أيدي المدينة المفتوحة والمغلقة

القاهرة مدينة أكبر من تصوّراتنا، تسحق ما في باطنها لتنمو إلى الخارج، تلتهم وتلفُظ.. وكلّ ما يستطيعه المرء هو محاولة العيش على هامشها كالكفّ الذي يتفرّع من نهاية ذراعٍ ضخمة
ــــــــ الحركة في المدينةــــــــ جسد
1 سبتمبر 2025

ثمّة سحر في إيماءات اليد، سحرٌ يسبق الكلمة ويُراكم لغةً فوق اللغة. منذ أن طوّرت الأيدي لغاتها الخاصّة، ظهر سحرُها الذي يكمن في قدرتها على اختزال الأفعال ضمن منطقٍ رمزيّ، يحتاج تفكيكه إلى انفتاحٍ على الداخل البشري. أنتجت الأيدي أبجديّتها المتفرّدة وقاموسها الإنفعالي الذي يتشكّل بإيماءة وحركة، بإشارة ولمسة، بانقباضٍ وإفلات. كلّها خواص تؤسّس للغة تواصل هي عبارة مرويّة بصرية وحسيّة، لسان كوني، وحديث بلا صوت..

نُقِشت اللغة على أيدي أوائل البشر كوسيلةٍ للتواصل. ما يخفق اللسان في الوصول إليه، تقبض عليه اليد بسهولة كونها وسيط شفّاف بين الداخل والخارج، تترجم الانفعالات، وتدفع الحمولة العاطفية إلى تعبيرات خارجية دقيقة؛ نستشعر الحُب بلمسة إصبع، نحسّ بالخطر والندم والخوف بحركة إصبع، ونلجأ إلى السماء بإيماءة.

 اليد هي آلية انفراجٍ للذات، لكنّها لا تتوقف عند ذلك، لقُدرتها على الانسحاب عكسيًّا من الخارج إلى الداخل، فتعمل كسجِلٍّ لذاكرةٍ بديلة وتلقائيّة.

مفتاح لترويض الأشياء

 كأنّ اليد مألوفة الوجود ومضمونة الحضور إلى درجة الاختفاء. وأكثر ما تتمادى اليد في اختفاءاتها هي حين تتوارى خلف الأفعال. اليد فاعل مضمرٌ، وجودها حتميّ لإتمام اليومي، لكنّنا دائمًا نرى الفعل مكتملًا ونشيح عمّن أنجزه، نرى الطعام مُعدًّا، والبيت مبنيًّا، والثوب مطويًّا.

 ثمّة شفافية شبحيّة تصيغ حضور اليد في اليومي. إنّها كيان يتشكّل من اكتساب المهارات وحفظها بتلقائيّة. لا أتحدّث هنا عن المحترفين فحسب، بل حتى في الأعمال اليومية، يُمرّن الشخص يديه لتصلان في إجادتهما للعمل إلى نُقطة تحيل الأدوات والأشياء التي تستخدمانها يوميًّا إلى الغياب، ككيانات متفرّعة أو ممتدّة منها: الكثير من سائقي الميكروباص يتعاملون مع مقود السيارة كأنه لا شيء، الطهاة يتعاطون من السكين كأنه لا مرئي، والبعض يضعون التبغ ويلفّون السيجارة بغضون ثوان. مناورات الأصابع تخلق العادة بالتراكم. هذه السلاسة، تمنح اليد سحرًا حقيقيًا يفوق الجسدي وينتقل بسلاسةٍ إلى الموجودات، لتتحوّل من أشياء لها كيانات خاصة إلى امتداد للجسد، ومن هنا يتجلّى جوهر الأيدي كمفاتيح لترويض الأشياء لدرجة إذابتها.

كفّ مخادع

للقاهرة قدرةٌ على التهام كلّ شيء، إنهّا أشبه براحة يدٍ مفتوحة وممدودة، لكن لا يُمكن لأحد تتبع خطوطها وقرأتها. كفّ القاهرة مُخادع، أصابعها مخالب، طبقاتها لا حصر لها، ولا يمكن تحديد مجازاتها بالنظر. إنّها مدينة أكبر من تصوّراتنا، تسحق ما في باطنها لتنمو إلى الخارج، تلتهم وتلفُظ.. وكلّ ما يستطيعه المرء هو محاولة العيش على هامشها، تمامًا كالكفّ الذي يتفرّع من نهاية ذراعٍ ضخمة. وبسبب هذا التمدّد الهائل، تفقد كيانات حساسة وخفرة كالأيدي حضورها العاطفي في الفضاء المديني القاسي، لتتحوّل إلى أداةٍ خاضعة، بيد أنها لا تتوقّف عن محاولة الفكاك من قبضة المدينة وهندستها، لسرقة لحظاتٍ فالتة.

ليست المواصلات العامّة مكانًا للراحة حتى لو استطاع بعض الناس اختلاس بضع دقائق للنوم، لأنها بيئة خصبة للترقّب وسط جموع الغرباء. اليد في الميكروباصات متحفّزة على الدوام، منقبضة على محفظةٍ أو بطاقة، وملثّمة بأقنعةٍ تمنحها حمايةً ظاهرية. مع ذلك، قد تنسى الأيدي أنفسها فيها، فتسند رأسًا بعد نهار عمل طويل، لتبدّد الوقت التي تحتاجه الرحلات اليوميّة المضنية في الزحمة والحرّ.

ويدُ القاهرة متلوّنة، تتناوب بين يقظةٍ وترقّب وانبساط وارتخاء. السائق يداه متيقّظتان لأنّ القاهرة ليست مصنوعة للإطارات. يديّ الجالس في المقهى مسترخيتان، حتى لو التفّ الكفّين حول كوب الشاي أمام مبارة كرة قدم أو لعبة طاولة، فإن هذه الإيماءة المنقبضة تختزل استراحة العامل الرسمية.

وفي الأسواق، تغدو اليد فمًا آخر، تشرح وتُساوم وتُنادي وتَصرُخ دون صوت، وتأخذ شكل ميزان، تقيس الحبّة والنظرة، وتزن الاحتيال.

لكنة غير منطوقة

مفصّلات اليد، أناملها الدقيقة، خطوطها الممتدّة على الكفّ، كلّها تؤلّف نمطًا وآلية مرنة لقراءة تاريخ شخصي لحاملها. مع ذلك، فاليد تحتمل أن يكون لها صوتًا أكثر وضوحًا، من خلال الأكسسوارات وملحقاتها التي تتجاوز كونها حليًّا للزينة، لتتحوّل إلى عناصر تستنطق الهوية والذاكرة والمعنى والظرف الاجتماعي. تؤطّر هذه الحلي ما تحاول اليد قوله، فتجعل السكون مرئيًا، وتُعلن عن الذات قبل أن تقوم بأي حركة.

ما يظهر للعالم من توابع اليد (خواتم، أوشام، أساور، حناء، طلاء أظافر…)، يغدو كلكنةٍ غير منطوقةٍ للشخص. تفتح هذه التوابع أبوابًا للتأويل، إلى جانب كونها خزّانًا لذكريات ومواقف بعينها أكانت ذات طبيعة مؤقتة أو دائمة. يُمكن التعاطي مع أكسسوار اليد كأرشيف حي مُتمّم لسجلات اليد اللانهائية، إذ تترك الأساور والخواتم علامات على الجلد، كأنها تكتب سيرة خفية يوميّة، يمكن رؤيتها فقط حين تختفي الزينة وتصبح اليد خالية إلا من طبقات تنمو على الجلد وتترك أثرها عليه.

غياب الأكسسورات هو أيضًا نوعٌ من البيان، فاليد الخالية أكثر حريّة ومرونة، فارغة من أوجه الشكّ والالتباس وتبدو مكتفية بإيماءاتها. غير أنّ هذا الخلوّ يحمل تعقيده أيضًا، فقد تناولته الحضارات كمفتاح لقراءة القدر؛ الكف المفتوح يجر وراءه عجلة الأقدار والمصائر. وفي الحياة المعاصرة، تشكّل اليد مدخلًا لقراءة نمط الحياة، طبيعة العمل، خشونة اليد أو نعومتها، قلقها أو راحتها، شرايينها الظاهرة أو امتلائها، و الذاكرة المخبّأة لمهاراتها المكتسبة.

أسواق لهويّات متشابهة

 يمكن قراءة الحليّ كمحاولةٍ مجازية لنجاة الأيدي من التماثل المديني في القاهرة. بوصفها نموذجًا اجتماعيًا، تنتج المدينة أشكالًا مكرّرة، تجمع كل الهويّات وتعيد إنتاجها عبر ما يُباع ويُشترى. ما كان رمزًا يتحوّل إلى منتج يمكن شراءه، ضمن عمليّة تجارية توهمك أنّ بإمكانك شراء كلّ شيء حتى الذاكرة.

 سوق هائلة لبيع الهويّات تتجلّى في بسطات بائعي الحليّ في المدينة. ينثر هؤلاء بضاعتهم بين المقاهي وفوق الطاولات، عارضين تشكيلات واسعة منها؛ لكلّ بائع خصوصيته وطريقة بيعه. من يمتهنون التصنيع الخاض لبضاعتهم ستجدهم في متاجرهم، وأولئك الذين يبيعون ما يتمّ استيراده، يحملون البضاعة نفسها على الأرجح على أيديهم وفي حقائبهم. مع كُل قطعة تُباع؛ يباع معها نسخة محتملة من الذات، وهي احتمالات لانهائية وفقًا لشكل ولون كلّ قطعة. لكن ماذا إن كانت هذه القطع ذات مصدر واحد ومشترك، من الصين على الأرجح؟ أي اختلاف ستحمله تلك الهويّات؟

ضمن عمليّة البيع هذه، يمكن أن نفصل بين اليد التي تبيع واليد التي تشتري، واحدة تنتقل من حالة الفراغ للامتلاء، وأخرى تفرُغ. قد ترمز اليد الممتلئة إلى التملّك والثراء والسيطرة، بينما تلك الفارغة قد تشير إلى النقص والحاجة، كأنها تواجه الوجود بفردها. قد يكون الأمر معكوسًا؛ فالفراغ ليس ضعفًا على الدوام بل سبيلًا للاحتمالات، ولإمكانية تجارب جديدة سانحة، واليد الفارغة التي تصنع رزقها مختلفة تمامًا عن يد مثقلة بالحلي ولكنها مسلوبة الإرادة.