fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

سوريا.. هل نريد ذلك حقاً؟

هل سنسمع كلّ يوم عن مقهى جرى إغلاقه، أو عن شبّانٍ قُتلوا تحت التعذيب، وعن المضايقات المؤذية للآخر المختلف في التوّجه الديني أو الجنسي؟.. هل سنعيد ترداد مقولة "هوي منيح بس اللي حواليه عرصات" التي كانت تُستخدم للإشارة إلى أنّ شخص الرئيس وسياساته لا غبار عليهما، وأن المشكلة تكمن فقط في الحاشية؟
10 فبراير 2025

نعم هرب الأسد الابن. لاذ بالفرار كقطٍ خائف، ضارباً عرض الحائط الروايات التي تناقلت حديث أبيه في إحدى المقابلات، حين قال إنّ القطط إذا ما حُشرت في الزاوية، تهجم بشراسة، فتخيّل رد فعل الأسود!

نعم، ويا لسعادتي وسعادتنا .. سقط الأسد، تم خلعه وتعريته، لكن وللأسف، نظامه لم يفعل. أو وفقاً للسردية الشعبية  – المتهكمة حيناً والجادة حيناً أُخرى – التي كنت تسمعها في الأحاديث اليومية عند البعض في السابق، وتحديداً بعد العاشر من حزيران/يونيو عام 2000، والتي تقول “حافظ الأسد صح مات، بس لسا عم يحكم بقبرو”. النظام ما زال باقياً وحتى الآن يبدو أنه يتبدّل بالشكل واللهجة، ويا لتعاستنا إن تمدد.

أقول كلامي هذا ها هنا، على ضوء شمعةٍ واحدة، أُحاول الكتابة متجاهلاً البرد الذي يلِّفني، والطنين المستمر في أذني (سببته لي نزلة برد، أو الكثير الكثير من الضجيج في الشارع، وصفحات التواصل الاجتماعي)، أجلس في غرفةٍ رطبة كالسقيفة، مليئة بصناديق الكرتون، ومفروشةً ببطانيات المعونة من الأمم المتحدة، والعنوان: دمشق، مدينة جرمانا، حي مزارع الروضة المليء بأكوام القمامة.

التاريخ: بعد شهرٍ ونصف، منسقوط النظام“.

تصوير: أشرف أحمد

تأملات في القمامة

عدت إلى دمشق (بعد سنتين ونصف قضيتها في قريتي الساحلية) في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، وكلّي رغبة بخوض مغامرةٍ جديدة، علّني أُحقق فيها ما عجزت عن تحقيقه، بعد المحاولات الكثيرة التي بذلتها خلال الثلاثة عشر سنةٍ الماضية .. أن أفعل ما أوّد فعله حقاً وما يُمثّل الحبل الوحيد الذي يربطني بمعنى ما، معنى من حياتي ربما، أو معنى من حياتي هنا على وجه التحديد .. معنى لكل ما نشهده ونعيشه في هذه البقعة الملعونة من الأرض، وكأنه إصرارٌ على الحياة، محاولة بائسة لتحقيق شيءٍ من الاستقرار، والوقوف ولو بشبه ثبات.

سكنت – مفترضاً أن الأمر مؤقت وإسعافي – شقةً في المناطق الشعبية العشوائية المنتشرة بكثرة على أطراف مدينة جرمانا، حالها حال أطراف العاصمة التي سبق لي وعشت في معظمها.

الشقة في الطابق الخامس، وللبناء إطلالة خلفية على ساحة (200*150 متر) تتجمّع فيها أكوامٌ من القمامة، وتتوسط عشرة أبنية تقريباً، لا يقل ارتفاع الواحدة منها عن 6 طوابق – وكما القمامة – تتجمّع فيها شققٌ صغيرة يغلب على معظمها عُريّ كامل من طبقة الاسمنت والدهان، واكتساءٌ رث بأغطية بلاستيكية أو قماشية عوضاً عن النوافذ والأبواب.

ولأنّ الشمس لا تدخل معظم هذه الشقق، فإن جزءاً كبيراً من العائلات المتزاحمة، يتعاملون مع ساحة القمامة هذه – إضافةً لواحدة أصغر منها على الجهة المقابلة من الشارع – وكأنها حديقة عامة، الأطفال يركضون ويلعبون بالدّحل وكرة القدم ويتعاركون ويتصايحون ويضحكون، والنّسوة يجتمعن جالساتٍ على الأرض، يتحدثن عن الطبخ والأسعار والهموم وأخبار الجارات وأفعال الرجال، والرجال يفعلون المثل تقريباً، وجميعهم مع بيوتهم يبدون لي –  أنا الواقف أتأمّل المشهد من الطابق الخامس صباح وظهر كل يوم طلباً لدفء الشمس التي أفتقدها في بيتي – وقد تماهوا مع أكياس القمامة المنتشرة حولهم وبينهم ..

أُعيد اليوم تأمّل مشهد القمامة مرة أخرى، فأرى فيه مجازاً عمّا خلّفه النظام وراءه، من قمامة وتخبّط وأزمات على كلّ الأصعدة، الشخصيّة منها والعامة، وأشدّ ما يُخيفني، ألّا نعمل على تنظيف أنفسنا والسّاحات بقدر ما نرمي المزيد من القمامة فيها ..

أُدرك بعد أيام أنني أنا مثلي مثلهم، منهم وفيهم، فأُعيد التأمّل في المشهد، وأراه صورةً مجازية عن وجودي أنا في دمشق بشكلٍ خاص وسوريا بشكل عام، ومجازاً آخر لوجود الإنسان السوري في ظل حكم الأسد، وتزيد قناعتي باللا جدوى من عيش حياة كهذه، واللا جدوى من أي محاولة للتغيير في الظرف الشخصي والعام، ويستحضرني ما كنت اُفكّر به دائماً في السنوات الأخيرة،  وهو فظاعة ما ارتكبه نظام الأسد، الأب والابن، بترويجه للهزائم التي لحقت بالإنسان والوطن السوري، على أنّها انتصارٌ للهوية السورية، ومحور المقاومة في وجه العدو والمؤامرات.

البعض كان مؤمناً بالأمر أو مسلّماً له، وكنت تراه يحتفل في الساحات، ويقيم المهرجانات، ويصوّر المسلسلات والأفلام وإعلانات اليوتيوب، من أجل الترويج للنصر العظيم والفرح بعودة الحياة. البعض الآخر كان مدركاً للكذبة الكبيرة، ولكنّه مع ذلك يقول لنفسه: “الحمد لله توقفت المعارك والقذائف، وعاد للموت شكله الاعتيادي”.

في حين أنّ أفظع ما ارتكبه البعض الكثير من كلا الطرفين، كان الإنكار التام للهزيمة، وخصوصاً بعد عام 2018، كان يقول لنفسه: “خسرنا الثورة، خسرنا المعركة أمام النظام، لكننا ما زلنا أحياء، وهذا نصرٌ عظيم”، ونحن في الواقع، كنّا نموت كثيراً في كلّ يوم، حتى صرنا أجساداً ميتة تهيم في الشوارع وتبحث عن قبرٍ دافئ، في المدن التي صارت مقابر موحشة وباردة.

واليوم أُعيد تأمّل مشهد القمامة مرة أخرى، فأرى فيه مجازاً عمّا خلّفه النظام وراءه، من قمامة وتخبّط وأزمات على كلّ الأصعدة، الشخصيّة منها والعامة، وأشدّ ما يُخيفني، ألّا نعمل على تنظيف أنفسنا والسّاحات بقدر ما نرمي المزيد من القمامة فيها، مُضاعفين بذلك اللّا جدوى من أيّ محاولة لاستغلال الفرصة المعجزة، لإحياء وإعادة تشكيل الهوية السورية.

تصوير: أشرف أحمد

فرح ناقص

في السابع من كانون الثاني/ يناير 2024، وفي الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل، قبل ساعاتٍ من إعلان هروب الأسد وسقوط النظام بشكل رسمي، كان الحال في جرمانا يؤكّد الحدث قبل وقوعه، وكنت وقتها أُوّثق في ساحة الروضة، مشهداً لشبّان يتسلقون عمودين حجريين بارتفاع مترين تقريباً، تعلوهما صورة رخامية لبشار الأسد، يطرقونها بالصخور المدببة لتحطيمها.

كنت أُنقّل نظري بتردّدٍ لاهف بين شاشة الهاتف والحدث الذي يقع أمامنا. كان المشهد بواقعيته وسينمائيته جميلاً ومفرحاً بكثافةٍ لا تُصدق، ومع ذلك كان للخوف والقلق من الأسئلة التي تقفز في رأسي حول ما ستؤول إليه الأمور لاحقاً، حضوراً مشابهاً.

تجلّت صورة هذا الخوف واضحةً جليّة، ومرة ثانية أمام كاميرا هاتفي المتواضع، بعد يومين من التحرير، وقبل دقائق من خروج جثمان الشهيد والمعتقل السابق في سجن صيدنايا مازن حمادة من باب مشفى المجتهد، ملفوفاً بالعلم الجديد ومحمولاً على الأكتاف، ليصير له تشييعٌ مهيب استمر لساعتين، وانتهى في ساحة الحجاز وسط العاصمة.

ورغم الحزن الكبير، أستطيع القول أنّ الفرح كان طاغياً وقتها، تعالت أصوات التكبيرات وتعددت الهتافات والشعارات، ومع ذلك كانت وكأنها تقول بلسانٍ واحد: “فلتفرح روحك يا مازن، صوتك ودمك لم يذهبا سدى”، وتجاهلتُ حينها، الوقع الثقيل والمثير للغضب في نفسي، للصورة المخيفة التي رأيتها قبل ذلك.

أليس الدافع الانتقامي، الذي لا يدفع لقتل المجرم فحسب، بل لقتل عائلته أيضاً، وربما أصدقائه وجيرانه، وأبناء قريته، هو ذاته الذي دفع الكثيرين للتطوّع في جيش النظام وعصاباته وعصابات حلفائه، من أجل الانتقام ممن “قتلوا أو أخفوا أولادهم وإخوتهم وأبناء عمومتهم” باسم القتال في سبيل الوطن بدلاً من اسم الله؟

على امتداد الجدار الغربي لمشفى المجتهد، تزاحم الكثير من الناس، وعيونهم إمّا دامعة، أو تتفتّح على اتساعها من هول الصدمة والرعب الذي تنظر إليه، تتنّقل بثقلٍ أجوف بين صورةٍ وأخرى، من عشرات الصور المعلّقة على الجدار، وكلّ واحدة منها تحمل رقماً، وتتوزع إلى فئاتٍ مرقمّة أيضاً، تشترك بعنوان رئيسي “برادات سجن صيدنايا” ويظهر في الصور، وجوه الجثامين التي وُجدت في معتقل صيدنايا الوحشي.

وإذ بأبٍ لا يجد أي دليلٍ عن مكان ابنه، أو جثته على الأقل، بدأ يصيح في الشارع بأعلى صوته: “جيش حر! هذا كلام فارغ .. أين أولادنا أين أولادنا؟ فلُنعلنه جهاداً على كل الملل الكافرة، لنذبح كل من يقول إنه غير مسلم .. هل سيقولون عنّي داعشي؟ دعهم يقولون ما يشاؤون .. سأصير مجاهداً في سبيل الله”.

على صعيد الصورة كان المشهد غريباً بشدة. رجلٌ يقول بكلّ حرية ما يقوله على الملأ، وقت الظهيرة وسط العاصمة دمشق، ولكن على صعيد الخطاب والذهنية، فقد كان ظهوره متوقعاً، وأظن أننا نتفق على إدراك وجوده عند فئة لن أتجرأ على تقدير نسبتها من المجتمع السوري.

تعاطيت معها وقتها، على أنها ردة فعل غاصبة لأبٍ مكلوم، لكنّي لم أنسَ ما طرحَته من سؤالٍ مخيف، بدأتُ باسترجاعه في الأسبوعين الأخيرين .. أليس هذا الدافع الانتقامي، الذي لا يدفع لقتل المجرم فحسب، بل لقتل عائلته أيضاً، وربما أصدقائه وجيرانه، وأبناء قريته، هو ذاته الذي دفع الكثيرين للتطوّع في جيش النظام وعصاباته وعصابات حلفائه، من أجل الانتقام ممن “قتلوا أو أخفوا أولادهم وإخوتهم وأبناء عمومتهم” باسم القتال في سبيل الوطن بدلاً من اسم الله؟

ألم يكن هذا الدافع الانتقامي بالنكهة الطائفية، واحداً من الأسباب التي أودت البلاد، لبحرٍ كبير من الدماء؟

تصوير: أشرف أحمد

أفعال فردية

منذ أن باشرت القيادة الجديدة تسيير أعمال الدولة وهي تثير الجدل بعددٍ من القرارات، كالتوّجه العجول لشكل السوق الحر والخصخصة في السياسة الاقتصادية، من دون فهم أو إفهام الناس ما الذي يعنيه هذا، أو تعيينها مجموعة من “الدائرة الضيقة” في أبرز المناصب الرسمية محافظين ووزراء، وترفيعها مقاتلين غير سوريين إلى رتب عسكرية عليا في وزارة الدفاع، والسماح لأفراد أجانب بالتواجد مع سلاحهم ضمن القوّات المنتشرة في المدن والقرى، وكذلك التعديلات التي أعلنت عنها وزارة التربية على بعض الفقراتٍ والدروس في المناهج التعليمية، والتي تعكس ذهنيّة إسلامية متشددة، إضافةً للتصريحات المستفزة حول دور المرأة، وحول النموذج “المتفرّد” الذي ستُبنى عليه الدولة والمجتمع السوريين، ناهيك عن الموقف الخجول إزاء التوّغل الإسرائيلي في الجنوب السوري، ووصول قوات الاحتلال لمدينة القنيطرة وأرياف درعا.

جدلٌ بدأ يحمل في طيّاته قلقاً من المستقبل الجديد في ظل القيادة الجديدة، أخذ بالزيادة تدريجياً خلال الأيام الأخيرة، حتى استحال لخوفٍ ورعب بالنسبة لكثيرين، مع تصاعد وتيرة الأعمال الانتقامية والطائفية التي تُرافق العمليات العسكرية لملاحقة “فلول النظام”، أو تتم بمعزلٍ عنها وبلا صفةٍ رسمية، خصوصاً في بعض المناطق “العلوية” التي صارت اليوم تلعب دور “البيئات الحاضنة للخلايا المجرمة النائمة”.

على وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ الرأي العام يتناقل أخبار الانتهاكات .. بعضهم بخوفٍ وقلق وترقّب، والبعض بنقد شرس لإدارة العمليات. هناك من حاول تهدئة النفوس، منعاً للإنجرار وراء أي فتنة، وآخرون كذّبوا الأخبار الواردة وخوّنوا مروّجيها، والمحزن أن هناك من تناقلها ساخراً فرحاً بالانتقام، ومتوّعداً بالأفظع ..

وخلال كتابة هذه المادة، ظهرت هذه الانتهاكات، بشدّة أعنف، راح ضحيتها ما يقارب الـ 50 شخصاً في أجزاء متفرقة من ريف حمص الغربي .. أمرٌ اعترفت بوقوعه إدارة الأمن العام في حمص، والتي كررت بعد ذلك اعترافها بمقتل الشاب “محمد لؤي طيارة” تحت التعذيب على يد العناصر الأمنية، مع عدم وجود أي دليل يؤكد اتهامه بالانتماء لأي جهة أو عصابة أمنية من بقايا الأسد.

على وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ الرأي العام يتناقل أخبار هذي الانتهاكات .. بعضهم بخوفٍ وقلق وترقّب، والبعض بنقد شرس لإدارة العمليات. هناك من حاول تهدئة النفوس، منعاً للإنجرار وراء أي فتنة، وآخرون كذّبوا الأخبار الواردة وخوّنوا مروّجيها، والمحزن أن هناك من تناقلها ساخراً فرحاً بالانتقام، ومتوّعداً بالأفظع. وازداد الجدل الافتراضي، بعد أن نشر المدعو “نور حلبي” تغريدة عبر منصة إكس، تحدّث فيها عن عودة ماهر الأسد للساحل السوري، ما سبّب اضطراباً في بعض مناطق الساحل، بعد أن قامت مجموعات متفرقة من فلول النظام السابق، بإطلاق النار الطائش، احتفالاً بعودة “المخلّص”.

في العاصمة لم يصل الأمر حد القتل، لكن يتواجد أفراد وتجمّعات تحمل السلاح بصفةلجان شعبية للأحياءتملك صلاحية ضبط الأمن في الحي وحمايته مما قد يُعرض الناس لخطر، دون الإلزام بمعايير واضحة يتم على أساسها التعامل مع نشاطات أو مجموعات وأفراد، باعتبارهمخارقون للقانون أو يشكلون تهديداً للأمن والسلم الأهلي“. وعليه مثلاً، تم التهجّم والاعتداء مؤخراً، على مقهىجُوينفي حي البرامكة وسط العاصمة، من قبلشبّيح سابقيُتابع عمله اليوم بصفةرئيس اللجنة الأمنية في الحيويتكلّم باسمقيادة الأمن العام، ويقود مجموعةً من شبان الحي الملّثمين والمزوّدين بالسلاح، وقد أقدموا على طرد الشباب المستثمرين للمقهى وضرب أحدهم، ثمّ أغلقوا المكان بحجة مخالفات قانونية وأخلاقية، لعدم رضا أهل الحي عن وجود تجمّع شبابي منفتح في بيئتهم المحافظة، الملاصقة لكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق.

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

من زمنٍ ساكن، إلى زمنٍ يركض

ما أن بدأت قوات المعارضة تقدّمها باتجاه حلب، والزمن يجري في سوريا بعبثيةٍ مطلقة، وبكثافة أحداثٍ ومتغيرات، تحتاج ربما عاماً كاملاً – بالمفهوم الطبيعي للوقت – كي تصير، فما كُدت أُنهي هذه المادة، حتى تم الإعلان عن تسلّم أحمد الشرع للرئاسة السوريّة.

جاء الإعلان على شكل رسائل عبر قناة التيلغرام لوكالة سانا الإخبارية، في ظل غياب قناة إعلام رسمية باسم الدولة السورية. احتوت الرسائل على مقتطفات البيان، الذي ألقاه الناطق باسم إدارة العمليات العسكرية خلال مؤتمر جمع معظم القادة العسكريين في فصائل المعارضة باستثناء قوات “قسد” وعدد من فصائل الجنوب، وقد أعلن فيه إلغاء العمل بدستور عام 2012 مع إيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية، وحل جيش النظام، ومجلس الشعب، وحزب البعث، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وحل جميع الأجهزة الأمنية والميليشيات التابعة للنظام، لتصل بعدها مقتطفات من “خطاب النصر” والذي تم بثه لاحقاً بالصوت والصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكدّ فيه الرئيس الجديد – بين مقدمةٍ وخاتمةٍ شِعريتين– على ضرورة معالجة ما خلّفه نظام الأسد.

قد لا يُجيد الشرع الخطابة، لكنّه كما في اطلالاته المصوّرة السابقة وتصريحاته إضافةً للخطاب الذي وجهه للشعب في اليوم التالي لتوليه الرئاسة، يبدو أنّه يجيد طمأنة الرأي العام، وقد أشار إلى الأولويات في فترة حكمه الانتقالية، بما فيها ملء فراغ السلطة، والمحافظة على السلم الأهلي، وتحقيق عدالة انتقالية ومنع مظاهر الانتقام، وبناء مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والأمن والشرطة، والعمل على إرساء بنية اقتصادية تنموية، ويظل الأمر جيداً إلى أن يبقى قولاً غير مقرونٍ بالفعل فيأخذ شكل التخدير.

ومع أنني لا أجد من المنصف حقاً، تقييم الإدارة الجديدة للبلاد الآن، وإطلاق الأحكام عليها وأخذ مواقف ثابتة منها، فهي “آخر” وأرى أنّ علينا فهمه كما عليه أن يفعل ذلك أيضاً، والأمر يحتاج للوقت، لكن يجب الإعتراف أن كلّ ما يحصل في الشارع حتى الآن من أعمالٍ انتقامية، كان متوّقع الحدوث منذ الساعات الأولى للتحرير، حتى أن معظم التوّقعات كانت تُرّجح حصول حرب أهليةٍ شاملة، نحمد الله أنّها حتى هذه اللحظة بعيدة عن الاشتعال، كما يجب الاعتراف أن تسلّم الشرع للرئاسة قد يكون ضرورياً للمرحلة الانتقالية، أقلّه لجمع سلاح الفصائل التي كانت قبل وقتٍ ليس بطويل تتقاتل بين بعضها وعلى أراضيها.

ولكن هل يعني ذلك، أن نعود إلى دورنا القديم في عهد الأسد، كمراقبين ينتظرون فرج الله؟

خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

أسئلة مرتبكة

فعل المعارضة لا يقتصر على النشاط والموقف السياسي، بل يتعدّى ذلك ليكون تواصلاً مع السلطة، تواصلٌ ينطلق من كل فرد وبيت وشارع، ليكشف الأخطاء ساعياً للحفاظ على المكان وعلى أسس الحياة الكريمة العادلة فيه، وفي ظل ما نشهده أعتقد أن هذا التواصل، أو هذه المعارضة، عليها أن تكون حاضرة على جبهتين؛ في وجه السلطة القائمة ووجه النظام المخلوع.

من الضروري الإصرار على محاسبة مُجرمي نظام الأسد وعصاباته وكل من كان شريكاً في سفك الدماء وقهر الشعب السوري، ولكن بعد اتفاقٍ واضح وشامل على الزاوية التي يجب علينا النظر منها لمفهوم العدالة والمحاسبة، وعلى المعايير التي تحدّد تعريفنا لمن هو المجرم، وهل سيقودنا هذا الطريق لمحاسبة من تلطّخت أيديهم بالدماء ممن يتواجدون اليوم في السلطة السياسية والأمنية كوزير العدل الحالي مثلاً شادي الويسي، الذي انتشر فيديو يُظهره وهو يُشرف على تنفيذ حكم إعدام ميداني رمياً بالرصاص بحق امرأتين متهمتين بالتخابر لصالح النظام في العام 2015، أم سيكون هناك فرق بين دمٍ ودم؟

علينا طرح أسئلتنا عن البيئة الاقتصادية السورية اليوم، وهل هذه البيئة بعد حكمٍ “اشتراكي” على المنهج الأسدي، وبعد حربٍ دامت 13 عاماً، تسمح بانتقال فوري لسياسة السوق الحر التي تعلن عنها الحكومة مع وعودها بخصخصة الموانئ والمرافق الكبرى، أم أنها أيضاً انتهاج لسياسة البعث والأسد في اتخاذ قرارات غير مدروسة، تهدم أكثر ما تبني، وتجوّع أكثر ما تُشبع، وقد تكون مجدداً بيعٌ للسيادة لأطرافٍ أخرى وبأثمانٍ جديدة؟ وهل تسمح هذه البيئة أصلاً برفع الدعم المباشر عن المواد الأساسية، وإيقاف رواتب آلاف الموظفين، فضلاً عن إيقاف أعدادٍ كبيرة منهم أو تسريحهم؟

وكاسترسال في الأسئلة التي نطرحها يومياً، همساً أو بصوتٍ عالٍ، هل سنسمع كلّ يوم عن مقهى جرى إغلاقه، أو عن شبّانٍ ورجال قُتلوا تحت التعذيب، وعن فتياتٍ ونساء، أمهات وعاملات ومعلّمات، يُخطفن ويقتلن؟ وعن المضايقات المؤذية للآخر المختلف في التوّجه الديني والجنسي والفكري والسياسي؟

هل سيُعاد تفعيل جماعة “الخط الحلو” ممن يجيدون كتابة التقارير للسلطة، ويتّخذونها وسيلةً للانتقام من أفراد بسبب خلافاتٍ شخصية بحتة، من خلال تلفيق تهمةٍ ما لهم، فتكون الدليل الوحيد، الذي على أساسه يتم الاعتقال والتعذيب والقتل ربما. وهل سنكرر مظاهر التشبيح وممارسات الأفرع الأمنية المُذلّة في التعامل مع المعتقلين؟

وبالحديث عن هذه الممارسات المتفرقة الكثيرة جداً، واليومية، هل سنعيد ترداد مقولة “هوي منيح، بس اللي حواليه عرصات” التي كانت تُستخدم للإشارة إلى أنّ شخص الرئيس وسياساته لا غبار عليهما، وأن المشكلة في الحاشية؟.. هل نريد ذلك حقاً؟

قد يكون كلّ هذا الكلامتشاؤمياًبالنسبة للبعض. نعم ممكن، وقد يكون محض هراء،أيّ كلام، أو قد يكون كأيّ بيان أو تصريح يكتبه أحد ما، يوّقع عليه مائة، مائتان، ألف، ويصير باسم الشعب السوري، كلّ شيء ممكن، لكنّه كلامٌ يُقال وتفكيرٌ موجود، على شكل وجهة نظر لشخص عادي في هذا المكان المعقّد ..

ليست هذه الأسئلة المرتبكة دعوة لنقد ومعارضة السلطة فحسب، بقدر ما هي أيضاً دعوة لتأملّ المشهد بكل كثافة عناصره، وغزارة التأويلات الفكرية والحسيّة فيه، فالنظام لم يسقط بعد، وما حصل في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر يمكن اعتباره فرحةً عظيمة بتحررٍ من وحش وطاغية، لكنه نصرٌ غير كامل، وأظنّ من الخطأ أن نُكرر حماقتنا في التماهي معه، دون التفكير بما يحصل.

قد يكون كلّ هذا الكلام “تشاؤمياً” بالنسبة للبعض. نعم ممكن، وقد يكون محض هراء، “أيّ كلام”، أو قد يكون كأيّ بيان أو تصريح يكتبه أحد ما، يوّقع عليه مائة، مائتان، ألف، ويصير باسم الشعب السوري، كلّ شيء ممكن، لكنّه كلامٌ يُقال وتفكيرٌ موجود، على شكل وجهة نظر لشخص عادي في هذا المكان المعقّد .. يرى، يسمع، يؤثّر، ويتأثر بكل التغييرات السوريالية والفوضى التي تحدث في المكان وشخوصه.

وقد بدأتُ في الأيام الأخيرة أجد أنني أشترك بهذه النظرة مع كثيرٍ ممن يشعرون أنّ النظام الأسدي ما زال قائماً في كثيرٍ من أدوات تواصلنا وتفاصيل حياتنا اليومية، ولا يزال متحكّماً في كثيرٍ من ذهنياتنا، وهو أثرٌ تراكمي مستمّر منذ تفرّد حزب البعث بالسلطة بقيادة الأسد الأب .. كنّا سابقاً نقول: “نحن مريضون من الحرب والبلد وحكم الأسد”، وأجد اليوم ضرورة الإدراك والاعتراف بأننا لم نُشفى بعد.

“إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن له أن يكون نهاية التاريخ”؟

قطعت كتابتي، وقمت مسرعاً لأتمكّن من شحن الهاتف والحاسب المحمول والبطارية الصغيرة لإضاءة اللدّات، ولأستطيع تسخين دلوين كبيرين من الماء، لغسل الصحون والكاسات، وللحصول على حمّامٍ أُزيل به عنّي رائحة الأدخنة المنبعثة بكثافة خانقة في الحي، نتيجة إشعال الحطب وأوراق الكرتون والقماش والمازوت المغشوش والرخيص طلباً للدفء.

عملية التسخين هذه تتطلّب استخدام سلكٍ كهربائي موصولٍ بوشيعة كهربائية خطرة الاستخدام، لكنها تضمن إتمام العملية بسرعة قبل مُضي النصف ساعة القادمة، وانقطاع الكهرباء بعدها لخمس ساعاتٍ ونصف أو أكثر، وفقاً لسياسة التقنين الكهربائي الجديدة، وهي في الأساس سياسةٌ بدأ باعتمادها نظام الأسد منذ سنينٍ طويلة.

أتّلقى اتصالاً هاتفياً من صديقتي، التي تزور أهلها في منطقة “الدعتور” في مدينة اللاذقية، تُخبرني عن مقتل زوج صديقتها – وهو مدني لا علاقة له بأجهزة نظام الأسد وأبٌ لطفلين – خلال مداهمة قوات الأمن العام للمنطقة من أجل اعتقال شابَين لحيازتهما السلاح، سُمع خلالها إطلاق نارٍ كثيف استمر لعشر دقائق تقريباً.

تقول لي: “هذه ليست اللاذقية التي أعرفها .. المدينة ساكنة وشبه فارغة معظم الوقت، بشكلٍ يثير الحزن والخوف، الناس هنا قلقون وخائفون جداً، حالهم كحال معظم المناطق الجبلية والساحلية، والخوف يزداد مع ازدياد الانتهاكات، والأعمال الانتقامية، والتشبيح، وعمليات الخطف والقتل التي تتكرر كل يوم .. والفقر يكاد يأكل الكثيرين.. هل هذه هي النهاية؟ ..أو أننا سنشهد نهايةً أفضل وأجمل وأكثر سلماً وأماناً؟ أم أن لا نهاية لكل ما يحصل؟“.