fbpx

حياة السُطوح و.. موتها

بعض سطوح الأبنية السكنية في المدن المصرية لا تنمو إلى الأعلى، بل تنكمش وتنسحب إلى الداخل على غرار القصص الشعبية التي تتساوى فيها الغرف العليا مع السراديب
ــــــــ البيت
13 مايو 2025

يفقد الزمن معناه على السُطوح، والاتجاهات كذلك. بعض السطوح لا تنمو إلى الأعلى، بل تنكمش وتنسحب إلى الداخل على غرار القصص الشعبية التي تناوبت على حبس الأميرات في قمم القلاع أو في أقبيتها، فباتت فيها الغرف العليا مرادفًا للسراديب.

في أحياء الطبقة المتوسّطة في بعض المدن المصريّة مثل القاهرة والمنوفية (حيث التقطتُ الصور)، يتعامل السكان مع السطوح كثقوبٍ سوداء تستوعب كلّ فائضٍ عن الحاجة أو الشعور. وبوصفها حدودًا بين البيت وخارجه، وبين المدّ البشري والسماء، تتحوّل تلك المناطق بخفةٍ إلى مستوعب لأغراضٍ منتهية الصلاحية. أشياء أدّت دورتها الاستهلاكيّة، لكنها لا تزال حاضرة كهياكل.. تقبع على حدود الموت والحياة، فتبدو عالقة بين عالمين؛ فترة تقاعد واسترخاء بعد استخدامات عديدة، بيد أنّها ليست موتًا نهائيًا، تمامًا كالسطوح التي لن تبلغ السماء يومًا وستبقى قاصرة عن التحوّل إلى بيت. إنّه موت جوهريّ تفقد فيها الأشياء تعريفها كموجودات، وتتحوّل إلى جمادات بلا جلبة، تحاول مقاومة أشعة الشمس الحارقة بعدما لم تعد مواجهة الخلل تنفع.

فكرة الصعود إلى السطح ليست مغرية بحدّ ذاتها، تأتي من مللٍ غالبًا أو من رغبة بالفرار والتواري. وأنا لم أهتدِ إلى السطح إلّا حين اشتريت كاميرا خام/فيلم 35 مم. الكاميرا نفسها منعتني من السير في الشوارع، ليس لكوني خجولًا، حسنًا ربّما هذا أحد الأسباب، لكنّ القاهرة نفسها مصابة بفوبيا الكاميرا. أي عدسة في الشارع هي تهديد حقيقي للناس، وعناصر الشرطة يطاردونها كأنّها ممنوعات بيد تاجر مخدرات. وفّرت لي السطوح مساحة للتصوير على مهل، لإلقاء نظرةٍ على المدينة وشققها وطيورها ومآذن جوامعها ومقابرها. وما ظننت أنّني أبحث عنه عبر النظر بعيدًا، كان بين قدمي، ملقًى حيث كنت أقف.

هنا عالم هائل من الذكريات، حيوات كاملة اعتبرها البعض فائضًا لا يستحقّ البقاء في الطوابق السكنية. على الأرض صورة لامرأةٍ، تبدو صورة شمسيّة مكبّرة وموضوعة داخل إطار. أعتقد أنها كانت معلّقة على جدار إحدى الشقق التي غادر قاطنوها إلى حي أو مدينة أخرى، رحلوا وفشلوا في حمل كلّ الذكريات معهم. الرحيل يستنجد بالنسيان، أو لعلّ أحدهم التقط تلك الصورة بهاتفه بعدما شعر أنها أكثر خفّة من الإطار الخشبي والواجهة الزجاجية.

تُميت الكاميرا الأحياء.. وألا تحيي الموتى؟ الصورة شهادة على الموت. ما إن يدخل الوجه في الإطار، يصبح من لحظة ماضية لن تعود أبدًا. ماذا لو كنت تصوّر أشياء ميتة؟ وجه ميّت تتساوى اللحظات والأزمنة بالنسبة إليه. حين قمت بتأطير تلك المخلّفات في صور، شعرت أنني ربما أمنحها حياةً أخرى، غير أنّ الصور التقطت كلّها عبر وسيط صنع منذ ثلاثة عقود، أي كاميرا 35 مم. فن الفيلم الفوتوغرافي مات منذ سنوات، وهو يحاول الآن منح بعض الموجودات معنى رمزيًّا، حياة أخرى، كما أنّ كلّ الأفلام المستخدمة هي أفلام منتهية الصلاحية (Expired)؛ وسيط منتهي الصلاحية يستعين ببقايا شبه ميتة لكي يثبت فاعليّته. بالرغم من طبيعته المراوغة، يعبّر الفيلم المنتهي الصلاحية عن الإشكالية في أكثر تجلّياتها نقاء، فهو لا يضمن لك أيّ نتائج يقينية، إنما يجرّد فعل التصوير ذاته من أحد خصائصه التي اكتسبها مع الديجيتال: الثقة بالنتائج والرصد الدقيق. يؤسس الفيلم المنتهي الصلاحية للارتياب والالتباس، متماهيًا بذلك مع السياق الحكائي للذاكرة البديلة التي تقوم على الشكّ والإبهام والزمن المشوّه.

الزمن نفسه يدعو إلى الشكّ على السطوح التي لا يمكن النظر إليها بمعزلٍ عن الخيال الشخصي. يرتبط التحديق بالموجودات بغريزة التحري عن القصص المتستّرة خلف الفائض المهجور في المكان، الذي يكوّن، بخيوطٍ شديدة الحساسية، ذلك التسلسل الشعري من الذكريات، ويدفعني إلى توجيه الكاميرا نحو أشياء مُهملة لأستدعي أشياء أخرى أو أبتكرها.. أكمل عمرها الآخر بذاكرتي الخاصّة. أحاول ربط اللحظة الآنية بسياقٍ زمني سابق، من خلال الكاميرا التي ترصد نصف قصص لأشياء بنصف عُمر (هكذا نصفُ الأشياء المستعملة). فكرة الإلحاح في تخيل نصف الحياة الأخرى، تُثير في داخلي متتاليات من الصور التي لا تخصّني مثل تخيل الأحذية في أقدام أصحابها، والموسيقى الصادحة من الكاسيت في شقّة ما، وكراسي المنازل بقاطنيها وبزوّارها. يصل الأمر إلى غزلِ صورٍ تحقّق الحضور المشهدي لحكاية مفترضة، حكاية مبتورة تستدعيها الفوتوغرافيا، متخيّلة تاريخًا للعلويات السكنية التي تبدو ضائعة بين لحظتي موت وحياة، بين التذكّر والنسيان، وبين المدينة وحدودها.