خفنا أن تسقط بهم. كان صديقي إلى جانبي فَيَراهم من زاويةٍ أفضل. أما قبالتي، حيث والد الشاب الذي استشهد في الجنوب بالأمس، وجئناه معزّين، فعرِف دون التفاتٍ عمّا نتكلم. سارع إلى طمأنتنا بأنّ المشهد يتكرَّر هو نفسه في كل ليلة.
يبحث الرجل عن وَنَسٍ جنوبي يعيده إلى قريته لا ريب. ونس يَرجِع به إلى ذلك الزمن الذي عشناه بعد حرب 2006 «بظل سلام السيِّد»، في عبارة يقولها عديدون. فإذا تحدّث عن منزلٍ أو مكانٍ في قريته، شرد في السرد حتى فصَّل الطريق التي يأخذها، ومواقيته المفضَّلة.
«كل يوم جمعة بروح عَ الضيعة، الصبح قبل العجقات».
«تاني يوم بالضيعة، بروح قبل السبعة ببرم ع إخِوْتي. بيوتن قريبة ع بعض».
كانت حيالنا أسرةً كبيرةً، من النازحين على الأرجح. يتجمَّعون في أوّل السهرة على شرفة المبنى البيروتي المقابل، العتيق بما قد يوازي القرن. حجارته من الرمل لا الصخر، ويبدو في وضعيةٍ تتهادى نحو نهايتها. أرض الشرفة رقيقة، فخفنا أن تسقط بهم. لها باب رئيسي، ونافذتان، وثلاث قناطر، وفق تصميمٍ هندسي تطلّع وقتها إلى إدخال أكبر قدرٍ ممكنٍ من الضوء.
بدَت الشرفة مُرَقَّعةً ترقيعاً، بخلاف مظهر الطبقة أسفلها. بلى، هي تحمِل فوق مستطاعها لا ريب. لكن لا أعرف كيف كنّا والحيّ نظهر في عين الزنّانة الإسرائيلية فوق رؤوسنا جميعاً، في سماء بيروت «ذَاتِ الْحُبُكِ». لم ينقطع طنينها، لا بل إنّها القول الواحد بأنّ العاصمة كلّها تسهر على شرفةٍ واحدةٍ تؤول إلى السقوط.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
تَذكَّرني والدُ الشاب الشهيد. زرتهم سريعاً قبل سنوات قليلة في منزلهم بالقرية، جنب قريتي الزِّرارية بالجنوب. راح يعيدني إليها، بعدما كنتُ مُقِلّاً في زيارتها بالأعوام الأخيرة. إلى حدود الـ 18 عاماً، نشأتُ بين الأسماء والأحياء والأماكن التي أخذ يحدِّثني عنها. أرخيتُ طريقة قعودي، ولساني للهجتي الجنوبية.
مضى نحو عشرين عاماً منذ غادرتُ قريتي. لم أعد سوى في زيارات ظلّت اعتيادية حتى نضبت. لا أنكِر أنّ واحداً من الأسباب وجود غربة ثقافية لم تنفكّ تكبر. ونفور أيديولوجي. وفوائض قوّة لا تتحمّلها شخصيتي. شخصية هي في نواتها، كما أكتشف تباعاً، من النوع القروي البَرِمِ بالهرميّات، سواء أكانت دنيويةً أم دينية.
يستحضر ذهني أشخاصاً من الحياة العادية من هذا النمط بالفعل. كبرتُ بينهم. رحلوا في غالبهم. من زمنٍ آخر. كانت الدنيا لهم جغرافيا (سهول، وجِلال، وجبال..)، ومواسم (زرع، ومطر، وشمس، وجني، وحصاد..). ومواويل. وإيمان بالله، غير متزمِّتٍ وغير ملتزِمٍ غالباً. لكنّها شخصيات رأيتُها منذ تحرير الجنوب عام 2000 تجتمع بغالبيتها وعلى اختلاف أهوائها تحت العِمامة السوداء لثالث أمين عام لحزب الله منذ 1992.
سرعان ما صارت عِمامة «السيِّد حسن» ثاني عِمامة جامعة لشيعة لبنان، بعد مؤسِّس «حركة أمل» الإمام المُغيَّب منذ عام 1978 السيِّد موسى الصدر. «الشيعة ما بتِقنَعن غير العمامة السودا»، يمزح صديق دون أن ينسى التنبيه: «بس مش أي وحدة!». أنا غير معنيٍّ، لكنّي أبصم بالعشرة له ونكمل الحديث.
لعلّ الخيط الرفيع الجامع جنوباً بين زعامة «الإمام المُغيَّب» وبين تلك المطلقة التي نالها نصر الله، هو في شكله الأوّلي: الخوف من القتل، على يد إسرائيل. «عبارة الخوف من الموت العنيف، لا صون الحياة» هي ما يَستخدمه مؤسِّس نظرية الدولة الحديثة الناشئة من «حرب الجميع على الجميع»، توماس هوبز. «الخوف من القتل يقع في أصل بنائه العقلاني للدولة» (إنزو ترافرسو).
هل الخوف من القتل يقع في أصل تصوّر أهل قرى الجنوب لـ «الحِزب» وقبله حركة أمل بكونهما دولة؟
كان هناك استعداد لبناء دولة (أنّى توجّهت ركائبها). «دولة الحِزب»، إنّها بَدئياً بناء ثنائي شاركت فيه فئة من السكان لم تنفكّ تكبر، وسط حالة دينية/أيديولوجية متصاعدة. بهذا المعنى هي ليست أداة قمع «محلية»، بل تنضوي تحتها الغالبية؛ الصناعة متبادلة.
هذا ما أوّد افتراضه، بصورةٍ استيعاديةٍ للماضي، في هذه اللحظة، في وجهِ آلة قتلٍ إسرائيلية جهنّمية. لا أعرف إلى أيّ مدى مقنِعٌ ما أقوله، أو يستوي. أنا أحكي لا غير، عبر مهنتي الصحافة المكتوبة التي أدافع عن بقائها. لكن ما أنا على يقينٍ منه هو أنّنا «ما حَ نِرجَع عَ الجنوب إذا انهزم لحِزْب». بهذا رحتُ أحدِّثُ نفسي فيما أنا أنظر في والد الشهيد وهو يواصل حديثه هارباً بنا إلى ما كان قبل هذه الحرب.
حين ذهبتُ إليه في حي زقاق البلاط الملاصق لوسط بيروت التاريخي، كان أقل من أسبوعَين قد مرّا على حدث اغتيال نصر الله في 27 أيلول/ سبتمبر. وقفتُ في الشارع الفرعي غير بعيدٍ من تلك الشرفة التي يتهدّدها السقوط. أستدلّ على العنوان من صاحب بقالة يجلس في كرسيٍّ جنب العتبة. يتابع عبر هاتفه أخبار الجنوب، والقصف على البقاع والهرمل وبعلبك لا شكّ. هذا ما فهمته.
«تريد إسرائيل إنهاكَ العمق بهدف فصله عن بيروت والجنوب في لحظةٍ ما»، كنتُ قد قلتُ لصديقٍ.
لم يَعرف الدِّكنجي أن يدلَّني. فالشهداء كثر، بين الحروب السابقة مع إسرائيل والحرب الحالية المُقرّة رسمياً في الحِزب: «على طريق القدس». ثم عاد الرجل إلى الصندوق لمحاسبة زبونٍ جديدٍ. عمله لم يتوقّف لحسن الحظ، إذ لم تنقطع السلاسل التموينية والغذائية في العاصمة ولبنان عامةً، باستثناء المناطق المتعرِّضة للقصف والوحشية الإسرائيلية.
تخشى الغالبية، في ما تخشاه، على هذه السلاسل. بل تخاف من حصارٍ قد تفرضه إسرائيل. مع اغتيال نصر الله بلغ الأمر ذروته، رغم «اليقين بأنه الشهادة جاية جاية» يمزح صديق وُلِد في الضاحية الجنوبية وما زال يتردّد عليها.
وقع الاغتيال في ختام مسار انحدَر بشدّة بالمقاومة منذ تفجير أدوات الاتصال البايجرز (17 أيلول/ سبتمبر)، وبعدها استهداف اجتماعٍ لواحدة من مفاخر الحزب عسكرياً: قوّة الرضوان (20 أيلول/ سبتمبر). وقبلهما اغتيال القيادي العسكري فؤاد شُكر (30 تموز/ يوليو).
هكذا كانت «جبهة الإسناد» التي أطلقها الحِزب في 08/10/2023 “دعماً لغزّة” تشهد منقلباً أعنف بكثير. الاشتباكات البرية لم تقع بعد، رغم الشهور التي مضت. وفي نهار الإثنين 23 أيلول/ سبتمبر، هاجَت إسرائيل بحملة قصفٍ جوي أحصت الأرقام الرسمية ضحاياه مساءً بنحو 500 شهيدٍ، وأكثر من 1500 جريح.
في الخضم، وبناءً على «قرار المستوى السياسي وتقييم الوضع الأمني المتوازي مع القتال في غزّة وجبهات أخرى»، يرفع الجيش الإسرائيلي سقف الرعب المُتوخّى والحرب النفسية، مطلقاً اسم «سهام الشمال» على «العملية العسكرية» في لبنان.
«الله الوكيل ما عندن غير الطيران»، تؤكِّد لي جارتنا التي صمدت في القرية «لوقت ضربوا السِّيِّد». يقول صديق من بيئة الحِزب: «إنّه اغتيال أضخم بتبعاته وأخطر بأشواط من اغتيال رفيق الحريري بالـ 2005». يضيف ضاحكاً: «أصلاً أنا صرت مقتنع إنّه إسرائيل اغتالت الحريري بشي صاروخ ما حدا بيشوفه… عَنْدينُنْ مَلّا تكنولوجيات».
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
لم يكد أسبوع يمرّ على استشهاد الزعيم السياسي الديني الذي أكمل تحصيله في النجف بالعراق إبان السبعينيات، حتى استُهدِف من وُصِف بالخليفة السيِّد هاشم صفي الدين ليل 3 تشرين أول/ أكتوبر. الرائحة في بيروت بعد العمليتين سامّةً لا تُطاق. عشرات الأطنان فُجِّرت. كانت زوجتي قد غادرت صباحاً رفقة طفلَينا إلى بلدها تونس في رحلة إجلاء. سفرٌ لعودةٍ مؤجَّلةٍ.
«ايه أحسن أكيد»، قال لي والد الشهيد حين أخبرته بأنّ أسرتي «صاروا بتونس». من وقتها إلى حدود اليوم بالكاد تراجع قصفُ الضاحية عن الذروة التي بلغها. هي تفرغ أكثر فأكثر مع كلّ إنذارٍ إسرائيلي بإخلاء أحياء جديدة. «بلا حسد اليوم ما في إخلاءات»، تقول زوجتي، ماكينة الأحداث التفصيلية.
حزينة «ضاحية السيِّد». هكذا قبل أيام، راح صديق صحافي من أبنائها يخبرني عن تجواله فيها وقد «تبدّل الحال». «موحِشة»، يقول بحزنٍ وأسى شديدين. كدتُ أدمع أمامه. نفرتُ منها بشدّةٍ في «سنوات القوّة» و«الدولة». لكنّي الآن لا أشعر سوى بعاطفةٍ تغور تجاهها. حُفِرت في الوجدان، بل صارت تسكنني كما الجنوب.
في الأصل، هي الآن عنوان مواجهات طالت مع الاستعمار، وستطول. هذه لغة لم تعد «خشبيةً». ففي الإطار الأوسع، ما نراه اليوم «سواء في غزّة أو لبنان –يقول صديق مصري– انتقل من مجرّد عدوان عسكري إلى حالة من الإمبريالية، حالة من الإخضاع المباشر بالسلاح مصحوب بالاحتلال الجغرافي… والدول الغربية كلّها مجتمعة على إخضاع هذه المناطق» التي من بينها… الضاحية.
كان ابنها يحدِّثني عنها. «هيِّ كل شي.. ذكرياتنا حياتنا… كل شي». ما فاجأني فيه، وأيضاً في والد الشهيد، هو التماسك، بل التسليم. «هذا إيمان»، قال لي لاحقاً الصديق الذي كان بجانبي وخاف من سقوط الشرفة. أضاف: «أصلاً بعد إعلان اغتيال السيِّد العالم كلها زاد عندها التسليم… كمان خلَص الكبير وراح…».
«خُلصِت الأخبار مع بيان نعي السيِّد»، يقول آخر متحسِّراً. لكن سرعان ما راح العزاء يُرجأ، رغم التيه الذي فرضه الرحيل المُباغِت لابن بلدة البازوريّة في جنوب الليطاني، حيث سيعيش طويلاً من الآن فصاعداً. لدي يقين بذلك.
راحت العزاءات كلّها تبدو وكأنّها تُرجأ. لا مكان للعزاء الآن في بيئة الحِزب بوجهٍ خاصٍ. ليس لأنّ «العالم يظهر فيه مُفقَراً وفارِغاً». إنّما: «خلص نحن بحرب وجود.. بعدين مع هيدا الاغتيال تغيّر معنى الخوف… ما عاد تفرق معك… أنا عيلتي بس صار فيها أربع شهدا»، يقول صديق مناصر.
يضيف لاحقاً: «يا زَلَمة م هي أصلاً إسرائيل ساعات كتير ما بتسمح بسحب الشهدا عَ مدى أيام… فأي عزا؟!».
العزاءات الآن بمقام المواساة والوَنَس لا غير. فأخذ والد الشهيد يحدِّثني في ذاك المساء الخريفي عن أماكن قد تكون تحت القصف في الأثناء. «كوارث بالبيئة»، علَّق على استهداف إسرائيل للتوِّ مصنع طلاء عند أطراف قريتي. بلغ الحديث به، لا أذكر كيف، معملاً ينتِج دبس الخرّوب. شرح لي طريقته المميَّزة في التحضير.
يقع المعمل عند الطريق المفضي إلى الوادي حيث يعبر نهر الليطاني قرية كل واحد منّا. قريتان «شيعيتان»، على حال غالبية الجنوب. نما الحِزب فيهما تدريجاً «خاصة بعد التحرير بالـ 2000» يشدِّد صديق، فيما أعتبر من جهتي أنّ الطفرة، أو الهِجرة الشيعية إليه بدأت بعد حرب 2006.
تقع قريتانا مباشرةً ضمن خط قرى الضفة الشمالية للنهر. يسيل الحديث بيننا، بعكس مجرى المياه الذي يجفّ. إلى الضفة الشمالية هذه تريد إسرائيل إرجاع المقاومة. إنّه أحد بنود القرار الأممي 1701 الذي أنهى حرب 2006. لكن في الحرب الحالية… «إسرائيل ما بدها تنهيها أصلاً»، يؤكِّد أصدقاء كثر.
واحد من أدلَّتهم ما أشيعَ حول أنّ «السيِّد حسن» كان قد وافق شخصياً في أيامه الأخيرة على تطبيق القرار «حقناً للدماء». أفهمها هذه الموافقة المبدئية.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
في واقع الأمر، كان الرجل في السياق الجنوبي، والشيعي الأعم، عنوان مقاومة ودفاع في وجه إسرائيل. لكنّه وفَّر أيضاً أكثر العصور رخاءً لمن عاشوا في ظلّ زعامته «الأخويّة» مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي. حمل حزب الله، والأنصار المتزايدين باطّراد من شيعة لبنان، إلى مستويات لم يحلموا بها قط. قطعاً! منذ حرب تموز/يوليو 2006، صارت عاصمة الزعامة: الضاحية، وزناً من أوزان الإقليم الثقيلة.
هذه الضاحية هي نسخة ما بعد 2006 بكل المعاني، خاصةً عمرانياً إذ أعيد إعمارها. قبل التحرير، كانت بنظري منفى جنوبياً. منفى بيروتي لـ الحِزب في أبرز أحيائها على غرار بئر العبد، وحارة حريك. كانت مجتمعاً ينمو على الهامش. غير متشابك واقعياً بمحيطه.
بعد ذلك، «عشنا زمن السيِّد» يقول حِزبيٌّ. لو أردتُ تحديد بدايةٍ لهذا الزمن، زمن الرخاء و«الانتصارات»، لاخترت مظاهرة الثامن من آذار/مارس 2005. خطابٌ بوسط بيروت التاريخي يتحدّى ما شاع بأنّه «هجمة المعارضة على المقاومة»، ومهرَته جملة أشعلت البلد: «بيروت دمّرها شارون وحماها حافظ الأسد».
في عصر ذلك اليوم الذي يبدو لي الآن موغلاً في بُعدِه، راحت أبواب الزعامة تُفتح واسعةً أمام الطفل المولود عام 1960 لنازحَين جنوبيَّين في أحد الأحياء الفقيرة لضاحية بيروت الشرقية. كأنّه لاقى قدراً محتوماً على ذلك المنبر القريب جداً من شقة أهل الشهيد حيث كنّا في زقاق البلاط.
ثم لاحقاً، يومان بعد بدء حرب 2006، في مساء 14 تموز/يوليو، أخذت الزعامة أبعادها كاملةً بما يتجاوز البعد الشيعي الضيّق وقتها، لتكون شبه-وطنية وعربيةً. في تلك الليلة تحلّقنا وسط انقطاع الكهرباء حول الراديو. نسيتُ وجوهَ من التفوا من حولي. أفراد الأسرة ونازحون أقارب كثر عجّ المنزل بهم كما الشقة المجاورة، وما علاهما.
هكذا فجأةً في مكالمته مع قناة المنار يقول الجملة الشهيرة الطويلة بإيقاعٍ سيظلّ محفوراً في الذاكرة أبداً: «المفاجآت التي وعدتكم بها سوف تبدأ من الآن.. الآن في عرض البحر، في مقابل بيروت، البارجة الحربية العسكرية الإسرائيلية التي اعتدت على بنيتنا التحتية وعلى بيوت الناس وعلى المدنيين، انظروا إليها تحترق…».
كان منذ عام 2005 مع اغتيال الحريري قد غدا كثير الظهور إعلامياً، في خطب وكلمات غالباً ما تفلت منه في خلالها لهجته القريبة إلى لهجة أهالي مدينة صور. صارت هذه الزعامة مع الوقت محفورة في الوجدان الجنوبي والشيعي عامةً.
بدا الظهور المتكرِّر يفرض نفسه. ففي 2006 انتهت الحرب وعلى قائدها المنتصر أن يخطب مدافعاً عن سلاحه ويرسم أطر السلام الداخلي الجديد. ثم بعد مراحل اشتداد التوتر اللبناني، جاءت حرب سوريا، والقلاقل الإقليمية والمحلية كافة، فضلاً عن كلمات المناسبات الدينية وتلك الخاصة برزنامة حزبه.
تواصل الأمر حتى الاغتيال. في كلمته الأخيرة (19/09)، أصرّ مجدداً على ربط وقف الأعمال القتالية في الجنوب بوقفها في غزّة. وختم بأنّ المعركة «كبيرة وطويلة مع هذا الكيان ولكن أفقها ونهايتها واضحة».
اعتاد «الجمهور» ما يُشبِه السهرة على مدار السنوات. إنّها السهرة الطويلة التي انتهت. يتحلَّقون للاستماع ولأخذ الموقف. صار السيِّد صانع الخطاب السياسي العام الوحيد لهذا الجمهور. تكاسل صنّاع الكلام الموالون، بوجهٍ خاصٍ الصحافيون. خبرتُ الأمر في عملي الصحافي في بيروت.
تصدّر المُنجِّمون المشهد مع الاغتيال.
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
يوضح صديق من «البيئة» اللصيقة دينياً، بل أيديولوجياً: «بصفته عالم دين، وقائد حزب، ومدير حرب نفسية، عمل غيابُه مشكلة أو كارثة بالنسبة إلنا، ووضع أمامنا كل التساؤلات الوجودية دفعة واحدة. جزء أجيبَ عنه مع الأيام، وجزء لا يزال مطروحاً».
«هو كان ضمان النصر لأهل الجنوب بالخصوص، بمختلف انتماءاتهم»، تلفت من جهتها صديقة من قريةٍ مجاورةٍ. تضيف: «الآن لا يوجد من يضمن النصر لنا، حتى بالمعنى الشخصي. ما تِنسى، مهما كانت علاقتك قريبة أو بعيدة بالحِزب، فهيدي العلاقة نُسِجت مع شخص السيِّد أكثر مما نُسِجَت مع الحزب نفسه».
تُكمِل: «لكن هذا لا يمنع أنّه توجد ثقة بالمقاومة والميدان لدى معظم الجنوبيين، ولدى بيئة الحزب أين ما كان في لبنان، خاصةً إنه هيدي المقاومة مش شي غير واضح المعالم، هي أبناء هذه البيئات وأهلها».
أعتقد أنّ القلق على المقاومة وإرث الرجل برمّته بلغ الذروة في ليلة اغتيال صفي الدين. في خضمّها، بعثَت صديقة بعُدَت عن الحِزب كثيراً وتعيش في الخارج: «المقاومة عم تنهار، الخروقات ضخمة، الكل خيفانين من بعض».
«معقول يطلع بعده عايش؟!»، أسأل الصديق بجانبي في شرفة العزاء بزقاق البلاط. لم تسمح إسرائيل ببدء عمليات البحث عنه ومن معه طوال نحو ثلاثة أسابيع.
لكن منذ اليوم التالي لاغتيال صفي الدين بدا الحزب يستعيد أزِمَّة المبادرة في الجبهة جنوباً على ما أذكر الآن. ظهر غير متأثِّرٍ بشكلٍ مباشرٍ باحتمال أن يكون الرجل قد اغتيل فعلاً. لم تُعِد الأنفاس، ولم تُمسِك بالمسار الانحداري، سوى تطوّرات الميدان في الجنوب الذي سيشتعل برّاً «على أيدي أبناء السيِّد» بعد كبتٍ دام نحو عامٍ.
على الجبهة في الجنوب استشهد ابن الرجل الذي ذهبنا نعزّيه. يقول صديق محامٍ يعيش في الخارج: «يُظهر الميدان إنّه الدنيا ما انهارت رغم الضربات القاتلة برأس المقاومة». أقول لآخر إنّ انطباعي الشخصي عن الحِزب كان دائماً بأنّ هناك «جهوزية للقيادة»، فيُعقِّب: «يا زَلَمة لو حزب تاني آكل عشرة بالميّة من هلضربات كان انتهى».
لكن يبقى السؤال الأبرز: هل الحِزب والمقاومة في صدد خسارة السلم الداخلي الذي أرسى له نصر الله؟ فمن دون الحديث بالخصوص، كان هذا السؤال مطروحاً بصيغة أو بأخرى لدى كلٍّ منا في الجلسة مع والد الشهيد. الناس فئتان برأيي، إما من هم يخشون الحرب الأهلية أو من يترقبونها بصقوريّة.
يذهب معارض لـ الحِزب إلى أنّ واحداً من الأسباب التي منعت طوال عشرين عاماً «الحروبَ الأهلية اللبنانية الصامتة» في أقصى لحظات التوتر من أن تُترجَم ميدانياً ودموياً، هو «إنه عشنا بظلّ ’سلام حزب الله‘ من وقت خروج سوريا». كيف؟ «منذ 2005، كان مدى قوّة حزب الله عم يمنع ذهاب آخرين مِتِل جعجع بالأخص نحو خيارات عسكرية».
فهل يخافها الحزب اليوم؟ «بالعموم، الحرب الأهلية مُكلِفة حالياً»، يقول صحافي صديق. يضيف: «ما يمكن توقّعه عقلانياً حتى الآن هو: فوضى أهلية تشهد أنواع الصدامات كافة، المسلّحة وغير المسلّحة… إلا إذا قرّرت إسرائيل إنها تْموِّل حرب أهلية فعلية في لحظة بتعتبرها فرصة لتحقيق منطقة نفوذ عسكري، وهذا غير مستبعد».
يتابع: «لكن كمان الحرب الحالية كتير عنيفة ودموية ومنهكة حتى يشارك فيها الزعما الحاليين… خاصةً بعدما خبِروا الرخاء بعد خنادق وميادين التحارب الأهلي… حتى سمير جعجع، أكتر المتحمِّسين لهزيمة كل فكرة المقاومة بالمنطقة، خبِرَ الهزيمةَ والثأر و11 عاماً في زنزانة منفردة، ثم عرف الرفاه والرخاء، فأيّهما أعزّ؟!».
«كمان الأحزاب نفسها –يضيف– وكل زعامة، بيديروا وبيحموا شبكات مالية ضخمة لها مصالحها وحصصها بالقرار». ثم يستدرك خاتماً: «شوف… بعض القوى تراهن أكيد على ضعف حزب الله لكنها تدرك أيضاً إنه الحِزب مش منظمة التحرير، ولن يذهب إلى تونس»، في إشارة إلى خروج المنظمة من بيروت نحو المنفى التونسي بعد حصار 1982 وبداية المسار التفاوضي الذي سيفضي إلى تسوية أوسلو عام 1993.
من خصائص طرح سؤال السلم الداخلي حالياً أنّه يندرج في ختام سياقٍ «صارْ فيه غُربِة تجاه الحِزب»، يشير صديق أستاذ في العلوم السياسية. النازحون الذين كانوا يملؤون الحيّ حيث شقة الشهيد، هم أيضاً، كما غالبية سكانه، يشعرون بالغُربةِ تجاههم لا ريب.
أولى بوادر الغُربة هذه كانت مع أحداث السابع من أيار/مايو 2008 بوجهٍ خاصٍ. شكّلت منعطفاً محورياً في المقاربات المحلية تجاه الحِزب ومواليه، وأوّل مناسبةٍ يُتّهم فيها باستخدام سلاحه في الداخل. قد تتجاوزها في الأثر الانتفاضة الشعبية عام 2019، إذ لا يُحمَل على الحِزب وسيِّده رفضهما دعمها فحسب، بل «التهديد بحرب أهلية وإفراغ الساحات بالبلطجة… دعماً بالنهاية للنظام والمنظومة المالية يللي عم يستفيد منها»، يقول صديق شارك في المظاهرات.
لذا، تغيّرت تمثّلات وقيم النازح الحزبي أو المناصر اللصيق مقارنةً بعام 2006. وتغيّرت بدورها نظرة «الآخر» له. هو يأتي بيروت وبقية المناطق في هذه المرّة من مسار تراكُم قوّة و«صِداميةٍ وصقوريةٍ» على مدار 18 عاماً، وفق الصديق نفسه. لعلّ أكثر موقف يُبرِز تناقضات الوضعية الراهنة هو ما جاءني مراسَلةً من جهة أكاديمي بعد يومين من اغتيال السيِّد. يقول:
«جلتُ قليلاً في بيروت الأخرى. محزنٌ جداً. سيارات وعائلات نازحة في كلّ مكان، وشائعات تقول إنّه لا يزال حياً. أكثر ما أحزنني هو شعوري بعدم الارتياح. افتقاري إلى التعاطف. لم تكن لي سوى رغبة واحدة: العودة إلى حيّي. 7 أيار وقمع الانتفاضة تركا أثرهما بي. قلبي حجر، وأشعر بالنبذ حيالهم. حين أُجرِّدهم من إنسانيتهم، أُجرِّد نفسي من إنسانيتها أيضاً. هذا عكس تماماً ما كنت أشعر به في 2006. وهكذا سيفوز الإسرائيليون. ما زلت أجدهم متعجرِفين. لم يستوعبوا الضربة بعد وحجم الهزيمة. ربما حالهم كحال الكتائب اللبنانية عام 1982، عندما توجّهوا نحو صبرا وشاتيلا [بعد اغتيال بشير الجميّل]. هذه ضغينة لا أستطيع احتواءها. خجلتُ من نفسي».
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
بالفعل، كانت غُربة الحِزب بوجهَيها قاسية بل مؤذية، سواء أكان محلياً أو عربياً. الحالتان الأشد سطوعاً هما سوريا وانتفاضة 2019. غير أنّ صديقاً يعمل صحافياً يلوم نفسه حالياً بأنّ الأمر بلغ به «إنّه بالـ 2019 قِلنا السيِّد خذَلنا!». المراجعات تبدو كثيرة. في العمق، العزاء بمعنى ما يُعاش ويُكابَد نفسياً من أجل ختم مرحلة، ليس مؤجّلاً. إنّه سائرٌ وسط الحرب، وأحياناً وسط التخبّط والإنكار. لكنّ الآلة صامتةٌ «إجلالاً للحظة، ولأنُه الحرب حرب وجود».
هكذا يبدو الراهن مُطعَّماً بقلق لا ينفك يتعاظم. فيذهب صديق صحافي من «البيئة» إلى «سيناريو قاتم» قد يقع في حال «خاف الجنوبيون من طول أمد الحرب وخسارة الرزق على صعيد مستويات ستجعلهم يعودون إلى دوائر الفقر التي كانوا فيها».
إلى حدود اليوم، 27 تشرين أول/ أكتوبر تعوِّل الغالبية على أنّ إسرائيل «ستتعب في لحظةٍ ما». رغم أنّ هناك أصوات تُبدي اعتراضها بصيغة أنّنا، في هذه المرّة أيضاً، «ما عم نفهم بعد وين صارت إسرائيل بعد سبعة أكتوبر». لذا يذهب صديق متشائم بطبعِه إلى أنّ «الحرب الكبرى مع إسرائيل قرَّبِت».
يعقِّب: «نصر الله نفسه قال وصلنا إلى التناقض المطلق». يشدّد أيضاً على أنّ «الأيام يللي سبقت الاغتيال ويللي بعدها هنن مجرّد تمرين على الرعب الجاية يا كبير».
لكن بالمعاني كافة، لا شيء بلغ مستوى لحظة اغتيال أمين عام حزب الله وكل ما أثارته. جمدت الدماء في العروق. لأيام شبه خرساء، صارت «المياه كلّها بلون الغرق» «هيدا السيِّد!»، «هيدا نصر الله!».
أشعل رحيله لحظةً عاطفيةً بامتيازٍ معه ومع تاريخ المقاومة الإسلامية في لبنان. قرأتُ نعياً لافتاً ومؤثِّراً من شخصيةٍ فكرية لبنانية بارزة غير قريبة من الحِزب. لاحقاً وجدته محذوفاً (وهو ما لا يعنيني). لكن ربما في هذا الحذف دلالة على مدى الإرباك الذي أثارته حتى بين «البعيدين» الشحنةُ العاطفية للحظة اغتيال إسرائيل شخصيةً بقدر نصر الله. فهو رغم كل شيء، يبقى في بعدٍ رئيسي من هويته عربياً مقاوماً.
لا أنكِر أنّ وسط هذا الانكسار كنتُ خجِلاً بأن أجيبَ والد الشهيد بأنّ الكتاب الذي أعمل على ترجمته عنوانه «هزيمة الغرب». «هوِّ يعني بالسياق العالمي فينا نقول ماشي الحال، بس بدّك هون الله يشد معنا»، قلتُ، وضحكنا.
حين هممتُ مغادراً لمحتُ صبيةً تتكئ على جدار الشرفة قبالتنا. ما زلنا نخاف عليها من السقوط. بدت الصبية المحجّبة ضجرةً. تُقلِّب بأصابعها شاشة التلفون. ظهرت سائمة ضمن كادرٍ معماري لبيروت متوسطية أنهتها حروبنا الكثيرة باختلاف دمائها. حجارة المبنى الرملية مثل حجارة مقرّ وزارة الخارجية اللبنانية، قصر بسترس. فهمتُ سابقاً أنّ نوع هذه الحجارة هو السبب في أنّ «القصر متهالك، وبدهم يتركوه».
لحجارة الرمل من يصونها، بل من يحكي عنها. أما الصبية المتَّكِئة عليها مالَّةً هاتفها كما تبدو، فبحسرةٍ قلتُ عنها: «لن يظهر في الشاشة بعد اليوم. السهرة الطويلة خُلصِتْ». عشتُ معه في جنوبٍ كان حرّاً بالفعل. الآن، وتوقاً إلى الحرية من جديد، سأظلّ أنظر إلى عرضِ البحرِ يا ابنَ الجنوبِ. هذا عزائي.