر، وليس شرطًا أن يكون على أعتاب الزواج ليفعل ذلك. ربما بانتقاله يتصالح مع البيت الذي عاش فيه أكثر من ثلاثين عامًا. أعزي أخي لا بقصة سينيكا أو نصيحة دو بوتون، وإنما أخبره: الآن، الهدوء امتياز حصري لساكني الكومبوندات. لا هدوء بعد اليوم في شوارعنا العادية.
البيت منزوع الصفة
ليس كل ما يسكنه المرء يصبح بيتًا له. هناك ما يصير بمثابة البيت لك، وهناك البيت الذي لا يصير كذلك. ثمة شعور قد فُقد ولم يعد بالإمكان عودته. أفكر في مشهد كوبري محور ترعة الزمر بمحافظة الجيزة الملاصق للعقارات. ظهر الكوبري في الصور والفيديوهات ملتصقًا بشرفة إحدى الوحدات السكنية.
مشهد سريالي ومرير في سخريته. يقول أحد سكان تلك العقارات المتضررة إن بعض المهندسين نصحوهم بتركيب “أسوار حديدية” على “البلكونات” للحماية من السرقة وكذلك نقل أجهزة التكييف لمنع سرقتها. ذلك بيت لم يعد كذلك. صار سجنًا محاطًا بسور حديدي، أو بيتًا للرعب مع مجرد التفكير في المخاطر المحتملة من اصطدام السيارات بالشرفة، الضوضاء والأتربة، وربما البصاق المتطاير الذي قد يستقبل من يجرؤ على الوقوف في شرفة بيته والسيارات تمرق من أمامه.
وجدت في أزمة ذلك الكوبري عزاءً لم يتخيل سينيكا أو دو بوتون وجوده. وفكرت أن وجود البناية المواجهة لنا، وافتقاد شرفة بيتي وشبابيكه لأي إطلالة على منظر جميل أو بعض من براح، هو أمر أهون بكثير ممن سيعاني من هجوم الكوبري المنتظر علي بيته. يمنع جسم الكوبري كذلك النور والهواء عن الأدوار الواقعة أسفل تلك المحاذية للكوبري.
موقع صالح.. أو هكذا كان الأمل
لهذا أفكر في “شقة المعادي” المثالية التي يقيم فيها أحد أصدقائي المقربين. تكمن المثالية لا في تكوين الشقة نفسه وإنما في موقعها: البناية مواجهة لمحطة مترو “ثكنات المعادي” بالقاهرة. فقط، بضع خطوات تعبر بها الشارع الصغير. تطل الشقة على محطة المترو، ومن وراءها أرض فضاء كبيرة تتناثر بها أطلال الورش والمصانع المجاورة لشركة قادمة من الحقبة الناصرية ..”شركة المعادي للصناعات الهندسية”، التابعة لوزارة الإنتاج الحربي. يجاورها فندقا صغيرا للقوات المسلحة. ويمكن رؤية النيل بوضوح من الشرفة. وفي البعيد، يمكنك، إن أطلقت لبصرك العنان، رؤية قمة هرم زوسر بسقارة.
الطريف أنه من المزمع إقامة فندق للقوات المسلحة بعد إزالة خردة شركة المعادي على نفس الأرض. أي أن الشقة رغم كونها ستشهد على نزوة جديدة من نزوات إقامة الفنادق التي تشهدها بقية البلاد، فإن منظر البراح الطبيعي أمامها لن يتغير إلا قليلا. إذ أنه من المستحيل إزالة محطة مترو ثكنات المعادي أو بناء شيء محلها أو تحويل مسارها أو إقامة كوبري أمامها.. أو هكذا نأمل.
الشوارع الضيقة لا تمنح فراغًا تتمتع به الشرفات. أما الشوارع الكبيرة فمأساة أخرى. مهما كان عرض الشارع الذي تطل عليه شرفتك فإنه عرضة لاحتضان نزوات الدولة تجاه الكباري.
نظرة واحدة إلى بنايات منطقة مصطفى كامل في الإسكندرية تجعلك تدرك طبيعة المفارقة المأساوية. تلك العمارات المجاورة لمسرح السلام سابقًا كانت مطلة على طريق الكورنيش الذي يفصلها عن البحر. لا يحجب رؤيتها للبحر شيئا، حتى الأندية المقامة وقتها على الكورنيش مثل نادي المعلمين ونادي القوات المسلحة لم تكن تشكل حجابًا يمنع رؤية البحر.
كل هذا صار من الماضي بعد تشييد كوبري سيدي جابر العلوي المقام أسفله مجمع جراجات للسيارات، وفوقه كافيهات صغيرة.
أضع نفسي مكان الساكن على البحر. بالتأكيد كان شعور الرضا يملؤه حين تقع عينه على البحر من شباك غرفته، بعد أن انتزع حقه الدائم في رؤية البحر والإطلالة عليه. بالتأكيد كلفه هذا الحق كثيرًا. فجأة عليه أن يودع هذا الامتياز، ويتقبل وجود الكوبري في حياته، أو يندم لأنه لم يختر شقته في أي طابق بعد الدور الخامس مثلا. بعد أن كانت شرفتك تطل على الكورنيش صارت أسفل الكوبري أو فوقه قليلا.
نعود إلى شقة المعادي. الشقة تحوطها الأشجار من جانبيها ومن خلفها. كأن البيت مقام وسط دغل جميل. لا يمكن أن تستمتع بمثل هذه الخضرة في القاهرة إلا في المعادي أو في كومباوند سكني حصري أو الريف.
غير أن معظم البيوت الريفية التي زرتها لا تطل على حقول خضراء، حتى اقتنعت بأن فكرة رؤيتك خضرة بامتداد البصر من شباك بيت ريفي هي محض وهم سينمائي، كليشيه مستورد من الريف الإنجليزي. وكلما تذكرت ثمن الإيجار الشهري الذي يدفعه صديقي قُلت: وداعًا للأشجار.
جماليات البيت: خيال شعري للألفة
يفحص الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار ((1884 – 1962) البيت بوصفه موضوعًا للخيال الشعري. يتناول البيت كصورة شعرية، ويبحث عن المعاني والمفاهيم التي يخلقها الشعر والخيال في تصويره للبيت. ومن خلال توهج الصور” يتردد الماضي البعيد بالأصداء”.
يبين صاحب “التحليل النفسي للنار” أن قدرة الصورة الشعرية على التواصل مع المتلقي هي واقعة ذات دلالة أنطولوجية كبيرة. ومن أجل إيضاحها علينا أن نلجأ إلى “ظاهراتية الخيال”، أي دراسة ظاهرية الصورة الشعرية حين “تنتقل إلى الوعي كنتاج مباشر للقلب والروح والوجود الإنساني”.
لماذا اختار البيت تحديدًا كموضوع لدراسة “جماليات المكان”؟
يقول باشلار إن الصور التي يود فحصها هي “الصور البسيطة للمكان المناسب”. وهذا المكان المناسب هو، ببساطة، البيت. هو المكان الذي “نحب” والذي “ينجذب نحوه الخيال”، ويرتبط بقيم “الحماية” و”الألفة” و”لذاكرة”.
ويطرح مسألة “جماليات البيت”. ولا يقصد بذلك جماليات “هندسية” أو “بيانية”. وإنما يقدم دراسة عما يسميه “صور الألفة”. والعلاقة الجدلية بين الذاكرة والخيال، وبين الذات والحدس. فالبيت يصلح كأداة لتحليل النفس الإنسانية، وبحسبه، فإن صور البيت تسير في اتجاهين، إنها “في داخلنا” بنفس القدر الذي تكون به هي في داخل ذاتها.
الوباء الكوني والحماية: عيش تجربة البيت
يقول باشلار: “البيت ركننا في العالم، إنه كما قيل مرارًا، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى”.
يكتشف الخيال جوهر البيت. والحماية فكرة جوهرية في البيت. يبني ساكن البيت عبر الخيال جدرانًا من ظلال “الحماية”، أو من وهم تلك الظلال، كما يوضح الفليسوف الفرنسي. ويقول إننا “نعيش تجربة البيت” بكل “واقعيتها وحقيقتها” لا من خلال سماته “الوضعية” ولا من خلال الأوقات التي نتبين فيها منافعه، وإنما من خلال “الأفكار والأحلام”.
خلال فترة الحظر التي فرضها وباء الكورونا، استعدنا قبسًا من فردوس البيت المفقود. فإذا كنا نفتقد، كبالغين، المزايا الجوهرية للبيت، لأننا، كما يرى باشلار، قد توقفنا عن الإحساس بالارتباط الأول ﺑ “كون البيت”. فإننا مع الحظر عشنا “تجربة البيت” في صورتها الأكثر بدائية. البيت كمأوى. لإنه إذا كان الكون المتناهي في الكبر يظلله وباء قاتل، فإن الرجوع إلى البيت يكون بمثابة الرجوع إلى كوننا الأول، إلى فردوس “الحماية”.
وخلافًا لما يقوله، فإننا عشنا البيت حقًا لا من خلال الأحلام وحدها، وهي في تلك الحالة أحلامنا المتعلقة بالأمان والحماية من الوباء، بل من خلال يقين شبه تام بمنفعته كذلك. إلا أن “المنفعة” شديدة التباين من بيت لآخر. ورغم ذلك، فإن البيوت الأشد تواضعًا تظل باعثة لفكرة الحماية. ربما لا تصلح لإتمام العمل أو الدراسة، لكنها تحقق صورة البيت ككون مصغر، وأليف.
لذلك، فإن باشلار يحدد الفائدة الرئيسية للبيت قائلًا: “البيت يحمي أحلام اليقظة، والحالم، ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء”. إن البيوت التي سكناها تعيش معنا طيلة الحياة لأننا “نعيش ذكرياتنا عنها، مرة أخرى، كحلم يقظة”.
بيت الطفولة: رحلة إلى حدود الذاكرة
يقول غاستون باشلار: ” كل ما علي أن أقوله عن بيت الطفولة هو ما يكفي لجعلي في حالة حلم يقظة، ويضعني على عتبة الأحلام حيث أجد السعادة في الماضي”.
مستعينًا بنصيحة الكاتب الفرنسي سانت بوف حين يصف بيت طفولته قائلا “دع الصورة تطفو بداخلك”، أحاول أن أتذكر بيت طفولتي الأولى. بيت “الورديان” -غرب الأسكندرية- الذي ولدت فيه، وعشت حتى سن الرابعة، قبل أن ننتقل إلى البيت الذي شهد بقية حياتي والذي لم أغادره حتى زواجي إلا في فترات قصيرة للعمل أو للدراسة . ولذلك علي أن أصغى ﻟ “أبعد ذكرى” بتعبير باشلار، مدركًا لعجزي عن الحكي بموضوعية لأن “ما هو خفي لا يمكن أن يمتلك موضوعية مطلقة” كما يقول.
حاول أن تفكر في ذكرى بعيدة، ستجد أن ما يتكون في عقلك/ذهنك هو الصورة. ربما تومض فجأة، وربما تنطبع على مهل كأنها في حاجة إلى التحميض. حين أفكر في بيت الورديان لا أرى سوى الصور. صورة القطة التي خدشت وجهي. صورة مجلة أطفال، لا أتذكر منها إلا قصة تعلمنا عاقبة التسرع السيئة: يضرب الأب القطة بالعصا فتموت ظنًا منه إنها تحاول خربشة الرضيع وإيذائه. وبعد مقتلها، يكتشف وجود ثعبان أو عقرب، وأن القطة كانت تحاول حماية الرضيع.
ماضي يملؤه مواء القطط .البوابة الحديدية. وصورة للعبة “النحلة” في يدي. نطت من أيدي الأولاد التي تلعب بالشارع في الخارج. أتذكر طرقهم البوابة الحديدية وترددي أن أفتح البوابة وأعطيهم النحلة. أتذكر أني فتحت. وأتذكر بندقية الرش، أو “ضغط الهواء رمسيس” التي دخل بها أبي من الباب وصوبها عليّ مازحًا. لازلت متذكرًا السعادة التي شعرت بها من ثلاثين عامًا لأن أبي حقق أمنيتي فور طلبي لها.
للبيت حديقة أو جنينة صغيرة، بوابة حديدية وممر طويل بمحاذاة الجنينة. بيت عائلة أمي. كان من دور واحد في البداية، قبل أن يبني خالي دورًا إضافيًا. أتذكر أن للبيت شباكًا يطل على الجنينة، بينما تطل وجهته الأخرى على الشارع الرئيسي. وللمفارقة، كان الشارع يحمل اسم “الأمان”، ويمر به الترام. كانت “المتراس” هي محطة الترام الأخيرة. هكذا أكدت أمي.
سألتها عن اسم الشارع وخط سير الترام ونوع الأشجار بالحديقة. قالت إن الحديقة كان بها شجرة نبق كبيرة، وتكعيبة عنب، وشجرة رمان. سألتها كذلك إن كانت القطة قد خربشتني فعلا أم كان ذلك من صنع خيالي، وإن كانت هناك مجلة أطالع بها صور قصة القطة والندامة. أجابت أمي بأن تلك الذكريات حدثت بالفعل. اجتاحني نوع من السعادة لمعرفتي أن أبعد ذكرياتي بها مسٌ من الحقيقة.
كنا نذهب للبيت في زيارات متقطعة بعد انتقالنا. أمي أصغر أخواتها، لذلك صار البيت مهجورًا بعد رحيلنا أو على أعتاب ذلك. باع أخوة أمي البيت، وصار الأمر بلا نزاع. وليس كما عودتنا الأعمال الدرامية في تقديمها للبيت كإرث متنازع عليه. صار البيت من الماضي. لكن إحساس الهناءة الأولى، التي تحدث عنها باشلار، لا زال يعيش بداخلي كلما مرت ذكراه في خيالي.
يرسم باشلار صورة بيت الطفولة كأنه نوع من الجنة الأرضية. هكذا، يمكن أن ننظر إلى التجارب التي يمر عبرها الإنسان، حين يُلقى به من البيت إلى العالم، كتجربة آدم بعد السقوط من الجنة. “كان الوجود هنيئا داخل البيت”. أما خارج البيت، فإن الإنسان عليه أن “يواجه وضعا تحتشد فيه عداوة البشر والكون”.
ضد باشلار: بيوتنا التي بلا جذور
لكن، ما نوع البيت الذي يتحدث عنه صديقنا الفرنسي طارحًا المجازات والاستعارات؟
يتصور باشلار البيت كائنًا عموديًا. يرتفع إلى أعلى ويتوجه عاموديًا إلى وعينا. البيت الذي يدرسه يحتوي على “القبو” و”العلية” وما بينهما. لماذا؟
لأنه يجد فيهما القدرة على تصوير ملامح نفسية دقيقة.
يستعمل كارل يونج (1875 – 1961)، مؤسس علم النفس التحليلي، الصورة “المزدوجة” للقبو والعلية ليحلل المخاوف التي تقطن البيت. يبين يونج أن مواجهة الخوف الكامن في “القبو” و”العلية” عملية مماثلة لمواجهة “اللاوعي”.
يحاول باشلار أن يستعين بكارل يونج من أجل تحليل صور الخوف والخيال في نوع من التآزر بين فلسفته الظاهراتية والتحليل النفسي.
إلا أن ما يناقض أطروحة باشلار يتمثل فيما يسميه “المساكن الناقصة”. يورد عنها ملاحظات قليلة. ويقول إنه في باريس لا يوجد بيوت، والسكان يعيشون في “صناديق” مفروضة عليهم. ثقوب تقليدية يحدد موقعها رقم البناية والطابق. هذا المكان غير محاط بفراغ ولا يمتلك صفات العامودية.
ويستشهد بمقولة ماكس بيكار: “البيوت مربوطة بالأسفلت حتى لا تغوص في الأرض”. يقول عنها باشلار إنها “بيوت ليس لها جذور”، مساكن ينقصها الخيال. تتكدس واحدة فوق الأخرى. “لقد أصبح البيت مجرد امتداد أفقي”. ويوضح أن الحجرات المختلفة الموضوعة في طابق واحد والتي تشكل السكن، “تفتقد” كلها المباديء الأساسية الضرورية لتمييز وتصنيف “قيم الألفة”. كما تفتقد قيمتي الحميمية والكونية بافتقادها لقيمة “العامودية”.
في مقاربة مشابهة لحل دو بوتون المتعلق بالضجيج، يقترح باشلار حلًا لمشكلة الضوضاء في باريس. ويتمثل في أن “يُضفي الإنسان حسًا أكبر بالكونية على مساحة المدينة الواقعة خارج حجرته”. فيتصور، عبر أحلام اليقظة، ضوضاء السيارات والشاحنات في ساعة متأخرة من الليل كأنها أصوات صاخبة للبحر. وإذا أصبح الضجيج أكثر إيلامًا يكتشف فيه “قصف الرعد” أو أصوات عاصفة هوجاء.
ربما يفسر ما سبق كيف استطاع باشلار نفسه أن يعيش في شقة باريسية صغيرة لا يكاد يغادرها. ولو كان حيًا حتى يومنا هذا، لربما تمكن من العيش ملاصقًا لكوبري ترعة الزمر.
البيت المسكون بالإرادة
بوسعنا القبض على عدة تناقضات بين تصورات باشلار وطبيعة البيوت التي يعيش فيها معظمنا. لكنه رغم ذلك يقدم تبصرات عديدة في غاية “الكونية”، إن جاز التعبير. يخصص الفيلسوف الفرنسي فصلا كاملا لدراسة الأدراج والصناديق والخزائن حيث يعتبرها “بيوت الأشياء” التي تحمل داخلها نوعا من “الجماليات المخفية”. وهي تمثل صورة عن “نماذج الألفة”، وتصورا عن “فلسفة للامتلاك”.
في رأيي، فإن البيت لا يصير بيتًا إلا بعد أن تكتسب الموجودات والأشياء به نوعًا من الإرادة الخاصة. هكذا يميز البيت بين “الأهل” و”الغرباء”. مقابض الأبواب التي لا تستجيب إلا وفق طرق استعمال معينة لا يعلمها إلا أهل البيت. مقابس الكهرباء، الأجهزة الكهربائية، صنابير المياه، وغيرها. لا يكتسب البيت صفة الألفة إلا بعد أن تحظى موجوداته بتلك الإرادة.
البيت الجديد يُشعرك بالوحشة، حيث كل شيء قياسي ومرتب، لا يحمل بصمة الاستعمال، والتي في الأساس، بصمة إنسانية. بعدها يحمل البيت بصمتنا الفردية. كأن الموجودات تؤرخ لأفعالنا. لذلك كلما وجدت في زيارتي لأبي وأمي أية تجديدات أو إصلاحات أو “عَمرة” ما، تمر بي مسحة من الحزن، لا تقدر بهجة الأشياء الجديدة على تبديدها. كانت تلك الأعطال والمعاندة و المتاعب وسائل البيت للتواصل مع قاطنيه. رغبة من الأشياء في الحوار معنا. لكننا، في أوقات كثيرة، لا نُحسن الاستماع.
بيت المستقبل : بين الكومباوند والإسكان العام
يحتفظ كل منا بأحلام حول البيت الذي يود أن يعيش فيه. ونحلم بامتلاكه في المستقبل. يواجه الحلم ببيت المستقبل حلم بيت الطفولة. يوضح باشلار أن الأحلام المتعلقة بالبيت المرغوب “ليست مجال دراستنا بل مجال دراسة سايكولوجية المشروعات”. غير أن باشلار لا ينفي عنها صفة “الخيال الحر”.
لكن الخيال المتعلق بالبيت المستقبلي المرغوب ليس حرًا بالتأكيد.
يصبح مثل هذا الخيال عرضة إما للقمع والتأميم بواسطة مشاريع الإسكان العام، أو عرضة للتسليع وفق صياغات دعايا الكومباوندات والمدن الجديدة ذات الأسوار.
تشترك كافة مشروعات الإسكان العام حول العالم في سمات الكآبة. وتلك الكآبة لا تبعثها بساطة الوحدات السكنية في هذه المشروعات، بل مبعثها هو التماثل والتكدس، والأهم هو الإصرار على نفي الفردية. تُقدَم الفردية كأضحية على مذبح التناسق البيروقراطي، والضرورة. تسلبنا الضرورة رفاهية الاختيار وترف الخيال.
في المقابل، فإن مفهوم الكومباوند يقوم ظاهريا على رفاهية الاختيار الحر. إلا أنه ينطوي على نفس فكرة “الضرورة”. يقوم الكومباوند على تسليع كافة مفردات الحياة الطبيعية المفقودة خارجه. تحدثك الإعلانات عن الهدوء والخضرة والأمان والحماية. أصبحت تلك الحقوق حصرية. أصبحت سلعًا بالطبع .
تتحول كآبة المنظر في مشروع الإسكان العام إلى رعب خالص في حال كانت الوحدات السكنية غير مأهولة. لاشيء يفوق رعب رؤيتنا مشروع إسكان اجتماعي مهجور. إنه الكابوس مجسدًا.
أدرك المخرج الأمريكي جودفري ريجيو تلك السمة الكابوسية، وقدم مفهوما بصريًا تجريبيًا لها.
في فيلمه التجريبي Koyaanisqatsi، حاول ريجيو، بالتعاون مع الملحن فيليب جلاس، إبراز تأثير الإنسان على الطبيعة والبيئة المحيطة به. عنوان الفيلم يشير إلى مصطلح من لغة الهوبي للسكان الأصليين، ويتضمن نوعا من التعاليم والنبوءات المنقوشة داخل كهف قديم.
يقدم ريجيو في لقطات دالة مشروع الإسكان العام برويت إيجو Pruitt –Igoe الذي أنشيء في خمسينيات القرن العشرين، في سانت لويس ميزوري بالولايات المتحدة. كان المشروع عبارة عن 33 مبنى لكل منها أحد عشر طابقًا.
تُظهر الكاميرا المباني المهجورة بعد أن تخلت عنها الحكومة الأمريكية في أواخر الستينيات.عُرف المشروع بكونه مركزًا للعنف والعزل العنصري. يوثق الفيلم لحظات التدمير الكامل للمشروع ويصور الهدم كلحظة أبوكاليبسية مستعينًا بموسيقى جلاس الجنائزية الآسرة. تبدو المباني كأطلال. شبابيك الطوابق بزجاجها المتكسر كأنها ثقوب صغيرة تطل على خراب داخلي مروع.
تحقق مشاهد الفيلم البانورامية لعملية تدمير المشروع ما استبصره فالتر بنيامين (1892- 1940) حول معنى التأريخ البانورامي للمدينة والحداثة. يقول بنيامين: “اللافت في البانوراما هو رؤية المدينة الحقيقية، المدينة من الداخل. فما يوجد داخل البيت الخالي من النوافذ هو الحقيقي”.
يستخدم بنيامين مجازات الهدم والبناء كمباديء تأريخية في مشروع الممرات الباريسية. من يريد اكتشاف “هندسة المدينة” عليه الاستعداد “لاختزال الماضي إلى أنقاض”. فالدمار محتمل كنوع من التفكيك عند البحث عن المنطق الداخلي لأي بناء، سواءً أكان بناءً معماريًا ماديًا أو عملًا إبداعيًا مكتوبًا.
يمكننا تأمل مشاهد الدمار كنوع من سقوط الأحلام. أنقاض البيوت هي أنقاض الحلم.
في مقابل هذا الإدراك للخراب القائم دومًا في أحلام الحداثة، فإننا بإزاء إدراك من نوع آخر. يتمثل في السخرية من العجز المتفاقم أمام وعود المدن الجديدة والكومباوندات. تصير الأحلام المستحيلة مادة للسخرية. كما ظهرت، مثلًا، في الفيديوهات والميمز الساخرة من إعلان مدينتي.
في فيديو ساخر، يمكننا أن نصفه بـ “باروديا مدينتي”، يستبدل بمكانها منطقتي فيصل والهرم المزدحمتين بالقاهرة، كمادة للدعاية. هنا، السخرية متعددة الأغراض، فهي موجهة للدعاية الطبقية ومنظورها الاستعلائي، لكنها موجهة أيضًا إلى وضعنا الحالي. إلى واقعنا الذي لا يجدي معه إلا التأقلم وليس الأحلام.
صراع في البيت: صورة الكابوس لا الحلم
يرى غاستون باشلار البيت كمكان “أليف”. ويفرق منذ البداية بين “المكان الأليف” و”المكان المُعادي”. وهو يستبعد “المكان المُعادي” من دراسته ولا يذكره في صفحات كتابه. ويوضح سبب ذلك قائلا: “إن مكان الكراهية والصراع لا يمكن دراسته إلا في سياق الموضوعات الملتهبة انفعاليًا والصور الكابوسية”. وعبر قراءة الخيال الشعري لكتاب عظام مثل ريلكه ورامبو وأندريه بريتون وبودلير وجان لاروش وغيرهم، يدرس باشلار الصور الجاذبة والحالمة للبيت.
لكن البيت نفسه قد يصبح مكانا للكراهية والصراع. لذلك سنحاول رسم صورة لما أراد باشلار أن يستبعده.
في ” طفيلي Parasite”، الفيلم الكوري الذي حقق نجاحًا مدويًا وشهرة واسعة، يخلق المخرج “بونج جون هو” من البيت ساحة للصراع وموضوعًا له. البيت في الفيلم هو تحفة معمارية معاصرة. ينسل إلى البيت أفراد عائلة فقيرة تعاني من البطالة، الواحد تلو الآخر، شاغلين الوظائف الشاغرة التي يتيحها أصحاب البيت الأغنياء. وبالطبع دون أن يفصحوا عن صلة القرابة بينهم.
تتعقد حبكة الفيلم حين يرتع أفراد العائلة الفقيرة في جنبات البيت مستغلين غياب العائلة الغنية في رحلة. إلا أننا نكتشف أن مدبرة المنزل القديمة قد قامت بإخفاء زوجها في قبو البيت لسنوات. تكتشف المدبرة، التي تسببت العائلة فقيرة في إقالتها كي تحظى الأم بوظيفتها، أنهم أسرة واحدة وتهدد بفضحهم. لا تعلم الأسرة الغنية المستقرة حديثا في البيت بوجود قبو سري، سرداب كبير تحت الأرض. القبو صممه معماري شهير كان المالك الأصلي للبيت. في مشهد شديد الدلالة، توبخ مدبرة المنزل المخضرمة أفراد العائلة “المحتالة” لأن كل ما يعرفوه عن الاستمتاع بالبيت هو الأكل والشراب في نهم. وتتذكر الأيام الخوالي حين كانت تستمع مع زوجها ﺑ “اللمسة الإبداعية” للبيت، حيث كانا يستشعران الروح الفنية لمصممه المعماري مع اختراق أشعة الشمس للبيت والاستمتاع بدفئها.
يصل الصراع في الفيلم إلى نهاية دموية وعبثية. نتمثل بشاعة الفروق الطبقية في التباين بين بيت الأسرة الفقيرة الواقع تحت الأرض وبيت الأسرة الغنية. فالأمر يتعدى فكرة الرفاهية أو الراحة، لأن بشاعة الفقر تخرب كلا من الروح والخيال.
وفي فيلم “منزل الرمال والضباب House of sand and fog” للمخرج فاديم برليمان، نرى الصراع على البيت بين زوجة مهجورة “كاثي” ورب أسرة إيرانية، “بهراني”، كولونيل سابق في منظمة السافاك، المخابرات الإيرانية في عصر الشاه. البيت هو المأوى الوحيد للزوجة، والفرصة الثانية للمهاجر الإيراني الكادح في أمريكا من أجل أسرته.
تُنتزع ملكية البيت من الزوجة نتيجة بعد التعقيدات الحكومية وسوء التواصل، وتؤول ملكيته إلى الكولونيل الإيراني بعد أن اشتراه. هنا، حلم البيت لا يمكن تشاركه. ينتهي الفيلم بفاجعة موت اسماعيل ابن بهراني، أمله الوحيد في المستقبل. لا يجرؤ على إخبار الأم. يُنهي حياتها وينتحر بدوره. وهو على حافة الموت، يرى بهراني خيالا لبحر قزوين وزهور أصفهان. تحاول كاثي إنقاذهما لكن بعد فوات الوقت. وحين تسألها الشرطة: هل هذا بيتك؟ تجيب: “لا.. ليس بيتي”. وينتهي الفيلم. إن بيتًا يشهد على مأساة مثل هذه لا يعود صالحًا للعيش.
أحيانا كثيرة لا تكون فكرة أن بيتك “لم يعد كذلك” نابعة من داخلك، بل مفروضة عليك
قهرًا وقسرًا من مصرف بنكي مثلا أو شركة العقارات، كما في فيلم “تسعة وتسعون بيتًا 99 Homes”. يُطرد دينيس ناش، أب شاب وعامل بناء، من بيته بفعل ريك كارفر، سمسار العقارات الشيطاني. يستغل كارفر النظام الرأسمالي الأمريكي ويتلاعب بسوق العقارات وبنوك وال ستريت من أجل نزع ملكية البيوت وإعادة بيعها.
مئات البيوت أصحابها مهددون بفقدها من جراء الأزمة الاقتصادية وفساد البنوك. مئات الأسر المكافحة والشريفة تواجه خطر التشرد. في المشاهد الأولى من الفيلم، يأتي كارفر بصحبة قوة من البوليس من أجل تنفيذ دينيس لأمر إخلاء البيت الذي يعيش فيه مع أمه وابنه. أمامهم دقائق قبل الجلاء من البيت. بضع دقائق كي يحزموا متاعهم وأشياءهم التي لا غنى عنها. حياة بأكملها تجبر على تركها خلفك.
تذكرتُ روايات كثير من المهاجرين السوريين عن البيوت التي تركوها في حلب وغيرها من المدن، منهم من ترك مكتبة عامرة بكتب التراث، ومن ترك مقتنيات حميمية، وغير ذلك من الخسائر التي تعذب الروح. في الفيلم، يضطر دينيس للعمل مع كارفر في إتمام نزع ملكية البيوت التي على قائمة الأخير.
يخبره دينيس أنه يستطيع شراء بيت بسهولة من نسبته أو من العمولة التي سيتحصل عليها مع إخلاء كل بيت من ساكنيه. حين يتحصل دينيس على مال وفير، يقول لكارتر إنه يرغب في استعادة بيته، فيجيبه كارتر بأن في إمكانه أن يحصل على بيت أكبر وأكثر رفاهية لو أراد، وينصحه ألا يصبح “عاطفيا” مع أي عقار سكني.
لا يعكس البيت دائما فكرة “التملك” كرغبة إنسانية مرتبطة شَرطيًا به. قد يعكس البيت رغبة أخرى مناقضة تماما، ألا وهي الرغبة في “الإيثار”. تتشكل تلك الرغبة وفق عدة أفعال. ربما تكون نوعا من حس التضامن الإنساني، تقديم المأوى لغريب كما في فيلم “في بيتنا رجل” للمخرج المصري هنري بركات (1914 – 1997) . أسرة من طبقة متوسطة تأوي في كنفها مناضلا سياسيا ضد الاستعمار الإنجليزي وأعوانه. تطارده قوات البوليس السياسي.
لا شيء أقل من منح الحماية للفدائي الذي يقدم حياته للوطن. بيت الأسرة يشكل وطنًا مؤقتًا للفدائي. وكأن الأسرة في إيواء الفدائي تُمارس حرية ليست ممنوحة للوطن الكبير. البيت الصغير يرجح كفة الوطن في الصراع ضد الاستعمار.
أما في “القربان” رائعة المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، فإن الكسندر يصلي للرب بعد توارد أنباء عن قرب اندلاع حرب عالمية ثالثة. ومن أجل إيقاف الحرب ومنع كارثة إنسانية على وشك الحدوث، يقدم ألكسندر نذرًا للرب إن قام بالحفاظ على الإنسانية من الدمار النووي. سيضحي بكل شيء، وينذر بيته للرب. لم يجد ألكسندر أغلى من بيته يقدمه قربانًا للإنسانية وربها. وهو في هذا يقارب جنون النبوة في تضحيتها من أجل الخلاص. البيت قربان يوقف صراع القوى العظمى.
هكذا، فإن البيت قد يكون مأوى، وسلعة وقربانًا ووطنًا، وساحة للصراع بمختلف معانيه.
مصابيح العزاء
في القصة البديعة “بيت الدمى” للكاتبة النيوزيلاندية كاثرين مانسفيلد، يصير بيت الدمى المُهدى إلى بنات بارنل من إحدى العمات مثارًا للتفاخر بين زميلاتهن في المدرسة. تحكي الأخت الكبرى للفتيات عن جمال البيت، إلا أن مصباحا صغيرا متقن الصنع كان أشد ما أحبته الأخت الصغرى، وتعمد إلى مقاطعة الأخت الكبيرة التي تعدد في تفاخر موجودات البيت، قائلة: “لقد نسيتي المصباح”.. “المصباح أفضلهم جميعًا”.
تتم دعوة الفتيات على مدار أيام إلى فناء البيت من أجل مشاهدة بيت الدمى. لكن الدعوة إلى رؤية البيت وسماع الحكايات عنه تتجاهل دائما ابنتي كيلفي اللتين يزدريهما الجميع لأن أمهما “غسالة”. تجدهما الأخت الصغرى تعبران بجوار الفناء فتدعوهما لمشاهدته مخالفة أوامر أسرتها بتجنبهما. تنهرهما سيدة من البيت، فتهرول الفتاتان مبتعدتين، وبعد أن جلستا تستريحان، تهمس أصغرهما مبتسمة: “لقد رأيت المصباح الصغير”.
إن جمال المصباح المخفي يتطلب قدرا من الشفافية من أجل ملاحظته. ويتحول المصباح إلى مشترك إنساني يؤلف بين صغيرتين في براءة يفتقدها الكبار.
في داخل كل بيت من بيوتنا مصباح مانسفيلد. شيء نحبه أكثر من بقية الأشياء. يذكرنا بالبراءة المفقودة. والأهم أنه يصالحنا على البيت إن ضجرنا منه، من تواضعه أو صخبه أو بؤسه. في بعض الأوقات أنظر في تقدير إلى طبق صغير أو فنجان من طقم الصيني الخاص بزوجتي. في “النيش” الذي لا أكن له أي ضغينة، أرى إبريقا فضيًا مزينًا بنقوش ورود صغيرة.
أحب مكتبتي ودمى ابنتي آسيا، وكرسي سفرة يستقبلني دومًا بترحاب. التصالح “مع” البيت ليس مقدمة للتصالح “على” البيت مع كيان أكبر، الدولة. بل ربما العكس، التصالح مع البيت ضروري للنضال من أجله في مواجهة قانون التصالح الجديد وتعديلاته في مصر.
يحدد القانون الجديد غرامات التصالح، لتتراوح من 50 إلى 2000 جنيه للمتر المسطح الواحد، وذلك حسب المستوى “العمرانى والحضارى وتوافر الخدمات في المناطق المختلفة”، وهو ما تحدده لجان محلية معنية بكل محافظة. أتساءل يا ترى “متر البيت بكام”؟ ودون إرادة مني، أتذكر كاتب العبارات الشهير في تسعينات القرن الماضي جمال الدولي وتساؤله السرمدي على جدران الإسكندرية: “متر الوطن بكام؟”.
لقد وجدت عزائي الشخصي في مواجهة إحباطي من البيت وما حوله. وهو يختلف عن تعايش سينيكا وحائط دو بوتون وكونية باشلار. يتلخص عزائي في استحضار صورة السجن.
كلما تذكرت من غاب خلف قضبان السجن، من الأصدقاء والأقارب، وجدت الهناءة تملأ بيتي ويغمرني السكون رغم الإحساس بالذنب.
تلك نصيحتي إليكم وهذا عزائي الأخير. عزاءً يمكن لنا جميعًا، نحن الذين على نفس هذا الخط من العالم، أن نتشاركه.