عينٌ لعيون

كبرتُ في بيت لم يعرف الألوان، لكنه امتلأ بالقصص. كنتُ عيون والديّ الكفيفين، أرسم لهما العالم بالكلمات: أصف الأفلام التي نشاهدها سويًا، ألوان ثيابنا، ملامح إخوتي، وحتى حركة الشارع خلف النافذة
ــــــــ البيتــــــــ جسد
10 سبتمبر 2025

“عشنا فترة الحصار الاقتصادي على ليبيا في التسعينيات بفضل عزم أبي ومهارته في إدارة الأمور المالية، وفر لنا الكثير ولم يقصر يومًا، أمّا أمي فأعطت لنا حياتها بالكامل لنا، ربة بيت مثالية، تهوى النظافة وتتفنن في طبخ ألوان الطعام المختلفة، كليهما واجها الدنيا بمهارات اجتماعية قوية، وبالقليل من مساعدة الأحبة والأصدقاء، تخبرني أمي قصصًا كثيرة عن الجارات اللواتي دائمًا ما كن بقربها حين احتاجت للدعم النفسي أو العملي، وعن أختها و قريباتها من بنات الخالات اللاتي حضنوا عائلتنا في المناسبات الاجتماعية والأعياد بالحب و الحلوى”.

ربما يبدو الكلام السابق عاديًا أو لا يوجد ما يميزه، على الأغلب اتشارك مع الكثيرات والكثيرين طفولة ونشأة تشبه هذه الأجواء، لكن ما لم يكن عاديًا في تلك الحياة أن أبي وأمي كفيفين.

كبرتُ في بيت لم يعرف الألوان، لكنه امتلأ بالقصص. كنتُ عيون والديّ الكفيفين، أرسم لهما العالم بالكلمات؛ أصف الأفلام التي نشاهدها سويًا، ألوان ثيابنا، ملامح إخوتي، وحتى حركة الشارع خلف النافذة. كانت تلك اللحظات الصغيرة تشعرني بأنني أؤدي دوري في الحياة على أكمل وجه.

لم يكن والدي أو والدتي مكفوفين عند الولادة، أصيبت أمي في طفولتها بمرض الرمد الحبيبي (التراخوما) مما أدى لضعف بصرها حتى راح، حاولت جدتي لسنوات أن تعطيها العلاج المناسب، من نقش وشم على جبين الطفلة، حتى الدوران بين المشافي البعيدة، لكن بعد القرية التي نشأت فيها حال دون الوصول للمستشفيات وللعلاج المناسب في الوقت المناسب.. ماتت أمها حسرة عليها.

أما والدي فقد تعرض لإصابة سببت انفصال الشبكية هو حالة طارئة تؤدي إلى فقدان البصر إذا لم تُعالج بسرعة، وهو ما حدث.

عاش طفولة صعبة بعد طلاق والديه، انتقل إلى جدته وجده، ثم في كنف عمه لاحقًا، دخل أبي الكّتاب ليتعلم اللغة في صباه، ثم التحق مثل أمي بمدرسة النور للمكفوفين و درسا حتى الثانوية هناك، ولاحقًا اتجه للعمل.

وأنا نشأتُ بين أيدي تتحسس الأشياء لتعرفاها، وتنقل لي الحكايات، لكن لم ينقلا لي المرارة، غامرت أمي لتبني عائلة، وحاولت قدر استطاعتها أن تسعدنا رغم الألم. ما زلت أذكر-وكنت مراهقة- يوم فقدت عينيها تمامًا بعد مضاعفات مؤلمة وخطيرة من ارتفاع ضغط العين، يومها أخبرنا الطبيب أن عليه نزع أحشاء عينيها..”فاقطع الراسي يبسوا العروق” وهو مثل شعبي ليبي يعني تخلص من مسببات المشكلة لتختفي، هكذا قال، وكأن الأمر بسيط. حتى تلك اللحظة كان ما زال عندي أمل أن يعود لعينيها الضوء، أقرأ عن الأطباء الأجانب، وأرجو.. لكن لحظتها تغيرت نظرتي للعالم ولازمتني الجملة لسنين وسنين.

بعد تخرجي من الجامعة بدأت علاقتي بالتصوير. كان الشارع، بوجوهه وأصواته وضجيجه، مفرّي من العزلة والاكتئاب. ومع الوقت، صار التصوير بالنسبة لي أكثر من مجرد هواية؛ أصبح وسيلتي لفهم هويتي الليبية والنسوية، ولسرد القصص.

وعدت نفسي أن يكون أول مشروع تصوير ناضج لي عن حياتهما، أن أحاول الإمساك بخيوط تلك الحياة، كيف يعيش شخصان فقدا بصرهما منذ الطفولة، وكيف بنيا عائلة وسط مدينة تعصف بها الحروب، وكيف حاولا، كل بطريقته، إقامة حياة عادية وسط الفوضى.

قبل سنوات، قررت أمي أن تتعلم قراءة القرآن بطريقة برايل عبر رسائل صوتية من “واتساب” و”تيليجرام”، وكانت لحظة أن سمعتها تتحدث بحماس عن درس جديد أشبه بمشاهدة طفلة تكتشف لعبة لأول مرة، حينها بدأت اللحظات الاولى لتوثيق قصة عائلتي.

أبي، شاعر، وعاشق لكرة القدم، وجد ملاذه في الشعر والكتب والراديو، أحب عالم الإنترنت وكان من أوائل الناس الذين أعرفهم في اكتشاف هذا العالم، في فترة فتح موقع خاص أعتاد أن يكتب فيه لـ”عشاق المستديرة ” كما سماه، أعتمد ساعتها على أخي الأصغر في إدارة صفحاته واكتشاف عوالم الإنترنت.

ألتقطُ صورًا كثيرا بالقرب من زاويته الخاصة في غرفة النوم ومحتوياتها؛ راديو قديم يخزن فيه النقود، علبة سجائر يخبئها عنا، محفظة مدرسية فيها أوراق مهمة، وكل شيء مرتب بطريقة لا يفهمها سواه. كل صباح، يخرج ليدخن سيجارته في الشمس، يقول إنها لحظة “فيتامين دال” التي لا يتنازل عنها.

أيضًا لأمي وهي تمشط شعر أختي ونحن نشرب الشاي، مع صديقاتها في لمّة ضحك هادئ وهن يتذكرن تأسيس مدرستهن، أو كتاب طبخ قديم بلغة برايل، والغرف الداخلية الفارغة في مدرسة المكفوفين.

عبر التقاط الصور صارت الكاميرا صارت لأروي للعالم ما رأيته، وما لم يره أحد. لم أرد أن أحكي فقط عن فقدان البصر، بل عن ما يبقى بعده، الذاكرة، الحواس الأخرى. عن طقوس الحياة اليومية، والقدرة على إيجاد المعنى حتى في أبسط الأشياء.

* تم العمل على هذا المشروع ضمن برنامج التصوير الفوتوغرافي الوثائقي العربي