fbpx
تصوير: محمد العالم

منازل طرابلس..شرفات ميّتة

يصر الجميع على بناء شرفات في منازلهم، تتحول مع الوقت بسبب عدم الاستخدام إلى فضاء فارغ.
ــــــــ البيت
15 يناير 2021

حين كنتُ أعمل على شقتي الواقعة في تاجوراء، الضاحية الشرقية لطرابلس، أخبرني أخي بأنّ علي التخلص من شرفتي، أن أبني جداراً واسعاً وأسقط جدار الغرفة الملاصقة لها، ومن ثم أحصل على غرفة أوسع، لم أنصت لكلامه، كنتُ أرى أنّ الشرفة ستكون متنفسي الذي أمضي فيه مسائي بالتدخين، وشرب الشاي وقراءة الكتب. 

تلك العلاقة العاطفية لي مع الشرفة ستتغير بعد سكني ببيتي الجديد، ورغم محاولات إحيائها مع زوجتي، بتربية النباتات المزهرة فيها، إلى التفكير في طريقة للاستفادة منها بتأثيثها وتصميمها تصميماً يتماشى مع نمط حياتنا، إلا أنّها تحولت مع الوقت لفضاء فارغ، مهمته الوحيدة هي نشر الملابس، والاعتناء بالنباتات القليلة عندنا، وأصبحت تتوسخ لأسابيع قبل أن ننظفها من جديد.

شرفتي رغم قلة الاهتمام بها، تعد محظوظة إذا ما قورن وضعها بالعديد من الشرفات في البيوت الليبية.

البيت الليبي المعاصر يمر بأزمات عديدة، وهو في العادة بيت متوحش طارد للغريب، بينما داخله مصمم من أجل الآخرين لا من أجل قاطنيه، أسواره عالية، نوافذه صغيرة لا تفتح على الآخر وفي النادر أن تفتح على الجمال، النوافذ مدعمة بأعمدة حديدية تمنع السارقين، وللنوافذ ثلاث طبقات، خشبية تمنع ضوء الشمس، زجاجية تمنع الهواء، وقماشية تمنع الغريب، للبيوت في ليبيا أفنية واسعة تحيط بها ولا يُستفاد منها في العادة، ولكن حال الشُرفات دون غيرها من هذه العناصر له جذور اجتماعية وتاريخية. 

منازل طرابلس..شرفات ميّتة

طرابلس. تصوير: محمد العالم

الأسطح للنساء، الأزقة للرجال 

إذا أردت أن ترسم صورة للبيت الليبي عبر التاريخ، ستكون مهمتك صعبة، إذ أنّه لا اتفاق بين الليبيين حول أشكال بيوتهم. على مر الزمن، خضعت التصاميم في مناطق البلاد لعامليْ الجيوغرافيا والبيئة المتصليْن بالإضافة لعوامل أخرى اجتماعية وسياسية ودينية.

البيوت التقليدية في مدينة غدامس مثلاً تختلف عن أخواتها في مدن جبل نفوسة، بقدر اختلافها عن بيوت مدينة طرابلس القديمة، وتختلف الأخيرة عن الريف المجاور لها، لكن أغلبها يجتمع في ضرورة حماية أهل البيت من الأعين المراقبة. 

“المدينة القديمة بغدامس تم تصميمها بطريقة دقيقة تراعي الخصوصية البيئية والاجتماعية في المدينة، حيث لا وجود لنوافذ تفتح على الخارج، بيوت المدينة بيضاء بأسطح متلاصقة”، يرسم لي المهندس مفوق حواص، معماري ليبي؛ صورة رومانسية عن مدينة غدامس التاريخية في قلب الصحراء الليبية، المدينة تم تصميمها بطريقة ذكية تراعي الظروف المناخية والاجتماعية في ذلك الوقت.

“كانت أسطح البيوت للنساء، يمنع على الرجال الصعود إليها، تتحرك النساء بين الأسطح، ويندر نزولهن للشارع إلا لتعبئة المياه، أما الرجال فيحتلون الأزقة، والأزقة نفسها هي المضافة والمستراح اليومي لهم”، يقول حواص، واصفاً كيف هيأ البيت الغدامسي الخصوصية لأهله، يتمتعون بالتهوية من فتحات في سقف البيت تسمح بمرور الهواء والإنارة الطبيعية، أزقة المدينة المليئة بمجالس الرجال (الركابة) بها فتحات قليلة تسمح بمرور الشمس والهواء لداخلها. “كانت لغدامس هُوية”. 

منازل طرابلس..شرفات ميّتة

غدامس. المصدر: Carsten ten Brink. تحت رخصة المشاع الإبداعي

أما البيت الطرابلسي التقليدي على عتبات البحر الأبيض المتوسط، فهو أبيض وبسيط من الخارج ومليء بالحياة من الداخل، فناء واسع تطل عليه شرفات واسعة حيث تعيش العائلة، ومع اختلاف ديانة قاطني البيت تختلف الألوان وأحجام النوافذ المطلة على الخارج بالإضافة لطريق الوصول لذلك الفناء، البيت الإسلامي على التحديد كان أكثرها رمزية لمدى اهتمام أهله بأن لا تراهم الأعين المراقبة. 

دخول الإيطاليين إلى ليبيا يعد فاصلاً في تغير شكل البيت فيها، حيث أدخل الإيطاليون نوعاً جديداً من البيوت”، يقول حواص. عندما دخل الإيطاليون في بداية القرن الماضي، بدأوا في إدخال نمط معماري جديد على أهل البلاد، نما هذا النمط في ثلاثينيات القرن، وبُنيت مدينة طرابلس الكلاسيكية بنوافذ واسعة تطل على الشارع، شرفات جميلة بعضها على النمط الفرنسي (French Balcony) وبعضها على النمط الإيطالي، وكانت البيوت الإيطالية الجديدة تنفتح على الخارج بدلاً من الداخل.

حتى الحاكم نفسه لم يكن يستخدم الشرفات للظهور لجماهيره قبل عصر الدوتشي موسوليني، استُحدثت شرفة جديدة في خارج قصر السراي الحمراء، وهي الشرفة الوحيدة التي تطل على الخارج حتى وقتنا هذا، كان يقف فيها الدوتشي لخطاب الجماهير من حوله، “حتى الملك لم يكن يظهر في الشرف الخارجية إلا في خطاب الاستقلال بقصر المنار في بنغازي، كانت تلك المرة الوحيدة التي استُخدمت فيها تلك الشرفة”، يخبرني حواص.

بيوت ليست لأهل البلاد

لم يمضِ سوى زمن قليل حتى بدأ الليبيون يهجرون منازلهم التقليدية ويدخلون البيوت والشقق التي بناها الإيطاليون، وبعد ذلك بيوت البريطانيين والأمريكيين في أحياء طرابلس الجديدة كحي الأندلس غربي المدينة، لكنهم خرجوا مصطحبين معهم عاداتهم وتقاليدهم، فترك الليبيون المسلمون بيوتهم التي تشكلت فيها تعريفاتهم للخصوصية إلى بيوت لها تعريف آخر عن الخصوصية، لكنهم لم يتبنوا هذا التعريف الجديد عليهم.

“اشترى جدي بيته بحي الأندلس من الإنجليز في نهاية الستينيات، كان للبيت حائط قصير يطل على الشارع وحديقة خلفية لا تراها الأعين، كان الرجال يجلسون في الفناء الأمامي حيث يراهم الجميع، بينما كانت النساء تقضين أيامهن في الفناء الخلفي حيث لا يراهن أحد”، يقول لي الصديق المنتصر (29 عاماً)، أحد قاطني تاجوراء. 

عائلة المنتصر ليست وحدها في مواجهة هذا العالم الجديد الذي طل على الليبيين، المهندس حواص نفسه يحدثني عن بيت والده في منطقة السياحية غربي طرابلس، حيث بنى والده البيت على النمط الإنجليزي بأسوار صغيرة بها فتحات تمكن من رؤية داخل البيت في 1968، إلا أنه ومنذ العام 1970 بدأ والده يغير من شكل البيت، “أبي غطى الفتحات بالسور في البداية، بعد ذلك في كل عام بدأ يزيد ارتفاع السور مسافة طوبة واحدة حتى صار طوله ضعف الطول الأصلي في سنوات قليلة”، يقول حواص. 

البنايات السكنية الإيطالية في وسط المدن الكبرى كطرابلس وبنغازي، ومن بعدها المساكن الإنجليزية في بلدية حي الأندلس، لم تبنَ للسكان المحليين، وبالأخص لم تبنَ لنسائهم ولنمط حياتهن المحافظ، ولم تأخذ في الحسبان بأنّ هؤلاء المحليون سيكونون يوماً القاطنين الوحيدين لهذه البيوت الغريبة على ثقافتهم. 

الثقافة الليبية منغلقة على الخارج، منفتحة على الداخل، البيت الليبي التقليدي يعد رمزاً لهذه الثقافة، إذ مهما اختلفت أشكاله، فإنّه يعد بسيطاً جداً من الخارج، يلعب لعبة الإيحاء مع الفضوليين والغرباء، إلا أنّه مثير ومليء بالحياة من الداخل، تفاصيله الداخلية باذخة.

إنّ البيت الليبي التقليدي “كالفراشية للمرأة (رداء أبيض تغطي به المرأة نفسها حين تخرج ولا يظهر منه سوى عين واحدة من وجهها)، المرأة الليبية لا يمكنك أن ترى منها سوى ردائها الأبيض، إلا أنّه في داخل هذا الرداء عالم آخر مليء بالزخرفات والحُلي والتفاصيل”، تخبرني المعمارية الشابة، نجوى الفِرجاني (26 عاماً)، إحدى مؤسسات مكتب Roots Design للعمارة، والتي تدعم دعوات الانفتاح نحو الداخل في العمارة، مع إمكانية تطوير شكل البيت ذاته، على عكسِ الشكل الحالي للبيت الليبي. 

منازل طرابلس..شرفات ميّتة

ركن داخل بيت ليبي. تصوير: فيروز العوكلي

شرفات “تلم الغبرة وخلاص” 

البيت الليبي المعاصر في نظر الفرجاني وغيرها من المعماريين المنادين بالعودة للهُوية الليبية، لا يملك هُوية خاصة به، كما أنّه غير مناسب للإنسان الليبي، إنّه مبهرج من الخارج، به عناصر لا فائدة منها، كالشُرفة التي “لا فائدة منها سوى أنّها تجمع الغُبار” على حدِ قول الفرجاني، قناعة أوصلها لها مدير سابق عندما رآها تعمل على تصميم شرفة، “أول ما بدأت العمل في المكتب كنتُ أعمل على تصميم Terrace، قال لي ماذا تفعلين؟ احذفي الشرفة، لا حاجة لها، ستجمع الغُبار فقط لا غير”، تقول الفِرجاني. 

وأنا أمر بشوارع طرابلس ألاحظ أنماطاً معينة تتكرر لشُرفات المدينة، في المباني القديمة وسط البلاد شُرفات تهالكت بأبواب واسعة إلا أنها مغلقة منذ زمنٍ طويل حسب ما يشي به الغبار المتجمع عليها، نوافذ موصدة، شُرفات في بنايات السبعينيات والثمانينيات أغلقت بالطوب.

في زاوية الدهماني، وهي واحدة من أكبر تجمعات العمارات السكنية في المدينة، بيوت تحولت شرفاتها إلى مخازن للبيوت، أو إضافات لغرف، أو مجرد مناشر للملابس، وفي تاجوراء حيث أقطن بيوت بلا شرفات، أو شرفات مهجورة منذ عهد بعيد.

منازل طرابلس..شرفات ميّتة

طرابلس. تصوير: محمد العالم

“لا أذكر أنّ لي علاقة مع شرفة غرفتي، منذ سكنا ببيتنا في 1999 لم أجلس في شرفتي أبداً، وآخر مرة خرجت لها كانت منذ خمس سنوات، لأصلح المكيّف”، يحكي لي المنتصر عن علاقته مع شرفته الواسعة والكبيرة التي تطل على بيت الجيران، لم ينشئ المنتصر كغيره من الشباب الليبيين علاقة حقيقية مع شرفته، لا ذكريات له فيها، والذكرى الوحيدة التي تعود له مع إحدى شرفات منزلهم الواسعة كانت في 2005 حيثُ يذكر أنه كان يجلس مع والده، لكن والدته لم تخرج للشرفة أبداً. 

وظيفة الشرفة في العمارة بالأساس وظيفة جمالية لتزيين واجهات البناء، لكل بلاد هُوية شرفات خاصة بها، إلا أنّ وظائفها الأخرى تتشابه في أغلب بلاد العالم، كأن تكون متنفساً لقاطني البيت خصوصاً للقاطنين في العمارات السكنية، لكن لا يمكن ربط مشهد ما يجمع الليبي بالشرفة.

“في مصر، يمكنك أن تجد المرأة المصرية تستخدم الشرفة للحديث مع جاراتها، في مالطا يمكنك تخيل وجود رجل عجوز يقضي مساءه فيها، في إيطاليا عندما تفكر في الشرفة يمكنك أن ترى أحدهم يشرب القهوة فيها، لكن في ليبيا… لا شيء من ذلك القبيل”، يقول لي حواص، الذي بدوره يسمي الشرفة برج المراقبة، “ماذا ستفعل بالشرفة؟ يمكنني أن أصمم لك شرفة صغيرة بها خصوصية يمكنك فيها مراقبة ما حولك أو النداء على أحدهم منها”، هذا ما كان يقوله حواص لعملائه الذين يعرف بأنهم لن يشكلوا علاقة مع شرفاتهم. 

الشرفات للمراقبة و “التبصبيص”

المراقبة، التلصص أو “التبصبيص” كما يقال عنها في اللهجة الليبية، هي نقيض الخصوصية، وهي عادة اجتماعية لا يُعرف بالضبط متى تشكلت وتطورت حتى أصبحت غالبية المجتمع الليبي تستخدمها، عندما تمر في الطريق وحتى في حيك الذي تعيش به، ستلاحظ أنّك مراقب من أعينِ الرجال المقتعدين الطرقات، وكلما كنت غريباً عن البيئة التي تدخلها كل ما زادت حدة المراقبة وعدد الأعين المتتبعة لك، ملجؤك الوحيد من المراقبة هي داخل جدران بيتك. 

النظام الليبي الشمولي متمثلاً في أطروحة العقيد معمر القذافي عن انتهاء الملكية الخاصة، كان له الأثر الاجتماعي الكبير على الليبيين وعلاقتهم ببيوتهم، خصوصاً عند صدور القانون رقم (4) لسنة 1978م الذي جاء تقريراً لبشارة الكتاب الأخضر المتمثلة في “البيت لساكنه”، صار الليبيون يزحفون على أملاك غيرهم من المواطنين، بات مستأجر الأمس صاحب البيت، وبدأ أصحاب البيوت يحمون أنفسهم بطرق مختلفة، يُسكنون أقاربهم في بيوتهم الإضافية، في بعضِ الأحيان كان هؤلاء الأقارب أنفسهم هم من يستحوذون على المنازل. 

“قالت لي أمي بأنّ أغلب بيوت الليبيين قبل الثمانينيات كانت نوافذها بدون أعمدة حديدية تحميها”، يخبرني المنتصر. في ثمانينيات القرن العشرين ازدادت معدلات السرقة داخل الدولة الأمنية، لم يكن ارتفاع بيتك يمنع السراق عن الوصول إلى نوافذه، فتحصن الليبيون بطبقة معدنية جديدة لمنعهم، كذلك أضيف لأبواب الشرفات باب حديدي يحميها، تحول البيت الليبي إلى بيت “الإنسان المقهور” كما يصف حواص البيوت من هذا النوع.

المنزل صار حصناً يبعد الأعين المراقبة ليس لغرض اجتماعي فقط، بل لأغراض اقتصادية وأمنية أيضاً، “زادت موجة تعلية أسوار البيوت في تلك الفترة، صار صاحب السيارتيْن يخاف أن يسرق أحدهم سيارته بحجة أن “المركوب لسائقه”، كما يخاف أن يرى أحدهم بأن لا حياة في المنزل فيدخله معلناً إياه له”، على حدِّ قولِ حواص، وبهذا تحولت المراقبة لنشاط يستخدمه المتحصن داخل بيته والغريب الذي يحاول البحث في محتويات البيت، صاحب البيت يستخدم شرفته لمراقبة المتلصصين واللصوص المحتملين. ولكن أحياناً يكون برج المراقبة هذا، هدفاً للمراقبة من المتلصصين، خصوصاً عندما تكون فيه أنثى. 

“أنا ما عمريش استخدمت شرفتي، أولاً لأنها مش شرفة، مجرد فضاء صغير جداً، ثانياً ليست لدي إطلالة مميزة يمكنني أن أراها منها، ثالثاً لن أشعر بالخصوصية فيها، شرفتي تطل على ملعب يمكن للشباب أن يراقبوني من داخله”، تحدثني الفِرجاني عن شرفتها، بينما توضح لي تصميماً قامت به منذ أشهر لما يمكن تصوره بأنه شرفة ليبية تقليدية تظهر فيه أشبه بمخزن يحوي عبوة غاز ومواد للتنظيف، تقول لي الفرجاني بأن هذه الصورة النمطية هي تعدٍّ على الاستخدام الصحيح للشرفة. 

“الصحيح هو أنّ الشرفة مكان نعزل فيه نفسي عن صخبِ الحياة، عن الجدران الأربعة التي أعيش بينها في بيتي، لم أرَ أبداً أحداً يجلس في الشرفة، لم يعد هناك من يدعوك للجلوس في الشرفة”، تُضيف الفرجاني، بينما تقول بأنّ تحويل الشرفة إلى غرف أو إغلاقها خصوصاً في العمارات السكنية، كعمارات زاوية الدهماني، يعد تجاوزاً للقانون يمكن أن يعاقب عليه المستخدم، إلا أنّ الدولة غير مهتمة بهذا التجاوز وغيره من التجاوزات. 

في ليبيا ومنذ عام 1970 لم يتم تحديث القوانين والمعايير الخاصة بالتخطيط المعماري، ورغم محاولة بعض المعماريين تحديث هذه المعايير في 2016، إلا أنّ العمل على تحديثها توقف، حيث وضعت التصورات في أوراق ومن ثم وضعت الأوراق في الأدراج، وأغلقت الأدراج. 

في ليبيا أيضاً لا وجود لقوانين لها علاقة بالخصوصية وحمايتها وحرمة الحياة الخاصة إلا في مسودة الدستور الليبي الصادرة عام 2017، المادة (35) والتي تتحدث عن حرمة الحياة الخاصة وتنص على أنه “لا يجوز دخول الأماكن الخاصة، إلا لضرورة، ولا تفتيشها، إلا في حالة التلبس، أو بأمر قضائي.” المادة الدستورية تضمن حماية الفرد من الدولة فقط، لا الأفراد من بعضهم البعض، كما أنّ المادة نفسها قاصرة، حيث يمكن انتهاك هذه الحرمة في “حالة التلبس، أو بأمر قضائي”، إذ تم تقديم حالة التلبس على الأمر القضائي؛ كما أنّ المادة تحمي المواطن من دخول غرباء لمنزله، لا من المراقبة من الخارج، وهذا ما يحدث في العادة. 

ريم حقيق (30 عاماً)، وهي باحثة ومديرة مؤسسة (سين للثقافة) تقطن في حي الأندلس، تحدثني عن علاقتها المضطربة مع المجتمع المحيط بها قائلة بأنّها لا تستخدم شرفات بيت عائلتها الذي تسكن فيه، ولكن يوجد سطح بيت مسوّر بسورٍ قصير به مشربيات (فتحات) تمكن من الرؤية، عادةً ما تجتمع فيه العائلة، سطح أنشأت ريم علاقة عاطفية معه، تخرج له للدراسة أو للاستمتاع بمنظر سماء الليل والبحر. 

“ذات مرة تعاركت معي جارتنا، كانت ابنتها تحاول الخروج إلى حديقة بيتهم عندما لمحت جسدي في سقف البيت، ذعرت ودخلت إلى البيت، تفاجأت لكن نسيت الأمر، بعد ذلك بأيام تكرر نفس الحدث عندما كنت أدرس مع صديقتيْن في السقف بالجهة المقابلة للجيران”، تحكي لي حقيق كيف خرجت الأم وجلست على كرسي تراقبها هي وصديقاتها بغضب، وعندما حكت ريم لأمها الأمر، أخذتها وذهبتا للاعتذار من الجارة، ريم التي كانت صغيرة أحست بمشاعر العار التي جلبتها لعائلتها وأخذت تبكي أمام المرأة، كانت كلمات المرأة الوحيدة التي علقت في ذاكرة ريم كما تقول “قد تكونون عشتم خارج البلاد ولا تعرفون عاداتها وتقاليدها ولا تحسون بنا!”. 

لم تكن هذه الحادثة الوحيدة لريم على مر السنوات، فقد لاحظت في أكثر من مناسبة، وجود رجال وشبان يتلصصون على خصوصيتها في المكان، يراقبونها ويستبيحون وجودها، لم يتوقف التلصص فقط على وجودها في سطح بيتها، ولكن حتى في غرفتها عندما تفتح النافذة لتجد جارها يراقبها من النافذة المقابلة لبيتها. 

منازل طرابلس..شرفات ميّتة

طرابلس. تصوير: محمد العالم

يا مزوّق من برا شن حالك من الداخل

قبل أشهر قليلة جد أمر في علاقتي بشرفتي، كنتُ قبل ذلك أخرج ليلاً لتدخين سيجارة أو للتفكير وتنفس هواء جديد، خصوصاً في ليالي الصيف الحارة، كانت متنفسي بعد أن تخلد أمي في بيت العائلة أسفل شقتي للنوم، إلا أنني صرتُ أفكر ملياً قبل الخروج للشرفة، وأحياناً أخرج خلسة لسقاية النباتات، كان الأمر المستجد هو سكن جار جديد لي في شقة مقابلة ونافذة مطبخه تطل مباشرة على شرفتي، كانت زوجة الجار عادة ما تفتح نافذتها لتغلق عليْ متنفسي، حتى أصبحتُ أعاود التفكير في نصيحة أخي.

بيتنا صُمّمِ خطأ، يمكن ملاحظة ذلك من المساحات غير المستفاد منها في فناء البيت أو في داخل البيت نفسه لا شرفتي فقط، نوافذ تطل على نوافذ لبيوت أخرى ولا وجود لإطلالة طبيعية واحدة إلا من الناحية الغربية، حيث يمكن رؤية سور المدرسة المقابلة الذي يزيد طوله عن خمسة أمتار، فناء خلفي ليس ذو فائدة، إلا أنّ هذه الأخطاء قد تعد بسيطة أمام بيوت أخرى تلاحظها في طريقك. 

“بيتنا غير مناسب للبيئة الليبية، به عناصر ليست لها علاقة بالمجتمع المحيط بنا”، يقول لي المنتصر واصفاً شرفات بيتهم الواسعة، وتصميم البيت الداخلي الذي لا يوجد به مربوعة (غرفة استقبال الرجال) ولا غرفة الضيفات من النساء، كما أنّ العديد من نوافذه غير مستعملة، كان سور بيتهم في نهاية التسعينيات يصل إلى متر ونصف، إلا أنّ عائلته أدركت مدى الخطأ الذي اقترفوه، فقاموا بتعلية السور إلى ضعف المسافة. 

“لا وجود لمعماري يراعي الظروف البيئية والاجتماعية للمجتمع المحيط به، لا توجد هُوية، لا معايير، لا مقاييس”، تقول الفِرجاني، مقارنة وضع العمارة والتخطيط الحضري في تونس بمدينة طرابلس، تمتلك أغلب الأحياء في مدينة تونس العاصمة نمطاً وهُويةً معماريةً واضحة يمكن عن بعد معرفتها بسهولة، أما في طرابلس، لا وجود لهذه الهُوية المعمارية خارج أسوار المدينة القديمة.

تدعو الفرجاني أن يرجع المصمم الليبي إلى الداخل مع إمكانية استيحاء أنماط معمارية خارجية، والتطوير من نمط التأثيث في الداخل أو المواد المستخدمة في البناء، ولهذا سمت مكتبها المعماري Roots، أي جذور، العودة للجذور الليبية في فن العمارة. 

“العمارة الحالية في ليبيا بدون فكر، هذا ما يحدث عندما تستورد أفكاراً خارجية بدون أن تأخذ في الحسبان مدى جدواها”، يقول حواص، إلا أن له رأياً في النمط التقليدي في البناء الذي باعتقاده قد لا يصلح مع المجتمع الليبي الجديد، إلا إذا تم تطويرُه، ولكن قبل العودة له، يجب أن يسبق ذلك عمليات تحليل، ودراسة وتقييم وتخطيط”.

البحث عن هويات بديلة

العمارة تؤثر في حياة الإنسان وعقليته، الانفتاح نحو الداخل قد يكون حلاً جيداً للعديدين حتى يتمكنوا من الاستفادة من توزيع الفراغات في بيوتهم، كما قد يكون فرصة لإعادة ترتيب وتصليح آثار عقود من الانغلاق مرت على مجتمع يبحث عن هُوية بديلة له تتمثل في تتبعه لموضات مختلفة على مر السنوات.

في ثمانينيات القرن العشرين خرجت في ليبيا موضة البيت الدوبلكس، أتت صحبة المقاولين السوريين الذين وجدوا سوقاً جيدة للعمل فيها، سوقاً أقصت المعماري المحلي الذي يفهم محيطه ما لم يكن من ضمن خدمِ النظام، بُنيت عمارات كبيرة في أحياء سكنية غير مخصصة لها تحمل ثلاث وأربع أسر. 

في التسعينيات خرجت ظواهر أخرى تتعلق بالديكور الخارجي للبيوت وأشكال الشرفات، صار الحجر الفرعوني علامة على الرقي، كما صارت أشكال الطيور والحيوانات المزوقة على الحائط كذلك، اضطر العديد من الناس لعدم طلاء منازلهم من الخارج، نظراً لخوفهم من ملاحقات الدولة تشكيكاً في ثرائهم.

غير ذلك، انتشر مفهوم جديد للبيوت الليبية، صارت بعض البيوت تبنى فوق أعمدة سميت “بيوت العرصات” – العرصة في ليبيا عامود البيت -، توفر هذه البيوت مساحة واسعة تحت البيت يمكن لأهل البيت أن يجلسوا فيها بخصوصية تامة، كما توفر مكانا للمناسبات الاجتماعية، وذلك حتى منتصف الألفية حين تغيرت المفاهيم مجدداً.

“أدخل الليبيون معماراً سموه المعمار الخليجي، أراني ابن عمي ذات مرة مخططاً لبيته، قال لي بأنّه اشتغله في دُبي”، تخبرني الفِرجاني عن الموضة الحالية التي يتبعها الليبيون. موضة “البيت الخليجي” التي توحي للمتفرج من الخارج برفاهية وفخامة من يقطنه، تلعب الشرفات دوراً محورياً في هذا الإيحاء، باتساعها، وزخرفتها وألواح الرخام الغالية التي تحيط بها. 

هذا النمط “تهمه الواجهة، يجب أن يكون شكلها حلو، ليس مهماً ما هو استخدامها بالداخل”، تقول الفِرجاني، مؤكدة أنّ البيت الليبي مصمم للآخر: للضيوف، للحاسدين، للمنبهرين، المقلدين أو المتلصصين. “يا مزوّق من برا، شن حالك من داخل”، تلخص الفرجاني بهذا المثل الليبي الشهير الذي يعني “بيتك مطلي من الخارج، لكن كيف هو من الداخل؟”، وهو مثل يستخدم للدلالة على التناقض في الشخصية، لكن المشكلة في نظر الفرجاني ليست في المستخدم، المشكلة في المعماري نفسه. 

المقاولون حلوا محل المعماريين

عندما أردنا أن نبني منزلنا الجديد تواصل أبي مع مقاول، لم يذهب لمعماري ولم يعرف من أين أتى المقاول بخريطته، كان المقاول هو المصمم والمنفذ ورئيس العمال لبيتنا وللبيوت الجديدة القريبة منا في الحي، هذا هو الحال الطبيعي في تاجوراء على الأقل، أعرف خريجي هندسة مدنية تحولوا لتصميم البيوت، بل أعرف مقاولين لا يملكون أي تجهيز علمي ومع ذلك يشتغلون تصاميمهم. 

“بالنسبة لي، المنازل الحديثة في طرابلس تحديداً توقفت منذ ذلك الوقت”، تقول لي ريم حقيق، بعد أن نزعت طاقية الناقدة كما تخبرني، بالنسبة لها فقد توقف الزمن في طرابلس عند منازل حي الأندلس في ستينيات القرن الماضي، أمر زاد إيمانها به بعد محطات عملها في مجموعة من مكاتب التصميم المعماري قبل أن تتفرغ للدراسة البحثية وخدمة الثقافة.

“ذات مرة وضع مدير المكتب أمامي خريطة لبيت مفصول بحائط كبير، يفصل الحائط غرفة الضيوف عن بقية البيت، سألته لماذا هذا؟ قال لي بأنه يريده هناك فقط، فكرت أنّ الأمر من الممكن له علاقة بالخصوصية”، تضيف حقيق، لكنها تقول بأنّه كان بمكنه أن يجمل الفصل إن شاء، دون الحاجة لوضع حائط فاصل بدون معنى. 

“لا توجد رقابة، النقابة لها أكثر من سنة لم تعمل، والدولة متمثلة في البلدية وجودها لا فائدة منه”، تخبرني الفرجاني، قائلة بأنّ نقابة المعماريين في ليبيا متوقفة عن العمل، وبأنها تحاول التسجيل منذ زمن لكن بدون فائدة، الوضع الطبيعي في نظر الفرجاني أن يتحصل المعماري بعد امتحانات ودراسة لملفه على رخصة مزاولة المهنة من النقابة، تنزع منه هذه الرخصة إذا أخل وتجاوز.

يدرس طلاب العمارة في كليات الهندسة حول البلاد القوانين الخاصة بالعمارة كمقرر دراسي، كما أنّ عملية الترخيص للبناء واضحة على الورق، هذه العملية من المفترض أن تتم بمراقبة البلدية ونقابة المعماريين، وتوضع لجنة للموافقة على أي مبنى جديد، لكن بالطبع هذا الأمر لا يحدث. 

“كل هذه اللوائح لم يتم تحديثها منذ عام 1970، هي موجودة والكل يعرفها لكن لا أحد يعود لها، القانون الجديد عندنا هو الأعراف”، يخبرني حواص عن عملية التصميم بالنسبة له والعديد من المعماريين، يجلس المعماري لأيام مع عميله ويذهب للموقع ويسأله عن جيرانه، الحي الذي يعيش فيه، علاقته بأهله، هل هناك تفاهم بين العميل وجيرانه أم أنّ هناك مشاكل اجتماعية بينهم، كل ذلك يأخذه حواص في عين الاعتبار. 

“المعماري فشل في فهم نمط حياة عميله، وفي صنع سيناريو له، لهذا يذهب الناس للمقاولين”، تقول الفِرجاني، موضحة أسباب سطوع نجم المقاولين على المعماريين، يؤثر هذا الاتجاه على قرارات المعماري نفسه، فيبدأ في الاشتغال بذات الطرق التي يشتغل بها المقاول حتى يكسب قوت عيشه.

الدولة ذاتها لم تحافظ على الهُوية المعمارية، بل حاربتها بأن أسدت مهمات تخطيط “الكومونات” الأحياء الشعبية الجديدة لأتباع النظام من حركة اللجان الثورية، ولم تكن المنازل في تلك “الكومونات” آخذة في الاعتبار الطبيعة البيئية والتركيبة الاجتماعية في المدن الليبية.

“أمر النظام بتخطيط مدينة غدامس جديدة بالقرب من المدينة القديمة، لم يأخذ المصممون البولنديون أي اعتبار للتركيبة الخاصة بالمدينة”، يسردُ لي حواص تاريخ مدينة غدامس الجديدة التي زادت فيها معدلات الجريمة برقم قياسي بعد خروج السكان من المدينة القديمة، بالإضافة لهروبهم من هذه المساكن في الصيف إلى بيوتهم القديمة المصممة للتبريد الطبيعي، عند اشتداد رياح القبليْ الجنوبي وإفسادها لأجهزة التكييف ومن ثم اشتداد حرارة الفصل عليهم.

لعمليات البناء المخالفة ولأنماط البناء الجديدة هذه آثار عدة، لا تتوقف فقط على التعدي على خصوصية الأفراد، خصوصية الأحياء السكنية وابتعادها عن الأسواق العامة، تشويه المنظر العام في المكان، فك ارتباط الإنسان بكل قطعة في بيته كالشرفات، بل تصل آثارها إلى آثار صحية، آثار لها علاقة بالشمس، إذ تكثر نسب هشاشة العظام للنساء الليبيات نظراً لعدم تعرضهن لشعاع الشمس بالمقدار الكافي، قد تتطور هذه الآثار إلى الرغبة في العيش خارجاً. 

تقول لي ريم حقيق بينما أسألها عن مواصفات بيت الأحلام لها “كان بيت الأحلام بالنسبة لي هو بيت طرابلسي، به فناء وشرفات ونباتات تحوم حول الفناء، أعيش فيه سعيدة”، إلا أنّ شكل البيت قد اختلف بالنسبة لها، ربما تأثراً بحبها للنوافذ الواسعة والضخمة، ترى ريم نفسها منفتحة على الخارج البعيد.

“أريد بيتي في شقة في عمارة في مدينة عالمية كنيويورك، في ناطحة سحاب، مليئة بالحياة، ونافذتي الكبيرة تطل على الحياة في المدينة، بعيدة عن البحر الأبيض المتوسط بنمط حياته البطيء، دماغي يريد الارتباط بالعالم من جديد، يريد أن يرى أناساً يغيرون حياتهم ويغيرون حياة الناس من حولهم عبر تلك النافذة”، تقول ريم بصوت حالم.