خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

مدينة لا تحب الإناث

في الساحل السوري وفي السويداء سقطت أجساد كثيرة داخل بيوتها، لا في العراء. البيت لم يعد حصناً كما اعتدنا أن نراه، بل صار شركاً يبتلع ساكنيه. مكاناً للذبح لا للستر
10 نوفمبر 2025

تُخبرك دمشق باكراً أنّها لا تحب من يتحرّك فيها وهو يظن أنّ الشارع له، أو الحديقة، أو أبنية الجامعات، أو حتى أرصفة جبل قاسيون. هناك حيث بائعو الورد القسريون يدفعونك على عجل لتشتري وردهم مرتفع السعر، المطبّع بلزوجة نظراتهم وتعليقاتهم السمجة عن أنّ الحبيب الحقيقي لا بدّ أن يهديك وردة. هناك أيضاً القهاوي المرتجلة تلوّح لك بالمغادرة السريعة أو بالدفع، وكأنّك معتدٍ أو سارق للمساحات المجانية.

في ذاكرتي “المجيدة” والأكثر رعباً عن علاقتي بشوارع المدينة، في بداية الألفية الثانية، مشهد تجوّلي بكاميرا فوتوغرافية، متقمّصة “كاركتير” الفنانة البوهيمية التي تلتقط روح المدينة في صورها، كأنني أستعدّ لقراءة العمارة كأركولوجي بائس أو صانع أفلام مستقل. كنت ألعب لعبة أعرف سقفها الواطئ، متخفية بلباس يتنفس قدراً من الحرية، يعكس ارتياحاً مادياً وعلاقات مسترخية مع العائلة وربما السلطة، لكني لم أدرك كم كان السقف منخفضاً. حتى أوقفني في يوم صيفي واحد من فروع الأمن الثلاثة المسؤولة عن حماية السفارة الأمريكية في دمشق، حين حاولت التقاط صورة للعلم المرفرف فوقها.

فرع الجوية التقطني قبل أن تفعل باقي الفروع، وحتى قبل أن يطلبني أحد من داخل السفارة للتحقيق مع الإرهابية التي كنتها. هذه السوريالية حصلت قبل أن تنفجر سوريا إلى آلاف الشظايا، في مدينة لم يكن يحدث فيها شيء مثير للمخيلة. ربما أشياء قليلة مثل أن يحتجزك فرع الأمن لأنك التقطت صورة علم. حمّضت صوري البريئة والساذجة. حقّقوا معي. لم أخف، ولم أرتعب كما ينبغي. وحدها رائحة فم المحقّق الكريهة أثارت قرفي، وتسرّبت تحت جلدي لسنوات. لم أُضرَب، لم أُهَن، لم أُسجَن، لم أُسحل أو أُعذَّب. لكنني فقدت حبّاً، وتعلّمت يقيناً أنّ فضاءات دمشق لا تحبّ الإناث.

ستمر سنوات، سأكبر في المدينة، سأُنهك وأفهم، سأكتب الروايات وأصنع أفلاماً تضيع على طموحي، سأتعرف على أزقة دمشق أكثر، وأتعلم الاحتيال عليها، على فضاء شوارعها المخنوقة. سأتعلم أنّ مدننا لا تحب الإفصاح. يَشمّ البشر فيها الاسترخاء فيقلقهم، يطاردونك بالنظرات، ويعتبرون التجرؤ على الضحك بصوت مرتفع، أو فرد شعرك وروحك للريح، أو مسك يد حبيبك بثقة، فعلاً مقصوداً لا بد من إنكاره.

كأنها تغلق باباً في وجه غريب

ستبدأ الثورة، وستحضر الشام في نصوصي البيوغرافية حد الملل. لم يكن الخوف أول من نفاني من الشام. الخوف كان قد استُهلك حتى بطل مفعوله، صار شيئاً عاماً مثل الغبار الذي يملأ الأرصفة. الكل خاف بطريقته. حتى العسكر على حواجزهم في نهاراتهم النعسة لم يتأهبوا لشيء. جلسوا يشربون المتة بملل على إسمنت الحاجز، يتسلّون بأكياس البوشار أو يلعقون البوظة كأنهم في نزهة. مع حلول الليل كان المشهد يتغيّر قليلاً، فيطلبون منك بلطف مبالغ فيه أن تطفئ أضواء سيارتك “حماية لك من القناصة”.

أما نحن فكان خوفنا يجرّنا إلى الاستفزاز. صار علينا أن نثبت لأنفسنا أننا أشجع مما نحن عليه. نمشي ليلاً في الحميدية أو ساروجة ونلتقط صوراً، نخرج من نادي الصحفيين في الحادية عشرة محمّلين ببيرة بلا سُكر، نضحك من فرط وهم الشجاعة ونحزن من الأزقة الخالية إلا من أمثالنا. كانت شجاعات صغيرة، عبثية، لا تُقنع أحداً.

كل ذلك كان يحدث فيما المدينة تُضيّق خناقها. الليل ينكمش مثل قميص قطني رديء التصبيغ، والنهار الخريفي يمتد بارداً كفجر طويل بلا شمس. ريح الخامسة مساءً تكنس الأرصفة بالتراب والوحشة، العتمة تُثقبها طلقات الرصاص، والنور لا يأتي إلا مع دوي قذيفة.

ومع أن كل هذا لم يبرّر مغادرتي، إلا أنّ اللحظة الحاسمة جاءت على هيئة اقتحام فج. عصابة بلباس مشوش، بروتيلات سوداء مبللة بالعرق، بنطلونات مموهة، أسلحة يُعرض بها بفخر، ووجوه تتشمم الزوايا بحثاً عن “لا أحد”. عندها عرفت أن الشام لم تنتظر أن أتركها بلباقة. لقد طردتني دفعة واحدة، كأنها تغلق باباً صاخباً في وجه غريب. حين أنهت شلة الأمن تفتيش صوري الخاصة على اللابتوب والموبايل، وفي حدقات عيوني، قال أحدهم: رأينا زوجك على باب البناء.

قلت: لست متزوجة، صديق قرر أن يخبركم بذلك كي يحمي سمعتي ويبرر نزوله من بيتي في هذا الوقت المبكر. قلت كل هذا مرتدية ملابسي كاملة، لكني لم أشعر بعري أكبر مما شعرت به عندها. ولهذا، وعبر سنوات، أخبرتني دمشق بطريقتها أنها لا تحب الإناث.

كي لا أصبح قاتلة

 سأغادر قليلاً وأعود بخريف 2013. الحواجز عندها قطّعت أوردة المدينة، خنقتها بالحرائق، وأصمّت سكانها بدوي سيارات الإسعاف. استعادت جزءاً من روح التجربة. سرّب كل ذلك إلى فضائي الروائي، حيث لن أستطيع أن أقبل التشوه الذي تركته في روحي المدينة إلا حين حولتني لقاتلة، أو حين أردت ألا أصبح سوى قاتلة كي أحتمل تلك القسوة، وأقبل تلك البشاعة.

الحرّ في الشام لا يطاق. الشوارع المكدّسة بالحواجز، السباب المتطاير من نوافذ السيارات، صفارات عربات الإسعاف، أصوات القذائف البعيدة، الضجيج الزاعق لعساكر الجيش، كلها تحثّك على ارتكاب جريمة كبرى، علّها تطغى على صخب مدينة تذوي مختنقة بصيفها الدبق. كي أوقف هذا الطنين، كان علي أن أقتل أحداً.

يقارن المغترب بين مدنه القديمة، حياته هناك، رغباته وخيباته، وتلك المستحدثة. يوازن بين قوى لا يمكن الموازاة بينها. يتحدث بنفعية، ربما بحذاقة، وعلى الأغلب بحنين. يتنهد كم يحب بلاده التي لم يعد يستطيع العودة إليها. مدن لا تحب إناثها، ويبدو لا ذكورها أيضاً.

أتيت إلى مونتريال. امتلكت فضاء المدينة بكليته. أستطيع تبادل القبلات لكن لم يعد لدي حبيب. أستطيع تصوير كل الأمكنة في كل الأوقات لكن لا أعرف الحكايات ولا تعنيني فيها حكاياتها. أستطيع النزول إلى ليل المدينة دون وجل ودون ملابس كثيرة لكن الاعتياد يسحب زخم الفعل من كل معنى. أعيش في ذاك المكان لسنوات كمن يعيش في ديكور مستعار. مع ذلك لن أخدش كغريبة سطحاً واحداً من سطوح تلك المدينة. الحرية تفيض عني، تهدر على أحد لم تعد تعنيه أن يمارس الحب مع مدينة تمنحه غرامها غير المشروط كما تفعل مونتريال.

القلب وما يريد

عند الرجوع إلى الفلاسفة والمنظّرين يظهر أن الحرية لا تُفهم إلا من خلال علاقتها بالفضاء العام. هابرماس تخيّله ساحة للكلام الحر، مكاناً تُوزّع فيه الكلمات بعدل بين الناس، فيغدو النقاش نفسه شكلاً من أشكال المواطنة. حنّة أرندت صوّرته مسرحاً للظهور، حيث لا يكتمل وجود الإنسان إلا إذا رآه الآخرون وسمعوه، وحيث تُصاغ الهوية لا في صمت العزلة، بل في مواجهة النظرات وتبادل الأصوات.

تلك التصوّرات تحطّمت على واقع مدينة جعلت من الفضاء العام خصماً لا رفيقًا. الرصيف لم يعد مكاناً للخطوة بل فخاً لها. الشارع لم يعد ميداناً للكلام بل مسرحاً للصمت المفروض. الضحكة نفسها بدت وكأنها اعتراف غير مشروع، والخطوة الواثقة بدت إعلان تمرّد. عرفت أن ما نحتاجه من الفضاء العام ليس امتلاك الشارع ولا الساحة، بل ما تمنحه الحياة منذ الميلاد. أن نمشي بلا وجل، أن نضحك بلا حساب، أن نُرى كما نحن من غير أن يُدان ظهورنا.

ها قد أتت الحرب

كرهتنا المدن رجالاً ونساءً. رمتنا إلى الطرقات والحدود والأرصفة، والساحات للاستباحة. كل الفضاءات أكلتها الحرب، العامة منها والخاصة. البيوت لم تعد جدراناً للستر، بل بطوناً مفتوحة على الانتهاك. أكثر الغرف حميمية صارت مهددة بالاقتحام. الأجساد عُرّيت، لا بدافع الرغبة أو الحب، بل بفعل الفقر والجوع وبقسوة العنف العاري. الحرب ألغت الحدود بين الداخل والخارج، بين البيت والشارع، بين الخاص والعام.

لم يعد الشارع مكاناً يُراد الخروج إليه، بل صار الخطر الذي يُهرب منه. الأزقة التي كانت مسرحاً للحياة اليومية غدت مصائد. الساحات التي وُلدت لتجمع الناس تحولت إلى ساحات قتل. حتى الهواء المفتوح صار يُخشى كرصاصة طائشة. الحرب قلبت معادلة الفضاء العام. مكان الظهور صار مكان الاختباء. ساحة الكلام صارت ساحة الصمت. معنى المواطنة انمحق. في زمن الحرب لم يعد الجسد يفاوض على حقه في أن يُرى ويُسمع، بل على حقه في أن يظل مخفياً عن الرصاص والجوع والعيون المتربصة. الحرية لم تعد مطلباً مباشراً، بل صارت النجاة.

سوريا فضاء متسع لمجزرتين

الحرب لم تكتفِ بتشويه الشوارع والبيوت، بل جعلت من سوريا فضاء آخر للمجزرة. في الساحل السوري وفي السويداء سقطت أجساد كثيرة داخل بيوتها، لا في العراء. البيت لم يعد حصناً كما اعتدنا أن نراه، بل صار شركاً يبتلع ساكنيه. مكاناً للذبح لا للستر. الجدران تخلّت عن وظيفتها القديمة في الحماية، وفتحت أبوابها لتدخل إليها أدوات القتل.

الاختباء لم يعد له معنى. البيت الذي كان ملاذاً انكشف كمصيدة. الجدران فتحت أفواهها للقتل، والنوافذ التي صُمّمت للهواء صارت ممرّا للرصاص. الشارع لم يعد وحده خطراً. السرير والمطبخ وغرفة الأطفال صارت أشد رعباً من الخارج.

أتى الحكم الجديد، سقط النظام، لكن ما تلاه لم يكن الخلاص. وُلدت حكومة الشرع من بين الأنقاض. إعادة إنتاج للنفي لكن بأقنعة أخرى. بدا الأمل في الأيام الأولى واهناً مثل خيط ضوء يتسلّل من بين الغبار ثم انقطع سريعاً. اكتشف الناس أن الفضاء العام لم يتحرر. بقي هو نفسه بوجوه مختلفة.

صار فضاءً متناقضاً. معادياً للبعض وآمناً لآخرين. للموالين والمقرّبين بدا الشارع امتدادا لبيوتهم. لغيرهم تحوّل الشارع إلى فخ. هذه الازدواجية كانت أشد إحباطاً من العنف الصريح، لأنها رسّخت شعوراً قديماً. سوريا ليست فضاءً عاماً يحتضن أبناءها جميعاً، بل ساحة مفاضلة بين أجساد وأصوات.

في تلك المجازر تهاوى المعنى القديم للبيت. لم يعد سقفاً يحمي ولا جداراً يصون، بل قفصاً مغلقاً على ساكنيه. أريد أن أبقى حيّا. أن أتنفس مرة أخرى. ضاقت الحرية حتى اختُزلت في دقيقة تُنتزع من بين فكي الموت.

الفضاء العام انمحى. الرعب ألغى النقاش واللقاء. الهيولى، الأمكنة الفارغة بلا قوام، تشابهت مع الساحات بفراغها وبلا معناها. أصوات الصمت تتردد في أذن الخائف. سوريا للبعض بيت عملاق، فضاء مرعب الحجم، بلا حدود ولا أبواب، بلا نوافذ أو زائرين. بيت يختبئ داخله الجميع من الجميع. قد لا ينجو فيه أحد من أحد.