جروح لا يشفيها الزمن وحده

أدركت أن ما تعرضت إليه في طفولتي هو "تحرشٌ جنسيٌ". كنتُ ضحيةً، لكنني أخفيتُ أثر الاعتداء بداخلي على قسوته. بعد وقت عرفت أني لست وحدي، أنا جزء من كثيرين وكثيرات وكلنا نحمل جروحًا لا تندمل
ــــــــ جسد
11 نوفمبر 2025

جرح بلا نهاية، يتمدد كلما تذكرته، كثيرًا ما أتمنى لو يُمحى من ذهني. لحظات خوف وعجز في سن الطفولة البريئة كسرت بداخلك شيء لا يصلحه الزمن.

كنت في العاشرة تقريبًا، رجل سبعيني يجلس بجانبي في انتظار الأتوبيس، حاول الاقتراب منى وتحسس جسدي بلطف مريب، ثم دعاني للذهاب لبيته حيث لديه أحدث ألعاب الفيديو. توترت ورفضت بحجة أن أبي ينتظرني. صدمت عندما أمسك بيدي ووضعها على عضوه. انتزعت يدي وهربت عابرًا الطريق وسط السيارات دون النظر يميني أو يساري. لا أتذكر كيف وصلت الى البيت ساعتها، ولم أتكلم عن ما حدث وقتها خفتُ أن يقع عليّ اللوم في النهاية.

لمسات أشعرتني بأن ثمة اختراق لا ينبغي لأحد القيام به، واقتحام لمنطقة تخصني وحدي، لم أكن أمتلك ساعتها القدرة على تسمية المشاعر، لكن مع مرور الوقت كلما اتسع إدراكي للأشياء قليلًا، وتذكرت الواقعة وحاولت تفسيرها بناءً على ما توصلت إليه، كلما زادت قسوة التفكير.

إلى أن أدركت أن ما تعرضت إليه في طفولتي هو “تحرشًا جنسيًا”. كنتُ ضحيةً، لكنني أخفيتُ أثر الاعتداء بداخلي على قسوته. بعد وقت عرفت أني لست وحدي، أنا جزء من كثيرون وكثيرات وكلنا نحمل جروحًا لا تندمل.

الآن أعرف أن مرور الزمن ليس كافيًا لشفاء تلك الجروح، لابد أن يكون هناك شيْ آخر، في حالتي اكتشفت أن الحديث عن ما وقع، محاولة البحث عن آخرين ومشاركة خبرة الألم، استعمال الفوتوغرافيا كوسيلة واختبار قدرتها على التقاط أثر الألم هو ما دفعني لبداية هذا المشروع الطويل، لا أعرف متى سأنتهي منه، لكن ما زلت أبحث وأجمع حكايات وأحاول تصوير مآلات تلك الجروح.

وفقًا لتقديرات حديثة أصدرتها منظمة اليونيسيف عالمياً، تعرضت 650 مليون امرأة -بنسبة 1 من كل 5- للعنف الجنسي في الطفولة. وبين الرجال، تعرض ما بين 410 و530 مليون -حوالي 1 من كل 7- للعنف الجنسي في مرحلة الطفولة.

تشير دراسات منظمة «داركنس تو لايت»، وهي منظمة معنية بالوقاية من الاعتداء الجنسي على الأطفال، إلى أنه قد يواجه الطفل الاعتداء أو الاستغلال الجنسي في المنزل أو المدرسة أو في محيطه المجتمعي. وغالبًا ما يحدث الإعتداء على يد شخص يعرفه الطفل ويثق به؛ إذ تُظهر الدراسات أن نحو 90% من ضحايا الاعتداء الجنسي من الأطفال يعرفون المعتدى عليهم، بينما يتعرض حوالي 30% منهم للاعتداء على يد أحد أفراد أسرهم.

***

“لقد كسرت جزءًا كبيرًا مني. لماذا فعلت ذلك؟ هل ظننت أنني صغيرة جدًا على التذكر؟ لطالما حاولتُ إيجاد إجابات لأسئلة كثيرة، لكنني دائمًا ما أعود إلى الحيرة”، هذا ما كتبته مريم (اسم مستعار) في رسالة إلى المعتدى عليها وهي طفلة.

تعرضت مريم، البالغة من العمر 21 عامًا، لاعتداء جنسي عندما كانت في الخامسة من عمرها. خلال زيارة عائلية، احتاج جدها إلى قيلولة، فدعاه والداها للنوم في سريرها.

“كنتُ متحمسة جدًا لأنه سيكون ضيفي، فأريته غرفتي وألعابي، ثم ذهبنا إلى الفراش معًا”.

ولأن مريم كانت مفعمة بالحماس لاستقبال هذا الزائر العزيز في غرفتها، لم تنم فورًا. وفوجئت بأن شيئًا سيئًا يحدث.

“للأسف، وصلت إلى مرحلة بدأت فيها أنسى كل الذكريات الجميلة عنك، إنها تتلاشى، لكن ما لا يتلاشى هو الذكرى المؤلمة التي تركتها لي، والذكريات التي لا تختفي أبدًا، مهما حاولت جاهدًا،” كتبت مريم في جزء آخر من رسالتها إلى جدها المتوفي.

***

في نفق عبور مشاة ضيق ومظلم ومزدحم، واجهت سالي، البالغة من العمر أحد عشر عامًا، صدمةً لم تشهدها في حياتها قط، حين شعرت بشيء يلمس ظهرها. استدارت فوجدت رجلاً يمسك بقضيبه ويستمني أمامها.

“كانت أول مرة اشوف حاجة زي كده، كانت صدمة كبيرة ورجعت على البيت بسرعة من غير ما أحكي أي حاجة لحد”.

سالي تبلغ من العمر 30 عامًا، وقد تعرضت للتحرش الجنسي أكثر من مرة. كانت المرة الأولى في الصف الخامس، جاء معلمها إلى منزلها ليعطيها درسًا خاصًا في الرياضيات بعد أن أقنع والدتها بحاجتها إلى تطوير مهاراتها. خلال الدرس، ابتعدت عائلتها لمنح المعلم وتلميذته الهدوء والتركيز. كان ذلك أكثر من اللازم ليفعل كل ما يريد. اقترب منها أكثر فأكثر وبدأ يلمس جسدها.

 “قضيت الفصل الدراسي كله بعاني من ده، بعد كده عرض علينا يجي مرتين اسبوعيًا بدل مرة واحدة بنفس الرسوم، وفي كل مرة كان بيمسك كتفي ويلمس رجلي من فوق، وخدي وشفايفي. مكنتش فاهمة هو بيعمل ايه أو عايز ايه، لكن كنت باحس بحاجة غلط بتحصل وباكون متضايقة جداً”.

عندما أدركت سالي أنه لن يتوقف أبدًا ما لم تضع حدًا له بنفسها، بدأت مرة بالصراخ وطلبت من والدتها طرده من المنزل. سألتها والدتها عما يحدث، لكن سالي كانت متوترة وغير قادرة على التعبير عن أي شيء. مع ذلك، نجح المعلم في إقناع والدتها بأن سالي لا تريد الدراسة وأنها سترسب في الامتحان. ثم غادر المنزل دون أن يُلام.

تقول سالي: ” لسه بحس بلمسة ايده علي رجلي وكتفي، وريحة السجاير الي كانت فى هدومه. في كل مرة افتكر الموقف، وأقضي اليوم كله أشعر بالاشمئزاز منه”

الآن لدى سالي الشجاعة لمواجهة المتحرش وجهاً لوجه، عندما يحدث ذلك، ربما يحتاج رد فعلها لشيء من الوقت لكنه يخرج، على عكس ما حدث في طفولتها عندما لم يكن بإمكانها فعل أي شيء سوى الصمت حياله.

***

الأكثر ألمًا عندما يأتي الاعتداء الجنسي من أقرب شخص للطفل على الإطلاق، هذا لا يفجع القلب فقط، بل يمكن أن يحطم الحياة ذاتها.

مايا (اسم مستعار) ابنة الخمسة عشر عامًا، تنام في سريرها مع والدها. في هذا اليوم، كانا بمفردهما في المنزل، فطلب منها والدها أن تنام معه لأنه اشتاق إليها. تنام مايا على جانبها الأيمن، ويحتضنها والدها من الخلف ويتحدث معها قليلًا. ثم يحين وقت النوم، وكل شيء يسير على ما يرام. ولكن، تتفاجئ بمحاولة والدها التحرش بها بلمس أكثر الأماكن حساسية في جسد البنت.

“عندما تنام في سريرك، في منزلك، يجب أن يكون مكانًا آمنًا، وعندما تكون بين احضان والدك، يجب أن يكون المكان الأكثر أمانًا في العالم. ولكن عندما تكتشف أن والدك بدأ بالاعتداء عليك جنسيًا، تشعر وكأن العالم كله قد انتهى… بلمسه لهذا المكان، حطم بداخلي كل المعاني النبيلة المرتبطة بالأب، انتفضت خارجة من السرير. تمنيت أن يرحل عني للأبد. لكن ذلك لم يحدث وقتها، لأنني كنت صغيرة وكنا نعيش في المملكة العربية السعودية”.

مايا تبلغ الآن من العمر 29 عامًا، مصرية، ولدت في المملكة العربية السعودية. لديها أربع شقيقات، انفصل والدها ووالدتها عندما كانت طفلة. تعرضت للتحرش ثلاث مرات، مرة من قبل أخيها غير الشقيق عندما كانت في الثامنة من عمرها، ومرتين من قبل والدها عندما كانت في الثالثة عشرة والخامسة عشرة من عمرها.

بعد الحادثة، وهي في الخامسة عشرة من عمرها، عادت إلى مصر لتعيش مع والدتها. تعاني مايا من أمراض نفسية مختلفة، قامت بعدة محاولات انتحار. مكثت في مستشفيات نفسية أكثر من مرة لفترة طويلة، وعانت من الإهمال في العلاج حتى التقت بطبيبة متميزة عاملتها بكرامة وإحترام، وما زالت تتابع حالتها.

***

“قبل ساعات قليلة من غروب الشمس، على أطراف محافظة الجيزة، في إحدى القرى الزراعية الكبرى، كانت ميادة، ذات الأربع سنوات، تلعب بجوار المنزل مع شقيقها الذي يكبرها بعامين، عندما بدأ جارها، رجل ثلاثيني، بالحديث معهما وإقناعهما بأنه سيلعب معهما. ثم أخذها ودخل حمامات المسجد المجاور للمنزل بعيدًا عن شقيقها وأصدقائهما. فاجأها عندما بدأ بخلع ملابسها واغتصابها. وعندما صرخت لتستغيث، قتلها الجاني”.

حادثة نعرف أنها ليست نادرة.

***

يقول ياسين: “أنا مش عارف أنا إيه؟ أنا مثلي ولا استريت؟ أنا ملحقتش أختار أو أكتشف نفسي كان ممكن ميولي تختلف لو مكانوش عملوا كده معايا لكن أنا ملحقتش اعرف”.

ياسين (28 عامًا) فنان بصري، يقيم في القاهرة. وُلد في قرية صغيرة بالجيزة أحبها لطبيعتها لا لأهلها.

على بُعد أقل من 100 متر من منزله، داخل مزرعة أشجار الموز، في قرية من أحد عشر منزلًا صغيرًا محاطة بالخضرة، نجح المغتصب لأول مرة في ممارسة الجنس الكامل مع ياسين ذي الثماني سنوات. سبق هذا الاغتصاب عامين من المداعبة الجنسية والاستمناء.

“كان عندي ست سنين لما بدأوا يعملو كده، كانو تلاتة كبار بيستحمو معنا، واحنا كنا طفلين، كان الموضوع في الاول عبارة عن تحرش باجسامنا ويطلبوا مننا مساعدتهم على الاستمناء. مكنتش فاهم ساعتها ايه اللي بيحصل وكنت فاكر انها لعبة بنلعبها، بعد كده واحد فيهم كان عايز يعمل جنس كامل معايا لكن كان دايما الموضوع بيفشل، لحد مقرر ياخدني بعيد شوية عن البيت وراء شجر الموز ويغتصبني” قال ياسين.

استمرت الاعتداءات المتكررة من سن السادسة حتى بلغ الحادية عشرة تقريبًا. كانوا يعتدون عليه باستمرار. في البداية، كان مصدومًا ولم يكن يدري ماذا يفعل، وكان يبكي عندما ينتهوا.

بعد فترة من التكرار بقيت أوقات بتبسط وأنا متضايق لدرجة إنى طلبت ده منهم مرة، ومش عارف أنا عملت كده ليه لدرجة أني كرهت نفسي، وبعد كده بقيت بحاول أتهرب منهم لكن مكنتش باعرف دايماً وكمان معرفتش أقول لاي حد من اهلي، لأن أبويا كان بيشتغل طول اليوم ولما بيرجع كان دايماً بيتخانق معنا”.

يعاني ياسين من اضطراب ثنائي القطب واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، ويحاول متابعة حالته مع أخصائيين نفسيين. لكن ذلك لا يُجدي نفعًا طوال الوقت، فيتوقف أحيانًا عن تلقي العلاج، وأحيانًا أخرى يطلب منه الأطباء التوقف عن زيارته. يعتقد أن معظمهم غير قادرين على تشخيص حالته أو التعامل مع مرضه.

“آخر مرة عملو كده معايا كان عندي ١١ سنة تقريبًا، خدوني لابن عمهم الكبير واغتصبني بطريقة وحشية ومؤلمة جداً وبرضو مقدرتش اعترض أو أعمل أي حاجة، وهنا حسيت ان لازم اللى بيحصل ده يوقف بأى طريقة، سيبت البيت والقرية كلها لأول مرة بسببهم وبقيت عايش في الشارع”.

قرر ياسين كتابة منشور على فيسبوك عن جميع المشاكل التي عانى منها، ثم انضم إلى هذا المشروع. وقد ساعده ذلك على تجاوز الأمر إلى حد ما، كما يقول، والآن عاد للتركيز على موهبته والعمل على نسيان كل ذلك ومواصلة مسيرته.

وأنا ما زلت أبحث عن مزيد من الحكايات علها تساعدنا جميعًا على التجاوز.