في الجزء الأول كانت المجدّرة مدخلاً لقراءة المجتمع في بلاد الشام: عدس وبرغل على موائد الفلاحين وعدس وأرز على موائد المدن، علامات دقيقة على الفوارق بين الريف والحضر، وحكايات وأساطير تتأرجح بين تمجيد الطبق والاستهانة به. لكن مع الوقت، لم تبق الحبوب طعاماً يومياً فقط، بل وجدت طريقها إلى قلب الاقتصاد والسياسة، لتصبح أساساً في صعود برجوازية سورية جديدة.
في منطقة الجزيرة شرقي سوريا، بين نهري دجلة والفرات، حيث الماء والسهول الواسعة، أخذ القمح والأرز مكانهما كركيزة لاستثمارات زراعية كبيرة على أرض بقيت طويلاً على هامش التاريخ. هناك، برزت محاولات حوّلت الزراعة إلى صناعة، ومشاريع تطوير، وأحلام كبرى، ثم تراجعت تحت ضغط تقلّبات السوق وبرامج التأميم والإصلاح الزراعي، وصولاً إلى مرارة السقوط.
أصفر ونجار.. قصة رأسمالية زراعية
كانت الثلاثينيات حتى الخمسينيات زمن الإقلاع الاقتصادي في سوريا، والمرحلة التي أخذت فيها طبقة برجوازية جديدة تتشكل وتصعد. لعبت الحرب العالمية الثانية الدور الأبرز في تسريع هذا الصعود، إذ فتح الطلب الكبير من المتحاربين على المنتجات المحلية أبواباً واسعة أمام المزارعين والتجار، خصوصاً مع القطيعة التي فرضتها الحرب على حركة الاستيراد من الخارج. هكذا وجد رأس المال المحلي نفسه أمام فرصة نادرة للتراكم والتوسع، فانبثقت موجة من الاستثمارات غيّرت ملامح الاقتصاد والمجتمع معاً.
كان للأرض ومحاصيلها الدور الأبرز في دفع عجلة الإقلاع الاقتصادي، فحقول القمح والقطن وغيرها لم تكن مجرد مصدر غذاء، بل محركاً للصناعة أيضاً، خاصة الصناعات التحويلية الغذائية والنسيجية التي شكّلت ركناً أساسياً من الاقتصاد السوري واعتمدت في جوهرها على ما تنتجه الحقول.هذه المحاصيل لم تفقد مكانتها حتى في زمن البعث الذي حاول وضع سوريا على سكة الدولة الصناعية، لكن محاولاته بقيت محدودة الأثر، ومع ذلك ظلت الأرض ومواسمها القطاع الأكثر حيوية ومصدراً لرزق شريحة واسعة من اليد العاملة السورية.
مثّلت تجربة عائلتا أصفر ونجار في العهد الليبرالي واحدة من أكثر الحكايات لفتاً للانتباه في تاريخ الاقتصاد السوري. لم تكن مجرد قصة استثمار زراعي تقليدي، بل رحلة صعود برجوازية جديدة وجريئة بدأت من زراعة الأرز والقمح، ثم تحولت إلى مشروع متكامل يقوم على التوسع الأفقي بزيادة الأراضي المزروعة، والعمودي عبر مكننة الزراعة ورفع إنتاجية الأرض.
ومع مرور الوقت، لم يكتفِ آل أصفر ونجار بالحبوب وحدها، بل اتجهوا إلى زراعة القطن، ثم مضوا أبعد من ذلك نحو بناء شبكات كاملة لتسويق منتجاتهم، وإقامة صناعات غذائية ونسيجية ارتبطت مباشرة بمحاصيلهم. هكذا تحولت تجربة عائلية إلى نموذج مبكر للرأسمالية الزراعية الحديثة في سوريا.
قدمت هذه العائلة نموذجاً حيّاً للنشاط الرأسمالي الريادي في سوريا، وظلت لوقت طويل حاضرة في الذاكرة السورية، وكانت حكايتها تُستعاد لاحقاً بوصفها الوجه المقابل لفشل القطاع العام وتعثر سياسات التأميم التي أنهت بشكل قسري واحدة من أبرز التجارب الاقتصادية الرائدة في البلاد.
الجزيرة في عهد الانتداب الفرنسي
تحظى هذه الحكاية بجانب آخر يتعلق بصعود منطقة الجزيرة السورية، التي تحولت في عهد الانتداب الفرنسي منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى نهايته إلى قصة نجاح باهرة.
ضعف العمران في المنطقة وتدهورت أحوالها على مرّ الزمن تحت وطأة أحداث مأساوية، بدءاً من اجتياح المغول بقيادة هولاكو عام 1260، ثم اجتياح تيمورلنك عام 1400، وما رافقهما من تدمير وتشريد ومذابح خربت البلاد. وبعد ذلك جاءت الفوضى في أواخر عهد المماليك وغزوات البدو التي تركت الأرض يباباً. ومع حلول القرن السابع عشر أضاف الجفاف قسوته، فدفع الفلاحين إلى مغادرة قراهم وأضعف الحكم العثماني، خاصة على الأطراف، لتتسع بذلك سيطرة البدو الباحثين عن مراعٍ جديدة لقطعانهم.
كل ذلك أدى إلى انكفاء المنطقة المعمورة والمزروعة، حتى أنه مع منتصف القرن التاسع عشر انحسر خط المناطق المعمورة إلى ما وراء غرب خط حلب-دمشق. وعندما جاء الانتداب الفرنسي، لم تكن الجزيرة سوى أرض قليلة السكان، شبه مهجورة وغير مستغلة. لكن الفرنسيين سرعان ما نظروا إليها كفرصة كبرى: أرض واسعة وغنية بالمياه، يمكن أن تتحول إلى سلة غذاء سوريا، ومكان قادر على استقبال عشرات الآلاف من المهاجرين واللاجئين من السريان والأرمن والأكراد والعرب الهاربين من حملات الإبادة والقمع في تركيا، والباحثين عن وطن جديد في سوريا المكونة حديثاً.
منذ البداية، شجّعت السياسة الفرنسية على التوطين والاستقرار في منطقة الجزيرة، وعملت على استصلاح الأراضي الواسعة هناك. وفي هذا السياق قدّمت أول لجنة للدراسات العقارية التابعة للمفوضية السامية تقريرها عن العقارات الزراعية في سوريا عام 1921، متضمناً مقترحات أولية لإجراء إصلاحات في ملكية الأراضي وتنظيم استثمارها.
وفي عام 1926 ألغى الفرنسيون نظام الأراضي المشاع وحوّلوه إلى ملكية طابو. هذا القرار أتاح لعدد كبير من شيوخ القبائل تسجيل القرى ومناطق الرعي وأراضي العشائر بأسمائهم، الأمر الذي أدى إلى نشوء ملكيات زراعية واسعة في منطقة الجزيرة. وإلى جانب ذلك، وزّع الفرنسيون مساحات أخرى على الوجهاء وزعماء العشائر ضماناً لولائهم. غير أن معظم هؤلاء لم تكن لهم خبرة مباشرة بالزراعة، فقاموا بتفويض حق فلاحة الأراضي إلى مرابعين، كان أغلبهم من الأكراد.
كما أعفى الفرنسيون كل مهاجر أو لاجئ أو متوطن يشيد داراً أو مسكناً على قطعة أرض من دفع الضرائب والعائدات السنوية المترتبة عليها. هذا الامتياز شجّع على ظهور مئات القرى الجديدة وساهم في توسّع الاستيطان بالجزيرة وزيادة ملحوظة في المساحات المزروعة. واعتمدت السياسة الفرنسية في المنطقة على توزيع الأدوار: فخصّصت السهوب الجنوبية للرعاة العرب، بينما تركت الأراضي الشمالية الخصبة للمزارعين الأكراد والمسيحيين، فنتج عن ذلك خط فاصل واضح بين الجزيرة العليا التي ضمت بلدات مسيحية محاطة بقرى زراعية كردية، والجزيرة السفلى التي شكّلت البادية وموطن العشائر البدوية العربية.
ورغم أن الزراعة لم تحظَ سوى بنسبة ضئيلة من ميزانية الانتداب، لم تتجاوز 3% منذ بدايته حتى أواخر الثلاثينيات، إلا أن الجزيرة استفادت بشكل غير مباشر من العوائد المخصّصة للأشغال العامة، والتي ابتلعت نحو 20% من الميزانية. فقد كان التوسع في شبكة الطرق وصيانتها أولوية عسكرية لدى سلطات الانتداب، لضمان السيطرة على المناطق وسهولة الوصول إليها. وبحلول عام 1939، أعلنت الإدارة الفرنسية أنها وسّعت شبكة الطرق السورية بأكثر من 2200 كيلومتر، كما أنشأت في مطلع الثلاثينيات خطاً حديدياً يربط الجزيرة العليا بحلب.
لم يسهّل الاستثمار في البنية التحتية حركة الجنود فقط، بل أسهم في ربط المناطق وتعزيز الروابط الاجتماعية والاقتصادية بينها. فباتت مدينة القامشلي أقرب إلى أسواق حلب، وبدأ التجار الحلبيون بتقديم قروض ميسّرة لشركائهم الجدد في الجزيرة استُثمرت في شراء آلات زراعية ومضخات مياه، الأمر الذي ساعد على تسريع استصلاح الأراضي وتوسيع الزراعة الحديثة.
أصفر ونجار.. من المذابح إلى الريادة
بدأت حكاية أصفر ونجار عام 1895، مع المذابح التي طالت مسيحيي ديار بكر (آمد، الاسم الذي عرفها به السريان)، المذابح المعروفة باسم سيفو ديار بكر. في تلك المجازر قُتل ارموش أصفر، تاركاً وراءه زوجته الشابة مريم وطفلهما الرضيع مسعود. لاحقاً تزوجت مريم من سعيد نجار، وهو سرياني آخر، تبنّى مسعود واعتبره بمثابة ابن له. بعدها أنجبت مريم لمسعود خمسة صبيان وابنة وحيدة، لتتشكل نواة عائلة ستكتب إحدى أبرز قصص البرجوازية السورية الصاعدة، أصفر ونجار.
بدأت العائلة تجربتها في الزراعة منذ عام 1922 في ديار بكر، ثم انتقلت إلى تربية دود القز وصناعة الحرير. لكن ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما رافقها من حرب الاستقلال التركية، ضاعفت التمييز ضد المسيحيين، وزادت من وطأة الإرث الثقيل للمجازر التي لحقت بالسريان والأرمن خلال الحرب. ومع تضييق الخناق، صار البقاء في تركيا مستبعداً، فبدأت العائلة رحلة هجرة تدريجية نحو سوريا الواقعة تحت الانتداب الفرنسي، حيث وُعد القادمون الجدد بالحرية والمساواة.
بين أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات، استقر آل أصفر ونجار في القامشلي، المدينة الحديثة العهد على الحدود مع تركيا والمقابلة لمدينة نصيبين التاريخية. لم تكن هجرتهم استثناءً، بل جزءاً من موجة واسعة من السريان والأكراد والأرمن الذين فرّوا من المذابح والتمييز في تركيا الحديثة نحو أرض بدت أكثر رحابة وتنوعاً اثنياً ودينياً. هناك، في الجزيرة، ظنّ آل أصفر ونجار أنهم وجدوا الوطن الذي حلموا به، دون أن يتخيلوا أن عليهم حزم أمتعتهم مرة أخرى والمغادرة بعد عقود قليلة إلى بلاد المهجر المختلفة.
بداية جديدة في القامشلي
بعد استقرارهم في القامشلي، انطلقت عائلة أصفر ونجار مجدداً في مغامرتها الزراعية. عقدوا صفقات مع شيوخ العشائر لشراء الأراضي، وبنوا قرى صغيرة لإيواء النازحين السريان والأرمن الهاربين من تركيا، وضمان فلاحة الأرض. ومع أولى محاصيلهم، اختاروا زراعة الأرز، رغم حاجته الكبيرة إلى المياه، فابتكروا حلولاً عملية عبر بناء سدود صغيرة على نهر جغجغ الذي يخترق القامشلي، لتأمين ري الحقول وضمان استمرارية الزراعة.
ومع اتساع رقعة الأراضي المستصلحة وتحويل البور إلى أراضٍ خصبة، أسسوا شركة أصفر ونجار التضامنية، لتكون بداية مرحلة جديدة. لقد شكّلت العشرينيات والثلاثينيات زمن الانطلاق الفعلي للعائلة، تماماً كما كانت للجزيرة السورية زمن النهوض من هامش التاريخ إلى قلب الحكاية الاقتصادية لسوريا.
كانت مؤسسة أصفر ونجار أول من أدخل الآلة الميكانيكية إلى الزراعة في الشرق، فاستوردت عام 1936 أولى الحصادات والجرارات، ثم أضافت بعد عامين أول تراكتور زراعي إلى أسطولها المتنامي. وبحلول عام 1940 كان في المنطقة نحو عشرين آلة زراعية حديثة، امتلكت الشركة ما لا يقل عن ربعها، لتصبح رمزاً للتحول من الزراعة التقليدية إلى المكننة.
لكن النجاح واجه تحديات قاسية، ففي عام 1941 حوّل الأتراك مجرى نهر جغجغ، ما أدى إلى إتلاف محاصيل الأرز، وهو ما أجبر العائلة على البحث عن بدائل جديدة. اتجهوا إلى بحيرة الخاتونية على حدود العراق في جبال سنجار، حيث استثمروا في تركيب مضخات ومحركات لسحب المياه، كما سعوا إلى نبع عين الزرقة على نهر الخابور، فرفعوا مياهه ووجهوها عبر قنوات وسواقي لتغذية الحقول.
ترافق التوسع في مصادر الري مع استثمار آخر لا يقل أهمية: التعليم. فقد أرسلوا يعقوب، أحد الأبناء، لدراسة الميكانيك في بيروت عام 1935، وعاد بعد تخرجه ليشرف على التجهيزات الميكانيكية الخاصة بالمؤسسة، جامعاً بين المعرفة العلمية والطموح العائلي في تحديث أساليب الإنتاج.
سنوات الازدهار
عرفت شركة أصفر ونجار في أربعينيات القرن الماضي مرحلة ازدهار حقيقية، ترافقت مع السياسات التي شجعتها بعثة سبيرز البريطانية للتوسع في استصلاح الأراضي في الجزيرة واستثمارها.
شكّل ارتفاع أسعار القمح خلال سنوات الحرب العالمية الثانية عاملاً حاسماً في تحسين أوضاع المزارعين والمستثمرين الزراعيين، فمع تأسيس مكتب الحبوب عام 1942، صار هذا المكتب يشتري نحو 400 ألف طن من المزارعين سنوياً لتوزيعها على دوائر التموين في سوريا ولبنان، فيما كانت 100 ألف طن أخرى تُسلَّم إلى مركز الإمداد للشرق الأوسط لدعم المجهود الحربي للحلفاء. وما جعل هذه السياسة أكثر جذباً أن الأسعار التي كان يدفعها المكتب تجاوزت المعدلات المعمول بها عادة، ما عزز أرباح المزارعين وشجعهم على التوسع.
استفاد القطاع الزراعي أيضاً من سياسة تثبيت الأسعار خلال الحرب، ومن القروض والدعم الواسع الذي قدمه المصرف الزراعي، وهو ما أتاح للمستثمرين هامش أمان أكبر للاستثمار. وإلى جانب القمح، شكّل القطن أحد أبرز محاصيل الازدهار، إذ أدى ارتفاع أسعاره ورواجه المتزايد إلى دفع المزارعين السوريين نحو تنويع زراعتهم، والتوجه بشكل متزايد إلى زراعته كمحصول استراتيجي واعد.
ثورة زراعية
في هذا المناخ المواتي، دخلت شركة أصفر ونجار عام 1942 في شراكة واسعة مع أبناء إبراهيم باشا الملي، زعيم إحدى أبرز عشائر الملية الكردية، لاستثمار نحو 300 ألف هكتار من الأراضي التي كانت تحت أيديهم. نصف هذه المساحات كان مزروعاً بعلاً، فيما النصف الآخر أرض بور لا تصلح للاستغلال إلا باستخدام الآلات الحديثة. أتاح هذا الاتفاق للشركة فرصة نادرة لتوسيع أنشطتها، فلم تعد تقتصر على زراعة الأرز والقمح، بل انفتحت على تجارة الحبوب واستثمار المزارع وتربية الأغنام في منطقة رأس العين، مع فتح قنوات تسويق جديدة في أسواق حلب.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، خطت الشركة خطوة جديدة نحو التوسع، فافتتحت فرعاً لها في مدينة حلب، ليتولى مهمة تسويق منتجاتها الزراعية القادمة من القامشلي ورأس العين، وتأمين ما تحتاجه تلك الفروع من معدات ومواد. ولم يقتصر الأمر على مجرد مكاتب إدارية، إذ اقتنت العائلة قطعة أرض واسعة في منطقة البليرمون، شيّدت عليها مكاتب حديثة، ومستودعات للحبوب، ومجمعات لتجفيف الأرز، وأول مصنع لتقشير الأرز في العالم العربي، ما جعلها في طليعة المشاريع الزراعية والصناعية آنذاك.
ومع توسّع الأعمال المحيطة بمنتجاتها الأساسية، الحبوب والأرز، التفتت العائلة إلى ما يتصل بهذه المنتجات من حلقات أساسية، التسويق وسلاسل التوريد. ففي عام 1951 افتتحت الشركة فرعاً في دمشق، تولّى مهمة تصدير الحبوب إلى الخارج وبناء علاقات تجارية مع دول أوروبا لتسهيل التبادل التجاري، إلى جانب استيراد المعدات والآلات الزراعية الحديثة. ولم تكتفِ بذلك، بل أنشأت فرعاً خاصاً لبناء أسطول من الشاحنات تابع للشركة، يضمن نقل المحاصيل مباشرة إلى الموانئ للتصدير، أو إلى المدن الداخلية لتسويقها محلياً، متجاوزة بذلك صعوبات النقل التقليدي.
أطلق هذا التوسع المدروس، مدعوماً بسياسات تشجيعية وبنشاط شركات أخرى مشابهة، ما يشبه الثورة الزراعية في الجزيرة السورية، إذ قفز إنتاج الحبوب من نحو خمسة آلاف طن عام 1930 إلى أكثر من مليون طن بحلول عام 1954.
غير أن هذا النشاط المحموم في استصلاح الأراضي وشرائها، ولا سيما من شيوخ العشائر، كان له وجه آخر. فقد اشترت الشركة مساحات واسعة من شيخ طي عبد الرزاق الحسو، الذي كان يملك نحو خمس عشرة قرية بعلية ومروية، ثم باشرت بفلاحتها لزيادة الرقعة المجدية لزراعة القمح. لكن هذه العملية جاءت على حساب الفلاحين الذين جرى تهجيرهم بالقوة، إذ تولّى الدرك إخلاء القرى بالقسر في حال رفض سكانها المغادرة.
الفلاحون المهجَّرون ردّوا بمهاجمة جرارات الشركة، وفي قرية أبو دويل تمسّك الأهالي بأراضيهم، فاستُخدمت التناقضات العشائرية وسلطة الدرك لتأديبهم، رغم انتمائهم إلى قبيلة طي نفسها. وبعد الإخلاء، دُفع هؤلاء الفلاحون إلى منطقة وادي الرد، حيث وجدوا أنفسهم في مواجهة عشيرة شمر الخرصة، لتندلع صدامات دامية بين شمر وطي خلّفت نحو ستين قتيلاً. ولم تتوقف المواجهات عند هذا الحد، إذ امتدت الاعتداءات إلى القرى الآشورية المجاورة للوادي، حيث استولى رجال شمر بالقوة على أراضيها، مدّعين أنها جزء من ديارهم التاريخية. وهكذا تحوّل مشروع استصلاح الأراضي إلى عملية طرد واسعة للفلاحين، انتهى كثير منهم إمّا كعمّال زراعيين في مزارع الآخرين، أو مرغمين على النزوح نحو معامل الصناعات التحويلية في أطراف حلب ودمشق بحثاً عن لقمة العيش.
عشر سنوات غيرت كل شيء
خلال النصف الأول من الخمسينات، شهدت الصناعة التحويلية في سوريا طفرة ملحوظة، إذ سجلت معدّل نمو يقارب 12% سنوياً بفضل سياسات الحماية الحكومية. فقد ارتفع حجم هذا القطاع من نحو 90 مليون ليرة (أي ما يعادل 10% من الدخل الوطني عام 1944) إلى نحو 165 مليون ليرة (قرابة 13% من الدخل الوطني عام 1954). هذا النمو السريع رفع الطلب على اليد العاملة الزراعية، في وقت بقيت أجور الأراضي منخفضة، ما أدى إلى منافسة حادة بين المستثمرين الزراعيين لاستقطاب العمّال. ولتلبية هذه الحاجة، جرى الاعتماد بشكل خاص على فلاحي حوران أو على أبناء القرى المسيحية في حمص.
ومع اشتداد المنافسة على العمالة الماهرة، لجأت شركة أصفر ونجار إلى بناء علاقات تعاونية مع العمّال الميكانيكيين، فوفرت لهم الآلات والإرشادات الفنية والبذور والأسمدة، بل وذهبت أبعد من ذلك عبر إشراكهم في الإدارة والأرباح. ومنذ الأربعينيات، اختبرت الشركة أنظمة عمل مختلفة، كان أبرزها تخصيص 25% من الأرباح للعمال الزراعيين المهرة. وفي عام 1947، وبعد فترة اختبار استمرت خمس سنوات، استقرت على النموذج الأنسب، الذي جرى تعميمه لاحقاً عام 1952 على جميع العاملين في المؤسسة، ليصبح لديها ما يقارب خمسين تعاونية وأكثر من ألف عامل ضمن شبكة إنتاجية متكاملة.
كانت السنوات الممتدة من مطلع الأربعينيات حتى منتصف الخمسينيات بمثابة مرحلة ازدهار وطفرة حقيقية لشركة أصفر ونجار، تماماً كما كانت للجزيرة السورية نفسها. ففي غضون عقد واحد، تحولت الجزيرة إلى ثاني أكبر منتج للحبوب في سوريا بعد حلب خلال الأربعينيات، ثم صعدت في الخمسينيات إلى المرتبة الأولى بلا منازع.
هذا التحول لم يكن ممكناً لولا تدفق الرأسمال السوري–اللبناني، وخاصة الحلبي، إلى استثمارات الجزيرة بعد أن راكم ثروات كبيرة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. ومع هذا التدفق المالي، تسارعت وتيرة مَكننة الزراعة واعتماد الآلات الحديثة، وهي الخطوة التي كانت أصفر ونجار من أوائل المبادرين إليها. ولإعطاء فكرة عن حجم هذه النقلة، ارتفع عدد الجرارات الزراعية في الجزيرة من 116 جراراً عام 1946 إلى نحو 450 جراراً بحلول 1950، وهو ما يعكس حجم التحول الجذري في طرق الزراعة والإنتاج.
ومع توسّع الاستثمارات، بدأت أصفر ونجار بإدخال تقنيات جديدة شملت مختلف مفاصل العملية الزراعية. فطوّرت أساليب الري وشبكات الطرق والجسور، واعتمدت الاستمطار الصناعي والرصد الجوي بعد استيراد معدات حديثة من ألمانيا. ومنذ عام 1951 أدخلت وسائل ري متطورة في زراعة القطن، وأنشأت سدوداً صغيرة لتأمين المياه. كما اهتمت بالاختبارات الفنية والمخابر، داخل البلاد وخارجها، لتحسين البذار ومكافحة الأمراض، بل أسست محطة أرصاد جوية في الحسكة لخدمة أعمالها الزراعية، أسهمت في الوقت نفسه بدعم وزارة الزراعة والأرصاد الوطنية.
بداية النهاية
منذ منتصف الخمسينات بدأت الغيوم تتلبّد فوق المشهد الزراعي في الجزيرة السورية. الإنتاج يتراكم، والأسعار تهبط، والمستثمرون يثقل كاهلهم سداد القروض التي التهمت ثمار التوسع الكبير في الزراعة. كان الاستثمار الأفقي قد بلغ مداه ــ كما يلاحظ الباحث السوري جمال باروت ــ بعد أن زُرعت معظم الأراضي المتاحة، فصارت الحاجة إلى قفزة نوعية في أساليب الري والزراعة لزيادة مردودية الأرض. غير أن هذه الخطوة كانت تتطلب استثمارات أضخم بكثير مما تسمح به إمكانات السوق.
زاد المشهد قتامة انهيار أسعار الحبوب في الأسواق العالمية، بينما راحت السياسة الدولية تزيد الطين بلة: الحرب الباردة تخيّم، العدوان الثلاثي على مصر يربك المنطقة، والجفاف القاسي بين 1955 و1956 يضرب المحاصيل في مقتل. وكانت الأزمة الكبرى بين عامي 1956-1957 تحديداً، حين تراكمت الأطنان في المستودعات بلا مشترٍ، فوجد عشرات المستثمرين أنفسهم عاجزين عن سداد قروضهم. في قلب هذه الدوامة كانت أصفر ونجار، الشركة التي قادت نهضة الجزيرة، تتلقى أولى الضربات القاسية وهي في طور توسّع مشاريعها في البنية التحتية للري.
لم ينحصر نشاط أصفر ونجار بالاستثمار الاقتصادي وحده، بل تجاوزه إلى حضور اجتماعي وخيري واسع. ففي القامشلي أنشأت الشركة عدداً من الجسور، وأسهمت في تأسيس الشركة الكهربائية التي وفّرت للمدينة خدمة طال انتظارها، وأولت التعليم عناية خاصة، فدعمت إنشاء ورعاية مدارس، ولا سيما المدارس السريانية، إلى جانب مؤسسات إنسانية وثقافية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد إلى بناء قرية نموذجية في رأس العين حملت اسم المبروكة، في قلب الأراضي المستصلحة حديثاً.
وإلى جانب النشاط الاقتصادي والاجتماعي، لعبت عائلة أصفر ونجار دوراً سياسياً بارزاً في تلك المرحلة. فقد كان مسعود أصفر، كبير العائلة، من أبرز الداعمين للكتلة الوطنية، وشغل موقع رئيس المجلس الملي السرياني الأرثوذكسي. في انتخابات عام 1937، حين خسر مرشح المجلس يونان هدايا، كان مسعود من بين المطالبين بإبطال النتائج، معلناً تأييده لمرشحي الكتلة الوطنية. ولم يقتصر دوره على ذلك، بل كان أيضاً عضواً في الوفد الوطني للجزيرة المكلّف بعرض مطالبها، إلى جانب الزعيم العشائري دهام الهادي، في مواجهة الانفصاليين خلال أحداث 1937 التي وضعت الجزيرة في مواجهة الحكومة المركزية في دمشق بعد اتفاق 1936 مع الفرنسيين.
وبعد الاستقلال، برز الدور السياسي لجيل آخر من العائلة، إذ تقدّم إلياس نجار، الأخ الأصغر، إلى البرلمان ممثلاً عن المقعد السرياني، متحالفاً مع الشيخ دهام الهادي زعيم عشائر شمر، ومنضماً إلى الحزب الوطني.
حلم لم يكتمل
كانت الوحدة مع مصر في أواخر الخمسينيات بمثابة بداية النهاية لتجربة أصفر ونجار. فبعد الأزمة التي بدأت منذ منتصف العقد، طُرح السؤال الكبير حول شكل السياسة الاقتصادية والإصلاح الزراعي في سوريا. في البداية بدا أن دمشق ستتفادى تطبيق الإجراءات القاسية المطبقة في مصر، خشية انعكاساتها السلبية على الاقتصاد السوري، وهو ما أكده تقرير وزير الإصلاح الزراعي، السيد مرعي، الذي أرسله عبد الناصر إلى سوريا. لكن سرعان ما غيّرت التطورات السياسية مسار الأمور، خاصة بعد ثورة العراق، إذ صدر في سوريا قانون الإصلاح الزراعي، ليشكل ضربة قاصمة للشركة. ومع صدوره ظهر خلاف حاد بين الوزارة والعائلة، خصوصاً حول تفسير البنود المتعلقة بملكية الزوجات والأبناء، وهي نقطة ستصبح محور صراع طويل ومرير.
بحثت العائلة عن مخرج يخفف من وطأة القانون، فقاد الياس نجار مساعيها السياسية. التقى الرئيس السوري شكري القوتلي، الذي كتب له رسالة موجهة إلى المشير عبد الحكيم عامر في القاهرة. حمل الياس الرسالة بنفسه، والتقى عامر الذي أبدى تفهماً ودعماً لمطالب الأسرة. لكن ما بدا وكأنه بصيص أمل سرعان ما تلاشى، فوزير الزراعة أحمد الهنيدي رفض الأخذ بتفسير العائلة، وفرض تفسير الوزارة بشكل مباشر من دون العودة إلى القضاء عام 1961، الأمر الذي زاد معاناة الأسرة وأغلق أمامها أبواب التسوية.
بعد الانفصال، عادت الحكومة جزئياً عن إجراءات الإصلاح الزراعي، رغم ما رافق تلك المرحلة من اضطرابات وتغييرات متلاحقة. في تلك الأجواء توصّلت العائلة إلى تسوية مع وزير الزراعة آنذاك، العميد أمين النفوري، قضت بالسماح لها بالاحتفاظ بنحو 130 ألف دونم ـ أي ما يعادل 17% من ملكيتها ـ شملت أراضيها في القامشلي ورأس العين والمناطق المحيطة بقرية المبروكة. في المقابل جرى توزيع ما يقارب 650 ألف دونم من الأراضي الفائضة والمستصلحة التابعة للشركة على عائلات سريانية وطوائف أخرى، وكذلك على أفراد من عشيرة عنزة.
لكن هذه التسوية لم تدم طويلاً. فمع انقلاب 1963 أعيد العمل بقانون الإصلاح الزراعي، وعاد الخلاف حول تفسيره من جديد. وفي حكومة صلاح الدين البيطار الأولى رُفض تفسير العائلة، غير أن البيطار نفسه، بعد إبعاده عن رئاسة الوزراء، اجتمع بهم وأبدى تفهماً لمطالبهم، بعدما قام بجولة في الجزيرة واطلع مباشرة على أوضاع المؤسسة، بل سعى لاحقاً إلى دعمها عند عودته إلى رئاسة الوزارة.
غير أن كل تلك الجهود اصطدمت بحركة شباط 1966 التي بددت ما تبقى من آمال، إذ جرى في عام 1969 تأميم كامل مشروع أصفر ونجار، ومصادرة أراضيهم وأملاكهم، لتُطوى صفحة هذه التجربة وتجد العائلة نفسها مضطرة مرة أخرى للرحيل، هذه المرة نحو لبنان، تاركة وراءها حلم الوطن النهائي الذي لم يكتمل.
إرث التجربة
قدّمت مؤسسة أصفر ونجار نموذجاً رائداً للبرجوازية الرأسمالية القائمة على الريادة والاستثمار الذكي. انطلقت من منتج نواة ـ الحبوب والأرز ـ ثم راحت تتوسع حوله، فتراكم رأس المال عبر تطوير شبكات النقل والتسويق، وإقامة الصناعات التحويلية المرتبطة بهذا المنتج وإنشاء برامج تطوير وأبحاث من أجل تحسين نوعية الإنتاج ورفع مردودية الأرض وكفاءة اليد العاملة.
توازى هذا النشاط الاقتصادي مع شبكة واسعة من المبادرات الاجتماعية والإنسانية، مدارس ومؤسسات خيرية ورعائية وحتى حضور سياسي وإن بقي مسألة جانبية في حالة أصفر ونجار، وهي مبادرات لم تكن مجرد عمل خيري بل جزءاً من بناء “رأسمال اجتماعي” يعزز كفاءة العمال ويوسّع السوق المحيط بالاستثمار، في ما يشبه تجربة فوردية محلية مبكرة.
ولعلّ العلاقة الفريدة التي نسجتها المؤسسة مع عمّالها تعكس هذا النموذج بشكل أوضح. ففي إحدى الشهادات التي رواها القيادي الشيوعي خالد بكداش عن لقاء جمعه بالياس نجار، نقل أن فرع الحزب في القامشلي كان يقول إن العمل لدى أصفر ونجار يُعدّ فرصة ذهبية، إذ يحصل العامل مع عائلته على بوليصة تأمين مدى الحياة، وهو امتياز نادر في ذلك الزمن.
أثر الجزيرة السورية
مع أفول تجربة أصفر ونجار وسقوطها الأخير، كانت الجزيرة السورية نفسها قد تحولت على نحو جذري بفعل الثورة الزراعية التي شهدتها. لم تعد تلك الرقعة المنسية قليلة السكان على هامش البلاد، بل تحوّلت إلى السلة الزراعية لسوريا، والمنتج الأساسي لمحاصيلها الاستراتيجية من القمح والقطن والشعير، قبل أن تصبح لاحقاً أيضاً مصدراً للنفط.
ومع الزراعة، جاء التحوّل الديمغرافي الكبير، فقد استقطبت الجزيرة آلاف السريان والآشوريين والأكراد والعرب والأرمن، الهاربين من الاضطهاد والباحثين عن ملاذ آمن ووطن جديد. وفي غضون عقود قليلة، انتشرت القرى والبلدات والمدن، وباتت المنطقة غنية بالسكان وتنوعاً بالهويات.
غير أن هذا التحوّل العمراني والبشري العميق حمل معه تبعات سياسية واجتماعية. فقد برزت “المسألة الكردية” كإحدى القضايا الأساسية التي رسمت خصوصية الجزيرة، ووضعت علاقتها مع المركز في دمشق على مسار مضطرب وغير متوازن طوال تاريخ الكيان السوري. بدأت هذه التوترات بالظهور منذ أحداث الثلاثينيات، ثم تعمقت مع إحصاء الحسكة عام 1962 الذي جُرّد خلاله آلاف الأكراد من جنسيتهم السورية بذريعة كونهم “أجانب”. ومنذ ذلك الحين، ترسّخ هذا الواقع وتعمّق خلال العهد البعثي، وصولاً إلى الحرب الأهلية وسقوط النظام، لتظل الجزيرة حتى اليوم حاملة لإرث طويل من التهميش والاضطراب.
ما بعد الثورة
قامت الثورة الزراعية في الجزيرة السورية بدور مفصلي في إطلاق الصناعات التحويلية، فكانت بمثابة القاعدة الأولى لأي حديث عن التحول الصناعي في سوريا. لكن هذا المسار، رغم زخمه، لم يكن قدراً مكتوباً له أن يستمر. فقد وصل الاستثمار الزراعي في الجزيرة إلى حدوده القصوى، وظهرت الحاجة إلى قفزات نوعية لم تكن سوريا الليبرالية قادرة على تحقيقها.
برزت هذه الإشكالية في مناطق سوريا الغربية، حيث كانت العلاقة بين ملاك الأراضي والمزارعين أكثر قسوة بكثير مما عرفته الجزيرة التي قامت على نمط رأسمالي محض، مقابل علاقات تبعية وقسر واستغلال “ما فوق اقتصادي” في الغرب السوري. ومع تراكم الضغوط الإقليمية والعالمية، جاء مشروع الوحدة مع مصر ثم العهد البعثي ليضع نهاية حاسمة لهذه التجربة.
هناك، في مطلع الستينات، طُويت صفحة أصفر ونجار، ومعها صفحة من تاريخ الجزيرة، لتبدأ مرحلة جديدة مثقلة بالتأميم والتهميش. ورغم أن الفلاحين استفادوا جزئياً من إعادة توزيع الأراضي، فإن العلاقة مع المركز أخذت منحى أكثر سلبية، حتى بدت الجزيرة وكأنها تعيش من جديد شكلاً من الاستعمار الداخلي: أرض ثرية ومحاصيل وفيرة، لكن قرارها الاقتصادي والسياسي يُدار من بعيد، ومن فوق.
مراجع للاستزادة
- محمد جمال باروت، التكوين التاريخي الحديث للجزيرة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة، 2013.
- الياس سعيد نجار، عائلة أصفر ونجار، مطبعة روحانا الشمالي، بيروت، 2010.
- محمد علي الصالح، إدارة الاقتصاد السوري زمن الانتداب الفرنسي (1918 – 1946) وتأثيراتها فيما بعد الاستقلال، بيروت – دمشق، 2020. الرابط