خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

اعتقال أسواق الضفّة الغربية.. التهجير الطوعي

بالتزامن مع الحرب على غزّة، يشنّ الاحتلال حربًا اقتصادية على الضفّة الغربية التي يجد أهلها أنفسهم معزولين عن الخارج بسبب إحياء السياسات القديمة الهادفة إلى إعاقة قيام اقتصاد فلسطيني
ــــــــ العملــــــــ حدود
26 يونيو 2025

طوال ثلاث سنوات، اشتغل عبدالله كعامل مياومة يوميًا من الثامنة صباحًا وحتى الرابعة مساءً. ومن أجل الوصول من بيته في قرية سنجل في رام الله إلى عمله في الموعد المحدّد، كان يستيقظ عند آذان الفجر، يتناول الإفطار ويترك عائلته المكوّنة من زوجته وطفليه، ثم يتوجّه إلى وظيفته في مجال الإنشاءات في منطقة مجد كروم في الشمال الفلسطيني في منطقة الجليل الأعلى. كان يستيقظ باكرًا لأنّه يعرف أنّ الطريق تتطلّب منه ساعات عدّة بسبب ازدحام واكتظاظ العمال الفلسطينيين على المعابر الواصلة بين الأراضي الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام ١٩٤٨، هناك، حيث يُخضعهم الاحتلال للتدقيق الأمني مثلما يُخضع حقائبهم وأجسادهم للتفتيش. كان عبدالله واحدًا من هؤلاء العمال الذين وجدوا في العمل داخل الأراضي المحتلّة فرصة قبل ثلاث سنوات، ومن أجل العمل هناك كان يحتاج إلى تصريحٍ، فدفع إلى محامٍ فلسطيني يقيم في أراضي الـ  1948 مبلغ 20 ألف شيكلإسرائيليتقريبًا (ما يُعادل أكثر من 5700 دولار) من أجل إزالة المنع الأمني عنه لدى السلطات الأمنيةالإسرائيلية، رغم أنّ هذا المبلغ لم يعفه من الوقوف لساعات أمام تلك الإجراءات الروتينية المهينة على الحواجز.

أسواق أسيرة

قبل بدء الحرب على غزّة، وصل عدد العمال الفلسطيين (من الضفة الغربية وقطاع غزّة) في الأراضي المحتلّة إلى حوالي 200 ألف عامل، النسبة الأكبر منهم (قرابة 63%) يعملون في قطاع الإنشاءات، فيما يتوزع العمال الباقون للعمل في قطاعات أخرى مثل: الصناعي والخدمي والزراعي، وفق إحصاءات “الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني” (2022).  

يُشكّل هؤلاء قرابة ربع مجمل العمّال الفلسطينيين في الضفّة، ويساهمون بحوالي 4 مليار دولار في الاقتصاد الفلسطيني سنويًا، وغالبًا ما يلجأون إلى العمل في الأراضي المحتلة بسبب تدني الأجور في الضفة الغربية، وقلّة فرص العمل فيها. فقد عملت السلطات الإسرائيلية بشكل ممنهج منذ عشرات السنوات على إعاقة قيام اقتصاد فلسطيني. في البداية، حوّل الاحتلال بعد العام 1967، الضفة الغربية وغزة إلى أسواق أسيرة أو حديقة خلفية للاقتصاد “الإسرائيلي”، عبر سيطرته على ثلثي أراضي الضفة وعلى المصادر الطبيعية والمائية فيها، وعلى حركة الأفراد والبضائع والعمالة والخدمات. أدّى هذا إلى إضعاف وتقليص القطاعات الإنتاجية في الأراضي المحتلة لعام 1967؛ مثل الزراعة والصناعة والإنشاءات، بعدما صادر موارد الفلسطينيين جرّاء النكسة، وقضم أراضي الضفة الغربية وغزة وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان.

 من ناحية أخرى، يتحكّم الاحتلال بواردات وصادرات الضفّة الغربية وقطاع غزة، مثلًا، تبلغ واردات الفلسطينيين من “إسرائيل” 57% من مجمل الواردات، وأهمّها الكهرباء والمحروقات التي تتجاوز قيمتها مجتمعة ربع قيمة الواردات الفلسطينية من “إسرائيل”. لطالما كان الاقتصاد في الضفة الغربية محكومًا للاقتصاد “الإسرائيلي” من جهةٍ، وعاجزًا عن خلق فرص عمل من جهةٍ أخرى، وإن استطاع خلق فرص فإنها تكون محدودة وبأجور متدنية. هكذا كان متوسّط أجر العاملين اليومي في إسرائيل والمستعمرات 276.8 شيكل أيّ ضعفي متوسط أجر العاملين في الضفة الغربية، البالغ 125.7 شيكل.

حرب على الأجور

عام 2016، أصدرت حكومة الاحتلال مجموعة قرارات عكست انتهاج سياسة جديدة تجاه العمالة الفلسطينية في “إسرائيل”، وتمثّلت في زيادة أعداد العمال الفلسطينيين في “إسرائيل”، إذ ارتفع عددهم من 71 ألف في العام 2016 إلى 141 ألف في العام 2022، كما يشير كتاب “العمالة الفلسطينية في إسرائيل: اتجاهاتها ودوافعها وتأثيراتها” (2024). وبذلك تتعامل “إسرائيل” مع مصدر العمال هذا كما لو أنّه جزء من اقتصادها، أي أنها لا تعترف بوجود اقتصاد فلسطيني منفصل.

ومع هذا الأجر المرتفع قياسًا عن الأجور في الضفة، والمُنخفض قياسًا بأجور الإسرائيليين، عانى العامل الفلسطيني فيإسرائيلمن ظروف عملٍ سيئة من كلّ النواحي، بدءًا من الروتين المذلّ على المعابر، وصولًا إلى الإجراءات الوقائية في أماكن العمل. فكان يفتقر إلى تدابير السلامة والتأمين المناسبين، وغالبًا ما يشتكي من انتهاكات قوانين العمل ومعايير ومواثيق العمل الدولية، التي صادقت عليهاإسرائيل، ولا سيما فيما يتعلق بالأجور، وساعات العمل، وسياسات الإجازة مثلًا. تكفي الإشارة إلى التمييز الهائل بين أجور العمال الفلسطينيين والإسرائيليين، كما يشير إيهاب محارمة في بحثهانتهاك إسرائيل لحقوق العمال الفلسطينيين: كوفيد 19 والإساءات المنهجية“. يبرز البحث أشكال التعامل التعسّفي والمذلّ مع العمال الفلسطينيين الذين يتكبّدون الإهانة في طريقهم إلى وظيفتهم، خصوصًا الضرب من قبل الجنود الإسرائيليين عند نقاط التفتيش العسكرية، ما أدّى في السنوات الأخيرة إلى استشهاد بعض العمال بالرصاص الإسرائيلي. أما من كانوا يضطرّون للنوم في أماكن العمل، فحُرِموا من أبسط إجراءات السلامة، وكانوا ينامون في مجموعات كبيرة في مواقع ورش البناء أو في المستودعات على أرض المصانع، دون أي مقوّمات أساسية للنوم، وضمن ظروف غير صحيّة.

بطالة تلتهم المدّخرات

في يوم السابع من أكتوبر 2023، وصلت إلى هاتف عبدالله رسالة نصية من المُشغل “الإسرائيلي” تخبره بتوقّف العمل حتى إشعارٍ آخر. عرف ما إن منعت الحكومة الإسرائيلية العمال الفلسطينيين من الدخول إلى الأراضي المحتلّة، والعمل فيها، عرف أنّ دخله الوحيد قد انقطع. إذ أغلقت سلطات الاحتلال المعابر بينها وبين الضفة واعتبرت أنّ كل تصاريح العمال ملغية. وبالرغم من خطورة قرارٍ كهذا على الاقتصاد الإسرائيلي، خصوصًا على قطاعي الزراعة والإنشاءات إلا أن سلطات الاحتلال رفضت عودة العمال لحجج أمنية، وجرت خلافات كثيرة داخل اروقة صناع القرار الإسرائيليين بين مؤيد لعودة هؤلاء العمال الذين تعتمد عليهم بعض القطاعات بشكلٍ أساسي، وبين معارض مثل وزير الأمن ايتمار بن غفير، الذي دعا إلى استبدالهم بعمال أجانب من دول فقيرة في آسيا وإفريقيا.

وفي السياق الفلسطيني، أحدث هذا القرار أزمات اقتصادية كبيرة، ففي حين كان الفلسطينيين في الضفة الغربية يُعانون من مستويات مرتفعة في معدلات البطالة تصل إلى 18% من مجمل القوى العاملة قبل بدء الحرب العام 2023، بلغ معدّل البطالة 35% من مجمل القوى العاملة في العام 2024، وفق الحصاد الاقتصادي الذي أجراه “الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني” عام 2024.

كان عبدالله واحدًا من هؤلاء العمال الذين فقدوا عملهم وفقدوا معه مصدر رزقهم الوحيد. عاش الشهور الأولى بحالة من عدم اليقين ممّا إذا كان سيعود إلى عمله أو لا، وخلال السنة الأولى بعد الحرب، استعان بمدّخراته للإنفاق على الأسرة، ولجأ إلى الاستدانة. وحين نفدت هذه المدخرات دعمه شقيقه المقيم في الخارج من أجل فتح مشروع صغير هو عبارة عن مخبزٍ للمناقيش.

بوابات حديدية وحواجز 

لم يثمر الحلّ الذي ابتدعه عبدالله بسبب الإجراءات الأمنية المُشدّدة على قريته وباقي مناطق الضفة. إذ أقام الاحتلال ما يقارب 849 حاجزًا عسكريًا ثلثها بوابات حديدية تُُغلق بشكل متكرر، وأدت هذه الحواجز إلى تقييد الحركة في جميع أنحاء الضفة الغربية وفصل أجزائها عن بعضها البعض، مما أدى إلى تشديد القيود على حركة الأفراد والبضائع، وتسبب بشلل مختلف نواحي الحياة، وتعطيل الأنشطة الاقتصادية، وارتفاع التكاليف التشغيلية، وفق نشرة الاقتصاد الفلسطيني الصادرة هذه السنة عن “معهد أبحاث السياسات الاقتصادية” (ماس).

فتح عبدالله المخبز في قرية سنجل، وهي من قرى الضفة الغربية التي تخضع إلى سياسات العزل والإغلاق المتكرر من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي كونها تقع بالقرب من الشوارع الالتفافية والتي تربط المستوطنات الإسرائيلية داخل الضفة بالأراضي المحتلة عام 1948.

أُغلقت مداخل ومخارج القرى بالبوابات الحديدية والسواتر الترابية من أجل حفظ أمن المستوطنين، وسيّجها الاحتلال بجدران حديدية جديدة تعزلها عن محيطها وتتراوح بين 6 و8 أمتار

تضاعف العزل بعد بدء الحرب على غزّة، أُغلقت مداخل ومخارج القرى بالبوابات الحديدية والسواتر الترابية من أجل حفظ أمن المستوطنين، وسيّج الاحتلال هذه القرى بجدران حديدية تعزلها عن محيطها كونها تتراوح من 6 إلى 8 أمتار. هذا ما جعل الناس عاجزين عن الدخول إليها أو الخروج منها، وأثّر بشكل مباشر وسلبي على اقتصادها ومنشآتها الاقتصادية الصغيرة مثل مخبز عبدالله.

في البداية أمّن له المخبز ربحًا يوميًا يتراوح بين 20-25 دولار، مع أنها كانت قليلةً وبالكاد تكفي مصاريف أسرته اليومية. لكن حين شدّدت السلطات الإسرائيلية إجراءات العزل على قريته وأغلقت مداخلها ومخارجها، تضرّر عمله بشكل كبير، وتبخّر أمله بمشروعه البديل الذي كان يعوّل عليه لسداد جزءًا من مصاريف أسرته اليومية. فقد ذهبت كذلك آماله في سداد الشيكات التي كان قد كتبها قبل الحرب لأصحاب محال مواد البناء والمقاولين لبناء بيتٍ يأويه وعائلته، وتبلغ قيمة هذه الشيكات قرابة 15000 ألف دولار، لم يتمكّن إلّا من دفع دفعة واحدة منها خلال الحرب، بقيمة 1400 دولار فقط. شلّت هذه الإجراءات الجديدة الصارمة المشاريع الصغيرة في القرى الفلسطينية ومنها مشروع عبدالله الصغير، فيقولما في حركة على البلد (القرية) ما في زبائن غريبة. الزبائن الغريبة هي يلي بتنعش الاقتصاد أكثر من زبائن أهل القرية نفسها“.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

متاجر تنطفئ أمام أصحابها

لم تهدأ اقتحامات جيش الاحتلال لمناطق الضفّة خلال الأشهر الأخيرة التي شهدت كذلك تصاعدًا في وتيرة عنف مستوطني الضفة على القرى الفلسطينية القريبة، وتدميرًا واسع النطاق للممتلكات، وقيودًا صارمة على الحركة والتجارة. يضاف هذا إلى حصار القرى القريبة من الشوارع المؤدية إلى المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.

منذ سنوات، تقصّد الاحتلال تدمير المنشآت الاقتصادية في الضفة بواسطة آلته العسكرية خصوصًا في مدن ومخيمات اللاجئين في شماليْ الضفة الغربية مثل طولكرم ونابلس وجنين بحجّة ملاحقة المقاومين. الأمر اختلف بعد بدء الحرب على قطاع غزّة، إذ نفّذ جيش الاحتلال مئات الاقتحامات العسكرية التي انتهت باعتقال الشباب بشكل شبه يومي، وتخلّل هذه الاقتحامات هدمًا لمنازل الفلسطينيين، وتدميرًا للبنى التحتية مثل الشوارع والكهرباء والمياه، بالإضافة إلى تفجير المنشآت الاقتصادية الصغيرة. هكذا هُجّر ما يزيد عن 30 ألف فلسطيني من مخيمات شمال الضفة إلى مختلف مدن وقرى الضفة منذ أن ارتفعت وتيرة هذا التدمير في كانون الثاني (يناير) 2024.

تذرّع الاحتلال بأن عمليّاته العسكريّة تهدف إلى ملاحقة المقاومين في الشمال، لكنّها استهدفت القطاعات الاقتصادية ومصادر رزق الفلسطينيين ومصالحهم. سوبر ماركت الخمسيني صلاح الواقعة في مخيم نور شمس في محافظة طولكرم، تشهد على كلّ هذا العنف. يشغل متجره الطابق السفلي لعمارة من ثلاثة طوابق تسكنها عائلته وعائلة ابنه، وعائلة شقيقه، وأمه وأختيه، ويشكّل مردوده الدخل الوحيد لكلّ هذه العائلات. كانت السوبر ماركت إحدى الوجهات التي تقصدها عائلات المخيم بما فيها عائلات العمال السابقين في إسرائيل والعاطلين عن العمل حاليًا وموظفي القطاع العام الفلسطيني المتوقّفة رواتبهم لشراء البضائع والمواد التموينية منه بالدين إلى حين تحصيل أجورهم.

توقّف موزعو شركات الأغذية عن الوصول إلى المتجر، فقلّت البضائع فيه بسبب الأوضاع الأمنية وكثرة الحواجز التي تعيق حركة سياراتهم، وصارت البضائع تستغرق أسابيع للوصول

يقول صلاح إنّ حركة البيع قبل الحرب كانت عادية، وكان الناس يشترون كلّ أنواع البضائع، ولم يكن هناك أيّ قيد على تزويده بالبضائع من تجّار الجملة، لكن مع بدء الحرب على غزّة والتضييق على أهل الضفّة، لاحظ أن الزبائن صاروا يكتفون بشراء الضروريات، تحديدًا المواد الغذائية الأساسية مثل الأرز والسكر والزيت، بينما استغنوا عن المشتريات الثانوية مثل العصائر والسكاكر والمكسرات، ومع ذلك لم يعد لعدد كبير من الزبائن القدرة على الشراء إلّا بالدين.

في المقابل، توقّف موزعو شركات الأغذية عن الوصول إلى المتجر، فقلّت البضائع فيه بسبب الأوضاع الأمنية وكثرة الحواجز التي تعيق حركة سياراتهم. وبسبب الخوف من الإجراءات الانتقامية على حواجز جيش الاحتلال، صار الموزعون يستغرقون أسابيع لتأمينه ببعض الطلبيات، بينما كان الأمر يتطلّب أيّامًا معدودة في السابق.

اضطرّ صلاح إلى التنقّل بنفسه بين مستودعات البضائع في البداية، خاطر أكثر من مرة وهو يتنقل بسيارته المحملة بالبضائع بين الحواجز وتمكّن من مواصلة عمله بالحد الأدنى منها.

غير أنّ الاحتلال طارد ما حافظ عليه الرجل بجهد، ففي كل اجتياح كانت جرافات الاحتلال تهدم أجزاءًا من المتجر وتتلف البضاعة، إلى أن وصلت خسائره إلى ما يزيد عن 20 ألف شيكل (قرابة 5500) دولار. وفي اليوم الأول من شهر رمضان الماضي، هدم الاحتلال العمارة بأكملها بما فيها شقق العائلات الأربعة والسوبر ماركت وهُجِّرت عائلة صلاح إلى حي إكتابا في طولكرم، وصار ينفق على عائلته من مدخراته ويضطر في بعض الأحيان للاستدانة.

عقاب جماعي

تكبّد قطاع التجارة والصناعة الفلسطيني خسائر بنحو 1.3 مليار دولار أميركي بسبب القيود التجارية والأمنية، وانكماش السوق وفقدان 40 ألف وظيفة. أما إجمالي خسائر التوظيف والأجور في جميع أنحاء الضفة الغربية فتُقدّر بنحو 3.2 مليار دولار، ما ساهم في تسارع معدّلات الفقر من 12 % قبل الحرب إلى 28 % بحلول منتصف عام 2024، وهي آخر أرقام متوفرة، مثلما تشير نشرة الاقتصاد الفلسطيني الصادرة هذه السنة عن “معهد أبحاث السياسات الاقتصادية” (ماس).علمًا أنّ خطّ الفقر في فلسطين يبلغ حوالي 2717 شيكلًا إسرائيليًا (ما يعادل 750 دولارًا أميركيًا تقريبًا) فيما يبلغ خط الفقر المدقع حوالي 2170 شيكلًا إسرائيليًا (ما يعادل  600 دولار أميركي).

وبعد العدوان على قطاع غزة والضفة الغربية، حسم “الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني” الأمر: “يمكن القول إنّنا تجاوزنا مفهوم الفقر، وأصبحنا نتحدّث عن مستويات مختلفة من المجاعة وانعدام الأمن الغذائي”. وبحسب أرقام  الجهاز، فقد “تراجع إجمالي الاستهلاك بنسبة 13% ما يعكس الأثر المباشر على مستوى المعيشة لدى الأفراد في فلسطين، ورافق ذلك ارتفاع في معدلات البطالة في فلسطين”.

بات واضحًا أنّ الاحتلال يستخدم كلّ الوسائل الممكنة لتطبيق عقاب جماعي على الشعب الفلسطيني، بعدما طالت سياساته القطاع المصرفي الفلسطيني الذي شهد خلال الأشهر الماضية تكرارًا لمشهد قطع علاقة البنوك الفلسطينية مع بنوك المراسلة الإسرائيلية. خطوة من شأنها أن تُهدّد الاستقرار المالي والقدرة على تسوية المعاملات المالية والتجارية، تمامًا مثل زيادته الاقتطاعات من أموال المقاصّة تارة ووقف تحويلها تحت ذرائع مختلفة كغطاء لنوايا توسيع الاستيطان في الضفة الغربية تارة أخرى.

أين رواتب القطاع العام؟

بعد توقّف أجور العاملين غير العادلة أصلًا في الأرض المحتلة لعام 1948، حُرِم العمال الفلسطينيين في “إسرائيل” والمستوطنات من حقوقهم مثل مبالغ التأمينات الاجتماعية من قبل مشغلّيهم الإسرائيليين.

ساهمت إيرادات المقاصة، التي يتمّ جبايتها من إسرائيل وتحويلها إلى السلطة الفلسطينية، بنحو 67.1 % من إجمالي الإيرادات العامة أو حوالي 3.3 مليار دولار، وكامل هذه الحوالات تتم بعملة الشيكل. وأموال المقاصة هي حصة السلطة الفلسطينية من المبالغ التي تجنيها “إسرائيل” من رسوم جمركية وضريبية مفروضة على الاستيراد إلى الضفة وغزة، وفق ما نصت عليه اتفاقية أوسلو.

كانت العلاقات المصرفية بين الطرفين ضرورية لاستلام أجور العاملين في “إسرائيل”، والتي وصلت إلى نحو 4.4 مليار دولار في العام 2022، بحسب أرقام وزارة المالية الفلسطينية لسنة 2024. حتى العاملين في الأجهزة الحكومية الفلسطينية عانوا في السابق من نقصٍ في السيولة بسبب التأخر في دفع الرواتب أو دفع أجزاء منها، إذ كانت السلطة الفلسطينية منذ العام 2021 تدفع  ما نسبته 70 % فقط من رواتب موظفي القطاع العام نتيجة احتجاز إسرائيل لحصة السلطة من إيرادات المقاصة. لهذا تراكمت المبالغ غير المدفوعة بما يعادل راتب ثمانية أشهر كاملة لبعض موظفي السلطة والتي بلغت 17 مليار شيكل إسرائيلي بنهاية كانون ثاني (يناير) 2025.

الكثير من الموظفين الحكوميين لجأوا إلى أعمال أخرى، وآخرون اضطرّ أولادهم إلى مساعدتهم في تأمين مصاريف البيت مثل الطالب الجامعي معاذ الذي يبلغ من العمر 23 سنة. فتح معاذ بسطة فلافل في مخيم نور شمس في سنة 2020، من أجل مساعدة والده الموظف الحكومي. يقول معاذ عن مرتّب والده: “راتبه ع القد بقديش يغطي اقساط جامعة ويعيل الأسرة عشان هيك قلت أدخل شوية مصاري“. تشارك الأب والابن في هذا العمل، كان الأب يجهز عجينة الفلافل ويقوم الابن بقليها وبيعها على البسطة من أجل توفير قرابة 100 شيكل إسرائيلي في اليوم (ما يعادل 28 دولارًا أميركيًا)، وبعد السابع من أكتوبر هجّرت عائلة معاذ وبقيت البسطة داخل المخيم المحاصر الذي يشهد تفجيرًا لبيوته ومن بينها بيت جد معاذ، حيث كان يضع بسطته: “كان بدهم يهدموا دار سيدي، رحت أساعدهم بتطليع أغراضهم والحمدلله طلعت بسطتي، مشيرًا إلى أنّه استطاع أن يخرج البسطة من بين كلّ ما أخرجوه، قبل أن ينقلها إلى إكتابا في طولكرم، هناك حيث لا يزال يعمل إلى الآن، حتى إشعارٍ آخر، مثل كلّ الفلسطينيين الذين يحاولون البقاء في أرضهم.