fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

عن علاء عبد الفتاح وإسماعيل المهدوي.. أو ما لا يجب تكراره

قررت ليلى سويف، الأم التي أُغلقت أمامها كل سبل العدل، أن تحارب بحياتها من أجل ابنها، الناشط السياسي والمبرمج علاء عبد الفتاح بالدخول في إضراب مفتوح عن الطعام منذ 30 سبتمبر الماضي.
ــــــــ جسدــــــــ ماضي مستمر
18 نوفمبر 2024

قبل عدة أسابيع، كنت أشكو لطبيبتي النفسية من شعوري المتزايد بالغضب. ذكرت لها أنني أصبحت أشعر دائماً  بالرغبة في النزول إلى الشارع والصراخ. في الفترة الماضية كنت أستيقظ كل يوم بشعور قوي بالإهانة، كأنني تلقيت صفعة على وجهي، بل صفعات متتالية تتصاعد قوتها كل يوم.

فالمدينة التي عشت فيها طيلة حياتي تتحول إلى كوبري طويل ممتد، المساحات الخضراء العامة التي اكتشفت إمكانية الجلوس فيها فقط وأنا بالغة، شريان القاهرة الأخضر، يجرف يومياً من أجل بلوكات أسمنتية. تراث وحضارة بلادنا التي توارثناها عبر الأجيال لمئات وآلاف السنوات، يحطمه «بلدوزر الحكومة» بلا أي تردد أو اكتراث. يصفعني على وجهي هذا البؤس المخيم على وجوه الناس من حولي، والوضع الاقتصادي المتأزم يأكل عظامهم وعظام أطفالهم. عشرات الأطفال الذين يقتلون كل يوم تحت القصف الإجرامي الصهيوني، لأكثر من عام، ثم يأتي فيديو قصير لا يتعدى ثوان معدودة لبارجة حربية إسرائيلية تمر من مياهنا في قناة السويس، معلقة علم الاحتلال بجوار علم مصر، ويُبرَر ذلك باتفاقية دولية بالية، ليشعرني كأنني شريكة في قتل هؤلاء الأطفال.

كل الصفعات السابقة على وجهي كمواطنة وإنسانة تثير غضبي العارم، الذي أعلم جيداً أنني أشاركه مع كثيرين، لكن أكثر ما أغضبني هو شعوري بالإهانة والعجز أمام ليلى سويف، الأم التي أُغلقت أمامها كل سبل العدل، فقررت أن تحارب بحياتها من أجل إبنها، الناشط السياسي والمبرمج علاء عبد الفتاح الخاضع للتنكيل بسبب مواقفه السياسية منذ ما يقرب من 11 عام، بالدخول في إضراب مفتوح عن الطعام منذ 30 أيلول/ سبتمبر الماضي.

هذا التنكيل وهذه الصفعة بالذات تهينني بشكل مضاعف، وبشكل شخصي، فقبل 54 عاماً تم التنكيل بشخص آخر، هو الصحفي والمترجم والكاتب والمفكر والقيادي الشيوعي إسماعيل المهدوي، جدي، بسبب مواقفه السياسية، ليكون عبرة لمعارضي نظام جمال عبد الناصر العسكري، مثلما يراد من علاء عبد الفتاح أن يكون عبرة لمن يجرؤ على معارضة النظام الحالي.

علاء ليس سجين هذا النظام فقط، هو سجين كل العصور، وإن تصاعد التنكيل به مؤخراً. فلقد اعتقل في 2006، تحت حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك. وفي أثناء ثورة يناير 2011، تحت حكم المجلس العسكري للبلاد ..

في فبراير 2015 حُكم على علاء عبد الفتاح بالحبس خمسة سنوات وبالمراقبة خمسة سنوات أخرى، على خلفية تظاهرة أمام مجلس الشورى في تشرين ثاني/ نوفمبر 2013، حيث واجه اتهامات بالتجمهر والتظاهر بدون ترخيص. وخرج بعد قضائه المدة في أذار/ مارس 2019، ليبدأ في تنفيذ حكم المراقبة الشرطية، كان عليه قضاء 12 ساعة يوميا في قسم الشرطة ولمدة 5 سنوات. لم يلبث أن قضى ستة أشهر يحاول فيهم استعادة نصف حياته في نصف يومه الذي لا يقضيه في زنزانة المراقبة، حتى قبض عليه فور إنهائه تنفيذ المراقبة بقسم الشرطة في أحد أيام أيلول/ سبتمبر 2019، ووجهت له اتهامات بنشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية، على خلفية قيامه بمشاركة منشور كتبه أحد النشطاء عن وفاة أحد السجناء نتيجة التعذيب. حكم على علاء في القضية الجديدة، بعد عامين من الحبس الاحتياطي، بالسجن خمسة أعوام، تنتهي قانوناً في نهاية أيلول/ سبتمبر 2024. إلا أن الأسرة إكتشفت أن السلطات ترفض احتساب فترة الحبس الاحتياطي في مدة العقوبة، ليقرروا أن علاء لن ينال حريته حتى أول 2027، ما دفع والدته للدخول في الإضراب.

علاء ليس سجين هذا النظام فقط، هو سجين كل العصور، وإن تصاعد التنكيل به مؤخراً. فلقد اعتقل في 2006، تحت حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، إثر مظاهرات طالبت باستقلال القضاء، مع ناشطات وناشطين مصريين، لحوالي شهر ونصف. وفي أثناء ثورة يناير 2011، تحت حكم المجلس العسكري للبلاد، اعتقل مجددا بعد مذبحة ماسبيرو، التي راح ضحيتها 23 شخصا على الأقل من المواطنين المصريين الأقباط، إثر اشتباكات بين قوات الجيش ومحتجين في منطقة ماسبيرو، نظموا تظاهرة للتنديد بهدم كنيسة في أسوان. قُبض على علاء وآخرين بتهمة التحريض على التظاهر في تشرين أول/ أكتوبر 2011، وأفرج عنه في كانون أول/ ديسمبر من نفس العام.

تواريخ وأرقام كثيرة ربما تسبب بعض الارتباك وبالتأكيد تسبب الكثير من الأسى، لكن ما تعنيه بالنسبة للأشخاص وحياتهم أقسى كثيراً. فات علاء مولد ابنه الوحيد، خالد، المولود في كانون أول/ ديسمبر 2011. بينما رحل والد علاء، المحامي الحقوقي أحمد سيف الإسلام في آب/ أغسطس 2014 دون أن يتمكن من رؤية ابنه علاء، وابنته الصغرى سناء، التي كانت سجينة هي الأخرى وقتها، ولم يعوضهما بالتأكيد القرار الأمني الذي سمح لهما بحضور الجنازة، عن أن يكونا مع أبيهما في أيامه الأخيرة. ومثلما فات علاء ولادة إبنه، فاته توديع والده. هذه لحظات لا تعوض، وأثمان غير قابلة حتى للقياس.

اسماعيل المهدوي. خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

في بدايات عام 2021، إتخذت أولى خطواتي بعد طول انتظار، في رحلة بحثية عن جدي إسماعيل المهدوي، الذي لطالما كان محيطاً بي ومؤثراً في حياتي واختياراتي رغم أنني لم أقابله سوى مرة واحدة. لم أكن إحدى هؤلاء الأحفاد والأبناء المحظوظين بالعثور على مذكرات ذويهم ودواليب ذكرياتهم فقرروا البدء في مشروع أدبي أو فني عنهم.

حين بدأت هذه الرحلة لم يكن لدي شئ على الإطلاق، سوى صورة أو اثنتين وبعض الحكايات المبتسرة المتناثرة. رحلة شاقة ومؤلمة، كلما أوشكت على نهايتها كلما وقعت أكثر في فخاخها، لكنني لن أحكي عن هذه الرحلة الآن. سأسردها بالتفصيل عندما تنتهي. أكتفي الآن بالقول أنني بدأت هذه الرحلة بغرض الشفاء والتصالح مع إرثي وتاريخ عائلتي، وانتهى بي الحال بالشعور بالمزيد من الإهانة والغضب.

لن يمكنني العودة إلى الوراء وإنقاذ جدي من مصيره، لكن هل يمكننا تجنب هذا المصير لعلاء وغيره كثيرون؟ أم هل فات الوقت لإنقاذه مثلما فات الوقت لإنقاذ جدي؟

درس إسماعيل المهدوي الفلسفة، وبالرغم من تفوقه ونبوغه في الدراسة، إلا أنه حرم من التدريس في الجامعة، لنشاطه السياسي الذي بدأ مبكرا منذ نهاية الأربعينيات، أصبح قيادياً في تنظيم «طليعة العمال والفلاحين» وهو أحد تنظيمات الحلقة الثانية من الحركة الشيوعية المصرية بين الأربعينيات والستينيات. كما كان له مشروعاً ثقافياً أيضاً في الخمسينيات والستينيات، تضمن الترجمة من الفرنسية والإنجليزية إلى العربية، في الفلسفة والماركسية والأدب. ومن أبرز ترجماته كتاب «المبادئ الأساسية للفلسفة» للفيلسوف الفرنسي الماركسي جورج بوليتزير، ورواية «الأخوة الأعداء» للأديب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس.

أعتقل إسماعيل المهدوي لفترات طويلة مثله مثل أبناء جيله من القادة الشيوعيين في الخمسينيات والستينيات، من بين هذه المدد الطويلة، قضية الشيوعيين الكبرى والتي امتد فيها سجن مئات الشيوعيين بين 1959 و1964. ولكن وبعد سنوات قليلة من محاولة إسماعيل الاستقرار في عمله الصحفي في دار التحرير التي كانت تصدر جريدتي الجمهورية والمساء، ومن كتاباته وتحليلاته في عدد من المجلات الثقافية، تعرض نهاية الستينيات للتضييق الشديد في حياته وعمله، فقرر السفر لاستكمال رسالته للدكتوراة في جامعة السوربون في فرنسا، قبل إجباره على العودة لمصر بعد وقت قصير.

لم يكن جمال عبد الناصر يعلم في 5 نيسان/ أبريل 1970 أن حكمه بل حياته كلها ستنتهي في شهور قليلة، فواصل طريقه بحبس أي وكل معارض. غير أن قرار حبس إسماعيل جاء بطريقة نموذجية في التنكيل، فبعد القبض عليه تم التحقيق معه أمام نيابة أمن الدولة العليا التي قررت إيداعه مستشفى الأمراض العقلية، وأبقت ثلاثة أنظمة متعاقبة عليه حبيس المستشفى، حتى خروجه في أيلول/سبتمبر 1987.

يدفع علاء ثمن جيله بأكمله، ثمن حلمنا بالعدل والحرية، مثلما دفع إسماعيل المهدوي ثمناً فادحاً عن جيله ورفاقه، وإن كان هو من أكثرهم مواجهة وصداماً مع النظام، فبعضهم أراد حياة أكثر استقراراً ورفاهة بعد سنوات المعتقل والنضال ..

سبعة عشر عاماً قضاها جدي في الثقب الأسود، أرادوا له أن يكون عبرة، لكنه أصبح رمزاً للصمود، فخرج وقرر أن يستمر في الكتابة والتحليل السياسي بالرغم من استمرار التضييق على حياته، حتى وفاته في يونيو/حزيران 1996. قصة نموذجية للتنكيل والصمود معاً، لكن بأي ثمن؟ يمكنني الجزم بأن هذا المصير الذي لاقاه إسماعيل استمر تأثيره وصولاً لي أنا، حفيدته. يسمون ذلك في علم النفس الصدمات العابرة للأجيال.

يريدون لعلاء عبد الفتاح أن يكون عبرة، ونجح هو الآخر في أن يكون أحد رموز الصمود، لكن، كذلك، بأي ثمن؟ ماذا عن ابنه الذي كبر دون أبيه؟ ماذا عن حياة أسرته التي تدور حول سجنه منذ 11 عاماً؟ توفيت والدة جدي السيدة إحسان صالح قبل أن ترى ابنها حراً، أما ليلى سويف فتقاتل بحياتها من أجل إبنها؟ فهل هناك أمل في إنقاذها؟ في أن ترى ابنها يستعيد ما تبقى من حياته؟ قضى إسماعيل ثلث حياته تقريباً حبيس زنازين السجن ومستشفيات الأمراض العقلية، وقضى علاء ربع عمره تقريباً في السجون، أليس هذا كافياً؟

يدفع علاء ثمن جيله بأكمله، ثمن حلمنا بالعدل والحرية، مثلما دفع إسماعيل ثمناً فادحاً عن جيله ورفاقه، وإن كان هو من أكثرهم مواجهة وصداماً مع النظام، فبعضهم أراد حياة أكثر استقراراً ورفاهة بعد سنوات المعتقل والنضال. أعي جيداً أن كل قصة ظلم تختلف عن غيرها، ولا أسعى لتنميط قصص الظلم كلها في قالب واحد. جدي ليس علاء وعلاء ليس جدي، إلا أن هذا لا يمنعني من رؤية أوجه الشبه الصارخة، ومن رؤية تشابه التبعات من الأضرار الشاملة الممتدة العابرة للحدود الزمنية والقيمية والشخصية وحتى الجغرافية.

وفي الحقيقة حالة علاء عبد الفتاح ليست المثال الوحيد على التنكيل بالمعارضين من النظام الحالي، هناك أمثلة أخرى كالقيادي السابق في حركة 6 أبريل محمد عادل، المحبوس لفترات متتابعة منذ ما يقرب من 11 عاماً، والصحفي محمد أكسجين، المحبوس منذ عام 2018، والشاب الصغير الذي كبر في السجن أيمن موسى، المحبوس منذ 2013، والباحث أيمن هدهود الذي وجد ميتاً في مستشفى للأمراض العقلية بعد شهرين من اختفائه في 2022، والشاعر والناشط أحمد دومة، الذي قضى أحكاماً بعشرة سنوات، ومنذ خروجه وهو محاصر بتضييقات مستمرة كأن ما قاساه لم يكن كافياً. أعمار تُهدر في هذا الحصار والتنكيل لإخافة الجميع. لكنها مجدداً إن ابتغي منها إثارة الخوف فهي في الحقيقة تثير الكثير من الفخر والكثير من الغضب أيضاً. فخر عالي التكلفة وغضب قليل الحيلة. أثبت التاريخ أنه يعيد نفسه، حتى وإن لم يتعلم منه أحد، وبالتالي فإن كانت دائرة الظلم تعيد نفسها، فدوائر العدل وإن كانت نادرة وقصيرة واستثنائية، ستعيد نفسها أيضاً.

هل أعيد بعض الحق لإسماعيل بالكتابة عنه؟ باستكمال مسيرته وسيرته؟ ربما. هل نعيد بعض الحق لعلاء عبد الفتاح بالكتابة عنه والتضامن معه ومع والدته؟ ربما. لكن الأفضل أن يعاد الحق لأصحابه في الوقت المناسب، يفضل ألا يستعاد الحق متأخراً. لم يكن على إسماعيل أن يواجه كل هذه القسوة، ولا يجب على علاء وغيره أن يواجهوا كل هذا الظلم.

لطالما تساءلت أين كان الناس من جدي لمدة 17 عاماً؟ كيف لم تثر الدنيا ولم تقف احتجاجاً على هذا الظلم البيّن. حين أرى ليلى سويف تتجاوز الخمسين يوماً من إضرابها عن الطعام، وحين أتذكر كل الحملات التضامنية محلياً ودولياً مع علاء عبر السنوات، وحين أرى تظاهرات مئات الآلاف من المواطنين حول العالم منذ أكثر من عام من أجل غزة، أرى وجهاً في قصة إسماعيل لم أكن سأراه أبداً في ماضيه، بل في حاضري أنا.

فربما لو نجحنا في إنقاذ علاء عبد الفتاح أكون قد نجحت في إنقاذ إسماعيل المهدوي، ولو معنوياً، بألا تتكرر المأساة، وربما أكون نجحت في إنقاذ نفسي من كل هذا الغضب.