خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

السرطان لا ينتظر وقف إطلاق النار

يواجه مرضى السرطان في غزة صعوبة البقاء، ونقص الغذاء، وانقطاع الكهرباء، والخوف المستمر من القصف، لتصبح معركة الحصول على العلاج اليومي معركة من نوع آخر، لا تقل خطورة عن المرض نفسه
ــــــــ المـكـانــــــــ جسد
13 نوفمبر 2025

منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تحولت رحلة علاج السرطان في غزة إلى حصار مع الموت يداهمهم من كل مكان. لم يعد المرض وحده هو العدو، بل الحرب والحصار والدمار المستمر. الإبادة الجماعية التي بدأتها إسرائيل استهدفت النظام الصحي بشكل مباشر؛ إذ دمرت 33 مستشفى، و69 مركزًا للرعاية الصحية، و197 سيارة إسعاف، وفق بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.

كان مركز غزة الرئيسي للسرطان في مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني، الملاذ الأخير لعشرات الآلاف من المرضى، من أكثر المواقع تضررًا، ليخرج عن الخدمة نهاية عام 2023. انتقلت الخدمات بعدها إلى مستشفى غزة الأوروبي، الذي توقف بدوره عن العمل في 15 مايو/ آيار الماضي. اليوم، يُعد مستشفى ناصر الجهة الوحيدة التي تقدم الجرعات الكيماوية، لكن نقص الأدوية والمستلزمات الطبية جعل كل جرعة معركة بقاء بحد ذاتها.

أدى الحصار الإسرائيلي المشدد منذ الثاني من مارس/ آذار الماضي إلى انهيار شبه كامل للنظام الصحي، حيث يمنع دخول المساعدات الطبية والإغاثية والغذائية إلا بكميات شحيحة جدًا، ما فاقم معاناة المرضى بشكل غير مسبوق. تشير إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية إلى وجود نحو 11 ألف مريض سرطان في غزة، يُشخّص منهم 2000 مريض جديد سنويًا، 35% منهم نساء مصابات بسرطان الثدي. وخلال عامين من الحرب، أضيفت 4 آلاف حالة جديدة، بينما يحتاج 60% من هؤلاء المرضى إلى السفر لتلقي العلاج في الخارج.

وسط هذا الواقع، يواجه مرضى السرطان في غزة صعوبة البقاء، ونقص الغذاء، وانقطاع الكهرباء، والخوف المستمر من القصف، لتصبح معركة الحصول على العلاج اليومي معركة من نوع آخر، لا تقل خطورة عن المرض نفسه.

يتحدث الدكتور محمد أبو ندى، مدير مركز غزة للسرطان، عن المرضى الذين حوصروا بين الحرب والعلاج بعد عامين من الحرب، فيبدو المشهد الصحي في غزة كأنه جرح لم يُغلق بعد. تضررت البنى التحتية للعلاج الإشعاعي والكيماوي، وتوقفت بعض الخدمات تمامًا، وأصبحت أدوية السرطان مفقودة، والمرضى في حاجة عاجلة للعلاج، وكثير منهم عالقون لا يستطيعون السفر للعلاج في الخارج بسبب إغلاق المعابر، ولا يجدون علاجًا داخل القطاع.

يقول أبو ندى: «مرضى السرطان لا يواجهون المرض وحده، بل الجوع ونقص الوقود. ومع كل صدمة جديدة، تتراجع فرص التعافي، لأن المعاناة لم تعد طبية فقط، بل نفسية واجتماعية أيضًا». الحصار المفروض على غزة جعل دخول الأدوية والمعدات الطبية أمرًا معقدًا، والحرب استهدفت المراكز الصحية المتخصصة، وعلى رأسها مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني، كما أن توقف التحويل للعلاج في الخارج زاد الأمور سوءًا، حتى تحوّل المرض إلى عبء لا يُحتمل.

ويضيف أبو ندى: «حين نتحدث عن 1500 مريض فقدوا حياتهم، فنحن لا نتحدث عن مجرد رقم أو وفيات قدرية، نحن نتحدث عن كارثة إنسانية. معظم هؤلاء لم يكن موتهم حتميًا، بل نتيجة لانقطاع العلاج وتدمير المستشفيات وإغلاق المعابر». قبل الحرب، كان مركز غزة للسرطان جزءًا من مستشفى الصداقة التركي ملاذًا أخيرًا للمرضى. يصف أبو ندى المشهد قائلًا: «كنا نستقبل مئات المرضى يوميًا. ورغم نقص الأدوية، لم نتوقف عن العمل. لكن حين تعرض المستشفى للقصف، انهار كل شيء. نزح المرضى والطواقم قسرًا، وانقطعت المياه والكهرباء، وضاعت السجلات الطبية، وأصبح المرضى بلا جهة علاجية واضحة».

وخلال أيام فقط، بدأت حالات الانتكاس والوفاة بالارتفاع. يصف التحديات التي واجهوها بأنها غير مسبوقة؛ فالتحرك تحت القصف كان خطرًا، والطرق مغلقة، وسيارات الإسعاف محدودة. نُقل بعض المرضى على كراسي متحركة أو عربات تجرها الحيوانات، وأدى تكرار الإخلاءات إلى ضياع السجلات وتأخر الجرعات وفقدان السيطرة على الخطط العلاجية. أوامر الإخلاء لم تنقل المرضى إلى بر أمان، بل إلى تدهور صحي وانتكاسات متتالية.

في الحرب، خسر كثير من المرضى فرص النجاة. «العلاج الكيماوي أو الإشعاعي يجب أن يكون منتظمًا»، يقول أبو ندى، «انقطاعه يعني أن الورم سينمو من جديد. مرضى سرطان الدم مثلًا يحتاجون إلى جرعات متواصلة، وأي توقف يسبب انتكاسة قاتلة».

اليوم، يعتمد المركز على ما توفره مستودعات وزارة الصحة وبعض التبرعات، لكن أكثر من 70% من الأدوية غير متوفرة، والعلاج الإشعاعي مفقود بالكامل. يضيف: «نحاول تعديل البروتوكولات العلاجية بما يتوفر لدينا. لكن في النهاية المريض يتلقى ما هو موجود، وليس ما يحتاجه فعلًا».

أما الطواقم الطبية، فيعيش الكثير منهم شعور اليأس وقلة الحيلة، يرون المرضى يموتون أمامهم ولا يستطيعون إنقاذهم. الضغط النفسي هائل، وحين يفقدون مريضًا، يشعرون وكأنهم فقدوا فردًا من عائلتهم.

ويوضح أبو ندى أن قلة الغذاء وسوء التغذية تحدٍ خطير، فالجسم الضعيف لا يستطيع مقاومة المرض. وفي ختام حديثه، يوجه نداءً للعالم: «مريض السرطان في غزة يعيش في حرب مفتوحة لا سلاح له فيها. هؤلاء ليسوا أرقامًا، بل أمهات وآباء وأبناء. على العالم أن يتحرك، فالحياة لا تُؤجَّل، والسرطان لا ينتظر وقف النار».

خولة البغدادي، أم لخمسة أبناء، اكتشفت مع الحرب إصابتها بالسرطان. كانت لحظة صدمة كبيرة، لكنها استجمعت قوتها وقالت: «ما دام الله كتبها لي، أكيد فيها حكمة ورحمة». بدأت العلاج الكيميائي في غزة، وكانت تجربة قاسية جدًا بسبب نقص الإمكانات وتأخر المواعيد. واجهت انقطاعًا متكررًا في الأدوية، خاصة بعد قصف مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني… “بعد القصف انقطع كل شيء، لا جرعات، لا أدوية، ولا مكان آمن، كنت أعيش على الأمل أن تصل شحنة دواء أو يتم فتح وحدة علاج مؤقتة”.
انقطاع الكهرباء كان يزيد المعاناة، كما وصفت خولة الوضع… “بعض الأدوية تحتاج تبريد، والكهرباء كانت تنقطع لساعات طويلة، فكنت أخاف أن يفسد العلاج أو تتعطل الأجهزة أثناء الجلسة، كنا نعيش على القلق”. تلك الأيام الطويلة علمت خولة إن الأمل هو جزء من العلاج… “كل جرعة علاج كانت معركة، وكل يوم يمر دون ألم كان انتصارًا صغيرًا”.

أما سهيلة عمران، فاكتشفت إصابتها بالسرطان عام 2011. مع بداية الحرب، تأثرت حالتها الصحية بسبب نقص الأدوية الأساسية والغذاء وصعوبة التنقل والنزوح المستمر. تقول: “لم أعد أجد الكالسيوم ولا الفيتامينات التي أحتاجها، حتى المسكنات أصبحت نادرة، جسدي ضعف كثيرًا، لكني حاولت أن أقاوم. إن أصعب اللحظات كانت عدم الاطمئنان، والتعب النفسي الشديد، والهزال الجسدي، لكن قوة الإيمان والإرادة كانت حاضرة لدعمها. لم تتلق سهيلة سوى مساعدات بسيطة.. “تلقيت بعض الأدوية من مؤسسات خيرية، لكنها لم تكن كافية، كنا نحتاج لعلاج دائم، وليس لمساعدات مؤقتة”.

تجلس الأخصائية النفسية، الدكتورة رائدة قشطة، يوميًا وسط مرضى يواجهون أصعب الظروف. تصف حالتهم النفسية بأنها «إرهاق مزمن وخدر عاطفي»، يعيشون بين خوف الموت دون علاج، والقلق على أحبائهم، والشعور بالذنب. من أكبر مخاوفهم تساقط الشعر، الذي يجعل بعضهم يتردد في أخذ الجرعات.

توضح الدكتورة أن الدعم النفسي يتحول إلى احتضان إنساني في لحظات اليأس. لكن الحرب جعلت العلاج النفسي ترفًا بعيد المنال، فالكثير من المرضى يرفضون الجلسات معتبرين أن البقاء على قيد الحياة أهم. كما أن النزوح والدمار جعل الوصول إلى المراكز النفسية شبه مستحيل.

وتشير إلى أن البيئة المحيطة المليئة بالخوف والقصف تؤدي إلى اضطرابات نوم ونوبات هلع. ويواجه الفريق النفسي تحديات هائلة، منها نقص الكوادر والأماكن الآمنة والأدوية، مما أدى إلى ارتفاع حالات الاكتئاب الحاد واضطرابات ما بعد الصدمة.

تختم الدكتورة رائدة حديثها برسالة واضحة: «الدعم النفسي لا يقل أهمية عن العلاج الطبي. مرضى السرطان في غزة لا يموتون فقط من المرض، بل من الإهمال والحصار والصمت الدولي. كل لحظة تمر دون تدخل هي ألم إضافي. الإنسانية لا يجب أن تُدفن تحت الركام».

في ظل هذا الواقع المرير، يبقى الانتظار هو ما يربط المرضى بالحياة، ويجعل الطواقم الطبية تواصل الليل بالنهار، انتظار على أمل في هزيمة السرطان، وفي الحصول على جرعة علاج كيماوي، أو حتى استعادة ما ضاع في تدمير المستشفيات وتحويلها لمراكز عسكرية لقوات الاحتلال.