fbpx

في معمارية الاختفاء.. قراءة في التركيبات المعمارية للنظام السوري

في حالة سجون الأسد، تذوب مسام السجين الواحد مع مسامات السجناء الآخرين، وتصبح الرقابة هنا، بالنظر إلى الحركة والمساحة، رقابة لكتلة كاملة صماء من الأجساد القابلة للانتهاك
ــــــــ المـكـانــــــــ جسد
9 يناير 2025

“أستعير مفهوم الوحشية من التفكير الهندسي”

أخيل مبيمبي، “الوحشية” (2021)

 

كشفت الأيام الماضية، منذ سقوط نظام بشار الأسد، وهروب رأسه وآله إلى راعيهم الثاني؛ الروس، عن تركيبات معمارية وعمرانية، كان لها دور أساسي في قمع السوريين والسوريات وإخفائهم عن سطح الأرض، وإدامة دولة القمع والوحشية في القلوب قبل العقول. إلا أنها، وهو الأهم، وبغياب بعضها عن العيان، وتراكمها في ظلمة سردية المظلومين واستعاراتهم، وحتى أشكال آداءاتهم، قد ساهمت في تشكيل الذاكرة الجمعية للسوريين والسوريات على مدى ما يزيد عن نصف قرن من الزمان، إلا أنها والأهم كانت جزءًا أساسيًا من عمليات انتاج المكان وتعبئته بالمعاني.

تسعى هذه الكتابة إلى تحليل وتفكيك تلك التركيبات والتكوينات المعمارية والتصميمية القمعية العنيفة، ومقولاتها الأساسية التي شكلت التجربة المكانية والوجودية ليس فقط لمن آل بهم الأمر وبهن إلى فراغاتها ومساحاتها، لكن كذلك هؤلاء الذي غابوا عنها ماديًا، وتبصروها بعين الخيال والحكاية والكتمان.

تلك الأشكال والتصميمات المعمارية والفراغية لها مراكمات وتقاطعات في ومع نماذج معمارية أخرى مشابهة لها في الغرض أو متقاطعة معها في آلية العمل، إلا أنها تميزت عنهم جميعًا في الوحشية والعنف والقمع. من تلك التصميماتما سميالعمارة الوحشية (أو القاسية) Brutal Architecture، وهي أسلوب معماري ظهر في منتصف القرن العشرين، أعطى الوظيفة أولوية أساسية في البناء، مبتعدًا عن الزخارف والتزيين، فتميز بأشكاله القاسية والاعتماد على الخام من المواد، وخاصة الخرسانة. المصطلح الإنجليزي مشتق من العبارة الفرنسية béton brut (الخرسانة الخام)، التي اشتهر بها المهندس المعماري السويسريالفرنسي لو كوربوزييه (1887 – 1965). ومع ذلك، فإن هذه العمارة تتجاوز البنائية المادية Materiality؛ فهي تعليق مقولة تنادي بالقطيعة المباشرة مع الجمالية والأيديولوجيا، وغالبًا ما ترتبط بإعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، والإسكان الاجتماعي الناجح من حيث التكلفة والاستدامة، والمباني المؤسسية.

في جوهره، يعكس هذا الشكل توجهات نفعية، تهدف إلى تجريد العمارة من عناصرها الأساسية بينما تصنع في الوقت نفسه بيانات جريئة ونُصُب تذكارية حول القوة والديمومة والعلاقة  مع البيئة المبنية.

المباني البنائية غالبًا ما تكون هياكل كبيرة الحجم، مهيبة، ذات خرسانة مكشوفة أو أسطح غير مكتملة، تعرض نسيج المواد وشكلها. الأسلوب يحتفي بجمالية الخشونة ويرفض الواجهات المصقولة للحركات المعمارية السابقة، بل يحتضن العيوب والنقائص في البناء.

تطرح هذه المقاربة مداخل نقدية أساسية لفهم التركيبات المعمارية والتصميمية والمكانية ودورها في الهندسة الاجتماعية للقمع والطغيان في فترة الأسد، والأهم إعادة إنتاج المكان والجسد والاستعارة المتعلقة بالهيمنة والقمع والانتهاك

والنموذج الثاني هو عمارة الأنظمة الشمولية (أو التوتاليتارية) Totalitarian Architecture، والتي تشير إلى التصاميم المعمارية التي أنشئت  بغرض تجسيد وتطبيق وادامة أيديولوجيات النظم الشمولية. غالبًا ما تعكس هذه المباني سلطة الدولة، وسيطرتها، وقوتها بينما تهمش الفردية، والمعارضة، والتعبيرات الثقافية البديلة أو الطرفية. تستخدم العمارة الشمولية الحجم الضخم، والجماليات المهيبة، والتصاميم الحضرية المنظمة لخلق بيئات ترمز إلى وتدعم هيمنة سلطة مركزية شمولية. ومن النماذج الأشهر لتلك المباني عمارة النازية (الرايخ)، والسوفييتات وكوريا الشمالية. إلا أن ما انكشف في الأيام الأخيرة من تصميمات معمارية للنظام السوري، له فرادة كبيرة فاقت هذين النموذجين، مجتمعين، في كثافة القمع وعنفه.

والتركيبين المعماريين الأساسيين التي تعتمد عليهما هذه المداخلة هما:

1. الأنفاق السرية وشبكتها التي بُنيت تحت قصور آل الأسد.

2. الأقبية السرية التي بنيت ضمن طبقات سجون ومعتقلات النظام، وبالأساس سجن صيدنايا، سيء الصيت، بما هو الاستعارة الأساسية لمؤسسة السجون والمعتقلات الأسدية، أو يكاد يكون كذلك.

تطرح هذه المقاربة مداخل نقدية أساسية لفهم التركيبات المعمارية والتصميمية والمكانية ودورها في الهندسة الاجتماعية للقمع والطغيان في فترة الأسد، والأهم إعادة إنتاج المكان والجسد والاستعارة المتعلقة بالهيمنة والقمع والانتهاك. يحدث ذلك على محورين إثنين: الرأسي، ويعنى ببناء وتراكبية العلاقة الجسدية مع المكان المادي للسجون والأقبية والأنفاق، من خلال الحواس والموقع على محور رأسي فيه المبنى فوق سطح الأرض وتركيباته تحت الأرضية. والثاني هو المحور الأفقي حيث ينتج التركيب المكاني استعارات تنقل السجن والبنية الجسدية التأديبية إلى مكان آخر غير مادي، ينعكس على اللغة والاستعارة والخطاب والذاكرة الجمعية والسرد الفني والأدبي، بما يجعل حدود السجن والقمع والتأديب والمراقبة أبعد من الأسوار المادية للمنشآت التأديبية. هذين المحورين من حيث موقعهما في جسد وقصة الحداثة بما هي منظومة علاقات قوى، ينبهنا إلى أنها بتركيباتها وحكاياتها غير منفصلة من ناحية عن السياق الاستعماري والإمبريالي، ومن أخرى هي جزء من تحويراتهما الرأسمالية النيوليبرالية والقومية، التي تشكل تجاربنا الوجودية الفردية والجمعية.

مدخل أول.. فوكو.. مفهوم قاصر

في كتابه المهم، “المراقبة والمعاقبة” (1975)، قدم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 – 1984) شروحاته المركزية عن دور البان – أوبتيكون* (السجن الذي صممه  الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنثام عام 1785، والمُصمَم بحيث يسمح لموظف واحد مراقبة جميع السجناء دون علمهم) (الصورة 1و 2) كآلة ضبطية في تشكيل أنظمة السلطة ودورها في التحكم في الجسد والسلوك البشريين من خلال المراقبة والانضباط والسيطرة المؤسسية، والأهم كيف تحولت تلك الآلية إلى استعارة أساسية في قصة الحداثة. يتتبع فوكو تطور العقاب ويستكشف كيف انتقلت المجتمعات الحديثة من العقاب البدني الصريح والعلني (الممسرح) في ميادين المدينة وساحاتها إلى أشكال أكثر دقة وسيولة من السيطرة التي تحكم أفعال وأفكار الأفراد، وتنتج أجسادهم الخاضعة. يفكك فوكو السجن ليس بما هو مؤسسة تأديبية فقط، بل لكونها آلة تنتج بشكل منهجي “أجسادًا مطيعة” وذوات طيّعة. تستوعب وتجسدن آلية الضبط وتديمها، في الزمان والمكان، وفي مرات كثيرة تتلبسها هي بذاتها.

وعلى أهمية شروحات فوكو ومركزيتها إلا أنها تظل بشكلٍ ما قاصرة؛ يقول كيفن هاجرتي في دراسته “ذلك يكفي! فلنحطم الجدران”. ندرك أن ثمة حدود تاريخية ومنطقية للمقدرة التفسيرية للبان – أوبتيكون بوصفه صورة استعارية، فهل يلزمنا أيضًا أن نستمع إلى صرخات السوريين والسوريات لندرك الجدران المفاهيمية الغربية التي تحاصرنا؟

ولو نظرنا بعين معمارية تصميمية إلى تصميم سجن صيدنايا لوجدناه في الانطباع الأول أن التصميم الهندسي للتركيب المعماري يحقق شرطية بان_ أوبتيكون فوكو. فهو عبارة عن مبنى من 3 طبقات، تتكون من فراغ دائري مركزي، تتفرع منه امتدادات ثلاثة مستقيمة. يحوي كل امتداد أو جناح منها ٢٠ مهجعًا؛ عشرة على كل جانب؛ يمينًا ويسارًا. تنفتح جميع أبوابها الحديدية على ممر يحيط بها وفسحة في آخر الجناح إلى فسحة الدائرة المركزية. ما يعني أن حارسًا واحدًا في الفراغ المعماري الدائري في الطابق الواحد يمكنه مراقبة الستين زنزانة في الطابق الواحد في الأجنحة الثلاثة، من المائة وثمانين زنزانة في الطبقات الثلاثة.

نموذج بان – أوبتيكون كما تصوره فوكو

فبينما يؤكد نهج فوكو التحليلي على الأبعاد الثقافية والفكرية والأيديولوجية للسلطة، من خلال مركزية السجن كاستعارة حداثية، إلا أنه لا يتناول الاقتصاد السياسي لتلك المؤسسات، ودوره في دينامية المراقبة والمعاقبة، ما يترك فجوات في فهم كيفية تشكيل المصالح الرأسمالية لأنظمة السجون، وبالذات في العلاقة مع سجون هذه المنطقة من العالم، ومقولاتها الحداثية. فبعد سقوط نظام الأسد ظهرت تقارير بشأن البنية الاقتصادية والربحية لمؤسسة السجون برعاية النظام وأفراده، حيث تورد بعض التقارير تقديرات لما بلغته قيمة الابتزازات المالية للعاملين في السجون من رجالات الدولة ومحاموها لأهالي السجناء والمفقودين ما يعادل 900 مليون دولار.

كما أن نموذج فوكو منبثق بالأساس من البوتقة الغربية المفاهيمية وتاريخها، لا سيما ما يتعلق بالانتقال من السلطة السيادية إلى السلطة التأديبية في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وبالتالي، فإن استيراد هذا النموذج وحده لفهم بنية وتركيب المؤسسة التأديبية والضبطية في هذه الجزء من العالم، إنما هو إدامة لهيمنة المقولات الحداثية، التي أسهمت ولا تزال في اعتقال العقل العربي ومنعه من ممارسة معارفه بنفسه، وانطلاقه خارج كونه موضوعًا ليصبح ذاتًا. هذا الإطار لا يأخذ في الاعتبار بشكل كافٍ كيفية عمل أنظمة العقاب الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، وحتى تلك القُطرية والقومية، حيث يتعايش العنف المباشر والهيمنة غالبًا مع الآليات التأديبية.

النقطة الأخرى من نقدنا لمقاربة فوكو بشأن معمارية السلطة والمراقبة، في المؤسسات الضبطية والتأديبية السجنية، أنه غالبًا ما يتجاهل دور التصميم المعماري والعمراني في بناء التجارب النفسية والعاطفية للاحتجاز، ويختزله في التصميم من أجل منالية السلطة لجسد المعتقل أو السجين وهندستها له، وهو ما تمثله الهندسة هنا من آلية مراقبة للسجين. اقتصرت إشارات فوكو الذكية على “مجال الرؤية”، حيث يقول بعقل ثاقب:

“إن من يخضع لمجال الرؤية، ومن يعلم ذلك، هو المسؤول عن قيود السلطة؛ وهو من يسمح لها بأن تلعب به تلقائيًا، وهو من يستوعب علاقة السلطة التي يلعب فيها الدورين في آن، وهو من يصبح أساس خضوعه”(Discipline and Punish (New York: Vintage, 1977), pp. 202-203) وهنا يقتصر الدور المعماري أو/و التصميمي لمؤسسة السجن على إبقاء الذوات المسجونة في مجال الرؤية، وجعلهم يتذوتون هذه الرؤية. فيما كان دور التصميم المعماري لسجون الأسد قائم بالأساس على انتهاك وتفتيت مسام أجساد السجناء، حيث تذوب المسامات بين الجسد الفردي والجمعي، من خلال المكان ودوره. فمثلًا، يورد المحام عمار عبارة في شهادته عن وثائق وتجربة الاعتقال في سجن صيدنايا، في عام واحد وهو 2015، حيث كانت مساحة بعض الزنازين: 180 سم في 180 سم، ليسجن في الزنزانة الواحدة من 15 إلى 20 شخص. في هذه الحالة تذوب مسام السجين الواحد مع مسامات السجناء الآخرين، وتصبح الرقابة هنا، بالنظر إلى الحركة والمساحة، رقابة كتلة كاملة صماء من الأجساد القابلة للانتهاك.

التجربة الزمنية في صيدنايا  تختلف من حيث أن تفتيت حدود المكان بالعتمة يتم لصالح سيولة الزمان ونفاذيته لتفاصيل الحياة في السجن، حيث لا بداية للزمان ولا نهاية له، وهو ما لا تتوفر الإشارة إليه في البانأوبتيكون

من ناحية أخرى، وبشكل نازع لمفهوم بان_ أوبتيكون فوكو، كان الأساس في سجن صيدنايا السوري هو الظلام الدامس، والصمت المطبق، وهو ما يتضاد بشكل مباشر مع تحليلات فوكو المعمارية بشأن العلاقة بين الضوء والظل في انتهاك السجين وجسده. وإذا افترضنا أن تركيز فوكو على الآليات الخارجية للسيطرة، مثل العمارة والمراقبة والروتين، هيكلي بشكل مفرط، مما يفوت التجارب العاطفية والمعيشية للسجناء، تبدت لنا ضرورة تحرير العمارة والتصميم من دورهما المحصور في كونهما كيانات مادية فقط.

فالأصل في العمارة هو الفراغ وليس المادة! حينها لنا أن نفهم دورها القمعي والسلطوي العنيف، ولكن كذلك التحرري!

من قصور نموذج فوكو في فهم دور العنف في منظومة السجن الحديث، هو أن الأجساد الطيّعة التي تناولها فوكو باعتبارها المنتج الأساسي لمؤسسة المراقبة والمعاقبة، لا تفسر سياسات قابلية الجسد المسجون والتأديبي للانتهاك، باعتباره -الانتهاك- حاضرًا وممكنًا مؤجلًا  على الدوام إلى حين ما قد يأتي أو لا يأتي، ودور التصميم المعماري والعمراني والفراغي لسجون مثل سجن صيدنايا، في تأكيد وتأبيد قابلية الجسد للانتهاك، وليس فقط للطاعة، بما هي النتيجة وليست آلية عمل! أي أن سجن صيدنايا يعد نموذجًا ما بعد بان- أوبتيكون. ففي حين يقوم بان_ أوبتيكون فوكو على فكرة حضور السلطة دائمًا ومراقبتها للجميع في نفس المكان وفي نفس اللحظة من الزمان، إلا أن التجربة الزمنية في صيدنايا  تختلف من حيث أن تفتيت حدود المكان بالعتمة يتم لصالح سيولة الزمان ونفاذيته لتفاصيل الحياة في السجن، حيث لا بداية للزمان ولا نهاية له، وهو ما لا تتوفر الإشارة إليه في البان- أوبتيكون.

سجن صيدنايا

تحفر لورنا رودز في بنية السجون مشددة الحراسة، في كتابها Total Confinement: Madness and Reason in the Maximum Security Prison فتحيل إلى أجساد النزلاء، بما هي مادة البان- أوبتيكون الفوكوي. وإذ يلجأ بعض السجناء إلى تشويه أجسادهم بأنفسهم (كما فعل السجناء السياسيين الإيرلنديين في سجون رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر، في الثمانينات)، ذلك لأن “الاستغلال البان- أوبتيكوني المحسوب” للجسد يستدعي نقيضه، بمعنى أن معايشة السجناء لأجسادهم بما هي أجساد منتهكة ومهجورة تدفعهم إلى استغلالها لتوكيد ذواتهم، فيقاومون الانكشاف السلبي لمجال الرؤية، والذي يهدف إلى إخضاعهم بتعمد الانكشاف وتكثيفه بدلًا من الاختفاء. بينما الوضع ليس كذلك في سجن صيدنايا، حيث الظلمة والفراغ ليست فقط جزءًا من التجربة المكانية، بل هي أساس التصميم المعماري للمنشأة. يقول جمال عبدو في شهادته لموقع Forensic Architecture  عن تجربته في السجن في صيدنايا، أن الصمت والعتمة أديا إلى “موت باقي الحواس” وما موت الحواس إلا فقدان لحدود الإدراك الجسدي الذاتي أولًا والجمعي ثانيًا، يتحول الظلام هنا والصمت إلى فعل مكاني عمراني وجسدي، يخترق ويفتت مسامات الجسد.

إن العتمة والصمت المطبقين في صيدنايا، في غياب حدود الجسد، هي الأداة الأساسية التي تؤدي إلى تحويل الألم الواقعي إلى مخايلة بالسلطة، بحسب تعبير إلين سكاري في كتابها “جسد متألم: صنع العالم وتفكيكه” (1985)، وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون العامل المعماري والمكاني، فكلما انهارت حدود الجسد وحواسه كلما تأكدت وتكثفت فراغية المكان المعماري في السجن. بتعبير آخر، غياب حدود الجسد وتفتتها، يزيد من كثافة الحدود المادية (كالحوائط والمقاعد الاسمنتية والأبواب الحديدية والنوافذ والأسقف والمعابر والمساحات، وغيرها) إلا أنه يزيد أيضًا من كثافة الفراغ الجاثم في وبين وخلال ومع كل تلك التركيبات المادية المعمارية والتصميمية.

إن قابلية الجسد السوري، في فترة الأسد، للانتهاك من خلال مراقبة دائمة وإمكان انتهاك مستمر حتى ولو كان مؤجلًا، وتكثيف للفراغ والصمت والعتمة في مسامات الجسد المنتهكة، وإن كان كل ذلك حاضرًا في غيابه غير المستقر، فقد حرر حدود السجن المادية (البنية الرأسية للتركيب المعماري) إلى بنية استعارية خطابية (البنية الأفقية للتركيب المعماري) تجاوزت أسوار السجون، وساهمت في تكون التجربة الجماعية والاجتماعية للسوريين والسوريات. وعليه، فإن الدور الرقابي الضبطي وحتى السجني لمؤسسات النظام السوري لم يعد مقيدًا فقط بمبنى السجن ومؤسسته المادية المعمارية. ومن هنا يمكن فهم دور التصميمات تحت الأرضية لمؤسسات الدولة التأديبية: سواءً السجون والمعتقلات السرية، وحتى الأنفاق والأقبية. وهو ما يفكك في النهاية مقولات فوكو ويعري قصورها، حتى من ناحية معمارية وعمرانية وتصميمية.

مدخل ثاني.. جمالية الاختفاء/الاخفاء، مقاربة بول فيريليو

يطرح الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو (1932 – 2018) مفهوم “جمالية الاختفاء The Aesthetics of Disappearance”، في كتابه الذي حمل نفس العنوان (1991)، بما هو أداة نقد للحداثة ومعماريتها ومكانيتها التي شكلت تجارب الإنسان المعاصر المكانية والزمانية. ويعتمد في ذلك على دراسات السرعة والتقنية وشكل أو أشكال مجتمعاتهم، وأثر الحداثة على الوجود الإنساني. جماليات الاختفاء بحسب فيريليو، هي الطريقة التي من خلالها أدت التحولات المكانية والجغرافية التي تعتمد على الحركة والسرعة، إلى إخفاء الحضور واختفاء الأشياء وتآكل أشكال الوجود، وبالتالي التحكم في زمن وجودهم، في مقابل تعزز السلطة والهيمنة والقوة. هذا الاختفاء/الإخفاء يعمل على مستويات متعددة—جسدية، ومادية واجتماعية، ونفسية—مغيرًا الكيفية التي يخوض بها الفرد واقعه المادي وأشكال وجوده فيه.

يجادل فيريليو بأن التقنيات الحديثة، وخاصة تلك المتعلقة بالسرعة والاتصال، تشوه المفاهيم التقليدية للحضور. مع صعود التواصل الفوري والتفاعلات الافتراضية، يصبح الحضور الجسدي أقل أهمية، مما يؤدي إلى “جمالية” ما، حيث يذوب العالم المرئي والملموس في شبكات وتدفقات مجردة. ويشير فيريليو إلى التحولات التي شهدتها الحروب الحديثة حيث انزاح التركيز عن المواجهة المادية الجسدية والفراغية المباشرة إلى المواجهة والإفناء عن بعد، كما هو الحال مع المسيرات.

إلا أن فيريليو يأخذ مفهوم الاختفاء إلى العمارة والتصميم. في كتابه “أركيولوجيا الملجأ Bunker Archeology” ” (1997)، يعتبر أن الملاجئ والأقبية هي التجسيد الفعلي لعقلية الحداثة معماريًا. فمن خلال دراسته للمخابئ النازية على شاطيء الأطلسي، أو ما يُعرف بجدار الأطلسي Atlantic Wall، والتي صممت بطريقة تكشف فيها المجال الطبيعي للمنطقة دون أن تكون هي بذاتها مكشوفة، ما مكنها من سيطرة مجالية كبيرة، فإن تصميمها بهذا الشكل يحقق لها غرضين أساسين:

◀︎ الرؤية للهيمنة: حيث تعمل كأبراج عسكرية استراتيجية، لترسيم مجالات الهيمنة من نقاط مرتفعة، توازي مجال انخفاضها. وبالتالي فهي عبارة عن تركيب رأسي  يمتد من أعلى لأسفل.

◀︎ الاختفاء من أجل البقاء والوجود الدائم: حيث أنها شكلت جدارًا خفيًا من الحضور المخفي، ما يضمن لها الكشف والتدمير دون أن تكون هي بذاتها منكشفة. وهنا يتحقق لهذه التركيبات المعمارية المهمينة سلطة الهيمنة على المجال الأفقي.

تعكس هذه الثنائية في -نظر فيريليو- جمالية الاختفاء، بما هي خاصية حداثية أساسية، من حيث كون تلك التركيبات تتموه وتختفي، لكن أثرها وآلية عملها تظل مستمرة وفاعلة ومؤثرة، في تشكيل المجال بين الكشف والتدمير والمراقبة، وهو ما يختلف عن مقاربة فوكو في كونها قائمة على عنصر مكاني ومعماري تحت أرضي Subterranean. تضيء تحليلات فيريليو الكثير بشأن ما يمكن للهندسة المعمارية أن تجسده من أشكال مختلفة للقوة كالإخفاء واللامرئية. ففي كتابه يشير إلى الكيفية التي صممت بها المخابئ والأقبية للتخفي، بما يمنحها ميزة استراتيجية ومكانية للهيمنة والحضور الدائم. يمتد “اختفاء” القبو والملجأ أيضًا إلى ساكنيه، المحميون من العالم الخارجي. مما يخلق مساحة مغلقة ومكتفية ذاتيًا للبقاء والحضور والتأثير في العالم المرئي دون أن تكون منكشفة له. ما يتماشى مع جمالية الاختفاء، التي تنتقد كيف تعطي الحداثة الأولوية للاختفاء (سواء في العمارة أو التكنولوجيا أو أنظمة السيطرة) كوسيلة لتوطيد السلطة.

بُنى تحت أرضية

إن التركيبات والبنى المعمارية تحت الأرضية Subterranean التي انكشفت في سوريا مع سقوط النظام من أنفاق وأقبية ومخابئ لعائلة الأسد، والتي لم تتكشف كاملة حتى لحظة كتابة هذه السطور، تعكس شروحات فيريليو وتتمثلها. يمكننا اعتبار هذه التركيبات، من ناحية، بنية خطابية لنظام الأسد وعائلته فيما يتعلق بالمجال السوري: ونعني المجال الإقليمي للدولة، وبالتحديد المديني: ما هو السوري، وكذلك الأفراد المواطنين: من هو السوري/ة، والأهم موقع الأسد بالعلاقة مع هذين العنصرين: المكان والإنسان. فهذه التركيبات والمباني تحت الأرضية لها جانب زمني وتاريخي، حتى أن بعضها يمتد من منزل بشار الأسد إلى منزل والده، وبعضها يمتد بين منزل بشار وأخيه، وآخر بين قصور بشار. إن قدرة تلك التركيبات والبنى تحت الأرضية لنظام الأسد، على أن تندمج في المجال المديني، المعماري والعمراني، دون أن تكون مرئية، إنما يعكس موقفًا مجتمعًا يميل إلى الحضور السائل في فراغات ومجالات الحياة اليومية دون أن يكون ذلك معروفًا أو محددًا أو ظاهرًا. تنطبق فكرة فيريليو، أيضًا، على كيفية جعل الأفراد غير مرئيين في أنظمة التحكم: المراقبة، بأن تجعل الناس مرئيين بشكل مفرط لأنظمة السلطة بينما تجعل هياكل وبنى وتركيبات التحكم نفسها غير مرئية، لأنها جزء من سردية النظام عن نفسه.

ما الجمالية في الأمر؟

يستخدم فيريلو مصطلح “الجمالية” لتسليط الضوء على الأبعاد الحسية والتجريبية للاختفاء، حين يصبح اللامرئي شكلًا من أشكال القوة: فما لا يمكن رؤيته مثل التركيبات المخفية والبنى تحت الأرضية غير المرئية، غالباً ما يكون له تأثير قوي في السرد عن الهيمنة والحضور والقوة.  تلك السرديات التي يتعايش فيها الجمال والرعب، حيث يمكن للاختفاء أن يثير الإعجاب (في أناقة التصميم المخفي)، ولعل النظر إلى اللغة والاستعارات التي تناولت لحظة اكتشاف الأنفاق والأقبية السرية لآل الأسد شاهدنا الأساسي هنا.

وبينما يضع فيريليو “جمالية الاختفاء” ضمن النقد الأوسع للحداثة، بتركيزها على التقدم والسرعة والكفاءة، تقوم تلك التركيبات المعمارية بجعل الاختفاء جزءًا لا يتجزأ من الحفاظ على السلطة والهيمنة. في عمارة الحداثة نجد شكلًا من أشكال العمى عن السياق الحاوي لها، فمثلًا نجد تصميمات مثل تلك لزها حديد، تحتفظ ببصمتها المميزة لها وهويتها المعمارية دون أن تعبأ بالسياق التاريخي والجغرافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي الحاوي لها، فتتشابه منتجاتها بغض النظر عن السياق، إلا أن ذلك لا ينفي عنها هيمنتها المكانية والمعمارية وحتى الوظائفية. وبالتالي فإن انعدام الرؤية والميل إلى تجريد السياق إنما يعكس انشغالًا حداثيًا بمحو الحدود وإلغاء المادية، وهي الحالة القصوى التي تحققها عمارة الاختفاء، في نموذجها القمعي.

* أميل لاقتراح ترجمة Panopticon من خلال التعامل الافتراضي بانفصال بين Pan بمعنى عابر وOpticon، والتي يعني علاقة ما مع البصر وابصار الشي أو الأشياء. لتصبح الترجمة المقترحة: بانأوبتيكون، وليس كما درجت الترجمة في الموسوعات الفكرية والفلسفية العربية: بانوبتيكون. والهدف من الترجمة المقترحة هي التأكيد على فكرة البصر وعبوره pan كأداة هيمنة عبر البصر إلى أن المراقبة بما هي بصيرة العقل الرقابي الحداثي، واستعارته الأساسية في الحداثة. إن عبور الرؤية من العين إلى التركيب المعماري والتصميمي الرائي هو ما يخلق الذوات المرئية أو المراقبة من خلال آلة الرؤية، وعلاقاتها البينية المشروطة بأن تكون مرئية.