لم تعد العدسة هي ما يفصلني عن الحدث، بل شاشة هاتف سميكة وآلاف الكيلومترات، وأطنان من القذائف المتفجّرة، وفارق التوقيت بين مونتريال وبيروت. الحرب تسبقني بسبع ساعات ..
توقّفتُ عن إخراج الكاميرا معي منذ شهرٍ ونصف. ربّما استعضتُ عنها بالتنقّل بين الصور والمشاهد والفيديوهات على الهاتف بحركةٍ آلية من اصبعي. أدفعُ صورةً وأقلّب أخرى كما لو أنّي أزيح ركاماً لأصل إلى لقطةٍ لشيء لا أعرفه. كأنّي أجول في شوارع بيروت أو صور أو البقاع، ولا أصوّر شيئاً، بل أبقى متسمّراً قبالة ما أراه.
لم تعد العدسة هي ما يفصلني عن الحدث، بل شاشة هاتف سميكة وآلاف الكيلومترات، وأطنان من القذائف المتفجّرة، وفارق التوقيت بين مونتريال وبيروت. الحرب تسبقني بسبع ساعات.
تذكّرني الشاشة دائماً بأنني بمأمن عن الأهوال التي يعيشها أهلي وأصدقائي في لبنان، ولو أنّ المشاهد الآتية من لبنان وغزّة والضفّة ابتلعت مدينة مونتريال حيث أقيم منذ ستة أشهر. أكرّر في نفسي أنّ مدننا تتضخّم كالورم كلّما ابتعدنا عنها، وأنّ العدسة يمكنها أن تُعمى رأفةً بأعيننا.
نزلت الحرب كغشاوةٍ على عينيّ. تحذف ما تشاء من مونتريال، وتجعل ما تختاره منها مرئيّاً: حروب الغرافيتي على جدران المدينة، خريفها الملوّن الذي صار بلوني الأسود والأبيض فقط، واتجاهات الشوارع التي تُبعثر خطواتي رغم استقامتها؛ أين أذهب؟ لا أجد أمامي إلّا السماء. أنظر إلى الأعلى، وأفكّر أنّ سماء واحدة تظلّل بيروت ومونتريال. ثمّ تموت الفكرة بالسرعة نفسها التي تتبدّد فيها الغيمة فوق رأسي.
حين يجول في أرشيفه، يقول المصوّر اللبناني في سرّه لقد صوّرت كلّ شيء: حرب تمّوز، تفجيرات واغتيالات، انفجار المرفأ وأفول نبض المدينة مع الأزمة الاقتصاديّة في لبنان. أقلّه هذا ما شعرت به حين قرّرت بأنني سآخذ استراحة أخيراً من التصوير الصحافي. مع ذلك، لم أتخلّص بسهولة من فكرة العودة إلى لبنان لتغطيّة الحرب الإسرائيلية الحالية.
أتابع مع زملائي المصورين يومياتهم عبر تطبيق «واتس آب»، وأطمئن نفسي بأنني سأستقلّ أوّل طائرة إلى بيروت بعد انتهاء الحرب. ما بعد الحرب دائماً أقسى، هذا ما أعرفه من كلّ الأحداث الدمويّة التي صوّرتها في لبنان سابقاً. ثمّة متّسع من الوقت لتظهر الفجيعة بهدوء، كما لو أنّها كانت تنضج لتحتلّ الأمكنة وتستقرّ كندبةٍ عليها.
عندما غادرت لبنان، تخلّيت عن معظم ما أملك، ولم أُحضر معي سوى بعض الأغراض والصور. اصطحبت معي صورتين لبيروت، واحدة لمرفئها بعد مأساة 2020، وأخرى قديمة للواجهة البحرية، قلعة برج البحر، التقطها المصوّر الفرنسي جان بابتيست شارلييه سنة 1880.
احتفظت أيضاً بزمن المدينة حين تركت ساعتي مبرمجة على توقيت بيروت.
تصلني باستمرار فيديوهات وصور من لبنان تؤكّد أنّ بيت جدّتي ما زال يقف في مكانه، وسط الدمار الهائل الذي ألمّ بقريتها الجنوبيّة، بالقرب من مدينة صور. أذهب إلى تطبيق «خرائط غوغل» الذي ما زالت خرائطه غير محدّثة. القرية لا تزال صامدة تماماً، والجنوب ليس مدمّراً، لكنّ الحرب أسرع من «خرائط غوغل»، والوقت في مونتريال أطاح بساعتي التي توقّفت فجأة عند الساعة الثانية عشرة إلّا عشر دقائق بتوقيت بيروت.