في يومي الأول في الكلية جلست في مدرج مهيب بين مئات من أطباء المستقبل منتفخة مثلهم بالأمل كبالونات أعياد الميلاد. وقف على المنصة رئيس اتحاد الطلبة، طالب في السنة النهائية يدعى عماد حمدي ولا يشبه الممثل في شيء.
سأل عن مؤلف مسرحية الملك لير. رفعت يدي بحماس طالبة الثانوية العامة التي لطالما ظنت أنها تعرف كل شىء، أجبت شكسبير ودعاني لأنضم إليه إلى المنصة. سلمني هديتي، ساعة حائط رخيصة، ضممتها إلى مجموعتي من ساعات الحائط التي كنت أحصل عليها من المدرسة ومن المدرسين الخصوصيين ومن محفظة القرآن في المسجد.
كان هذا السؤال هو الأول والأخير الذي أجيب عليه بثقة طوال سبعة أعوام هي عمر دراستي للطب بجامعة الإسكندرية. بعدها سألني ” أنتي منين؟” أجبت بذات الحماس النزق ومن دون تفكير” المستعمرة”، ضحك وقال ” أنا لو من مكان اسمه المستعمرة ما أقولش لحد”.
ملأت رنات ضحكته فضاء المدرج الواسع، وأفرغ أول بالونة من بالونات الأمل المزيف.
عندما أعلن عن مكان ميلادي ونشأتي، المستعمرة، تتشكل صور متعددة في أذهان من يسمعني. أولها صورة لمستعمرة الجذام الواقعة في العامرية، غرب الإسكندرية، والأكثر دراية بالمنطقة وبنظرة سريعة إلى هيئتي يبتعد عن الجذام كاحتمالية ممكنة، ويفكر بعزبة المستعمرة الأخرى، تلك المساكن التي تعرف بمساكن المستعمرة أو مساكن مبارك، والتي شاع عنها في الماضي أنها ستكون مصيف في متناول الجميع، ليكتشف المشترون لاحقا أن المسطح المائي الوحيد الذي تطل عليه هو الملاحات.
يحدها شمالًا البحر وجنوبًا حقول الأرز والذرة. لها في المساء ظلمة لا يبددها قمر، وفي النهار، تفضح الشمس خواء شارعها الوحيد الممتد من الشاطئ نحو شريط القطار الواصل بين رشيد والمعمورة.
أما مستعمرتي التي أعرفها وتتشكل في ذاكرتي وفي أحلامي فهي الواقعة بأقصى شرق الإسكندرية على الحدود بينها وبين محافظة البحيرة. يحدها شمالًا البحر وجنوبًا حقول الأرز والذرة. لها في المساء ظلمة لا يبددها قمر، وفي النهار، تفضح الشمس خواء شارعها الوحيد الممتد من الشاطئ نحو شريط القطار الواصل بين رشيد والمعمورة.
يحكى أن المستعمرة أخذت اسمها عندما رأى الأهالي وقت إنشاء الشركة في أول الثمانينات، مهندسين أوربيين -فرنسيين على الأغلب- يملاؤن المكان، بجانب تلك العمارات ذات الشكل المغاير لما ألفه أهل المنطقة، والتي أنشأت بجوار محطة توليد الكهرباء ، لذا صار اسمها هكذا.. المستعمرة.
هناك، لا تنقطع ضوضاء غلايات شركة كهرباء أبوقير، ويميز سماء المنطقة برج إنارة مطلي بالأبيض والأحمر، كعبة لساكنيها، تجتذب عيونهم أينما رحلوا.
العادية في مواجهة الغرابة
كرهت طوال طفولتي، كم أنا طفلة عادية. ظننت أن كل الآباء مثل أبي، وكل الأمهات مثل أمي وبالتبعية فأنا مثل كل الأطفال. ومع الخروج الأول من المستعمرة، تهدم ذلك الكره وحل محله دهشة، ومن قلب الدهشة نبت كره جديد، لم نكن عاديين جدًا كما أظن، في الحقيقة كانت أسرتي مختلفة حد الغرابة. شمل اختلافنا قائمة طويلة لا تتوقف عن التمدد حتى اليوم، وأنا أكتب الآن لا أعرف من أين أبدأ ولا أين انتهي.
في منزلنا جريمتان لا تغفرهما أمي أبدًا؛ أن يتحدث أحدنا بينما يحاول الآخر أن يعطس فيضيع عليه العطسة، وأن يصدم أحدنا قدم الآخر المنملة\ المخدرة والتي تسميها أمي نائمة فيوقظها عنوة.
كنت وأخوتي نقول مثل أمي، أننا “سمعنا” فيلمًا بالأمس على التلفزيون بينما يصف الجميع ذات الفعل بالمشاهدة. نطلق على قلب المانجو الصلب اسم الصابونة، بينما هي بذرة. عندما نمرض نأكل ساندويتشات الجبن التركي مع بيست التفاح كنوع من التدليل أما الفلافل والعيش البلدي فهي رفاهيات لابد أن نسافر لنحصل عليها. شراء الملابس وزيارة بيوت الخالات رحلات طويلة تتطلب الكثير من الوقت والتجهيز.
في منزلنا جريمتان لا تغفرهما أمي أبدًا؛ أن يتحدث أحدنا بينما يحاول الآخر أن يعطس فيضيع عليه العطسة، وأن يصدم أحدنا قدم الآخر المنملة\ المخدرة والتي تسميها أمي نائمة فيوقظها عنوة
رؤية البحر روتين يومي، ويوده أكسجين لا ينقطع عن شرفتنا. لكن السباحة بين موجه مصيف بعيد، حيث شاطئ مستعمرتنا صخري وموجه ملوث بعوادم الشركات والمصانع المتناثرة بطول الساحل.
نرحل بعد امتحانات نهاية العام مباشرة إلى مستعمرة آخرى تابعة لشركة توليد الكهرباء في محافظة مطروح. هناك اعتدنا على أن نسبح في شاطئ مسور تابع لمساكنها، عديم الموج، بلا عمق مما يجعله أشبه بحمام سباحة للأطفال. ستجدني وعائلتي هناك، واقفين بالقرب من حبل الآمان، كفوفنا ممتلئة برمل مطروح الأبيض، نقلد بابا وهو يفرك بها أسنانه، مؤكدا أنها الطريقة المثلى للتخلص من الجير واكسابها اللون الأبيض المميز.
حتى هذه اللحظة لا أعرف إن كانت قناعته هذه عن معلومة طبية أم هي مجرد جدعنة منه، وفي أحسن تقدير كانت مسمار جحا الذي دقه في ضميره ليعيدنا سنويا إلى رمل مطروح الأبيض.
لغة خاصة
في ظلمة المستعمرة، عندما تخرج وحدة من وحدات توليد الكهرباء عن العمل، يعم صمت مميت، ويبدو كل صوت حينها كصيحة من صيحات يوم القيامة.
أعرف وأخوتي أنه حينها لا يكون عواء الكلاب بالخارج مجرد لغة ليتواصلوا فيما بينهم، بل أشبه بسارينة إنذار تعلن عن أن الموظف الأزلي لديه وردية ليل في المساكن والقرى من حولها. عزرائيل حل بيننا، وفي الصباح لابد وأن يعلن المسجد عن اسم المتوفى وبلده ومحل دفنه.
يومًا سألت أمي.. لماذا عواء الكلاب ليلا يختلف عن عوائها صباحا؟ قالت بنبرة واثقة أن الأمر ليس متعلقًا بالتوقيت، لكن الصوت يختلف باختلاف ما ترى، وعندما ترى عزرائيل يخرج صوتها ملتاعًا. كانت نبرتها الواثقة في الإجابة تزعزع كل ثقة في نفسي. إن كان الأمر بديهيا وشائعًا هكذا فكيف لا أدركه بمفردي؟ في الطفولة نتعلم أن مزاج الأم هو مزاج العالم، إن رضيت سنشاهد مسلسل القناة الأولى ونحن نأكل الفشار وإن غضبت ستتركنا فرائس للملل، وغالبًا ما تركتنا.
مزاجها يشكل العالم
ظل مزاج أمي هو المزاج المسيطر على منزلنا حتى انتقل عمو علي للعيش معنا. أخذ حجرتي، ونصب لي أبي سريرًا في حجرة المكتبة. أقنع أبي أمي أنه لا يفترض بشاب في عمر عمي أن يعيش بمفرده في منزل خاو بمنطقة مهجورة في بلدتهم الأم إدكو. كانت دوافع أبي متعلقة بالطعام والشراب الذي لا يجيد عمي تدبيرهم بمفرده، ودوافع أمي أن تلك المنطقة ممتلئة بنداهات أذهبت عقول الكثير ممن يهيمون في شوارع إدكو، معلنين عن أوهامهم وضلالاتهم على الملأ بينما العقلاء يدربون أنفسهم على كتمها عميقًا في السر.
خيب عمي ظن أمي على كافة المستويات. كان ينتظر حلول الظلام، ويخرج في تمشيات طويلة على ممشى الكورنيش المظلم. تضرب أمي كفًا بكف متعجبة من الشاب الذي يفتش عن نداهات الظلام أينما حل.
كان لكورنيش المستعمرة بوابة حديد، تقف بمفردها في خلاء الكورنيش بلا سور، يغلقها مع غروب الشمس عسكري أمن. يهمس بعض السكان الذين يؤكدون دوما أنهم يعرفون حقيقة الأشياء أنه تابع لحرس الحدود حيث كل بوابة للبحر هي بالضرورة بوابة لتبادل المخدرات، أما الأغلبية فيعرفونه كواحد من العساكر التابعين لحراسة الشركة، فكل منشأة هامة ترافقها وحدة من وحدات الأمن المركزي.
صادق عمي حراس البوابة، وبلطفه وسجائره، ملك الكورنيش ليلًا. كان يشعر بالذنب لمشاركته أسرتنا المنزل، أمي ليست أخته، لكنها تغسل ملابسه وتنظف حجرته وتطهو طعامه، وفي المقابل يبقى حبيس الحجرة، يشتري لي ولأخوتي أكياس الشيبسي وبسكويت الشمعدان، وبمناسبة وبدون مناسبة يهادينا بالألعاب الغالية.
بسببه كنا أول من ملك أتاري في المستعمرة، اشتراه لنا بمسدس أسود ثقيل نوجهه نحو شاشة التليفزيون كي نصطاد البط.
تراقب أمي تبخر الملل فور رؤيتنا لعمو علي فتغفر رائحة السجائر العميقة في حجرته، وتتجاهل مؤقتًا قلقها من آثار سجائره على حياتنا. في كوابيسها ينام عمو علي وبيده سيجارة مشتعلة تعلق نيرانها بالستائر فنحترق جميعًا، أو يلقي بعقب مشتعلًا من النافذة فيشعل النيران في الأسلاك المتصلة بمحول الكهرباء المقابل لعمارتنا.
بعد زواجي وقبل أن يقلع زوجي عن التدخين، كان يأخذ وقتًا ليتأكد من إنطفاء سيجارته، يظل يدهسها حتى تتلون أنامله برمادها الأسود، لربما لو تلونت أنامل عمو علي مرة أمام أعين أمي لشفيت من اضطراب القلق ولكفت الكوابيس عن ملاحقتها، لكنه كان حبيس الحجرة، بابه المغلق لا يمرر سوى الرائحة والمزاج المرح الذي يحاول التغلب به على الشعور بالذنب.
أعياد صامتة
الدرس الأول الذي تعلمته عن الصلاة في المستعمرة هو أن أولي ظهري إلى البحر وأقول الله أكبر. الدرس الثاني أن الفراغ الذي يطالع عيني فوق سجادة الصلاة مقدس، بفضله ستنفجر أمامي أنهارًا من العسل واللبن، وسيبني الله لي قصورًا في الجنة.
وكلما حدقت في السجادة أمامي استنطقها لأشعر بالقدسية الحتمية التي تحكي عنها أمي، كلما صار الفراغ مرادف للمقدس. لا مرئي ولا مسموع لكن أيضًا لا محسوس؟
يحل العيد الصغير والكبير على الأرض كلها ما عدا المستعمرة. هل سرت يومًا في شوارع مدينة ظهر اليوم الأول من العيد؟ إذا فعلت ستدرك كيف تبتلع البيوت أهلها في تلك الساعة تحديدًا من اليوم. بعد ما تنتهي صلاة العيد، ويأكل الناس ما تيسر لهم من طعامه، تصيبهم التخمة وتخلو الطرقات، هدوء يسبق عاصفة الزيارات الليلية.
في المستعمرة هو الهدوء على طول الخط بلا عواصف حيث صلاة العيد في المستعمرة تصبح مثل صلوات اليهود في مصر، لا تستوفي أبدا العدد الكاف. يرحل ساكنيها إلى بلدانهم الأم، تاركين المساكن لأسرتي التي لا تحب الطقوس ولا الشوارع الممتلئة بالطين.
أصر أن اختار للعيد أربطة شعر ملونة جديدة، أضعها جميعها بين تموجات شعري الثقيل، فأبدو كعلبة ألوان مبعثرة. تتشابك الأربطة بخصلات شعري الخشنة، نافرة مثل أشعة شمس يرسمها طفل في الرابعة. وأتحول بفعلها من باحثة عن بهجة العيد‘ إلى بهجة العيد ذاتها
كل عيد في طفولتنا جاء في يوم ممطر، تسكب السماء عيديتها فوق شوارع إدكو المتربة فتحيلها طينًا عصيًا على السير، يحتمي أبواي بشارع المستعمرة المرصوف، وأمام دموعي وأخوتي يستجيبوا أحيانا وننزل البلد. تفتش عيوننا في شوارعها عن متعة العيد التي يصفها أبناء الخالات وبناتهن، الموسيقى التصويرية المرافقة للبحث هي لعنات أبي على الشوارع المطينة واللي يمشي ورا كلام العيال.
أطفال المستعمرة عيدهم مختلف لا مرئي ولا مسموع وكان تمردي الأول على مزاج أبواي أن أجعله على الأقل محسوسًا.
“راحة الجسم تبدأ من القدمين” كان هذا شعار باتا، ماركة الأحذية الوحيدة التي تعرف لها أمي اسمًا، وتصر أن تشتري لي منه، لم يبع يومًا حذاءً ملائما لطموحي، فجعلت موطن الراحة في شعري.
أصر أن اختار للعيد أربطة شعر ملونة جديدة، أضعها جميعها بين تموجات شعري الثقيل، فأبدو كعلبة ألوان مبعثرة. تتشابك الأربطة بخصلات شعري الخشنة، نافرة مثل أشعة شمس يرسمها طفل في الرابعة. وأتحول بفعلها من باحثة عن بهجة العيد‘ إلى بهجة العيد ذاتها، يضعني الكبار على المسرح وأتحول بفعل طبيعة شعري إلى موضوع للنكات، ومصدات تقف بين الكبار وبين المواضيع الشائكة.
بدلا من أن تنتقد الخالات أمي على عزلتها في المستعمرة، وعلى استسلامها لأوامر أبي دون نقاش، ينتقدوا شعري، وبدلا من أن تلوم العمات أبي على تهاونه مع عمو علي يتندرون على شعري. وصفته الخالات وبناتهن قديما بالأكرت، ويصفه أهل الفيسبوك وبائعي منتجات العناية حاليا بالكيرلي، وأنا لم أكن أهتم هو فقط شعري.
الشعر الأكرت يواجه الحمار
تنبأت جدتي بعنوستي منذ كنت في الصف الخامس الإبتدائي. أجلس بين الخالات ويتحولن إلى لجنة تحكيم لتتويج ملكة جمال العائلة، والبلد وبالتبعية العالم، فإدكو في عيونهم هي مبتدأ العالم ومنتهاه. ترمقني جدتي بنظرة متفحصة من رأسي حتى قدماي، تحفز أمي على سكب عبوات زيت الطبيخ فوق شعري النافر، وتعنفها على سماحها لي بارتداء البنطلون الجينز، أنظر إلى أزرقه المحبوك فوق ساقي وأتأكد أنني لن أخلعه أبدا.
كانت سكنى المستعمرة في نظرها هي منبت كل الشرور، فهي التي جرأت أمي لتشتري لي البنطلونات لأقلد بنات الإسكندرية اللاتي أعيش بينهن. كانت ترى المستعمرة غربة نفيت إليها ابنتها مع أمل في عودة حتمية، حلم بأن يستجيب أبي \ زوج ابنتها لإلحاحها المستمر بشراء قطعة أرض بحري البلد والبدء بالحياة الحقيقية. أن تعود أسرتنا للوطن وتربي أمي الدجاجات، وأن تعرفني نساء إدكو، وإلا كيف سأتزوج يوما بصمتي المريب هذا وشعري الأكرت الذي لا يشبه شعور بنات العائلة.
في المقابل أحبت أمي هواء البحر الذي يملأ شرفاتها والخصوصية التي منحها لها البعد، لكنني اصبحت نقطة ضعفها إذ حقا كيف ستجد لي عريسا وأنا منفية هكذا؟ امتصت أمي قلق أمها وربته في منزلنا بدلًا من الدجاجات وأصبح الهاجس يطارد كافة تفاصيل حياتنا.
إذا ارتفع صوت أبي قليلا أثناء الحديث تصمت أمي بأسى وتقول.. أنت أبو بنات هيتجوزوا ازاى وأنت صوتك عالي كده؟، إذا نزل ليصلى الفجر بالروب الصوف فوق البيجامة: هيتجوزوا ازاي وانت بتلبس كده؟
صار زواج البنات من عدمه مقياسا يقيم التصرفات والمنازل. وكوسيلة دفاع تلقائية أصبحت تنبش في الزيارات القليلة التي نقوم بها لبيوت الخالات، عن مهددات تنبأ بعنوسة بناتهن. كان البحث صعبا للغاية، لأنهن بخلافي كن صاحبات بشرة ناصعة البياض، وشعر مفرود بالفطرة، ونمط ملابس منسجم مع جو إدكو المحافظ، لكنها كانت ترمي بالحجر بعيدًا وتراقب موجات القلق التي قد تتسبب فيها.
صار زواج البنات من عدمه مقياسا يقيم التصرفات والمنازل. وكوسيلة دفاع تلقائية أصبحت أمي تنبش في الزيارات القليلة التي نقوم بها لبيوت الخالات، عن مهددات تنبأ بعنوسة بناتهن..
في واحدة من زيارتنا لبيت خالتي وفاء في إدكو، وهي الخالة الأطيب التي لم تتندر يومًا على شعري والتي لطالما شبهتني بالممثلة إيمان لأن بشرتي أغمق قليلا من بشرة بناتها الناصعة، وقفت أمي أمام الحمار المربوط في باب منزلها، كأنها تراه للمرة الأولى. تأملته مطولًا وهو واقف في هدوء يلوك البرسيم.
دخلت البيت. لنصل إلى شقة خالتي في الدور الثالث علينا أن نمر بشقة أخو زوجها صاحب الحمار، وزوجته الأردنية التي تخفي جاهدة لكنتها لتنصهر في عالم إدكو المتنمر، وبعدها شقة حماتها التي تجلس فوق شلتتها وتدير كل تفاصيل المنزل بإشارة من يدها، وأخيرا شقة خالتي، كان لقاء كل فرد من أفراد تلك العائلة الكبيرة حتمي حيث كل الشقق بدون أبواب.
جلست أمي في صالون خالتي، تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم مع كل صوت يخرج من الحمار، وبدون مقدمات أنقلب السحر على الساحر، تقمصت أمي شخصية جدتي وبدأت تنهر خالتي على تسامحها مع وجود حمار أخو زوجها مربوطًا هكذا أمام الرايح واللي جي، خاصة وأن بناتها كبرن، ولا يصح أن يعرفن في البلد بأنهن ساكنات البيت اللي على بابه حمار.
تراجع تهديد الشعر الأكرت عميقًا وقارب أن يصبح منسيًا في مواجهة الحمار الذي يقف حرفيًا بين البنات والعرسان الملائمين، في النهاية كل البنات يلبسن الحجاب حتمًا ويلفون شعورهن لفة هدايا، كمفاجأة أولية من مفاجئات الزواج التي لا تنتهي، لكن كيف تتصرف خالتي في الحمار؟ تحجبه؟
عندما يظهر كل ما يغيب عن المستعمرة
بعد تلك المحادثة الشاقة ندرت الزيارات النادرة أصلًا إلى إدكو. وتعلمت في فترة القطيعة غير المقصودة أن أقف طويلًا في الشرفة، وقبل أن تغرب الشمس، ألقي بنظرات متفحصة على البحر، أملأ عيني من أزرقه الواسع، أكرر لنفسي أنه هنا وعلى الشاطئ الآخر بعيدا بشر وبلاد وربما قرينة لي تقف مثلي في ملل منتظرة هي الآخرى خروج كبير من مستعمرتها. وإذا حلت الظلمة التامة يتبخر مشهد الغروب من الذاكرة ولا أجد سوى الفراغ الأسود، ويئن موج واهن في اللحظات القليلة التي يخفت فيها صوت غلايات المحطة العملاقة.
في ليالي الخميس التي يسهر فيها أبي إلى جوار أغنية لأم كلثوم موليًا ظهره للبحر كمن يصلي، يدب في قلبي شعورًا أبديًا بالملل. أنظر إلى ظلمة البحر الممتدة وإلى الشارع الساكت، إلى غياب أصوات الباعة الجائلين، إلى غياب عبور الغرباء، إلى غياب أصوات السيارات المارقة، أنظر إلى الفراغ المحدق خارج المنزل، حيث لا مكان نذهب إليه، لا بشر نزورهم، لا مشاوير نقوم بها ولا شوارع نقتل فيها الوقت. فقط اندماج أبي مع صوت الست الذي يشبه الرجل.
كان الغياب يتأكد في كل مرة نضطر فيها إلى النزول للإسكندرية حيث الذهاب إلى هناك اضطرارا. فور أن يعبر الأتوبيس منطقة الإصلاح وهي أخر الحقول على هذا الخط، يظهر كل ما يغيب عن المستعمرة والذي قد يجعل العيش بها محتملًا.
تظهر الشوارع ويظهر لها أسماء، فهذا شارع البحر وذلك شارع جمال عبد الناصر وامتداده الأكبر يسمى شارع أبوقير، للأنوار ألف عمود وعمود، للخضار مئة بائع، هنا يمكننا أن نحصل على الخبز الساخن ونفاضل بين أنواع الجبن التركي، هنا أجيد لعبة التخفي حيث لا يبدو أن أحد يلحظ تجعد شعري ولا ضآلة قامتي، الإسكندرية أفضل مكان لأنسى أنني من فئة بنات الصف الثاني ولأنني سنيدة البطلة الجميلة، هنا كل البنات صف ثان أمام بحر السيارات والعمارات العالية. هنا البحر مفتوح بلا بوابة ولا حارس.
يتوقف أتوبيس الشركة في محطة مصر، ويتوجه أبي من فوره إلى شارع النبي دانيال، ينتقي فرشة تبيع الكتب بعشرة قروش ويجمع من الكتب قدر ما يمكننا أن نحمله. أقف إلى جواره وهو يعبأ الكتب ونرصها، وأتنبأ بثقل الكيس الذي سيكون عليه حمله بطول الشارع الطويل.
هنا يمكننا أن نحصل على الخبز الساخن ونفاضل بين أنواع الجبن التركي، هنا أجيد لعبة التخفي حيث لا يبدو أن أحد يلحظ تجعد شعري ولا ضآلة قامتي، الإسكندرية أفضل مكان لأنسى أنني من فئة بنات الصف الثاني ولأنني سنيدة البطلة الجميلة، هنا كل البنات صف ثان أمام بحر السيارات والعمارات العالية. هنا البحر مفتوح بلا بوابة ولا حارس..
أرفع عيني متلصصة على شرفات العمارات القديمة في ذلك الشارع، تتكاثر الأكياس إلى جواري، وأشعر أن ساكني شارع النبي دانيال هم الأوفر حظا. أتخيل صباحات مشمسة أطل فيها من تلك الشرفات، أختار كتابا بمجرد النظر من الأعلى وأنزل لأشتريه في سهولة.
كانت السهولة مرادف للإسكندرية، لكن ذلك لا يعني أنني لم أشعر بالتهديد في شوارعها، في النهاية أنا ابنة الشارع الواحد، بينما هنا كل تلك الشوارع الممتلئة بالسيارات، وكل تلك الوجوه المسرعة الجادة، ويد أبي في الزحام هي الشئ الوحيد الذي ألفه.
تتصاعد قسوة المدينة في شوارعها الأكثر اتساعًا، حيث يقف أبواي في مواجهة السيارات المسرعة، برغبة صادقة في عبور الطريق، وحينها تتجلى كل غربتهم عن المدينة.
يطبقون على يداي وأخواتي، وعلى أحمالهم التي دومًا ثقيلة. يصيحون بإشارات لنستعيد، منبهين أن علينا أن نجري أو نقف دائمًا الأمر وعكسه، يتخذون قرارا بالعبور ويتخلون عنه ألف مرة في الثانية، ينبهون علينا ألا نخلع أحذيتنا أثناء العبور وإلا سنقضي بقية الرحلة حفاة، وعلينا نحن الصغار أن نتحمل دفقة الإدرينالين العاصفة وأن نتعلم كيف نمسك بأقدامنا.
كانت الإسكندرية مدينة الحلم والتهديد، أحب التخفي في شوارعها وأحلم أن امتلكها يومًا، لم يفلح البنطلون الجينز في إشعاري بالانتماء للإسكندرية مع أنه كان السبب في نفيي عن نمط إدكو المتحفظ. صرت هجين يفضحني خوفي من عبور الطريق وفشلي في حفظ أسماء الشوارع المتشعبة.
أينما حللت أبحث عن شرفة تطل على البحر، ولا ينقطع أملي في النظر المستمر إليه حتى يغلق حارس البوابة البحر، وفي الإسكندرية لا يفعل أبدًا.