لم تعلم نفيسة عمر (اسم مستعار) من أين تبدأ رواية قصّتها. أعلنت مرارًا عدم قدرتها على إكمال مراسلتنا عبر الهاتف. غير أنّ أحد المتطوعين الذي رافقها بعد إسعافها، واصل لنا ماجرى في تلك الليلة التي تعرّضت فيها المرأة للاعتداء الجنسي في نيسان (أبريل) العام الماضي، من قبل ستة أفراد من قوّات الدعم السريع (شبه العسكرية) في منزلها جنوبي مدينة ودّ مدني، عاصمة ولاية الجزيرة في السودان.
تحاول نفيسة، مجدّدًا، استعادة بعضًا ممّا حصل في تلك الليلة؛ اقتحم ستة أفراد من قوات الدعم السريع منزلها في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. قيّدوا زوجها في حمام المنزل ورفع عنصر منهم سكّينًا على إحدى بناتها (خمسة أعوام) كمحاولة لتهديدها بالقتل. وضعوها أمام خيارين، إمّا الانصياع لهم وإمّا قتل ابنتها، فاستجابت لهم مبدية حياة ابنتها على نفسها. توسّلت المرأة إلى الأفراد الذين قالت إنها كانت تراهم كلّما خرجت لإحضار أو شراء غرض خارج المنزل، تعرّفت إليهم لحظة اقتحموا منزلها. رجتهم بعدم التعرّض لها، وعرضت عليهم أخذ كل ما تملكه في المنزل لكنهم أشاروا لها بالعامية السودانية “عاوزنك انتي“، متمسكين باستهدافها هي على وجه التحديد وليس السرقة. على مدار أربع ساعات تعرضت المرأة للاغتصاب من الستة الذين تناوبوا عليها على مرأى من طفلاتها الثلاث بينما كان زوجها المحبوس في حمام المنزل عاجزًا عن إنقاذها.
حرب على أجساد النساء
هذه واحدة من قصص العنف الجنسي التي رافقت الأحداث العسكرية المندلعة في الخرطوم منذ منتصف نيسان (أبريل) 2023، قبل أن تمتدّ إلى بقية أرجاء وسط وغرب السودان. وثّقت هذه الانتهاكات الجنسية بحقّ النساء، منظّمات أممية ومحلية، اتّهمت فيها قوات الدعم السريع بشكل مباشر. ورغم الجهود التوثيقية، تشير المنظّمات إلى أن الإحصائيات المرصودة لا تمثّل الأرقام الحقيقية بسبب صعوبة الوصول إلى الضحايا وتوثيق الحالات في ظروف الحرب القاسية.
في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2024 أشار تقرير للأمم المتحدة، صادر عن بعثة تقصّي الحقائق في السودان، إلى أنّ قوات الدعم السريع في السودان مسؤولة عن ارتكاب عنف جنسي على نطاق واسع أثناء تقدمها في المناطق التي تسيطر عليها بما في ذلك الاغتصاب الجماعي وخطف واحتجاز ضحايا في ظروف ترقى إلى مستوى الاستعباد الجنسي. وأشارت البعثة إلى أنّ الاعتداءات الجنسية بحق النساء والفتيات، تحصل غالبًا أمام أفراد العائلة بعد وضعهم تحت التهديد. وبحسب ما تلقّته من معلومات ـ تستدعي مزيدًا من التحقيق ـ فإن رجالًا وفتيانًا استُهدفوا أثناء الاحتجاز وتعرّضوا أيضًا للعنف جنسي، تضمنت الاغتصاب والتهديد به، والتعري القسري وضرب الأعضاء التناسلية.
تضاف هذه الانتهاكات إلى ما توصّلت إليه وزارة الخارجية السودانية التي أعلنت أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عن توثيقها 500 حالة اغتصاب وانتهاكات أخرى، بما في ذلك الاستعباد الجنسي، ارتكبتها قوات الدعم السريع بحق النساء والفتيات. وقد بدأت قوات الدعم السريع كمجموعات عسكرية عرفت بإسم “الجنجويد“، وهي مليشيات تكوّنت من قبائل عربية في إقليم دارفور خلال حرب دارفور عامي 2003 و2004 من قبل الحكومة السودانية في عهد الرئيس السابق عمر البشير، لتنفيذ عمليات عسكرية ضد الحركات المسلحة التي كانت تحاربها في الإقليم. وسميت لاحقًا بالدعم السريع، وتدرج قائدها محمد حمدان دقلو حتى أصبح نائب رئيس مجلس السيادة في الدولة قبل أن يبدأ حربًا ضد الجيش في نيسان (أبريل) 2023، واتهمت منذ ذلك الحين بارتكاب عمليات عنف جنسي.
بعد الحادثة..
اتجهت نفيسة وزوجها وجارتها صباح اليوم التالي للحادثة إلى “مستشفى ود مدني التعليمي” الذي كان فيه اخصائيين وممرضين ومساعدين طبيين، لكن الطبيب رفض تشخيصها او إعطائها أي أدوية مبرّرًا لها أن هذا ليس تخصصه وأنه لا يستطيع مساعدتها.
عادت المرأة إلى المنزل منهارة وفي حالة نفسية سيئة لتتذكر فجأة جارها نضال مكي الذي يسكن في حي مجاور، فتوجّهت إليه طلبًا للمساعدة. يعمل مكي كعضو في لجان مقاومة ود مدني، وأحد المتطوّعين الذين كانوا متواجدين في عاصمة الجزيرة حتى وقت قريب. قصدته نفيسة وجارتها للمساعدة في إسعافها وإيجاد وسيلة لإخراجها من المدينة بحكم علاقاته مع منظّمات المجتمع المدني ومساعدته لمواطنين كثر في مواضيع أخرى. يخبرنا نضال أنّه “بمجرد خروج أفراد الدعم السريع من منزلها صرخت بأعلى صوتها مستنجدة لتأتي إحدى جاراتها وتجدها ملقاة على الأرض وحولها بناتها اللواتي كنّ يلففنها بغطاء ثقيل ويبكين”، لافتًا إلى أن بناتها شاهدن ما حدث من أول لحظة وحتى آخرها. وأضاف أنّ ستة منازل مجاورة لها على الأقل كانت على دراية بما يحدث، وسمع السكان صرخاتها لكن لم يتجرّأ أحد منهم على القدوم لإنقاذها لما تتصف به قوات الدعم السريع بالوحشية وعدم الرأفة بالمواطنين.
اتصل نضال بطبيب يعرفه ويعمل في “مركز بانت”، وكان قد أسعف حالات اغتصاب مماثلة في ود مدني. استجاب فورًا وحضر مع حقيبة علاجات ليكشف عليها، قبل أن: “يشخّصها الطبيب بالاغتصاب حد تهتك الرحم، بالإضافة إلى وجود آثار وكدمات تعدّي بالضرب علي جسمها كما اعتبر أن حالتها النفسية سيئة جدًا. وقد أعطاها علاجات منع الحمل وموانع انتشار فيروسات وبكتيريا” وفق ما أخبرنا نضال.
وبعدها تواصل نضال مع ”المبادرة الإستراتيجية لنساء القرن الأفريقي” (شبكة صيحة) المتخصّصة في رصد ومساعدة الفتيات اللائي يتعرّضن للعنف الجنسي خصوصًا خلال الحرب، ليتلقّى بعدها مبلغ 1500 جنيه سوداني (مايزيد عن 600 دولار) لإجلاء نفيسة وبناتها، خصوصًا بعد تخلي زوجها عنهنّ، واختفائه بعد يومٍ من الحادثة.
حاولنا الوصول إلى الطبيب الذي أسعفها للسماع منه حول الحالات الأخرى التي مرّت عليه، لكن ظروف الشبكة في السودان تصعب التواصل إلى المصادر، وهذا ما تطلّب ما يزيد عن الشهرين لإعداد المقال للاستماع إلى المصادر والشهود والضحايا، وجميعهم واجهوا صعوبة في الحديث عن حوادث الاغتصاب. وطوال فترة تواصلنا معها، ردّت نفيسة على الأسئلة بالكتابة عبر تطبيق واتساب لأنها رفضت التواصل المباشر معنا، وفضّلت بداية التواصل عبر وسيط وهي إحدى الفتيات اللواتي تابعن تفاصيل خروجها من مدني وإجراءات سفرها.
قصص عالقة في الجزيرة
خلال الفترة الممتدّة من 18 أيلول (ديسمبر) 2023 وحتى كانون الثاني (يناير) 2024، سيطرت قوّات الدعم السريع على ولاية الجزيرة وسط السودان وعاصمتها قبل أن يستعيدها الجيش السوداني في 11 كانون الثاني (يناير) 2025. انسحبت قوّات الدعم السريع، فيما لا تزال الاتهامات تخرج يوميًا حول ارتكاب عناصرها انتهاكات واسعة في المنطقة بينها عمليات اغتصاب في مدن وقرى الولاية المختلفة وفق ما أكّدت بيانات وتصريحات لجهات حقوقية ولجان مقاومة ـ تجمع مدني شبابي ـ في الجزيرة. وبحسب تصريحات لكيان مؤتمر الجزيرة المدني، رُصدت 152 حالة اغتصاب و5 ألاف قتيل مدني في ولاية الجزيرة منذ سيطرة الدعم السريع على الولاية وحتى تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ما أدّى أيضًا إلى تهجير حوالي 5 ملايين نسمة من 2500 قرية في الولاية.
عدد الحالات يبدو كبيرًا إذا ما قورن بالفترة التي قضتها قوّات الدعم السريع في المنطقة، إلا أنّه لا يشكّل سوى 4% من مجمل حالات الاعتداء الجنسي التي تمّ توثيقها في الجزيرة، كما تخبرنا المديرة الإقليمية لشبكة “صيحة” هالة الكارب: “في الأسابيع السابقة تواصلنا مع مقدمي خدمات في المناقل ـ كُبرى مدن الجزيرة ـ وعرفنا أنهم قدموا عونًا ووثّقوا لـ أكثر من 250 حالة اغتصاب أتت إلي مستشفي المناقل ما بين كانون الأوّل (ديسمبر) 2023 وكانون الأوّل 2024”.
تصف الكارب هول العنف الجنسي الذي حصل في قرى الجزيرة، مشيرةً إلى أنّ هناك ضحايا فقدن أرواحهن بسبب انعدام العلاج والاستجابة الطبية: “نحن فقدنا 6 حالات بينهن طفلتين بسبب النزيف وتعقيدات الخروج من الولاية”. ومن ضمن الحالات التي فقدتها الشبكة أيضًا إحدى الفتيات التي لا يتجاوز عمرها العشرين، والتي ماتت بعدما رفض أهلها أن تتعالج في المستشفى، بسبب الخوف المجتمعي.
ما يصعّب من علاج ضحايا الاعتداءات الجنسية، هو غياب البروتوكول الطبي الذي يفترض أن تتبعه الضحية بعد حدوث الاغتصاب، إذ أنّ القطاع الطبي في السودان ليس مجهّزًا للتعامل مع حالات كهذه حتى في وقت السلم
وبحسب الكارب فإنّ الحالات التي حصلت بين 21 أكتوبر وحتى نهاية ديسمبر 2024، عددها مرتفع جدًّا، تحديدًا من منطقة شرق الجزيرة، موضحةً أن معظم الحالات من ود مدني حصلت خلال الفترة الممتدّة من ديسمبر 2023 وحتى منتصف أكتوبر 2024. في تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي، شنّت قوات الدعم السريع هجمات وصفت بالانتقامية في منطقة شرق الجزيرة، كردّة فعل على انشقاق قائدها بالولاية “أبو عاقلة كيكل”، وإعلانه الانضمام إلى الجيش، وقد اختارت القوات قرى شرق الجزيرة للانتقام كونها المنطقة التي ينتمي إليها القائد المنسلخ. تأكّدت حالات الانتقام لاحقًا، حين كشفت “اللجنة التمهيدية للأطباء” (كيان نقابي) في تصريح لها خلال كانون الثاني ( يناير) الماضي، عن إجراء تسع عمليات إجهاض في مستشفى في الجزيرة لمغتصبات من إحدى بلدات شرق الجزيرة بينهن اثنتين من الكوادر الطبية اختطفتا من مستشفى في المنطقة.
هذه الاعتداءات، ظهرت لاحقًا لدى خروج قوّات الدعم السريع من المنطقة، بالإضافة إلى حالات استرقاق جنسي واعتداءات جنسية على أطفال، كما أكّدت لنا الكارب التي تشير إلى أنّ الصعوبات لا تكمن في لحظة الاغتصاب فحسب، بل ترافق المغتصبات طويلًا في ظل غياب المستشفيات وغياب الكوادر المؤهلة للتعامل مع حالات العنف الجنسي. فمعظم الحالات هي اعتداءات جماعية تتطلب تدخّلات جراحية وأدوية لمنع الأمراض المنقولة جنسيًا، وما يعزّز من تعذّر العلاج وفقها، هو غياب البروتوكول الطبي الذي يفترض أن تتبعه الضحية بعد حدوث الاغتصاب. أي أنّ القطاع الطبي نفسه غير مجهّز للتعامل مع حالات كهذه حتى في وقت السلم.
ووثقت شبكة “صيحة” في 22 تموز (يوليو) العام الماضي 75 حالة عنف جنسي تشمل جريمة الاغتصاب الجماعي بولاية الجزيرة من قبل الدعم السريع منذ اقتحامها المنطقة وذلك من أصل 250 حالة وثقتها في جميع السودان حتى الشهر نفسه، بحسب ماذكرت في تقرير بعنوان “ولاية الجزيرة حيث الفظائع المنسية“. وهنا تلفت الكارب إلى أنّ أساليب العنف الجنسي التي استخدمتها قوّات الدعم السريع في الجزيرة هي نفسها التي نفذتها في حرب دارفور قبل أكثر من عشرين عامًا، موضحةً أنّ لقوّات الدعم السريع ثلاثة أنماط تنتهجها عند اقتحامها منطقة معينة، أوّلها استخدام أسلوب الصدمة بإطلاق النار، واقتحام الأسواق والبنوك والمنازل ومن ثم اغتصاب النساء داخل منازلهم وقتل الرجال والفتيان بشكل مباشر كوسيلة للإخضاع.
الرحلة من ود مدني وإليها.. مجدّدًا
لم تنته مأساة نفيسة مع المعتدين بعد لحظة الحادثة. ظلّ شبحهم يطاردها حرفيًا وليس مجازيًا. بعد بضعة أيّام من اعتدائهم عليها، قدم الأفراد أنفسهم إلى منزلها بعربة دفع رباعي عسكرية وهددوها بعدم الإفصاح عنهم أو عمّا حدث لها، وإلّا سيقتلونها هي وبناتها. تضاعفت عوارض الصدمة لديها، صارت ترتجف كلّما رأت فردًا بزيّ الدعم السريع، وتخبئ وجهها خلال الفترة التي قضتها في مدني بعد الحادثة، والتي تقارب الـ 10 أيام. يصف نضال حالتها بدقّة في الأيام التي سبقت مساعدتها على الخروج من المنطقة، رغم أنها كانت قد انتقلت إلى منزل أسرتها في حي الحلة الجديدة إلى حين قدوم موعد السفر. ولدى هروبها، تحرّكت أوّلًا من مدني إلى قرية الربوة في سنار ومنها قطعت طريق البحر في قرية النديانة لتصل بعدها إلى دوبة في ولاية القضارف شرقي السودان (حوالي 200 كلم من مدني). أُخرجت نفيسة أخيرًا بالاتفاق مع فرد من الدعم السريع بعد دفع مبلغًا له لنقلها إلى نقطة قريبة من منطقة ارتكاز الجيش السوداني دون تعرضها لأذى في نقاط تفتيش الدعم السريع.
ابتزّت قوات الدعم السريع مئات المواطنين للدفع لها مقابل إخراج أفراد أسرتهم أو نقل حاجياتهم بأمان مقابل مبالغ كبيرة قد تصل إلى ألفي دولار. أُوقِفت نفيسة بدورها، وخضعت للتحقيق من قبل قوات الجيش المرتكزة في منطقة حريرة لمدة ثلاث ساعات، حكت لهم ماحدث معها وأخذوا بياناتها، فيما استُجوبَت أيضًا لدى وصولها القضارف. درجت قوّات الدعم السريع والجيش السوداني على إجراء عمليات استجواب وتفتيش مشدّد لكلّ من يغادر مناطق سيطرتها إلى مناطق سيطرة الطرف الآخر، وقد يتم اتهامه بالتعاون مع أي طرف ما لم يثبت عدم صلته به، حتى النساء.
خضعت نفيسة بعد كلّ معاناتها إلى إجراءات منهكة وفق ما تشير أمنية علي (اسم مستعار) وهي إحدى المتطوّعات التي تابعت وصول المرأة إلى القضارف، كما تابعت علاجها النفسي وميزانية معيشتها. تخبرنا أمنية “رحلة نفيسة في القضارف أيضًا لم تكن سهلة، فقد تعرّضت للمضايقة من قبل عضو نظامي بعد معرفته بقدومها من الجزيرة باعتبارها إحدى مناطق الدعم السريع“. تعقّبها هذا العسكري حين علم ببحثها عن سيولةٍ نقدية، وقالت إنه حاول أخذ جزء من المبلغ الذي تم تحويله لها من قبل شبكة “صيحة” وتعامل معها بطريقة وصفتها المتطوّعة بالمستفزة. خاضت نفيسة بعدها رحلة طويلة في الصحراء الشمالية للسودان للوصول هي وبناتها إلى أسوان في مصر واستقرّت هناك لأشهر بمعزل عن الناس وزوجها الذي انقطع عنهم، وبدأت حياة جديدة لكنها عادت إلى منطقتها بعدما استعادها الجيش السوداني، ما دفعها إلى مواجهة ذكريات ما حدث لها في منطقتها، فدخلت في حالة نفسية سيئة.
خطر مزدوج
تعاني النساء في الحرب من خطر مزدوجٍ. إنهن ضحايا مرّتين؛ مرّة لانتمائهن إلى الطرف المعادي، ومرّة كضحايا للعنف الجنسي الموجّه ضدّ أجسادهن. يعزّز العنف الجنسي من ذكورة المقاتل المنتصر، أو “الفاتح” لبعض المناطق مثلما حصل في معظم الحروب.. في الحربين العالميتين الأولى والثانية وفي الحروب الأهلية. “الانتصار على جسد المرأة أصبح وسيلة لقياس النصر، جزءًا من إثبات جنسية الجندي ونجاحه، ومكافأة ملموسة على خدماته. في الحرب، يصنع الاغتصاب من الرجال العاديين أبطالًا. فباسم النصر وقوة السلاح، توفر الحرب للرجال ترخيصًا ضمنيًا للاغتصاب”. تلك العبارة التي كتبها فريدريك إنغلز في مؤلّفه المرجعي “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” (1884) قبل أكثر من قرن، لا يمكنها أن تبدو قديمة ما دامت أجساد النساء أوّل ما يستبيحه المقاتلون في الحرب. كما أنّها تقبع في صلب الاشتغال النسوي على الحروب، الذي تتفق معظم رائداته على حربين تخوضهما النساء في الحرب الواحدة: حرب جندرية وأخرى عسكرية.
تتوصّل سوزان براونميلر إلى أنّ النساء يُغتصبن في الحروب لا لأنهن في معسكر الأعداء فحسب، بل لأن الحرب نفسها تؤجّج الكراهية ضدّهن، تلك الكراهية المتجذّرة أساسًا في اللاوعي الثقافي للمجتمعات
من بين أهمّ من تنبّهن إلى هذا الموضوع، وخصّصن له مساحة كبيرة من عملهنّ الصحافي والتوثيقي هي سوزان براونميلر التي رأت أنّ النساء يغتصبن في الحرب لا بسبب انتمائهن إلى معسكر الأعداء فحسب، بل لأنّهن نساء، وهذا سبب كاف ليجعل منهن أعداء أيضًا. ففي كتابها “ضدّ إرادتنا – الرجال، النساء والاغتصاب” الذي صدر سنة 1975، تتوصّل الصحافية والناشطة الأميركية إلى أنّ النساء يُغتصبن في الحروب لا لأنهن في معسكر الأعداء فحسب، بل لأن الحرب نفسها تؤجّج الكراهية ضدّهن، تلك الكراهية المتجذّرة أساسًا في اللاوعي الثقافي للمجتمعات. شكّلت هذه النقطة خلافًا بين النسويات من جهة، وبين الآراء العسكرية القائلة بأن الاغتصاب في الحروب له هدف استراتيجي وتكتيكي عسكري من جهة أخرى، باستخدامه كوسيلة للنيل من الهوية الجماعية للعدو، وطنية كانت أو دينية، فضلًا عن تهشيم معنويات المواطنين.
الصورة الأصلية: محمد جمال أسمر
قتل “العار”.. والألم
منذ أكثر من عام، كثرت أخبار الانتحار الواردة من السودان ومن منطقة الجزيرة تحديدًا. اللافت في هذه القصص هي اقتصارها على النساء. وإن كان هذا يدلّ على شيء، فعلى هربهنّ من الاغتصاب ومن ثقل الندوب النفسية التي تخلّفها الاعتداءات عليهن، خصوصًا أنّها كانت تتمّ أمام أفراد عائلاتهنّ من الذكور، وأمام أطفالهن. قد تبدو قصص الانتحار، خصوصًا الجماعية منها عصيّة على التصديق للوهلة الأولى. إلّا أنّ مركز “صيحة” استطاع توثيق بعض هذه الحالات، وفق مديرته هالة الكارب، التي أكّدت أنّ نساء وفتيات قمن بإلقاء أنفسهن في مياه القناة الرئيسية لمشروع الجزيرة، مشيرة إلى أنّ حالات الانتحار في النيل حصلت في شرق الجزيرة بمنطقة الهلالية وفي منطقة الجنيد. استعانت النساء بكلّ ما هو متوفّر أمامهنّ من أجل التخلّص من حيواتهن، إذ تشرح الكارب “في قرية أزرق (شمال غرب الجزيرة) تم توثيق حالات لنساء انتحرن بصبغة الشعر كما وصلتنا معلومات لم نتمكن من توثيقها بشكل كامل من قرية السريحة (شمال الجزيرة) حول نساء ألقين بأنفسهن في القناة الرئيسية لمشروع الجزيرة”.
شدّدت الكارب على أن النساء في السودان تحمّلن عبء العنف الجنسي والاختطاف والإسترقاق والتجريم ومع ذلك يُطالبن بتحمل العار والوصمة بينما يغيب خطاب العدالة والمحاسبة وإدانة المجرمين ويسود خطاب التشكيك والنكران بغرض التقليل من حجم الجرائم والتنصّل من تحمل مسؤولية مجابهة جرائم العنف الجنسي وتوفير الدعم والخدمات للضحايا، خصوصًا اللواتي حملن من الاعتداءات الجنسية.
حمل بلا ولادة
بصوت متردّد، تحدّثت إلينا ريهام عبد الله (اسم مستعار) من مدينة ود مدني. المرأة التي تبلغ 40 عامًا، تعرضت للاعتداء الجنسي من قبل أربعة أفراد من قوات الدعم السريع في شهر نيسان (أبريل) من العام الماضي. تذكر أنه كان يوم الخميس حين دخلوا بعد الساعة العاشرة مساءً، بعدما كانوا قد اقتحموا المنزل أكثر من مرة وهددوا باغتصابها: “لم أتوقع أن يحدث ذلك، كنت أسمع بالاغتصابات فقط ولم أتوقع أو أصدق حتى اللحظة حدوث ذلك معي”.
تلعثمت ريهام في الحديث أكثر من مرة، وامتنعت عن ذكر الكثير من التفاصيل من يوم الحادثة، غير أن أصعب جزء في حديثي معها كان لحظة استعادتها للمشاعر التي انتابتها حين علمت بحملها من الاغتصاب. تعرّضت ريهام للاعتداء الجنسي على مرأى من والدتها المسنة وأشقائها الثلاثة بعد تقييدهم في صالة المنزل، وإدخالها إلى غرفة أخرى واختلائهم بها في ظل عدم تمكن أحد من أهلها من انقاذها.
طريق الفرار من ود مدني، أيقظت مجدّدًا عوارض الصدمة لدى ريهام التي كان عليها أن ترى أفراد الدعم السريع مجدّدًا بعد الاعتداء، كونهم يحتلون مجمل امتدادات طريق مدني – سنار، لطلب المال من الناس مقابل السماح لهم بالخروج من المنطقة
غابت ريهام عن الوعي لحوالي ست دقائق بعد خروج المعتدين، استيقظت بعدها وذهبت برفقة والدتها إلى مركز صحي قريب، رغم عدم قدرتها على الحركة بعد الحادثة، موضحةً أنهم أعطوها مسكنات فقط بعد تشخيصها بالإصابة بالتهتك في الرحم. لم تنته مأساتها هنا، فقد شعرت بعد فترةٍ بالحمل وخافت من إجراء الفحص الذي سيؤكّد شكوكها لدى انتقالها مع عائلتها إلى مدينة القضارف.
ريهام التي أصبحت تصاب بالرعب من أي حديث عن قوّات الدعم السريع، تفاقمت حالتها عندما قررت الخروج مع عائلتها من مدني، إذ كان عليها أن ترى أفراد الدعم السريع المرتكزين على طول امتدادات طريق مدني – سنار، لهذا كانت تختبئ وتخفي جسدها على كرسي السيارة لكي تتفاداهم. علمًا أنّها اضطرت أيضًا مع أسرتها إلى دفع مبلغ لأحد أفراد الدعم السريع، لإخراجهم من المنطقة دون تعرض بقية القوات لهم. وصلت ريهام إلى القضارف وبقيت فيها مايزيد عن ثلاثة أسابيع لكن شعورها بالحمل ظل يؤرقها، حينها أجرت الفحص وتأكّدت من الحمل، وفق ما تخبرنا، مضيفة “بعدها قررنا الذهاب إلى مدينة بورتسودان وزرت طبيب نساء وتوليد وأجريت عملية إجهاض”.
ردّدت ريهام مرارًا عبارات مثل لا أرغب فيه وأكرهه، وهو يذكرني بمآساتي لدى سؤالنا عن قرارها الصارم بالتخلي عن الجنين. وقد استطاعت أخيرًا الانتقال مع أسرتها إلى مدينة بعيدة أقصى شمال البلاد بعد إجهاضها الجنين في كانون الثاني (ديسمبر) الماضي في محاولة للتعافي.
بلاغ ضدّ الخوف
في خطوةٍ جريئة ومفاجئة، فتحت ريهام وأسرتها بلاغًا جنائيًا ضدّ الدعم السريع في إحدى نيابات بورتسودان وهي سابقة نادرة، نظرًا لخوف الفتيات والنساء من نظرة المجتمع لهنّ وتفضيلهنّ عدم الحديث عمّا حصل لهنّ حتى لطبيب نفسي. المحامي عثمان البصري الذي تابع إجراءات ريهام القانونية ومدّنا بنسخةٍ من صورة البلاغ الذي تقدّمت به، يشرح أنّ خطوة كهذه يُمكن أن تساهم في تعزيز موقف المحامين الدوليين في رفع بلاغات المغتصبات للمحاكم الإقليمية عند المفوضية الإفريقية على سبيل المثال، مشيرًا إلى أن المرافعين عن هذه البلاغات يرفعون تقريرًا عن عدم قدرة الدولة على إنصاف الضحايا. علمًا أنّ خطوات كهذه لا يمكن أن تصل محكمة دولية، كما يلفت البصري، بسبب عدم توقيع السودان على العهود والمواثيق الدولية التي تمكّنه من ذلك ما لم تكن الحالات من إقليم دارفور الذي تختص فيه المحكمة الجنائية، ويشير إلى أنّ هناك حالات أخرى لفتيات حاولن فتح بلاغ والمتابعة معه لكن أهاليهم لم يوافقوا على ذلك خوفًا على سمعة بناتهن في المجتمع.
إسعافات بموارد ضئيلة
اللحظات الأولى من الإسعاف ما بعد الاعتداء، هي ما يقرّر مستقبل التعافي بالنسبة إلى ضحايا الاغتصاب. تخبرنا المعالجة النفسية ومديرة “وحدة مكافحة العنف ضدّ المرأة والطفل في السودان” سليمى إسحق أنّ التعامل الأولي مع الضحايا سواء كان من طبيب أو من مسعف، قد يؤدي إلى تحسين نفسيتها، إذ أنّ الصدمة النفسية بحسبها لا تعني بالضرورة استمرار الاضطراب لفترة طويلة بل قد تكون معاناة نفسية طبيعية تنتهي بزمن محدّد وليس للأبد. وثّق المركز (وهو وحدة حكومية) حتى آذار (مارس) الماضي 1138 حالة اغتصاب، لكن سليمى تعتقد أنّ الحالات استقرّت حتى الآن على هذا الرقم، لصعوبة الرصد الدقيق خلال الحرب، ولتحفّظ بعض الضحايا عن الإبلاغ عن الاعتداء عليهن بسبب مشاعر مثل الذنب والعار، وآثار الصدمة بالطبع.
ولا تقتصر الصدمات النفسية للمغتصبات على الاعتداء الجسدي من قبل أفراد عدّة، بل إنّ أغلب الاعتداءات يرافقها كلام بذيء وتهديد واعتداء بالضرب. وما قد يفاقم من الصدمة وفق إسحق هو أن ينتهي الأمر بهنّ بالحمل. وهنا توضح أنّه من الضروري للفتيات اللائي تعرضن للإغتصاب، أن يتّخذن إجراءات البلاغ لا لعرضها على الطبيب فقط، بل يجب أن يفكّرن في استخدامها مستقبلًا كورقة ضغط قانوني.
يتعلّق الأمر إذًا بالإسعافات وبالأشخاص الذين لديهم قدرة على الوصول إلى الضحايا ومساعدتهن، لأنّ المراكز النفسية لمعالجة الصدمات، والتي قد تستقبل حالات الاغتصاب هي خمسة فقط خارج الخرطوم. إذ يوجد مراكز في القضارف وكوستي والأبيض والدمازين والفاشر، وقد توقّف الأخير عن العمل بسبب الصراع في شمال دارفور. علمًا أن الجزيرة ليس فيها مركز تروما ولا مركز تابع لوحدة مكافحة العنف، إلّا أن إسحق تضيف بأن هناك من يقدمون خدمة نفسية من التابعين لوزارة الصحة بالتعاون مع منظّمة الصحة العالمية، موضحةً أن الولاية فيها أعضاء في لجان الحماية والعدالة النوعية. هذه القلّة في وجود أخصائيين نفسيين تعود إلى ما قبل النزاع في السودان، فقد توصّل تقرير صادر عن “منظّمة الصحة العالمية” في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي إلى أنّ هناك طبيبًا نفسيًا واحدًا لكل 2.5 مليون، وبحسب التقرير كان هناك 60 طبيبًا نفسيًا وفقًا لوزارة الصحة قبل اندلاع النزاع، ولم يتبقَّ الآن سوى 20 طبيبًا.
سجن “جامعة الدول العربية”
ضمن قصصه التي سردها لنا أيضًا، نقل البصري المتخصّص بالأصل في قضايا الاختفاء القسري، أنّه أثناء متابعته لقضية إحدى المختطفات المفرج عنهن من قبل الدعم السريع، حكت في شهادتها له عن اغتصاب معتقلات في “مقرّ جامعة الدول العربية” في شارع عبيد ختم في الرياض بالعاصمة الخرطوم الذي حوّلته قوات الدعم السريع إلى سجن. هناك، صادفت المرأة المفرج عنها ما يزيد عن 20 فتاة مختطفة ومسجونة، مشيرة إلى أنّهن تعرّضن للاغتصاب والتعذيب، وفق كا أكّدت لها إحدى المجندات في الدعم السريع والتي تشرف على السجن.
اعتقلت المرأة التي أدلت بشهادتها للبصري، من قبل الدعم السريع في تفتيش تابع لها في منطقة قري شمال العاصمة الخرطوم، بسبب بطاقة تظهر عملها في إحدى المنظمات الدولية، ولحسن حظها فإن السبب نفسه منعهم من التعرض لها بالاغتصاب خوفًا من الصدى الإعلامي الذي سيحدثه ذلك، وهذا ما دفع ربّما أفراد الدعم السريع إلى التخفيف من الانتهاكات خلال وجودها في السجن بسبب وظيفتها.
خطوات نحو العدالة الدولية
استخدمت قوّات الدعم السريع الاعتداءات الجنسية لإذلال النساء والفتيات وقهرهن في المناطق التي دخلتها مثل دارفور، وكردفان والجزيرة وسنار. إنها اعتداءات ممنهجة كما يصفها المحامي المتخصّص في القانون الدولي عبد الباسط الحاج الذي يعلّق على هذه الانتهاكات من الناحية القانونية قائلًا “في القانون نعرّف الاغتصابات والعنف الجنسي في سياق النزاع كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية إذا وقعت في نطاق ممنهج ضد المدنيين، وبالتالي تصنّف جرائم الخطيرة يمكن أن تصبح جرائم دولية“.
وذكر أن الخطوات المطلوبة في حالات استمرار الحرب أن يكون هناك رصد وتحقيق وتقصي حولها، من خلال حفظ الأقوال والبيانات والأدلة وتجهيز الضحايا للإدلاء بأقوالهم أمام الجهات شبه القضائية والقضائية للوصول إلى العدالة الدولية. يفند الحاج المستويات الثلاثة للوصول إلى العدالة الدولية؛ المستوى الأول هو النظام القضائي الوطني، والثاني هو المحكمة الجنائية الدولية التي يشمل مجال عملها إقليم دارفور غربي السودان فقط، وكل الجرائم خارج هذا النطاق لا تستطيع أن تحقّق فيها بحكم أن السودان ليس جزء في نظام روما الأساسي ولم يحدث توسيع لنطاق عملها حتى الآن.
أما المستوى الثالث فهو الولاية القضائية العالمية، وهنا يشرح أّن هناك دول كثيرة في العالم عملت على توطين نظام روما الأساسي للجرائم الدولية داخل نظامها القضائي الوطني ومنحت نفسها اختصاص النظر في الجرائم الدولية حتى وإن كانت وقعت خارج أراضيها، مثلًا أن تنظر لجرائم وقعت في السودان حين يصبح الضحايا في أراضي تلك الدول. هذا ما حصل مثلًا في بعض قضايا الحرب السورية، حين تولّت ألمانيا وكندا محاكمة عددًا من الجناة السوريين لأن الدعاوى رفعت في البلدين. وفي حالة السودان، هناك احتمالات أخرى كونها بلدًا أفريقيًا، فعلى نطاق القارة الأفريقية هناك دول لديها اختصاص الولاية القضائية مثل كينيا ويوغندا وموريشيوس وجنوب أفريقيا لتنظر في جرائم دولية في أي دولة في العالم إذا تواجد الجاني ضمن أراضيها.
وهنا تحديدًا تكمن أهمية دور المجتمع المدني والصحافة الاستقصائية والقانونيين للتركيز على هذه الجرائم، بهدف تحقيق العدالة. وبالطبع، تعتبر بلاغات الضحايا وشكاواهن من أبرز الخطوات لتحقيق العدالة، مثل البلاغ الذي تجرّأت ريهام على التقدّم به، والذي قد يعتبر دليلًا دامغًا على تورّط قوّات الدعم السريع في هذه الانتهاكات الرهيبة.