ما بين اللحظة التي انفجر فيها السابع من أكتوبر معلنًا عن لحظة مجد خاطفة استحقتها طويلًا شعوب المنطقة، وبين ما وصلنا له عقب ما يقارب السنتين من الإبادة الحرة واللهو الإسرائيلي المفتوح في سماء الشرق الأوسط، والدعم الأوروبي غير المشروط للمشروع الإسرائيلي كواحد من أكثر النماذج السياسية توحشًا وإجرامًا، تنكشف مأساة عربية جديدة عنوانها هزيمة مُرّة، يُراد لها أن تكون هزيمة نهائية، فيما لا يبدو أن أحدًا مقبلٌ على محاولة الفكاك من المصير المشؤوم.
باتت ملامح الهزيمة أكثر مما يمكن تجاهله، وبخلاف ما تستدعيه من لوثات عدمية، فإن أكثر ما تطرحه فداحة، هو الإدعاء بحتمية الانهزام أمام عدو على هذا القدر من الإجرام، يستند على مجتمع دولي يرحب بأعمال الإبادة والتجويع دون رادع، وبالتالي الإدعاء بأن الخطأ التاريخي الذي أدى لكل ما شهدنا عليه بصمت طوال سنتين، يقع بالأساس على من جرّبوا، لمرة واحدة في نضال تخطى القرن من الزمن، أن يكونوا أصحاب قرار في المواجهة.
وإذ تُحفز هزيمتنا العربية المركبة الميول الرومانسية والسوداوية بشكل ينزع سياقها السياسي بالكامل، بما يضمن البقاء تحت تأثيرها وشروطها، فإن الخروج من تلك الهزيمة ووضع البرامج لمقاومة الفاعلين فيها، يفرض أولًا الإمعان في أسبابها، وكيف تطورت تلك الأسباب حتى وصلنا إلى الوضع الراهن؟
بطبيعة الحال، يفتح ذلك التمعن الباب لفيض من التساؤلات عن أطراف تلك الهزيمة، الأطراف الفاعلة كالاحتلال الإسرائيلي والطبقات الحاكمة المجاورة له، والحليفة كأنظمة الخليج ومصر والأردن، والممانعة كالنظام السوري الساقط. كما تُطرح تساؤلات عن الأطر التي تفاعلت مع كل هؤلاء سواء بالخصومة والمقاومة، أو بالشراكة. عن حزب الله الموصوف بـ «درة تاج محور المقاومة»، وقد تلقى ضربات أعادته لموقع بدائي لا يعلم أحد مداه الدقيق. وعن حركة حماس، التي تأرجحت بين مواقع متناقضة، حاربت حلفائها جميعًا، ثم صالحتهم جميعًا، قدّمت الكثير من العلامات على الانصراف عن العمل المقاوم لصالح الحُكم السياسي، ثم فجّرت الإقليم كله في ساعات معدودة. كذلك تُطرح تساؤلات عن الأطر الغائبة، عن الحركات الاجتماعية والسياسية المُعبرة عن الجموع العربية، التي كانت حتى الأمس القريب تملأ الميادين وتحاول فرض مطالبها، غير أن صوتها حتى اليوم لم يتجاوز الحملات الاستهلاكية على منصات الفيديو، ولّم المشاهدات على حساب أجساد القتلى والجوعى في غزة.
كيف يمكننا تأمل ذلك كله؟ وبداية من أي لحظة بالضبط؟ وكيف لنا، المهتمين بالتغيير السياسي لمصلحة أغلب السكان، أن نتصور مخارج محتملة من الحال الراهن، فيما نعاني الضعف والتفكك والانكشاف الإسرائيلي المفتوح؟
***
صباح السابع من أكتوبر صحونا على صوت القائد محمد الضيف رئيس أركان المقاومة الفلسطينية، وكان صوته فتيًا ومترقبًا في آن، يعلن بداية الطوفان نحو فلسطين. كان المقاومون قد عبروا بالفعل وبدأوا يطاردون خيالهم. أظهرت المقاطع المصوّرة أن كثيرًا منهم كانوا كالمجذوبين، بدوا كأنهم ضائعين في الشوارع، وقف بعضهم دون حركة للحظات طويلة فيما يصرخ عليهم البعض الآخر بضرورة الحركة والهجوم. ربما صدمتهم سهولة الاختراق، لكنهم واصلوا وسيطروا على عدد واسع من المواقع العسكرية والأمنية، نفسها التي خططت وقادت الحروب الكبيرة والجولات العسكرية المُركّزة، وصمّمت الحصار على القطاع حتى تحكّمت في مقدار حبات الأرز المتاحة لكل نفس، بشرية كانت أو حيوانية، تعيش داخل أكبر سجن في العالم.
عَبَر عدد غير معلوم من الأهالي دون سلاح أو خطة، طرحوا شكلًا لما يمكن أن تكون عليه المقاومة الشعبية. وللمفارقة، كان هذا الشكل، الذي يطالب به الكثيرين بديلًا عن نموذج الحركات المسلحة، كان هو المسؤول عن المظاهر التي أدانها هؤلاء نفسهم، ورأوا فيها توحشًا لا يصح
كان انفعال الضيف في صوته ليس كأي وقت مضى، انفعال تخبأ وراء الصوت المعدّل على الأغلب، أخرج منه رأسًا وحفر فيها ملامحًا بشرية عَبَرت من صورة المُلثّم المحفوظة. صوت يدفعك لتخيل ما كان من المفترض أن يحصل، وكأنه قائدًا ثوريًا اعتلى حصانًا حجريًا وسط الميدان، يعلن لتوه عن إطلاق ثورة عابرة لحدود الدولة، تضرب دولة الاحتلال من غزة والضفة الغربية ولبنان واليمن والعراق والجولان، تُطلِق الصواريخ والمُسيرات فوق موجات بشرية من المقاتلين، يبدأ العرب في الداخل إضرابًا عامًا وينفذون عصيانًا مدنيًا يشل اقتصاد الاحتلال ويوقف الخدمات العامة للمستوطنين، نموذج مضخّم عما فعلوه سابقًا في أحداث الشيخ جرّاح، يشارك ملايين العرب، وفي مقدمتهم المصريين، في كسر حدود الاحتلال بأجسادهم، يحاصروا مصالح الدول الكبرى، يهددون أنظمتهم العاجزة والمتواطئة، يقطعوا طرق التجارة العالمية ويمنعون النفط عن كبار العالم.
لكن نداء الضيف لم يقطع حدود غزة.. عَبَر عدد غير معلوم من الأهالي دون سلاح أو خطة، طرحوا شكلًا لما يمكن أن تكون عليه المقاومة الشعبية. وللمفارقة، كان هذا الشكل، الذي يطالب به الكثيرين بديلًا عن نموذج الحركات المسلحة، كان هو المسؤول عن المظاهر التي أدانها هؤلاء نفسهم، ورأوا فيها توحشًا لا يصح. في كل الأحوال، عَبَر المئات حدود القطاع – السجن، بعضهم شاهد ما آلت إليه فلسطين لأول مرة في حياته، بعضهم هاجم مستوطنات مُعسكَرة بالسكين واليد العارية، وبعضهم عاد إلى غزة طواعية ومعه أسرى وغنائم حربية.. عدد غير معلوم من الغزيين اختبروا كل شعارات القضية في ساعات معدودة، «التهجير» و«العودة» و«فلسطين التاريخية- الكاملة»، حتى أن مفهوم العودة قد تبدّل في ساعات، بين العودة للأصل خارج السجن المفتوح، أو العودة إلى الملجأ بعد اغتنام ما تيسر في الجولة الحالمة.
غير أهل غزة، لم تحتشد الميادين والحدود بالملايين من «جماهير الأمة» في تلك المهمة غير واضحة الأدوار والمهام، وبالطبع «قادة الأمة» الإسلامية والعربية، التي خاصمتها المقاومة بعد 20 شهرًا كاملة من معاونة الاحتلال والتواطؤ على خطط التجويع والإبادة الصهيونية، تراوحت سياساتهم بين الإدانات الشفوية للإجرام الصهيوني وحتى كسر الحصار المفروض على الاحتلال ومدّته بالمواد الغذائية والأولية وشاركته في المناورات العسكرية، وصدت عنه الصواريخ الآتية من الجنوب والشرق.. مرت الأيام الأولى وانصرفت معها صدمة جميع الأطراف. حاول آلاف العرب التظاهر في الشوارع، خاصةً في الأردن، حيث لا تزال جماعة الإخوان المسلمين تحتفظ بقدر من التأثير، وكذلك في مصر.
ظهرت بوادر محدودة في الشارع المصري للتحرك، استغلت المساحة التي حاول أن يتيحها نظام عبد الفتاح السيسي لأول مرة منذ عشر سنوات، على أن تساعده في تصدير الاعتراض الجماهيري للمجتمع الدولي الذي طالبه بالموافقة على تهجير الغزيين إلى سيناء. لكن بمجرد انفتاح تلك المساحة، بدا وكأن القمع الأمني في السنوات العشر الماضية على وشك التصدع، وبشكل مفاجئ لم تنضم حشود جماهيرية لمحاولات الحشد التي رعتها الدولة، وانصرفت إلى تجمّعات أخرى وصلت ميدان التحرير وهتفت ضد النظام، الذي كان يحصّل آلاف الدولارات آنذاك مقابل خروج شخص واحد من المقتلة نحو الأراضي المصرية.
وقبل أن تخترق تلك التحركات القيود الهائلة المفروضة على الشارع المصري، أعادت الأجهزة السيادية إغلاق تلك المساحة الخارجة عن السيطرة، ونفّذت اعتقالات واسعة ضد الطلاب والناشطين السياسيين، لمجرد نواياهم تكوين مجموعات تضامنية أو تعليق لافتات تدين الإبادة، لينتهي المشهد الاحتجاجي المصري إلى تجمعات محدودة جدًا أمام نقابة الصحفيين، أكثر محدودية من تلك التي كانت تسمح بها دولة مبارك في أكثر أيامها قمعًا.
غير ذلك، غرقت من أسمتهم البيانات الحربية للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية بـ «الجماهير العربية» و«قادة الأمة»، في الصمت. صمت انتهى بموجات استهلاكية على منصات التيك توك وفيسبوك، تبدو أقرب لأساليب تضامنية تناسب سكان كوكب آخر، وليس مصر وتونس وسوريا ولبنان. نُظّمت حملات لمقاطعة البضائع الغربية، وحملات لفضح جرائم الاحتلال الصهيوني، مطعّمة ببعض المستائين من «الهستيريا الجماعية» لمؤيدي القضية، وهواة الإسقاطات اللغوية الركيكة من قبيل «الممانعون الجدد» لوصف المدافعين عن المقاومة، وكأن مقاومة إسرائيل باتت حكرًا على تيار «الممانعة» الأسدي، والتصلّف بحكايات توحي وكأن القصة بدأت فجأة باعتداء «الرجعيين» في غزة على الدولة الآمنة في إسرائيل، وأين؟ في حفل موسيقي!
بعد يوم واحد من نشوة الغلبة تلك، تأكد أن المعركة الفعلية ستقتصر على الحركات المسلحة في المنطقة، وجلّها من مكونات ما كان يوصف وقتها بـ «محور الممانعة». بدأ حزب الله جبهة إسناد بفتح جولات قصف لمشاغلة الاحتلال ومنعِه من الاستفراد بغزة، وقد نفّذ ذلك على مدار 14 شهرًا بالحفاظ على ميزان دقيق لا يفتح حرب كاملة، ولا يمكن للعدو تجاهله ببساطة، خصوصًا عندما اضطر مستوطنو الشمال للنزوح.. ثم التحقت به باقي حركات المحور في العراق، والحليف الأقرب، جماعة أنصار الله «الحوثيين» في اليمن. وحده الهارب المنخوب بشار الأسد حافظ على سلامة دولة الاحتلال، كما عهدنا نظامه طوال نصف قرن، فمنع استخدام الأراضي السورية في أي أعمال إسناد، وحافظ على الهدوء في الجولان المحتل.
على مدار الشهور حتى خريف 2024 كانت الحرب بسياقاتها تلك تتمدد وتنكمش حسب الظروف، حتى وصلت إلى لحظة قرر فيها الاحتلال فتح حربٍ واسعة على لبنان، رغم ما أبداه أمين عام حزب الله، وقتها، حسن نصر الله من مرونة في الأيام الأخيرة كانت تتجه نحو وقف الحرب، حتى أنه نصح النازحين بالعودة إلى قراهم وإلى الضاحية الجنوبية، على اعتبار أن لبنان مقبلًا على مرحلة إيجابية. غير أن العدو أقدم، في أيام معدودة، على الانتهاء من بنك أهدافه، مغطى بقصف جوي كثيف، تنوع بين الأهداف المُخططة وأخرى عشوائية تمامًا.. 66 يومًا بدأت بتفجير أجهزة البيجر بين عناصر الحزب، موقعة أكثر من 3 آلاف بين قتيل وجريح مع المحيطين بهم من مدنيين في لحظة واحدة، واغتيال قادة الوحدات المسؤولة عن الجنوب والوسط، واغتيال قائد وحدة الرضوان مع معظم أعضاء وحدته، وكذلك قادة الأمن الوقائي وباقي أعضاء المجلس الجهادي، والصفوف الأولى والثانية والثالثة في الحزب، حتى وصلت الاغتيالات إلى الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وخليفته هاشم صفي الدين. ثم، وباختصار كبير، انتهت الحرب.
عُدنا وقتها مبدئيًا لنفس الاتفاق الذي أوقف حرب تمّوز/ يوليو 2006، أي تطبيق القرار 1701، القاضي بوقف العمليات القتالية فورًا، وسحب سلاح حزب الله جنوب نهر الليطاني، مع انتشار كامل لوحدات الجيش اللبناني. لكن من اللحظة الأولى تبيّن الفارق الكبير بين الاتفاقين. ففي حرب 2006، التي انتهت ببدء عمليات واسعة لإعادة الإعمار، كان مفهومًا لدى الجميع أن مسألة انسحاب حزب الله من جنوب الليطاني هي مجرد ديباجة إنشائية لا ينتظر أحد تنفيذها جديًا، بما في ذلك الصهاينة. وطوال السنوات بين 2006 وحتى 2023، كان يمكن لأي عابر مشاهدة مواقع علنية للحزب، فيما تتحرك عناصره بحرية تامة.
أما في العام 2024، كان الاتفاق يعني بالفعل انسحاب الحزب من كامل مناطق الجنوب وتسليم ما تبقى من مواقع عسكرية هناك للجيش اللبناني، وهو ما أكده العديد من قادة الحزب وعلى رأسهم الأمين العام نعيم قاسم، أنه بالفعل تم تسليم كامل المواقع المتبقية، ثم فُرض حصار أمريكي صريح منع إعادة الإعمار وربطه تارة بسحب سلاح الحزب الثقيل والمتوسط من كامل الأراضي اللبنانية، وتارة بإخضاع لبنان في اتفاق استسلام مع إسرائيل.
بدت اللحظة حينها في لبنان ثقيلة وعصيّة على الفهم إذا ما اعتمدنا المنطق العادي في رؤية الأمور.. انتهت الحرب، التي بدأت بالأساس لإسناد القضية الفلسطينية في غزة، وقد أدّت إلى تفريغ المناطق التي يسكنها الشيعة، وجوارها من مناطق مختلطة أو مسيحية وسنية محدودة، وبالتالي انتشار مئات الآلاف من اللبنانيين نحو النزوح إلى باقي المناطق. لم يعِش هؤلاء نفس الظروف، المحظوظين منهم استضافهم أصدقاء ومعارف، أو تصرفوا في أموال سائلة سمحت لهم باستئجار منازل تضاعفت ايجارتها استغلالًا للزبائن المفاجئين، البعض الآخر توزع على مراكز النزوح كالمدارس، وآخرين طردوا من مبان فارغة لجأوا إليها، والكثير اضطروا لافتراش الأرض على كورنيش بيروت لأسابيع.
رغم ما أبدته تلك الأيام من مظاهر تضامنية لا يمكن تجاهلها، سواء من مواطنين عاديين أو من مجتمعات كنسية أو كشفية، في مناطق لا يُعرف عنها عادة التعايش مع المجتمعات الشيعية، إلا أن الحرب انتهت بتعميق إضافي للشرخ بين أجزاء معتبرة من المكونات اللبنانية والطائفة، ليس بوصفها الديني، وإنما بناءًا على موقعها الفعلي كمقدمة اجتماعية في الصراع ضد إسرائيل، ما عنى دائمًا بقائهم في مواجهة مفتوحة مع الاحتلال منذ ما قبل وجود مقاومة منظمة في لبنان، وقطعًا منذ ما قبل نظام ولاية الفقيه في إيران، وجعلهم كذلك يشكّلون بيئة حاضنة لمن يسعى لحمايتهم من ذلك العدو التاريخي، سواء كانوا شيوعيين أو قوميين أو من حزب الله.
شهدت الحرب على لبنان العديد من المفارقات والمشاهد المعبّرة بوضوح عن هذا الفصّل المقصود. كأن تعيش قرى النزوح، التي رحّبت بالنازحين واستقبلتهم، أيامها العادية فيما جيرانهم الجُدد يعيشون حالة حرب.. سكان يذهب أبنائهم إلى المدارس، التي رفضت أن تعلّق عملها، فيما أبناء النازحين يبقون مع عائلاتهم، أو يلهون في الحقل، بعيدًا عن مدارسهم المُدَمّرة. سكان يستعدون لموسم حصاد الزيتون، وجيرانهم النازحين يعلمون أن أراضيهم قد حرقها الصهاينة أو سمموا أشجارها. أو كأن يضطر جارٍ سني لمصارحة جاره الشيعي بضرورة إخلاء شقته التي اشتراها وباتت ملكًا خاصًا، لأن الاحتلال قد يضرب البناية كلها وتُدمر جميع الشقق، أقلّه حتى يضمن بقاء بيته بعد انتهاء الحرب. أو أن تتجول امرأة شيعية في منطقة مسيحية تزورها لأول مرة، وترى بين الناس تعاطفًا واضحًا، لكنه ممزوج بقلق قوي من أن تكون تلك المرأة هدفًا لصاروخ إسرائيلي يقتل المارة ويدمر بيوتهم وضيعتهم.
وما أن انتهت الحرب الرسمية، حتى جاءت الأيام القليلة التالية بالمزيد من الأحداث المفاجئة سيطرت على أذهان باقي اللبنانيين، بداية من الاحتفال بسد الفراغين الرئاسي والحكومي، ليأتِ المرشح الخصم للحزب، والمفضّل للولايات المتحدة، جوزف عون رئيسًا، ثم يُعين القاضي نواف سلام رئيسًا للحكومة، انتهاءًا بالاحتفال بسقوط نظام الأسد، الذي عانى منه الشعبين السوري واللبناني طوال عقود.
أُخذ خصوم حزب الله بنشوة الإنجاز الإسرائيلي في بلدهم. اعتبروا أن الضرر الكبير الذي أصاب الحزب، واختفاء شخصية نصر الله بتأثيرها العابر للطائفة، فرصة قد لا تتكرر لاستبعاد الحزب تمامًا من المعادلة السياسية، حتى لو تضمن ذلك حذفًا للطائفة بأكملها
في الحقيقة امتلأ الفراغ العام اللبناني بالكثير من الخطابات الهزلية وقتها، خصوصًا بين من يوصفون بـ «التغييرين» ومحبي الدولة المدنية والسيادة الوطنية. كأن فجأة يتحول خطاب كتلة من النخب السياسية، التي سبق وشاركت بقوة في «انتفاضة 17 تشرين 2019»، إلى الاحتفاء بكون رئيس الجمهورية عسكريًا منظبطًا قادرًا على لجم الدولة الفاسدة، علمًا أنه الرئيس اللبناني السادس القادم من الجيش، فضلًا عن اعتبار وصوله للرئاسة انتصارًا لانتفاضة تشرين. أو كأن تحتفي ذات الشرائح بحكومة نواف سلام، باعتبارها عودة مظفرة لعائلات بيروت العريقة واستعادة لمكانة مهضومة في رئاسة الحكومة، على يد رئيس جديد من عائلة طالما قدّمت رؤساء حكومة وسياسيين كانوا من أركان النظام السياسي نفسه، الطائفي الغارق في الفساد.
باختصار، فيما كان السكان الشيعة يلملمون آثار الحرب دون إمكانية لإعادة إعمار ما تدمر، كانت الاحتفالات تعم باقي لبنان، وقد أُخذ خصوم حزب الله بنشوة الإنجاز الإسرائيلي في بلدهم. اعتبروا أن الضرر الكبير الذي أصاب الحزب، واختفاء شخصية نصر الله بتأثيرها العابر للطائفة، فرصة قد لا تتكرر لاستبعاد الحزب تمامًا من المعادلة السياسية، حتى لو تضمن ذلك حذفًا للطائفة بأكملها.. تعالت أصوات تُطالب بسحب السلاح الثقيل للحزب، السلاح الممكن استخدامه فقط ضد جيش نظامي كجيش الاحتلال، لكنهم مرتاحون للسلاح الخفيف، المناسب بالأساس لحروب الشوارع كالقتال الأهلي.. فهذا المستوى من التسلح عمومًا يتمتع به كل الأطراف، وفي النهاية، فخطره محصور في القتل العشوائي مع كل مناسبة عامة أو خاصة، أو الحرب الأهلية.
واقتصر خطاب هؤلاء دومًا على الأدبيات الأمريكية للقضية، التي تصر على منطق «نزع السلاح» وليس التفاوض من أجل دمجه في دولاب الدولة المفترضة، بحسب موازين القوى الفعلية وبما يحفظ السلم الأهلي اللبناني، بحيث باتت تلك الخطابات، لا تعكس مطالبًا سياسية للتفاوض، وإنما أساسات للاقتتال الأهلي، يستكمل ما بدأته إسرائيل في حرب الـ 66 يوم، ويكون أول ضحاياه بالطبع هو «السيادة» الوطنية نفسها، الضائعة على وقع التدخل الخارجي أو الاقتتال الطائفي والمناطقي.
في لحظة واحدة امتدت لتصبح شهورًا طويلة، بدا حزب الله مهزومًا حتى العظم. وفي لحظة واحدة، سقط الأسد نهائيًا ولم تنقذه خسته، وتوقفت الجبهة العراقية دون حتى إعلان، وبقي الحوثيين وحدهم يطلقون الصواريخ ويعطلون المجرى الملاحي المؤدي إلى قناة السويس، قبل أن تنخفض فاعلية مشاركتهم على إثر اتفاق اضطراري مع إدارة ترامب، أخرج السفن والقطع البحرية الأمريكية من دائرة الاستهداف.
وقد انتهت الجولة الإيرانية بما يحفظ ماء وجه إيران، كآخر دولة وطنية اختارت دعم نموذج حركات المقاومة المسلحة. حافظت إيران على استقرار نظامها، لكنها تلقت ضربات غير معلومة النتائج في برنامجيها النووي والصاروخي، وخسرت نفوذها الإقليمي الذي سعت لتأسيسه من اللحظة الأولى لحكم ولاية الفقيه في 1979، كجبهات متقدمة للتصارع مع الخصوم الإقليميين والدوليين، ليوضَع في النهاية نموذج الحركات المسلحة أمام تساؤلات وجودية غير مسبوقة، دون راعي إقليمي، يموّل ويدرّب ويسلّح.
على طول الخط، بقيت الجماهير العربية على صمتها، مع استثناءات محدودة جدًا.. وأضيف للمشهد العام المزيد من المهازل، كمشاهد توزيع الحلوى في سوريا احتفالًا بانتصار نتنياهو وقتل نصر الله، أو استعادة ورعاية الصراع السني الشيعي. ساد المشهد السوري خصوصًا وضعًا كئيبًا يغض النظر عن توحش إسرائيلي يضم المزيد من الأراضي إلى دولته المحتلة، وعن اعتداءات شبه يومية لم تنته بوصول الجيش الإسرائيلي إلى مشارف دمشق نفسها، كل ذلك مغلفًا بتصدير تحليلات ومواقف غارقة في الطائفية، ولا تخجل من استخدام سرديات واصطلاحات أطلقها ورعاها الوهابيون على مدار عقود، منذ أيام قتل وإبادة شيعة شبه الجزيرة، وحتى مرحلة تصدير الخطابات الفتنوية، المحذرة من خطر الشيعة على الأمة، عبر مقاطع الفيديو الخفيفة والمؤثرين الدينيين على مواقع التواصل الاجتماعي.
وصل أبو محمد الجولاني إلى رأس السلطة في سوريا ضمن اتفاق إقليمي ضم تركيا وإسرائيل بالأساس، لا صلة له بالعوامل السورية نفسها. لم يكن الجولاني ثوريًا بطبيعة الحال، لم يأتِ بانتخابات أو توافق وطني يجمعه من أي من مكونات السوريين، ولم يدخل في مواجهات حقيقية مع جيش بشّار، الذي فر بصمت بعد تخلي حلفائه عنه أو استحالة تدخلهم لنجدته.. انتهت احتفالات التخلص من الأسد، مجرم الحرب. وتصدّر المشهد من كان مصنفًا وقتها على لائحة الإرهاب، ومعه عشرات آلاف المقاتلين السوريين والأجانب، هم من الأغلبية السنية الكاسحة في سوريا، وفي الشرق الأوسط، وفي العالم الإسلامي كله..
ومن اللحظة الأولى لتحوله المسرحي من عباءة الجهاد إلى بدلة رئاسة الجمهورية، كان مشروع الجولاني واضحًا، تصفية كل الأجنحة داخل تياره، حُكم الأقليات عن طريق فرض العنف والإخضاع بالقوة والسلاح، إبقاء الساحة السياسية مغلقة على الاتفاقات الإقليمية والتفاهمات القبلية والطائفية، لا مكان فيها لحركة سياسية يعمل فيها الجميع، أو أن يُمثّل الجميع في تحديد الشؤون المصيرية لـ «الدولة»، وأخيرًا، يرهن ما استطاع من موارد اقتصادية لأطراف إقليمية كالإمارات والسعودية وتركيا بعقود تستمر لـ 30 سنة، ويسعى لتقييد سوريا، تحت حُكمه أو حُكم أي نظام قد يأتي في المستقبل، باتفاقيات سلام وتعاون أمني مع الاحتلال الإسرائيلي، بدلًا عن المطالبة ببساطة بالعودة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي تلتزم به إسرائيل منذ ما بعد حرب أكتوبر/ تشرين 1973.
عنى انتقال الجولاني من إدلب إلى دمشق بعد هروب الأسد الكثير من المستجدات بالنسبة لأطراف خارجة عن المصلحة المباشرة لغالبية السوريين.. للطبقة الحاكمة الخليجية التي قد تشارك إسرائيل الاستفادة من الجنة السورية في الاقتصاد والأمن، للدول الأوروبية التي يشغلها بالأساس بقاء مقاتليهم الذين انضموا إلى الجولاني أو داعش في مناطق الصراع دون عودتهم، أو قتلهم في أرضهم، لإسرائيل التي تفتح لها سوريا آفاق تاريخية في الاتصال برًا بأوروبا، وفي تأمين ممر جوي مباشر لضرب إيران، وكذلك الانتهاء تمامًا من الإزعاج اللبناني أو العراقي المستفيد من جغرافيا نظام البعث، وللولايات المتحدة التي باتت أمام استحقاقات رفع العقوبات والشراكة والوساطة بين من كانت لازال تصنفه إرهابيًا دوليًا والعالم «الحُر»، فيما تنشغل بالأساس بتحويل مركز الصراع بالنسبة لها من الشرق الأوسط إلى الصين.
غير ذلك، مثّلت سيطرة الجولاني، بوصفه إسلاميًا جهاديًا، ضررًا كبيرًا للإمكانات السياسية النادرة في سوريا أصلًا، سواء تلك التي تأطرت في خضم الحرب، كالحركة الاجتماعية في السويداء التي انفردت وحدها بمسؤولية الصراع السياسي الجماهيري ضد نظام الأسد في شهوره الأخيرة، أو الحركة التي استفادت من زخم سقوط الأسد، وكانت تنتظر عودة آلاف اللاجئين السوريين الذين اكتسبوا خبرات في التمثيل السياسي والتفاوض وإجراءات العدالة الانتقالية في بلاد المنفى.
***
في النهاية تفرّقت بشكل ما تلك الكتلة العربية المتكونة على إثر الحرب، وانصرف أغلبها للتكالب على دعم الميول الفاشية للنظام السوري الجديد في حربه ضد الأقليات وفي مساعيه الحثيثة للارتباط بالمحور الإسرائيلي- الخليجي، وباتت أخبار قصف الخيام وتدمير المستشفيات وضرب تجمعات المدنيين في مراكز المساعدات ودس السموم في المساعدات الغذائية، في غزة، أخبارًا اعتيادية، تشعر بعض وسائل الإعلام أنها فقدت قيمتها الخبرية، وساد المشهد العام الكثير من التشوش والتضليل، وتحولت مجرد مهمة تشخيص ما يحدث فقط إلى عبء كبير رغم إلحاحه.
نصف بلد.. وضاحية
مع كل هذه المآسي والتعقيدات، عادة ما تساعدني بيروت في الرؤية من علو وكأنني أنظر من مرتفعات جبل الشيخ، تطل منها على فلسطين وحدود دولة الاحتلال ولبنان وسوريا، وإذا أطلقت العنان لخيالك سترى غزة وسيناء وحتى العراق وساحل شرق المتوسط. أول لافتة على حدود شارع هادي نصر الله تقول: «أرضيت يا رب؟ خُذ حتى ترضى»، نحن الآن على أعتاب أول عاشوراء بعد استشهاد نصر الله. تلك الكلمات تأتي من كربلاء، وطالما شعرت بها كمجازٍ كافٍ للحظة قُتل فيها مشروع جسّده الحسين، تجلى في ثورتي كربلاء والمدينة، وبات عندها الأمل من الخلاص ضلالًا، أقله حتى يأتي الإمام الغائب من غيبته الكبرى، متى شاء الله.
على بُعد خطوات من حيث ألقيت 88 طنًا من المتفجرات على نصر الله، شعرت أني قادرًا على الرؤية من مُتسع، رأيت المستقبل مقبلًا على وقع أصوات المسيرات وقد تحولت إلى خلفية صوتية دائمة، تُذكِر بتهديدات الجيش الإسرائيلي بضرورة الإخلاء فورًا. هنا حيث انحصرت صور الشهداء ورايات الثأر، بعد أن أزالتها «الدولة» من طريق المطار، استعدادًا لقدوم السياح الخليجيين، وخوفًا من أن تزعجهم صور الشهداء- الموتى. انحصرت اللافتات على الضاحية كأنها ترسم حدود غير معلنة للمكان. شعرت كأنها تشكّل خيمة شفّافة كبيرة تغلّف الضاحية مثل قبة حديدية.
قصدت الضاحية لألتقي أصدقاء، يصنفهم الكثير من الناس بـ «البيئة» اختصارًا لـ «بيئة المقاومة». وَصَلت لصديقة منهم، قُتِل شقيقها في الحرب وكان مقاومًا، رسالة بأنهم أخيرًا قد عثروا على «مهدي».. احترت في البداية عن الظروف التي أدّت بأحدهم للضياع لعدة أشهر قبل الظهور مرة أخرى، وفي لبنان؟ البلد الأصغر من حي قاهري.
بالعودة قليلًا للوراء، تحديدًا عندما انتهت مدة الستين يومًا اللاحقة لإتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان ودولة الاحتلال أواخر يناير/ كانون الثاني 2025، لم تلتزم تلك الأخيرة بأي من البنود. لا انسحبت من المواقع التي احتلتها، ولا ابتعدت عن الأهداف المدنية. تمركزت قوات الجيش الإسرائيلي في عدد كبير من مواقع الحافة الأمامية، بعد أن دمرت أغلب القرى التي اجتاحتها خلال الشهرين. إزاء هذا لم تتحرك أي من الأطراف المعنية، لا الدولة اللبنانية، ولا حزب الله، ولا الجيش، ولا قوات اليونيفيل، ولا الدول الضامنة.. كان الناس وحدهم تمامًا، بعضهم حمل أعلام لبنان، البعض الآخر حمل أعلام الحزب ورايات الثأر الكربلائية، وسيرًا على الأقدام عادوا إلى قراهم. دامت اشتباكات بين الناس والاحتلال. مدنيين عزل يحملون أعلامًا ويصرخون في مقابل جنود مدججين بسلاح خفيف ومتوسط ومسيرات ودبابات وطائرات وصواريخ فوسفورية.
في النهاية، طرد الناس قوات الاحتلال وعادوا إلى قراهم بعد أن قُتل منهم 22 شخص وأصيب أكثر من 120 آخرين، وأبقى الاحتلال على خمس مواقع استراتيجية جوار الزمام السكني (ازدادت إلى سبعة في ما بعد). ومن وقتها، يعيش الناس في الجنوب في بيوت جاهزة مؤقتة، أو في منازل مستأجرة في القرى المجاورة، وينتظرون أن تسمح لهم الولايات المتحدة بإعادة الإعمار. أما الدولة اللبنانية، فلا يشغلها الأمر البتة، ولا يبدو أن القاضي نواف سلام، سليل عائلات بيروت العريقة، رئيس الحكومة، يشغله إلا موسم المهرجانات الصيفية واستقبال المطربين العرب.
بخصوص مهدي، الذي بقي في قريته مع عدد آخر من الشباب، وانقطعت أخباره تمامًا من وقتها. بعد 4 شهور على النزوح الكبير من الجنوب والبقاع، عاد الناس يفتشون عن شبابهم.. لم يعثروا على أي أثر للحياة، وجدوا خطابات مكتوبة بخط هادئ تعتذر عن الاضطرار لاستهلاك بعض من زيتون المنزل أو خبزه، وجدوا كتابات بالعبرية على بعض الحوائط تتوعد النساء والأطفال بالموت حرقًا.. وتحت شجرة ظليلة عند حدود الأحراش، لمح أحدهم قميصًا عليه جعبة عسكرية، يشبه تمامًا آخر ما كان يرتديه مهدي. فقط الملابس دون جسد للوهلة الأولى، لكن عندما قبضوا على الملابس فهموا أن الجسد كان قد تحلل، وبقيت فقط جزء من عظام النصف العلوي. هذا ما وجدوه من مهدي.
هذه الحادثة ليست تخيلًا، وليست لقطة فريدة من لقطات الحرب، ولكنها تمثّل مشهدًا يوميًا يعيشه الجنوبيون حتى اليوم. هناك بعيدين عن احتفالات الصيف والألعاب النارية، ملاصقين للنقاط المحتلة التي استبقاها الصهاينة، ممنوعون من البناء، أصلًا ممنوعون من تسلم أية أموال تكفي لإعادة الترميم حتى لو كانت أموال أبنائهم في المهجر. وبشكل يومي، ودون إعلانات تهديدية كتلك التي يصدرها الاحتلال على قناة الجزيرة، تُلقي مسيرة صاروخًا مباشرًا على أحد الرعاة، أو يفجر صاروخ حربي سيارة يقودها خباز، أو تقتحم دبابة حقل عامر بالفلاحين، أو تقتل هدفًا محددًا بقصف منزله بمن فيه، أو تتوغل قوة إسرائيلية لمئات الكيلومترات داخل الحدود اللبنانية لتنسف المزيد من الأحياء، أو استجواب السكان وترهيبهم، ثم تعاود الانسحاب.
مع ذلك، يرفض حزب الله تمامًا، وكثير من مؤيديه، الإقرار بالهزيمة أمام إسرائيل. والأسوأ أن حتى خطابات النقد الذاتي، الآتية من أشخاص يمثّلون ركائز داخل الحزب كمسؤول ملف الموارد والحدود نوّاف الموسوي، يهاجمها الكثير من جمهور الحزب بانفعال غير منفصل عن مرارة الهزيمة نفسها، باعتبارها محاولات لتسجيل النقاط والتذاكي، وليست إشارة على إجراءات ضرورية يستحيل تجاوز الانهزام دون تفكيكها والبناء على نقيضها.. هكذا تمامًا جرى تصنيف التساؤلات عن التقصير الذي أشار إليه الموسوي، في قراءة الأحداث السياسية والدولية وفي الإجراءات الأمنية المتراخية، التي تسببت بشكل مباشر في تفجير أجهزة البيدجر وأجهزة اللاسلكي واغتيال الأمينين العامين حسن نصر الله، وخلفه هاشم صفي الدين.
على الأرجح يأتي هذا الرفض من الشعور الهائل بالانعزال والتخلي العام الذي عاناه الناس، وفي وسط بيئة سياسية انحطت إلى حد أنها تتبنى المطالب الإسرائيلية دون مواراة، بحيث بات حق الناس في المطلق، لا عبر جماعات وأحزاب، في رفض الاستسلام محل رفض واستهزاء. وكذلك في مواجهة موجة مسيطرة لا تريد في الأصل إلا الاستسلام دون شرط، موجة تدفعها زمرة تضم كتابًا وصحفيين ومؤثرين وموظفين/ أصحاب جمعيات حقوقية، تعادي السياسة في المطلق، ولا تقبل أن ترى الفلسطيني إلا وهو ينوح بعد أن قتل الاحتلال عائلته برمتها، أو ربما كفنان معاصر يفتح آفاقه على ما هو أكثر من ذلك «الكيتش» الموصوف بـ «المقاومة»، بشرط طبعًا أن يمارس هذا الفن في منفاه الأوروبي أو في مخيم ما، بعيدًا عن فلسطين وعن أي مساحة ممكنة للفعل السياسي المباشر المقاوم للاحتلال.
وبخصوص رؤية تلك الزمرة لـ «الأوغاد» في حزب الله، فالمشكلة معهم ليست الطائفية ولا التحالف مع النظام الأوليجارشي وحمايته ورعاية مصالحه، ولا حتى المشاركة في الدفاع عن نظام الأسد، المشكلة الوحيدة هي أنه يصر على مقاتلة إسرائيل (تلك الدولة المتحضرة، نقطة الضوء وسط ظلامنا المُخجِل)، وربما أيضًا لأن الشيعة عمومًا يلطمون، دائمون البكاء، ويقولون عن موتاهم «سُعداء»، ويقفون على نقيض الإجماع اللبناني بضرورة «حُب الحياة».
عمومًا لم تمنع النبرة الانتصارية للحزب، تحت قيادته الجديدة، حقيقة انكشاف الحزب أمنيًا وعسكريًا، ولا منعت انتشار حقائق عن أداء مفزع شهدته المعركة الأخيرة، كفرار بعض المسؤولين العسكريين من مواقعهم، أو بقاء الكثير من الجنود والضباط دون استدعاء لأي مهام قتالية، وذلك بالطبع رغم صمود المقاتلين في الجنوب، الذي نفّذه بالأساس المقاومين في قراهم ومواقع حياتهم الطبيعية، واستطاع وقف آلة الاجتياح والقتل الإسرائيلي عن التوغل والاستقرار في المناطق.
كذلك، لم تخفي صدمة الجميع، كما صُدم نواف الموسوي، من بقاء نصر الله حيث قُتل في وسط الضاحية، حتى أن بعض الصحفيين المقربين من الأجهزة الأمنية ومن حزب الله قالوا إن العدو الإسرائيلي كان لديه معلومات عن المنشأة التي قتل فيها نصر الله، سلمها لهم جاسوس كان يعمل في صيانة ممرات تهوئة منشآت الحزب التحت أرضية، عندما فر نحو الأراضي الفلسطينية في العام 2010، غير أن الحزب اكتفى بتنفيذ بعض التعديلات الهندسية وزيادة التحصين.. ربما هذا نفسه ما دفع الموسوي في نفس اللقاء، إلى الإشارة باستنكار إلى أن المنطق الأمني الذي كان يتوجب اعتماده هو «التخفي» من العدو، وليس «الاحتماء» منه.
لم تمنع النبرة الانتصارية كذلك مواصلة إجراءات تعزيز الهزيمة وتعميقها لما هو أكثر من التدمير غير المسبوق في البنية التنظيمية والعسكرية، وما هو أكثر من فصل الجبهة اللبنانية عن الفلسطينية، كأن تلتزم الدولة اللبنانية، بإدراك الحزب وموافقته الضمنية، باتفاقات غير معلنة تتيح: فرض حصار مُحكم على مطار بيروت وتفتيش رحلات جوية بعينها خصوصًا الآتية من إيران والعراق، واطلاع الولايات المتحدة، ومن ثم إسرائيل، على قوائم المسافرين، مقابل ضمان ألا تقصف إسرائيل المطار. وكذلك اتفاقات تلزم الجيش اللبناني بتفتيش أي مواقع يدعي الاحتلال الإسرائيلي صلتها بحزب الله، ليس جنوب نهر الليطاني فقط وإنما في كامل الأراضي اللبنانية. على الأقل تم الالتزام بذلك مطلع يونيو/ حزيران الماضي في عدة مواقع في ضاحية بيروت، قصفها الاحتلال بـ 23 غارة جوية بمجرد انسحاب الجيش اللبناني منها وتأكيده خلوها من أي أهداف عسكرية.
كيف حصل هذا؟ وكيف غابت الجماهير العربية، التي كانت تنتفض لتوها في السودان والعراق ولبنان نفسه، وبالأمس القريب في مصر وتونس وسوريا والجزائر والبحرين؟ وكيف صمت قادة العرب والمسلمين؟ بل وذهبوا إلى مشاركة الاحتلال في الأمن والاقتصاد؟
في النهاية، وبغض النظر عن الدعوى التي يسوقها الكثيرون من الراغبين في الحفاظ على أسباب الإخفاق قائمة، هناك حقيقة ساطعة لا يمكن تجاهلها: الحزب القوي المتماسك، الذي كان يعاني أساسًا من فائض القوة، ويثق قادته في سيطرتهم على مسار الحرب، ويعلم القاصي والداني أن لديه خطة عسكرية لاقتحام فلسطين المحتلة من جهة الجليل، وأن تلك الخطة ستنفذها قوة اسمها «وحدة الرضوان»، هذا الحزب استطاع الإسرائيلي في لحظة واحدة القضاء على خطته تمامًا، واغتال مسؤول الوحدة ومعظم أعضائها، وذلك في الوقت نفسه الذي نجحت فيه المقاومة الفلسطينية، البدائية المحاصرة في غزة، في تنفيذ خطة مطابقة، ونفذوها باقتدار وجلال، ودون أدنى ضجيج.
هذه المفارقة تبدو واحدة من مظاهر الفارق المفزع بين لحظة 7 أكتوبر واللحظة الحالية. بدأنا بجولات مفتوحة من القصف الصاروخي وإطلاق المسيرات من 4 جبهات مختلفة رفعت شعار «وحدة الساحات»، ووصلنا حد الدعاء أن يصمد نظام عبد الفتاح السيسي في مقاومة الجهود الأممية لتهجير الغزيين إلى سيناء. كيف حصل هذا؟ وكيف غابت الجماهير العربية، التي كانت تنتفض لتوها في السودان والعراق ولبنان نفسه، وبالأمس القريب في مصر وتونس وسوريا والجزائر والبحرين؟ وكيف صمت قادة العرب والمسلمين؟ بل وذهبوا إلى مشاركة الاحتلال في الأمن والاقتصاد؟
الواقع يأتي مرّة واحدة
عند النظر إلى أحداث الماضي، عادة ما يطرأ خطأ متكرر في تخيُل الشكل الذي تكوّنه الأحداث فترسم حركة التاريخ. يتصورها البعض خطًا أفقيًا يسير آليًا نحو الحاضر، ربما تصيبه بعض المنحنيات المدفوعة بأحداث عظيمة. العاطفيون يميلون لتصور مسارًا دائريًا يتكرر دون كلل، منهم من يرونه يتصاعد ثم يُدفع لأسفل ويعود ليرتد ويرسم بعض الحركة، لكنه يتحرك ضمن طيف محدد يُعيد إنتاج ماضيه بصورة حتميّة وكئيبة.
وبالمناسبة، ليس غريبًا أن يتذاكى الكثير من الليبراليين في ملاحظة كيف أن كارل ماركس افترض أن التاريخ يسير في اتجاه خطي واحد نحو انهيار الرأسمالية مدفوعًا بالحتمية التاريخية. في الحقيقة هذا نقد مخادع، إذ أنه في تقديمه لكلام ماركس يتجاهل عامل «الديالكتيك»، وهو عامل لا يجوز تجاهله في قراءة الأحداث وتشخيصها، ومن ثم العمل عليها، ماركسيًا.
كما أنه يتجاهل نقد ماركس نفسه للتحليلات الاقتصادوية للرأسمالية، والتي أتاحت، كما قال المفكر الماركسي الراحل سمير أمين في كتابه: «أزمة الامبريالية: أزمة بنيوية»، تقديم مفهومٍ متكامل للماركسية، خصوصًا بعد اكتمال أفكار ماركس في كتاباته الأخيرة: «ليس باعتبارها نظام اقتصادي ولا نظام اجتماعي، ولكن بوصفها العلم الاجتماعي للممارسة الاشتراكية الثورية»، وبالتالي فهي توجب النضال ومحاولة عكس وكسر السيرورة.. عمومًا لسنا هنا في محل الدفاع عن الماركسية ضد نفس الدعاية الكاذبة التي تواجهها منذ ما يقرب القرنين من الزمن.
في كل الأحوال، لا أتخيل أن تلك المسارات، الخطية الأفقية البسيطة أو الدائرية الأبدية، تساعدنا على النظر لأي من اللحظات، ماضية كانت أو حاضرة، بشكل صحيح. أقلّه، فهي تُخفي تعقيدات هامة تؤثر على الآلية الحاكمة لحركة الأحداث، وللطريقة التي قد تتيح لنا إيجاد مكان لمصالح أغلبية الشعوب في المستقبل الحالك القادم.
أتخيل أحداث الماضي دائمة التراكم في مسار خطي، يتحرك نحو الأعلى. كأن الأحداث تتراكم داخل أسطوانة فوق بعضها في مسار أبدي الحركة ينتهي إلى حد دائم التفلت، هو الحاضر. هو ما آل إليه المشهد بعد تراكم ملايين «لحظات حاضر» سابقة فوق بعضها ليتشكّل في النهاية، إذا ما نظرت من أعلى وأردت معاينة اللحظة الأخيرة، مشهدًا فريدًا يضمه إطار محدد يجسّد اللحظة الراهنة، وما أن يتشكل المشهد حتى تتراكم لحظات جديدة فوقه فيصير ماضيًا. يفوت في نفس اللحظة التي ندركها فيه، ويتغير للأبد.
يمكننا الحسم، أن تلك اللحظة التي ينتظرها البعض، التي نرى فيها واقعًا متخلصًا تمامًا من ملامح الماضي، ولا يحمل إلا ملامح جديدة، لن تأتي أبدًا.
وتحدث الخدعة هنا عادة عندما يرى البعض تفاصيل الماضي حاضرة في اللحظة الحالية فيظنون أننا نعيشه مرة أخرى. فيقولون مثلًا إن قدر المصريين أن يعيشوا إما تحت سلطة عسكرية أو أخرى دينية. أو أن التاريخ يُعيد نفسه في سوريا ليعيد إنتاج نظام بعث جديد. لكن في حقيقة الأمر إن ذلك الماضي يتمثًل، شأنه شأن أي ماضي، في اللحظة الحالية، لكنه ومع ما ثبتّته باقي الأطراف الحاضرة في نفس المشهد، يشكلون جميعًا صورة من نسخة واحدة لا تتكرر. ويمكننا الحسم، أن تلك اللحظة التي ينتظرها البعض، التي نرى فيها واقعًا متخلصًا تمامًا من ملامح الماضي، ولا يحمل إلا ملامح جديدة، لن تأتي أبدًا.
تشكّل تلك الإسطوانة بالنسبة لي آلة أرى عبرها الأمور، إنها تساعد في رؤية المشهد بكل تفاصيله، دون تجاهل وضعيّة كل مكون ونصيبه من الصورة الكلية. كما تساعدنا إذا ما ارتدينا عدسات محددة لرؤية التاريخ، أي بحسب منطق أو منهج محدد، أن نرى الأمور بشكل يتيح لنا قراءتها بعمق ضروري ومفقود، كعدسة الاقتصاد السياسي مثلًا، أو تطور سلطة العائلة واستغلال النساء.
وِفق هذا التخيُل، وذلك الوعي بماديّة القوى المؤسِسة للواقع، فإن النظر لترتيب الأحداث والوقائع وفق افتراض مُتخيَل، تفرضه الأيديولوجيا أو العادات الجماعية أو الهوى الفردي، لا يضمن فقط فقدان أجزاء كاملة من الصورة، إنما ضياع منطق حركة الأحداث بالكامل. تسحقك الحركة المادية الأكيدة للتاريخ، تتجاوزك بالكامل، ويفوتك ما لا يمكن تعويضه في مسعى تشخيص الواقع، وبالتالي تصوّر إمكانيات تغييره.
هكذا، فإن الأحداث الكبرى عندما تقع، فإن شرط أهميتها هو ابتلاع العديد من ملامح الوضع القائم وفرض نفسها بدلًا عنها، إنها تستأثر بأغلب مساحة المشهد العام. يمكننا اعتبار أن اللحظات الكبرى هي لحظات تضطرب عندها السيرورة الطبيعية للأحداث، ويختفي الكثير من المتوقَّع، ويظهر الكثير من المفاجئ. هكذا يمكننا اعتبار لحظة 7 أكتوبر لحظة توقَّفَ عندها الزمن لإعادة ترتيب نفسه وفق المستجدات. وهكذا يمكننا اعتبار اللحظة الحالية، هي لحظة هزيمة ممتدة منذ شهور، وعلى الأرجح ستمتد إلى سنوات، أو عقود من الزمن.. وتلك اللحظة الأخيرة تحمل الكثير من الملامح الجديدة، التي تستدعي فهمًا وتواضعًا كبيرًا في النظر إليها، كشرط تأسيسي لإمكانية تجاوزها بما فيه مصلحة لغالبية شعوب المنطقة، بالتأكيد ليس بمنطق تسجيل النقاط على حركات المقاومة، أو تجاهل مآسي الواقع والقفز إلى تبني قيمًا عدمية، وإنما كقراءة مُخلصة لمنطق المقاومة نفسه، تسعى لتعزيزه وتسييده واستلامه لزمام الأمور..
وهكذا أيضًا، فإننا عندما ننظر إلى أحد تلك الأحداث الكبيرة، فإننا لا نراه منعزلًا عن وضعًا معقدًا أنتجته تفاعلات وعوامل الماضي، ولكننا نراه متداخلًا مع عدد هائل من التغيرات والتعقيدات والتناقضات، إذ لا شيء يأتي متناسقًا في اتجاه واحد أبدًا، كل الأمور تحمل داخلها العديد من التناقضات.
لو أردنا مثلًا معاينة وضعية حزب الله في جنوب لبنان في اللحظة الراهنة، في العام 2025، فشرط دقة تلك المعاينة أن تتضمن كذلك: هزيمة العرب في 1967 وانسحاب مصر من الصراع العربي الإسرائيلي مع توقيع اتفاق كامب ديفيد، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران ومخاصمتها التأسيسية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وضعًا في الاعتبار صلتهما العضوية بنظام الشاه، وكذلك الحرب التي أوكل فيها الأمريكيون صدام حسين ضد إيران ودامت 8 سنوات، وبالتأكيد سقوط نظام صدام حسين نفسه في 2003 على يد الاحتلال الأمريكي الإنجليزي، وما تلاه من استراتيجية إيرانية متناقضة تجاه الدول العربية، فيما تلعب دورًا أساسيًا في دعم حزب الله في لبنان، إلا أنها في العراق ترعى الصراع المذهبي مباشرة وتدفع نحو الغرق في الفساد المركب. ربما علينا أن ننظر كذلك إلى سقوط الاتحاد السوفيتي وما تبعه من آثار حادة على عمل الحركات الستالينية، والسياق الطبقي الذي تقاطع مع حرمان تاريخي عانى منه شيعة لبنان، أفرز الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيدين موسى الصدر ومحمد حسين فضل الله، تمامًا كما أفرز المُنظِر الشيوعي الفذ حسن حمدان (مهدي عامل) في سياق آخر.. والكثير من الأمور الأخرى، شاركت جميعًا في تكوين الصورة التي يقف عليها الحزب في اللحظة الراهنة.
بحسب التصور السابق، فإننا في سياق محاولة قراءة الصورة الإقليمية الحاكمة لحياة عشرات ملايين البشر، بما فيها من مراكز قوى ومناطق مقاومة محتملة، يمكننا العودة لأي من اللحظات التأسيسية المُمَثلة في المشهد الحالي، كحرب العراق في 2003، أو هزيمة العرب في 1967، أو النكبة، أو بداية استخدام القوة الآلية في الإنتاج ومراكمة الأرباح. غير أن السياق الحالي يطرح تحديدًا لحظة 2011، باعتبارها اللحظة التي داهم فيها فاعل جديد مفاجئ ومزاجي ولديه إمكانيات كامنة قادرة على تحطيم كل الخطط والاعتبارات، هو الجماهير العربية التي جرّبت نفسها في تونس، وأكدت على سلطانها في مصر، ثم انتقلت كالريح إلى ليبيا والبحرين والسعودية وسوريا والجزائر ولبنان وفلسطين والأردن.. ثم خسرت في كل هذه الساحات.
مراجعات إسرائيلية وخليجية.. والمقاومة مُعطّلة
في 2011 استفاقت الأطراف الفاعلة في المنطقة فجأة على حقيقة جديدة، أغلب تلك الأطراف لا يدركها أصلًا، أو لا يقر بقدرة شعوب هذه المنطقة إلا على أن يكونوا عمالة رخيصة بلا حقوق تُذكر. فجأة باتت كل الأطراف، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاحتلال الإسرائيلي والطبقات الحاكمة ومراكز رأس المال، والأطراف التي تقاوم كل هؤلاء، وغيرهم، أمام تساؤلات جديدة ومفاجئة، تتطلب تدخلًا سريعًا لما يحفظ مصالح كل منهم.
بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، كان النظام الإقليمي، الذي يتشارك النفوذ الرسمي فيه مصر والسعودية بشكل أساسي، قبيل تفجر الثورات العربية مستقرًا وواضحًا، ويتيح له عدة أمور: أولًا، إدارة العلاقة مع دول التطبيع العلني (مصر والأردن) على أساس ما يحقق المصلحة الإسرائيلية، بخروجهما من الصراع والمشاركة في حراسة الاحتلال، وبالاستغلال الاقتصادي المباشر ( الغاز المصري الرخيص مثلًا، أو حصص الأردن التاريخية من المياه). ثانيًا، البحث دائمًا عن صلات خفية مع العائلات الحاكمة في الخليج، مع تولي الولايات المتحدة أساسًا إدارة الخليج من واشنطن. وثالثًا، الاشتباك مع أي محاولات للمقاومة، وهي محصورة بين فلسطين ولبنان، وقمعها وعزلها عن محيطها. وأخيرًا، حماية حلفاء الولايات المتحدة ورعاية مصالحها في المنطقة. ولتحقق ذلك كله، فلها أن تعقد الحروب مع الحركات المسلحة، ولها المشاركة أو فتح الحروب النظامية بعد استئذان الولايات المتحدة، ولها إمكانيات تسليح مفتوحة تضمن تفوقها دائمًا على محيطها، ولها أن تدير الصراعات الأهلية والعسكرية من الخفاء، كما حصل في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) أو الحرب العراقية الأيرانية (1980 – 1988).
بسقوط مبارك على إثر ثورة 25 يناير، بات ذلك الترتيب كله مُهَدَدًا، وهذا ليس مبالغة في قيمة الرجل ولا نظامه، ولا متعلقًا بكونه تابعًا أمريكيًا وحليفًا إسرائيليًا فقط، ولكنه ارتبط أساسًا بحركة ملايين الناس في الشارع، وهم لكي يسقطوا مبارك هدّدوا استقرار الملاحة في قناة السويس وأعلنوا قدرتهم على تعطيل الاقتصاد وحركة التجارة العالمية. أظهرت ثورة المصريين من لحظتها الأولى عداءً علنيًا وجامعًا للاحتلال الإسرائيلي، بداية من مخاطبة مبارك بالعبرية كعلامة كافية على العار، مرورًا بمحاولة اقتحام بيت السفير الإسرائيلي في المعادي قبل حتى أن يسقط مبارك، وقد قُتل في تلك المحاولة عدد كبير من الثوار غير المعروفين، انتهاءً بمحاصرة السفارة نفسها في الجيزة، واقتحامها من قبل عدد كبير من المتظاهرين، أحدهم تسلق 13 طابقًا لإزالة العلم الإسرائيلي ورفع العلمين المصري والفلسطيني، استولوا على ملفات وأوراق، وهرب طاقم السفارة تحت حماية إسرائيلية مدججة، غير تفجير خط نقل الغاز من مصر إلى إسرائيل أكثر من 30 مرة وسط احتفاء شعبي لافت، وظهور مطالبات جادة بين الثوار بتجميد الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، بما فيها اتفاقية كامب ديفيد.
بمجرد سقوط مبارك، تبدّل الوضع مع إسرائيل دون مقدمات، من علاقة مع بلد يشاركها حصار غزة ويساهم في دعم حروبها على الفلسطينيين بكل ارتياح، وتستهلك موارده الاقتصادية بأثمان بخسة، إلى دولة من المحتمل أن يقودها نظام جديد مُعادي، يُضيع ما بقي من آثار كامب ديفيد، والأسوأ، بلد قادر على إنتاج نماذج جديدة للمقاومة، أو أن تعود ببساطة لموقعها الأصلي كدولة وطنية راعية للحركات المسلحة في المنطقة، الموقع ذاته الذي تخلت عنه بتوقيع اتفاق كامب ديفيد، وتُرك فارغًا تلهو فيه أنظمة البعث والقذافي، حتى ملأته إيران على طريقتها.
بالنسبة للطبقة الحاكمة الخليجية، وقد استقرت التغيرات فيها بموت الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، وبداية عهد أخيه سلمان بن عبد العزيز، وهو يعاني من وضع عقلي متدهور، ليكون الحاكم الفعلي ابنه، محمد بن سلمان، ليصل بذلك الجيل الثالث من آل سعود لقمة الحكم لأول مرة. وكذلك بتقدم محمد بن زايد لقيادة جهود الإمارات في التوسع الاستعماري وتحريك الحروب بالوكالة والانخراط في الجرائم ضد الإنسانية، بالنسبة لهذه الطبقة كان الوضع معقدًا أكثر، وإن كان السؤال الأساسي فيه بسيطًا: «كيف نحفظ حُكمنا؟» تبعية مبارك للأمريكان وتحالفه مع إسرائيل لم يحمياه، جبروت العائلات الخليجية المالكة لم يُبعد البحرين عن المد الثوري، حتى السعودية التي احتلت البحرين عسكريًا لتجهض ثورة الناس، التقطت العدوى فتحرك سكان الشرق، وأغلبهم من الشيعة. وعاد الخوف الهستيري القديم من التقاط عدوى ثورية من إيران (تفضل تلك الطبقات استخدام مصطلح: تصدير الثورة) قائمًا واقعًا بقوة. حتى بشار الأسد ومعمر القذافي، انقلبت بلدانهم المغلقة إلى ملاعب مفتوحة لمخابرات ومخابيل العالم.. فكيف ينجو حكام الخليج وسط هذا كله؟
على الجهة الأخرى من تلك المعسكرات، حركات المقاومة في المنطقة، منقسمة بين الإسلام السياسي السني، ممثلًا في جماعات الإخوان المسلمين بالاضافة لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والأخرى من الإسلام السياسي الشيعي، ممثلة في حزب الله، باتوا جميعًا أمام أوضاع جديدة لم تكن في الحسبان.
لم تطرح تلك الجماهير نفسها باعتبارها كتلة واحدة ذات مصالح مشتركة، بل كانت موزعة على خريطة إجتماعية تضع مثلًا رأس المال السني في سوريا في جانب النظام الموصوف باختصار مضلل بـ «العلوي»، وتتضمن تناقضات كأن يتحول سكان المناطق السياحية الفقيرة في مصر، وهم ضحايا تاريخيين لبطش الداخلية، لأداة في يد الداخلية نفسها لقمع الثورة.
كانت أهم المستجدات التي داهمت هؤلاء، أن الموجة الثورية الإقليمية قدّمت الجماهير بمنطق تصر تلك الحركات على رفضه، أي كفاعلين اجتماعيين قادرين على الفعل السياسي الكبير والمؤثر، وتغيير الأنظمة السياسية، وقلب الخريطة الإقليمية كلها، وهؤلاء ليسوا عملاء، وليسوا ضحايا لمؤامرات مخابراتية. كذلك، لم تطرح تلك الجماهير نفسها باعتبارها كتلة واحدة ذات مصالح مشتركة، بل كانت موزعة على خريطة إجتماعية تضع مثلًا رأس المال السني في سوريا في جانب النظام الموصوف باختصار مضلل بـ «العلوي»، وتتضمن تناقضات كأن يتحول سكان المناطق السياحية الفقيرة في مصر، وهم ضحايا تاريخيين لبطش الداخلية، لأداة في يد الداخلية نفسها لقمع الثورة.
باختصار، قدّمت الجماهير العربية نفسها بالمنطق المناقض تمامًا للمنطق الذي تراهم به حركات المقاومة حتى اليوم عندما تتحدث عن «شعوب عربية» و«أمة إسلامية» تضم ملياري مسلم، مواطنون ومواطنات ورجال أعمال ومافيات فساد وتنظيمات طائفية وقادة جيوش وملوك وأمراء ورؤساء دول، من المفترض أن ينتصروا جميعًا للمسجد الأقصى ويهبّوا للدفاع عن قضية العرب والمسلمين.
جاءت ثورة الشعوب العربية في مطلع 2011، وقد كانت حركات المقاومة تلك في موقع الحاكم. حكمت حماس غزة، وبات حزب الله شريكًا أساسيًا في النظام السياسي اللبناني وضامن له. توسع مجال حركات المقاومة ليضم إلى جوار العمليات العسكرية والأمنية، مواجهة مطالب الناس المعيشية، والتعامل مع حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وكانت الحركات هذه، عن حق، نموذجًا للحكم الفاشل ولتطبيق سياسات اقتصادية وسياسية مناقضة لمصالح الناس، فلم تتماهى فقط مع حكم لصوص المصارف وبرامج صندوق النقد الدولي، ولكنها اضطرت لتحفظ توازناتها الداخلية والإقليمية إلى التحول عن هدف «المقاومة» نفسها بالتحالف مع قوى يمينية فاسدة في لبنان، أو بالتورط في الصراع العسكري السوري والمشاركة في تطييفه وتدويله، أو بتقييد عمل الفصائل المقاوِمة في غزة.
وللمفارقة وجد كل من حماس وحزب الله في المد الثوري ذلك وضعًا مناقضًا تمامًا. فحماس، التي كانت تعيش تحت الحصار المصري الإسرائيلي دفعها لاعتماد تكتيكات بدائية في الحرب والحفر والتخفي، وأجبرها على التعايش مع الضغط الأمني الكبير لنظام مبارك، انفتحت الآفاق أمامها بسقوط مبارك والصعود الكبير للإخوان المسلمين. فجأة بات السلاح يأتي من ليبيا إلى غزة وكأنه في جسر بري لا ينقطع. حَكَم الإخوان مصر، فأعادت حماس تموضعها في سوريا ووقفت ضد نظام البعث، وشاركت في العمل المُسلح المضاد له. اندمجت الحركة تحت قيادة خالد مشعل، مع توهم إقليمي عام بأن الجماعة الأم، استلمت حُكم المنطقة، وأن هذا وقت التفاوض مع الأمريكان، وليس الاستفادة من المستجدات تلك في تعظيم وتطوير العمل المقاوم.
أما حزب الله، الذي كان يتمتع بترتيبات استثنائية مع سوريا، الدولة اللصيقة، لطالما سمحت له باستخدام الأراضي السورية ونقل السلاح والمقاتلين وحتى المساهمة في التدريب والدعم السياسي، حتى كاد أن يتحول إلى تجمّع من قوات نخبة الجيوش النظامية، بات أمام تهديدٍ مباشر بفقدان تلك الساحة، حال سقط الأسد وأغلقت المعابر عليه وانقطعت عنه خطوط الإمداد الآتية من إيران والعراق، ليواجه إسرائيل والبحر، وطوفان محتمل من المقاتلين والانتحاريين الجهاديين، وهم لهم بيئة حاضنة واعدة بين جمهور السنة الأكثر فقرًا في لبنان.
**
كان كل هؤلاء شركاء في رسم الخريطة السياسية عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه منتصف ديسمبر/ كانون أول 2010، بما فيها من صراع وتناقض حاد وعنيف، وفجأة داهمتهم حركة الناس، وداهموا أنفسهم بالتصارع حول النفوذ، ومن ثم السلطة في المنطقة. بات الاستحقاق الأساسي أمام كل هؤلاء، وكل من يريد الانضمام إلى الخريطة الجديدة، قطر مثلًا أو تركيا، هو مواجهة كل تلك المتغيرات وإجابة تلك الأسئلة الصعبة، ووضع التصورات للتعامل معها، والمُضي في سياسات جديدة بالكامل، تفرضها قراءة كل منهم لما يحدث.
في النهاية، وعلى مدار السنوات بين 2011 وحتى أطلق محمد الضيف إشارة بدء الطوفان بعد 12 سنة، كانت المنطقة قد مرت بعدة طوفانات أخرى.
أول نتائج دخول الجماهير على خط القوى المحركة في المنطقة، أن تأكدت المؤسسات العسكرية والاستخبارية وجزءًا معتبرًا من النخبة السياسية الإسرائيلية أن عليهم تحريك الوضع الراسخ تاريخيًا، وتوسيع وظيفة دولتهم لتتضمن إلى جانب الوظيفة الأصلية التي فرضها اكتشاف الأهمية العسكرية والاقتصادية للنفط أثناء الحرب العالمية الثانية، وصعود الولايات المتحدة لموقع قيادة العالم على حساب قوى الاستعمار القديم، لتتضمن تسلُّم جزء من الآليات الأمريكية لإدارة المنطقة بنفسها، وهذا يعني أن تكون هي نفسها طرفًا ثالثًا راعيًا ومنسقًا بين الأطراف الأساسية في المنطقة (سياسية كانت كمصر، أو ذات أبعاد اقتصادية واستراتيجية أعمق كالسعودية والإمارات).
وفي هذا الوضع، تسعى إسرائيل لربط المستقبل الاقتصادي والسياسي لتلك الأنظمة بمشاريعها القائمة على التوسع والسيطرة أساسًا، ولا يعنيها نموذج التطبيع القديم الذي تبيّن فشله في مصر، فلا طائل فعلي من جهود التطبيع الاجتماعي، الأمر مرتبط حصرًا برؤوس الأموال والطبقات الحاكمة.
وبالتالي، فإن وقع شعوب المنطقة في العقل الإسرائيلي هو الإخضاع بممارسة أبشع صور القتل والتجويع والإبادة والمفاخرة بالجرائم ضد الإنسانية، على أن يكون ذلك متزامنًا دائمًا مع تجريف ممنهج لبيئة العمل السياسي لدى هذه الجماهير، بما يضمن أن يكون انفجارهم متجهًا دائمًا نحو الداخل (في صورة حروب أهلية أو صراعات مذهبية)، وليس نحو الخارج (أي نضال اجتماعي واعٍ وموجه ضد النظام).
ولعل أوضح علامة على ذلك قدمتها إسرائيل في سوريا، عندما سيطر الجولاني على مفاصل الدولة، وبات واضحًا أنه يسعى حثيثًا للانضمام إلى موجة اتفاقات السلام في المنطقة. بالطبع إسرائيل تريد تأسيس علاقة مستقرة مع سوريا، لكن دون أوهام. فلو كان الجولاني، أو بالأحرى أنصاره، يتخيلون صلات طبيعية بين دولة وأخرى، فإن إسرائيل تريد اتفاق استسلام وخضوع كامل، تسيطر فيه على الحدود، ليس فقط حدودها، وإنما كامل الحدود السورية، وتتحكم في مستوى وحجم والتسليح، وتمارس عملياتها العسكرية، جوية كانت أو برية، بحرية كاملة ودون أية عواقب على الإطلاق.
كل ذلك يرجّح أن الموقع السوري في المخيّلة الإسرائيلية ليس مرشحًا للشراكة، وإنما للإدارة والنهب المنظم، وأن هذا البرنامج لن ينفذه وكلاء محليين، رغم مساعي وجودهم ورعايتهم، ولكنها ستحكم الأجواء والحدود وخريطة السلاح بنفسها، وبالصواريخ
ولن يحمي الجولاني، ولا نخبته الدعائية، التكارم مع حكومة الاحتلال بالاقدام على تنازلات غير مطلوبة، كعقد اتفاقات أمنية مُلزمة لأي حكومة ديمقراطية حقيقية ومنتخبة قد تأتي يومًا ما في سوريا، فمهما ذهبت الإدارة السورية، أو أي إدارة قادمة، في طريق النموذج الإماراتي، وبما أن هندسة الصلة بين سوريا الجديدة وإسرائيل تحصل بيد إماراتية بالأساس، فلن تطاوعهم إسرائيل في هذا المسعى الساذج. لن تكون حلب يومًا ما دبي، ولن ترعى دمشق نفوذًا استعماريًا واعدًا يثير الإعجاب، وبالطبع لن يزيل الصهاينة من وعيهم الراسخ احتمالية دائمة أن تُخرِج سوريا نسختها الخاصة عن المقاومة. كل ذلك يرجّح أن الموقع السوري في المخيّلة الإسرائيلية ليس مرشحًا للشراكة، وإنما للإدارة والنهب المنظم، وأن هذا البرنامج لن ينفذه وكلاء محليين، رغم مساعي وجودهم ورعايتهم، ولكنها ستحكم الأجواء والحدود وخريطة السلاح بنفسها، وبالصواريخ.
في المشهد الجديد في الخليج، وعلى عكس الشائع، لا يريد كل من محمد بن سلمان ومحمد بن زايد مكانًا كبيرًا للآخر. وتبقى حقيقة كون الشاب بن سلمان ينتمي لجيل ابن الشيخ بن زايد، خالد، كحلقة في الجيل الثالث من العائلة الحاكمة، كإشكالية تستنفر بن زايد دائمًا. كما تناقضت مصالح الحاكمين في عدة ساحات حتى أنهم تقاتلوا صراحةً في اليمن. وإذا كانت الإمارات تخضع بالأساس لتوازنات قبلية ومالية تقع الآن لصالح آل زايد، فإن الحسابات في السعودية تختلف تمامًا، إذ أننا نتحدث عن بلدٍ كبير، يمثّل مركز العالم الإسلامي، شهد تاريخه العديد من الخبرات النضالية الاجتماعية، وفي القلب من هذه النضالات 15٪ من السكان، يعتنقون المذهب الشيعي في الشرق الغني بالنفط والمطل على مياه الخليج، وهؤلاء طالما اعتبرتهم المملكة أداة محتملة في يد إيران.
رجّح التناقض والتنافس بين النظامين قليلًا كفّة الإمارات التي استغلت جيدًا انسحاب السعودية من معظم مناطق نفوذها الإقليمي بسبب انشغال الأمير الطموح في ترتيب بيته الداخلي، عندما اعتقل عشرات الأمراء ورجال الأعمال والمئات من شيوخ وكتاب ورموز تيار الصحوة في العام 2017، وتمدّدت الإمارات للسطو على المساحة التي شغلتها السعودية بالأساس في اليمن وسوريا والعراق، بالإضافة لمزاحمة مصر في مناطق نفوذها في السودان وليبيا، حتى بدأت تفرض سياسات السيطرة على مصر نفسها مستغلة فشل الإدارة الاقتصادية للنظام الحاكم. رغم ذلك، ثمّة أمور أساسية جمعت بين المحمدين دائمًا: الاستعداد دائمًا لخلق الصراعات الدموية والتورط في جرائم الحرب بحق الشعوب العربية، وممارسة السياسة الإقليمية بأدوات ومنطق استعماريان، واعتبار إسرائيل ضمانة وجودية للاستقرار ومعبرًا واسعًا نحو المستقبل.
في الحالة السعودية، يمكننا النظر إلى عدة أمور تبدو دالة على توجهات النظام في ما يتصل بالعلاقة مع إسرائيل. عبّر لي صديق على صلة عميقة بهذا الإطار مرة عن رؤيته للموضوع، قال: «بن سلمان عندما أراد أن يبني رمزًا لحكمه ولمشروعه المستبقلي، اختار مكانًا ناءٍ دون خدمات أو طرق، واضطر لخوض صراعات مع القبائل كان في غنى عنها، لا لشيء أكثر من أن يكون مشروعه المستقبلي واقعًا ضمن الغطاء الصاروخي الإسرائيلي».. قصد الصديق مشروع «نيوم»، وهو واحد من أهم رموز رؤية بن سلمان لحكمه، المسماة «رؤية 2030».
ليس غريبًا أن مشروع «نيوم»، المرتبط دائمًا بالترويج إلى «الاقتصاد الأخضر»، و«تبييض سمعة الشركات بيئيًا»، يضم عدة مشروعات للتكنولوجيا الفائقة والاستدامة والتحول الأخضر، وهي كلها مجالات «تبرع» فيها إسرائيل، ولطالما كانت واحد من أهم أساسات شراكتها الاستراتيجية مع الإمارات.
أعلن صهر ومستشار دونالد ترامب السابق، جاريد كوشنر، الحصول على إلتزام من الصندوق السيادي السعودي باستثمار ملياري دولار في شركات ناشئة إسرائيلية
ولم ينتظر بن سلمان كأسلافه عقد سلام واتفاقات للتبادل الدبلوماسي مع إسرائيل ليساهم في تمويل الشركات الناشئة الإسرائيلية عن طريق صندوق الاستثمارات السيادي. بدأ ذلك بعد العام 2018 كجزء من خطة احتواء آثار قتل المعارض السعودي جمال خاشقجي وتقطيع جثته بالمنشار في قنصلية بلاده في تركيا، فضخّت السعودية أموالًا طائلة في شركات استثمار أمريكية، وعن طريقها موّلت شركات للتقنيات الفائقة الإسرائيلية، ضمن إطار يضم عدة مبادئ، من بينها: تجنب الأخطار السياسية التي قد تنتج عن صلات اقتصادية علنية على النسق الإماراتي. المشاركة الاقتصادية هذه كمبدأ عام، لا يحق فيها للسعودية الاطلاع على التفاصيل التكنولوجية للشركات أو الاستفادة من أعمالها، ولكن لها أن نتلقى تقارير مالية عامة وغير مخصصة.. في النهاية كانت تلك الخطوة لا تستهدف المصلحة المباشرة من الاستثمار، وإنما فقط فتح المجال لبدء الشراكات الاقتصادية بعيدًا عن تعقيدات اتفاقات السلام العلنية ومخاطرها الاجتماعية العالية.
وهو بالضبط ما تحقق قبل شهور معدودة من السابع من أكتوبر، عندما أعلن صهر ومستشار دونالد ترامب السابق، جاريد كوشنر، الحصول على إلتزام من الصندوق السيادي السعودي باستثمار ملياري دولار في شركات ناشئة إسرائيلية.
وفيما تكشف الأحداث المزيد من ملامح المشروع السعودي الحذر، رغم كل ما شهده من عنف علني، يبدو مشروع الإمارات أكثر وضوحًا، في النهاية لم يضطر بن زايد لخوض صراعات داخلية مركبة كما فعل بن سلمان، ما سمح له بالبناء والمُراكمة على كل ما أقدمت عليه الإمارات في العقود الثلاثة الأخيرة، بداية من خلق نموذج دبي (ومن باب التأمل لا يمكننا تجاهل الملامح المشتركة بين مشروعي «دبي» و«تل أبيب») وتحويلها إلى مركز مالي ذا وزن إقليمي معتبر، مرورًا بتقديم مشروع يدّعي خصومته مع تيارات الإسلام السياسي، إصلاحية كانت أو راديكالية، سنية أو شيعية، وبمحاولة إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة من واشنطن وبتوكيل شركات العلاقات العامة نفسها التي تدير أعمال اللوبي الصهيوني، انتهاءً بالمحاولات الحثيثة للسيطرة على المزيد من الموانئ ومناجم المعادن، وتوكيل جماعات مسلحة محلية يقوم عملها على خوض الجرائم ضد الإنسانية والنهب المنظم.
في هذا الصدد، كثيرة هي ملامح المشروع الإماراتي التوسعي، الذي تلتقي فيه مع إسرائيل كنموذج يُحتذى به، وشريك يأخذ بيدها نحو مستقبل مظلم، ينجوان فيه من الكوابيس السياسية والاقتصادية والمناخية الموشكة على التحقق.
لم يبدأ الأمر في الأسابيع القليلة التالية لانخراط الحوثيين في حرب الإسناد وبدء تطبيق حصار بحري فعلي على دولة الاحتلال عند باب المندب. وقتها استنفرت الإمارات على عدة مستويات، الأول: وفّرت خطة بديلة لكسر الحصار المفروض على الاحتلال، عن طريق اتفاقية توفر فيها هيئة موانئ دبي مسارًا بديلًا يبدأ من الساحل الإماراتي ويمر عبر الأراضي السعودية والأردنية قبل أن يصل إلى الاحتلال حاملًا معه المواد الغذائية والمواد الأولية والعديد من البضائع والخامات القادمة من الأسواق الأسيوية خصوصًا. والثاني: تسريع العمل على المواقع العسكرية المخططة سابقًا واستحداث غيرها بما يتناسب مع البُعد الإقليمي لحرب الإبادة الإسرائيلية: أي بما يواجه الحوثيين وإيران في الوقت نفسه.
في هذا السياق مثلًا، كانت الإمارات سابقًا قد تمكّنت من إخلاء سكان جزيرة «عبد الكوري» اليمنية عبر مليشيا «المجلس الانتقالي الجنوبي»، وبُعيد الحرب مباشرةً سرّعت وتيرة تنفيذ مخططها الغامض وقتها، لتنهي بناء وتجهيز مهبط للطائرات العسكرية استعدادًا لهجمات محتملة مشتركة ضد الحوثيين، وللحرب الكبرى ضد إيران، إلى جانب إسرائيل والولايات المتحدة بالطبع.
خلال حرب الإبادة الدائرة، شهدنا الكثير من العلامات المعبرة عن صلة أعمق بين الإمارات وإسرائيل رغم حداثة علاقتهما المفترضة، مثل التمسك بضرورة خروج حركة حماس من القطاع، في مقابل مصر وقطر اللتان تعتبران هذا المطلب غير منطقيًا ومن شأنه تهديد الموقف الفلسطيني والعربي، أو كسر الحصار البحري عن العدو، أو تبني خطة ترامب الرامية إلى تهجير الغزيين إلى مصر، كما عبّر سفيرهم لدى واشنطن يوسف العتيبة، وهو للمصادفة قريب لرجل الأعمال المصري شريك إسرائيل الأبرز اقتصاديًا في مصر، صلاح دياب.
غير أن ذلك كله لا يحصل بمعزل عن السياسة الخارجية الإماراتية، والتي تعود ملامحها لعقود مضت، قبل الربيع العربي كله أو انتصار حزب الله في 2006 أو استلام حركة حماس حكم قطاع غزة في نفس العام.
ربما أول ما تفرضه علينا الأيام الحالية، ارتباط الإمارات القوي بميليشيا قوات الدعم السريع السودانية، المليشيا التي أسسها أصلًا نظام عمر البشير الإسلامي لتختص بالمهام الأقذر من أن يتحملها الجيش السوداني.. سيتبادر للذهن فورًا التسليح والتمويل الذي تمارسه الإمارات علانية، ما دفع الدولة السودانية، الخارجة لتوها من ثورة عارمة، لاتهامها رسميًا بتمويل جرائم ضد الإنسانية في السودان، تشمل الاغتصاب والقتل الواسع والتجويع وتدمير المنشآت الاقتصادية، وكذلك السطو على الموارد الاقتصادية الهامة، كالصمغ العربي والذهب، وتداوله في الأسواق العالمية لحسابهم.
وإن عُدنا قليلًا للوراء ربما نصل لدعم الإمارات السخي لبناء سد النهضة الأثيوبي، وضعًا في الاعتبار الآثار المحتملة على السودان ومصر، والتي لا يصادف كونها من أكثر بلدان العالم فقرًا مائيًا. أو قد نصل للمحطة الليبية حيث رعت الإمارات سطوة خليفة حفتر قائد «الجيش الوطني الليبي»، ومحاولات سيطرته على منشآت النفط الليبية واستخدامه في بسط النفوذ العسكري الإماراتي في مناطق تضاف لمحفظتها التوسعية، وكذلك استخدام قواته في الحرب المستعرة في السودان، وبالعكس كذلك: استخدام قوات سودانية في الصراع الليبي، ما عنى دائمًا تدويل لتلك الصراعات المحلية، وتوسيع نطاقها وتعقيد إمكانيات حلها.
ويمكننا كذلك النظر إلى السعي الإماراتي المحموم للسيطرة على المزيد من الموانئ عبر العالم، ومصر تشهد على تلك المحاولات التي انتهت بالسيطرة الكاملة أو الجزئية على 7 موانئ من أصل 16 ميناء مدني مصري.
غير أن مشهدين إضافيين كذلك يعبران بقوة عن طريقة عمل السياسة الإماراتية في الخارج، الأول في مصر والثاني في عدة ربوع أفريقية.
استفادت الإمارات جيدًا من تسويق نظام السيسي نفسه كمستهلك جيد للديون يلتزم بالسداد دائمًا. واستفادت كذلك من كارثية توجهاته وانجرافه نحو الخضوع الكامل لسياسات صندوق النقد الدولي، ودفعته نحو تحويل معضلته بعد تجاوز ديونه أكثر من 90٪ من الناتج المحلي الإجمالي إلى بيع الأصول المملوكة للدولة مقابل سداد أقساط وفوائد الديون المتأخرة، فاستولت، مع السعودية، على قطاعات حيوية، يسهُل تصنيفها كقطاعات تمس الأمن القومي والاجتماعي. ولا يزالان يسعيان إلى السيطرة على المزيد من الأراضي الساحلية ذات الأهمية البالغة على الحدودين الجنوبية والغربية، وعلى مساحات شاسعة من الأراضي على طول الحدود مع ليبيا، وعلى شركات تشغيل وإدارة الطرق وبعض المطارات، بالإضافة للشركات المرتبطة بقطاع الطاقة، وليس آخرًا القطاع الصحي والدوائي الخاص، الذي يجهز السيسي لتوليه مسؤولية التأمين الصحي عن كل المصريين.
نموذج آخر يعبر عن الشكل الذي ترى الإمارات مصر به، تقدمه لنا شركة الظاهرة الزراعية، التابعة للعائلة الحاكمة، وأحد أكبر شركاء شركة ووترجين الإسرائيلية.
دخلت شركة الظاهرة الإماراتية السوق المصري في العام 2006، واستحوذت على مساحات زراعية شاسعة قرت وقتها بنحو 125 ألف فدان (الفدان الواحد مساحته 4200 متر مربع) موزعة على عدة مناطق بينها توشكى وشرق العوينات، بالقرب من مثلث الحدود المصرية – الليبية – السودانية، قبل أن تسيطر على المزيد من الأراضي في السنوات اللاحقة. كانت استحواذ الشركة الإماراتية على تلك الأراضي الشاسعة يتضمن الكثير من علامات الفساد الفاقعة، كالاستحواذ على 100 ألف فدان في توشكى بسعر لا يتجاوز 50 جنيهًا للفدان الواحد (ما كان يساوي وقتها أقل من 10 دولارات أمريكية، ويساوي الآن دولارًا واحد)، كما استحوذت على مساحات تفوق الحد الأقصى المسموح به لتملك الأراضي الصحراوية المحدد في القانون المصري.
كذلك، باتت تستهلك الشركة تقريبًا نصف إجمالي ما تستهلكه من المياه في 20 دولة مجتمعين من المياه المصرية، بما يقدر بنحو 270 مليون متر مكعب من المياه سنويًا (ما يزيد عن نصيب 500 ألف مصري من المياه سنويًا)، وذلك بسعر يقل 21 مرة عن السعر الفعلي بحسب دراسة أجرتها وزارة الري المصرية.. وهذا يحدث في بلد يعاني من ندرة المياه أصلًا.
هذا ليس كل شيء، فالأمر في النهاية ليس قاصرًا على الفساد المالي والإداري، بل إنه يمتد ليُكمِل سياقًا كاملًا من النهب المنظم واستغلال الموارد والإفقار. بعد هذا كله، ماذا تزرع الظاهرة؟ ولمن تبيعه؟ وبأي أسعار ووفق أي شروط؟
تزرع الشركة الإماراتية قمحًا على أراضي مصرية حصلت عليها بسعر 50 جنيهًا للفدان، رُوي بمياه مصرية تشتريها الشركة بأقل من سعرها الحقيقي بـ 21 مرة، وتبيع المحصول بالكامل للحكومة المصرية بعقود مضمونة مقيمة بالدولار الأمريكي، تسدد مصر ثمن الصفقة بقرض جديد من مكتب أبوظبي للصادرات، ترده أيضًا بالعملة الأجنبية مع فائدة تبلغ 7.1٪ بالإضافة للرسوم والعمولات الإضافية.
الإمارات كانت الوجهة الأكبر التي وصلها ذهب مهرب من بلدان أفريقية عدة خلال العقد الماضي، قدّرته المنظمة بأكثر من 435 طنًا من الذهب بقيمة أكبر من 30 مليار دولار
العلاقات الاستعمارية للإمارات في المنطقة اتخذت أشكالًا مختلفة، ففي الحالة المصرية رغم فجاجة الأمر إلا أنها لا تزال تضع الخصوصية المصرية في الحسبان، بعكس الوضع في السودان كما رأينا، وبالتأكيد بعكس الوضع في البلدان الأفريقية الأسوأ حظًا. كما بيّن تقرير لمنظمة Swissaid أن الإمارات كانت الوجهة الأكبر التي وصلها ذهب مهرب من بلدان أفريقية عدة خلال العقد الماضي، قدّرته المنظمة بأكثر من 435 طنًا من الذهب بقيمة أكبر من 30 مليار دولار. كانت شبكات التهريب تلك، التي تعاملت مع الإمارات كبلد وسيط قبل إعادة بيع الذهب إلى سويسرا والهند أساسًا، قائمة على تمويل شبكات معقدة من المليشيات المحلية المتورطة في القتل واسع النطاق والاغتصاب والاتجار في البشر.
يمكننا ملاحظة ذلك حتى في سياق الاستعمار الأخضر الذي تمارسه الإمارات على حساب شعوب أفريقيا الأكثر فقرًا في العالم. مثلًا، تهيمن شركة «بلو كاربون» الإماراتية، وهي شركة تديرها العائلة الحاكمة في دبي، على مئات ملايين الهكتارات من الغابات الكثيفة، التي كانت ملكية مشاعية مفتوحة للقبائل والسكان المحليين الرُحّل لقرون من الزمن، وتوزعت تلك الأراضي بين عُشر إجمالي أراضي ليبيريا، وخُمس أراضي كل من زيمبابوي وزامبيا وكينيا وتنزانيا. سُلبت تلك الأراضي الشاسعة من السكان المحليين، الذين عاشوا فيها لآلاف السنين وعملوا على استخدام الغابات نفسها كمورد أساسي للعيش. طُرد هؤلاء من أراضيهم التي لم تعرف الملكية الخاصة يومًا، أجبرتهم الحكومات والعصابات المحلية والجماعات المسلحة على الهجرة دون وجهة واضحة، فقط لتتمكن الإمارات من مراكمة مليارات الدولارات، ومن غسيل السمعة المناخية القبيحة للعالم الصناعي الغني.
ماذا يعني غسيل السمعة ذلك؟
تتمكن الغابات والمستنقعات من تخزين الكربون الذي أطلقته الدول الصناعية والشركات الكبرى على مدار التاريخ في أنظمتها الطبيعية، وبدلًا من أن تعوّض تلك الأطراف المجتمعات الأكثر تضررًا من آثار التغير المناخي، فإنها تشتري حصص من ذلك الكربون المُخزن، وتدفع ملايين الدولارات على سبيل «التعويض»، لكنها تدفعها لدولة الإمارات. وهذا ليس فقط من غابات مسلوبة من سكانها الأصليين، ولكن أيضًا في بلدان كانت دائمًا ضحية للسياسات الاستعمارية القديمة والجديدة، ولم تساهم بأي نسبة تُذكر في رفع حرارة الأرض، كما أنها تستحق التعويض عن النهب التاريخي المنظم التاريخي الذي تعرضت له على يد نفس الأطراف التي تريد الآن شراء السمعة المناخية.
ماذا عن أطر المقاومة؟
بالتوازي مع هذا كله، وتفاعلًا معه، كانت الساحات المحتملة لإنتاج محاولات جديدة للمقاومة، اعتمادًا على دخول الحركة الاجتماعية على خط الفاعلين، تشهد هي الأخرى تغيرات دراماتيكية، ستُضعف مع ظروف أخرى كل فرص المقاومة الممكنة، وتنتج الوضع الحالي حيث نكاد على وشك السيطرة العسكرية الإسرائيلية المطلقة، والخضوع للمساعي الاستعمارية الآخذة في النمو لكل من الإمارات والسعودية.
في سياق إمكانيات المقاومة الشعبية، طرحت الجماهير من اللحظة الأولى للثورة المصرية، نفسها كخزّان مفتوح لفرص المقاومة الممكنة، سواء المقاومة التقليدية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، أو المقاومة المفترضة حديثًا بسبب ما تحدثنا عنه. غير أن بتأمل بسيط لما وقع في مصر في السنوات العشر السابقة لطوفان أقصى، يبدو كل شيء منطقيًا، ولا يعود انصراف المصريين عن النضال في الميدان غريبًا.
من اللحظة التي اتخذت فيها أطراف الدولة العميقة المصرية، وفي القلب منهم القوات المسلحة، وفي الخارج كل من السعودية والإمارات، من حماقة جماعة الإخوان المسلمين رافعة مثالية لتجييش الناس ضدها حتى يعود إسقاطهم مجرد تفصيل، في نفس اللحظة كانت تلك الأطراف تفكر في كيفية أن ينتهي هذا التجييش المليوني إلى كمون وخضوع كامل.
في هذا السياق يمكننا ملاحظة 3 لحظات تأسيسية في حُكم السيسي، الذي لعب دورًا أساسيًا في تقييد الدور المصري في المنطقة، وتضييق هامش التصرف المستقل بما يخدم المصلحة الوطنية، ساهمت في تشكيل العلاقة بينه وبين المجتمع. اللحظات تلك هي: فض اعتصام أنصار الإخوان المسلمين بالقوة في أغسطس 2013، على الهواء مباشرة ورغم وجود الكثير من السيناريوهات البديلة لفض الاعتصام دون قتل المئات، وما أعقبه من اعتقالات واسعة طالت عشرات الآلاف. اللحظة الثانية كانت عندما أعلنت القوات المسلحة عن اختراع جهاز لعلاج فيروسات الإيدز والالتهاب الوبائي، ولم يكن ذلك من باب النكتة، بل كان برعاية عسكرية رسمية، ألبست دجالًا ملابس عسكرية ورفعته إلى رتبة اللواء، وحشدت أطباء مرموقين للترويج للجهاز الجديد الذي يعالج كل الفيروسات «بما في ذلك السرطان» على حد وصف إحدى الطبيبات. وللأسف احتشد وقتها آلاف المرضى اليائسين على أبواب المراكز الطبية للجيش، حتى أن بعضهم أوقف خطط العلاج الأساسية بعد التعرض لتجربة الجهاز والتأكيد له أنه قد شُفي، قبل التأكد أن كل ذلك كان دجلًا صرفًا.
نحن مسلحون ولا سقف لاستخدام القوة الغاشمة دون اعتبار لأي نتائج ثأرية تطول المجتمع وسلامته، غير رشداء ولا نعتبر لأي تقاليد عسكرية أو اجتماعية، ولا سقف للتنازلات المقدمة للرعاة الخارجيين فقط لتدعيم استقرار الحكم.
وكان التنازل عن السيادة الوطنية على جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية مقابل منحة مالية ضخمة، أُنفقت في بعض المشروعات غير ذات الجدوى، هي اللحظة الثالثة، التي تشكّل عندها ثالوث النظام، نحن مسلحون ولا سقف لاستخدام القوة الغاشمة دون اعتبار لأي نتائج ثأرية تطول المجتمع وسلامته، غير رشداء ولا نعتبر لأي تقاليد عسكرية أو اجتماعية، ولا سقف للتنازلات المقدمة للرعاة الخارجيين فقط لتدعيم استقرار الحكم.
مضى النظام في هذا كله في نفس الوقت الذي قضى فيه على البُنى السياسية العادية للمجتمع، تفرّق المعارضون بين المنافي والسجون وتحت القبور وفي المصحات النفسية، أو وقعوا في دوّامات من الدروشة والذُهان الوطني، والتهليل لحنكة النظام في التعامل مع كل الأمور. حتى في صفوف أجهزة الدولة لم يسمح النظام بوجود حزب حاكم بالشكل التقليدي، سمح لأجهزة مخابراته بتأسيس عدة أحزاب لأغراض ادارية وتشريعية، لكنهم ليسوا حُكامًا. وحتى في دوائر الحُكم الضيقة، لا وجود لسياسيين، فقط ضباط أو ضباط سابقين، أما أجهزة مثل الخارجية مثلًا، فلها الأمور التكميلية والشكلية فقط.
تحت هذا الظرف، وبالتجاوز عن الكثير من الأمور الواجب مناقشتها في هذا السياق، بات حراك المصريون رهن العفوية الجماهيرية الكاملة، والتي ستنتهي دائمًا بانفجارات غير محسوبة، وغير منظمة. وتلك الأخيرة لا وصفة واضحة لتحفيزها أو طريقة لتوقعها بشكل دقيق. عفوية الجماهير المصرية، كما هي عفوية الجماهير عمومًا، تجعلهم يمرّرون لحظات تنازل فيها نظامًا عن التراب الوطني، أو نظام يسلبهم منازلهم ومقابرهم ومُدنِهم ليبني وهمًا متجسدًا، أو يبتلعون موجات الغلاء المتكررة، ثم فجأة ودون مقدمات ينفجرون ويسقطون نظمًا لأسباب أقل فداحة، كأن بائع متجول في بلد قريب اسمه تونس، لا يعلمون عنه الكثير، صب البنزين على نفسه ومات.
هذه الآلية المجنونة، التي تشكّل الفرصة الوحيدة للمجتمعات الخالية من التنظيمات السياسية ومن العمل السياسي، هي تحديدًا ما لم يدركه محمد الضيف في ندائه صباح 7 أكتوبر، بالضبط كما لم يدرك أنه لا إمكانية لوجود سياسي قائم لـ «الشعوب العربية والإسلامية» على عموميتها.
لم يكن هذا فقط ما سقط من الحسبان عند إطلاق الطوفان وانتظار أن يثور الناس ليوقفوا المقتلة، بل أن الأسوأ والأكثر فداحة، حصل في سياقات المقاومة المتقدمة، خصوصًا في غزة ولبنان، تحديدًا عندما تحولوا من جماعات مسلحة تعمل حصريًا في مقاومة الاحتلال، إلى حُكام أو شركاء في الحُكم.
بالنسبة لغزة، يبدو من المبكر رسم صورة أكيدة لتأثير الخيارات التي اتخذتها حركة حماس منذ 2011 وحتى أكتوبر 2023، خصوصًا وأن معظم القادرين على كشف التفاصيل قد قتلتهم إسرائيل، غير أننا نستطيع أن نرى بوضوح سياقًا عامًا عملت داخله حماس في تلك الفترة، انقسم إلى قسمين متضادين. قسم أول عبّر عنه خالد مشعل، المولود في الشتات، ضم تيار ساقته نشوة انتصار الإسلاميين في تونس ومصر، تنازل عن الرعاية السورية لمكتب الخارج، غيّر اصطفافه تمامًا وحارب شركاء الأمس اللبنانيين والسوريين والإبرانيين.. تيار أوقعته ضلالات الحكم الإقليمي إلى رفض سقوط الإخوان عن حكم مصر، فوقع في خصومة مباشرة مع النظام الجديد، ثم انكشف سقوط كل خياراته الإقليمية، حتى كاد يخسر كل ما جمعته الحركة في تاريخها القصير.
سقط التيار كرهاناته وصعد تيار آخر عَكَس كل ما مضى فيه السابقين. تيار رمز له يحيى السنوار، الأسير السابق الذي ولد ونشأ في مخيم للاجئين، وكان انتمائه للمخيم ولغزة أكبر من الانتماء العقائدي لحماس باعتبارها جزء من جماعة الإخوان المسلمين. جاء تيار تصالح مع النظام المصري وتعاون معه أمنيًا واستخباريًا (بما في ذلك تسليم مطلوبين وهدم أنفاق وإنشاء منطقة عازلة بين القطاع والحدود المصرية)، تصالح كذلك مع حزب الله وإيران، فتح الباب لإعادة العلاقات مع نظام بشار الأسد، عرَج مع حزب الله على مفهوم «وحدة الساحات» وبدأوا نقاشات لم تصل يومًا لما قد يوصف فعلا بـ «وحدة»، وأخيرًا عمل يومًا بعد يوم حتى وصل للحظة الذروة وفجّر الإقليم في صباح السابع من أكتوبر.
بالنسبة لـ حزب الله، أقدم العدو الإسرائيلي على جرائم انتهت بتصفية شبه كاملة لجيل بأسره، هو الجيل المؤسس، وكان جيلًا استثنائيًا انطلق في بداياته من المظلومية الطبقية لجماهير الشيعة في لبنان، جيل عرفناه مع تسلم نصر الله، المولود في حي فقير مختلط طائفيًا وتربى في بيت من صفيح وخشب، تسلّم الأمانة العامة شابًا في مقتبل الثلاثينات، مع قادة قاتل بعضهم مع التنظيمات الفلسطينية أولًا وتأثر بخطابها القومي. صفى الإسرائيليون هؤلاء ليأتي جيل جديد، ولِد وكبر تحت أزمات فائض القوة، لم يرَ الحزب إلا وهو شريكًا في المواءمات السياسية المحلية بكل ما فيها من فساد وطائفية، جيل يعمل الآن تحت قيادة أمينًا عامًا جديدًا، لديه استثمارات خاصة، ولم يكن يومًا مرتبطًا بالعمل المقاوم نفسه. بعكس عباس الموسوي مثلًا الذي وصلت خبرته العسكرية والتنظيمية حتى إيران وباكستان وأفغانستان، وبعكس نصر الله الذي قاد العمل الجهادي أكثر من 30 سنة، فإن نعيم قاسم دائمًا ما كان يمثل الشيخ الرصين، مهندس ومشرف التحالفات مع المكونات اللبنانية، الفاسدة والطائفية في مجملها.
ومع تلك الضربة الكبيرة أغلق الحزب فصلًا طويلًا من تحمل فائض القوة، وبدأ فصلًا جديدًا لا يعلم أحد، سوى قيادة الحزب والاحتلال الإسرائيلي والأمريكان، مداه الزمني أو الكيفي، من الاستيعاب والتنازل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
قصة حزب الله في السنوات اللاحقة لـ 2011 كافية لتفسير كيف وصلنا هذا الحد، إن كان على مستوى التدهور الكبير في الأداء العسكري والأمني المتصل بالعمل المقاوم، أو على مستوى تحليل العلاقة بين ما فرضته الحركة الاجتماعية العابرة للحدود وبين الحركات المقاوِمة. كيف تحول حزب الله من حزب يُضرب به المثال في فرط التماسك، حضر الوعي الطبقي في رسالته الأولى للعموم عند الإعلان عن نفسه سنة 1985، وأصدر وثيقة سياسية في العام 2009 ترى الأمور في نصابها الدقيق، واعية لأزمة الرأسمالية العالمية ومصيرها الدائم نحو العسكرة والانهيار، مدركة تمامًا خطة الخصوم للإرباك بالصراعات المذهبية؟ حزب يقوده رمزًا قوميًا كاد يكون عبد الناصر الجديد، يتراجع بوعي وإمعان وقد ابتلعته دعاياه الطائفية التي استخدمها للتعبئة وباتت جزء من سرديته الأساسية. حزب أنهكته قوته بالأساس، وميّعته اتساع رقعة أعماله وجعلته كتابًا مفتوحًا للعابرين، يدققون فيه النظر، ويخضعونه لإرادتهم فيما يظن أنه مسيطرًا، وقتما شاءوا.
سيرة حزب الله، شأنها شأن الأطراف الشريكة في الصورة الحالية، تحتاج لأبحاث وتحقيقات ومحاولات كثيفة من النظر والتشخيص، مع ذلك يمكننا متابعة كيف حصل التحول هذا من خلال عدة محطات، تأتي بالترتيب الزمني، وبكثير من الاختصار الضروري.
بالطبع، كان قرار حزب الله المشاركة في استحقاقات السياسة المحلية اللبنانية يمثّل خطوة كبيرة تجاه هذا التحول. عنى هذا التحول مباشرة وبالبناء على عوامل أخرى عدة أمور، أنه: لم يعد مطلوبًا من الحزب فقط مناكفة الاحتلال، بل المشاركة في الإدارة اليومية لحياة اللبنانيين واقتصادهم. وكذلك اضطراره للمواءمة مع أكثر الخصوم السياسيين إجرامًا وفسادًا وطائفية، حتى تبنى خطابهم نفسه في السنوات الأخيرة، فتحول من شريك في النظام السياسي اللبناني إلى حامي وراعٍ له.
ومع أن الحزب خسر الكثير من الاشتباك مع السياسة المحلية، إلا أنه كذلك عجز عن إدارة الصراعات مع شركاه وفق الأصول السياسية، واضطر مع كل استحقاق سياسي حقيقي، يتطلب إدارة سياسية أبعد من التعيينات الطائفية والتوافق على رئيس حكومة يشبه كل المتنافسين معه، إلى استعادة الآليات التي قد سلكها، وكانت تناسبه، حين اقتصرت مهامه على مقاومة الاحتلال، بالإضافة إلى صد العدوان السوري الذي نفذته حركة أمل عليه، وكان واحد من علاماتها دفاع الحزب عن المخيمات الفلسطينية من هجمات حركة أمل، التي حرضها حافظ الأسد على ملاحقة أشباح ياسر عرفات في المخيمات الفلسطينية أواسط الثمانينات.
لم يلتفت الحزب إلى أنه حتى في مسعى التعبئة العسكرية الواسعة، لا غنى له عن تأطير خطاب اجتماعي يقنع الناس بالمشاركة في صراع عسكري مفتوح، حتى لو كان خطابًا مذهبيًا بامتياز
في أحداث 7 أيار الشهيرة، عاد الحزب إلى آلياته العسكرية، لكن بنسخة جديدة تشارك فيها مع حركة أمل (التي كان يقصد الحزب تمييز نفسه عنها باعتباره أكثر تحضرًا وسلمية) والحزب السوري القومي وغيرهم، فشقّوا شرخًا صعب الالتئام مع باقي الطوائف، التي ارتعدت إزاء سيطرة الحزب على العاصمة في ساعات معدودة. وبطبيعة الحال، تكامل إصرار حزب الله على منهج «7 أيار»، ودفاع نصر الله عما حصل ووصفه بـ «اليوم المجيد»، مع خطاب دأب عليه الفريق المقابل، أصر على على تطييف الصراع مع الحزب، وتصديره كصراع سني – شيعي، منذ اغتيال رفيق الحريري في 2005، وبمشاركة حثيثة من السعودية وشيوخها وإعلامها.
وكانت اللحظة الثورية الإقليمية النادرة في 2011 هي ذروة بيان أسباب السقوط بالنسبة للحزب. في الأيام القليلة قبل سقوط مبارك، خطب نصر الله خطابًا واضحًا، رد فيه على الشائعات المعتادة التي رددها نظام مبارك وأصحابه في الرياض وأبو ظبي، دافع عن ثوار مغامرين لا يعلم أحد إذا ما كانوا سينتصرون، أو إذا ما تخلت الأطراف الاستعمارية الإقليمية والدولية عن التلاعب في تحركهم حفاظًا على مصالحهم.. بعد أسابيع قليلة، كانت العدوى قد انتشرت، ضربت في كل مكان، في هذا المعسكر وذاك. ضربت القذافي وسلطة الخليج التقليدية في البحرين والسعودية، وفي قلب محور الممانعة في سوريا، وحتى في غزة، وفي لبنان نفسه، ضد التركيبة السياسية التقليدية، التي تطوع الحزب وبات راعيها.
بين تلاطم الأمواج الثورية هذا وما أن وصل المد إلى سوريا، تعطّلت ماكينة الحزب المتماسك الحاسم في انحيازه للأغلبية، الذي كاد أن يتموضع في معسكر اليسار بعد وثيقته السياسية في 2009. تبنى نفس السرديات التي رد عليها نصر الله نفسه قبل أسابيع عندما كانت الموجة تقف عند الحدود المصرية، بدا وكأن تلك الوثيقة لم تكن معبرة بالفعل عن خيارات وانحيازات الحزب وقادته. صمت تمامًا في البداية، ثم حاول تبني موقفًا وسطيًا، أقر فيه بشرعية التحركات، لكنه نظم المدائح للنظام المجنون ودافع عنه، ثم انزلق نحو الرؤية الأمنية التآمرية الخالصة وبات لا يرى في تحرك الناس إلا دلائل على خبائث المخابرات الغربية، وانتهى به الأمر شريكًا عسكريًا دافع عن الأسد، فيما يلقي الأخير الصواريخ على السكان دون تمييز.
وازداد التورط تعقيدًا بالمشاركة في قتل وحصار المدنيين، وكلما تورط الحزب في المزيد من المعارك، كلما خفتت صورته «النورانية الجهادية» وسيطرت عليه الاتهامات الجدية بالتورط في الفساد المالي وفي الجرائم ضد الإنسانية، ووصل إلى الدرك الأسفل، عندما تماهى مع الدعاية المذهبية التي أطلقها لإقناع جمهوره بضرورة إرسال أبنائهم للدفاع عن مقام السيدة زينب، وبالطبع كانت تلك مجرد حيل بروباغندا لصعوبة تقبّل تقديم الشهداء من أجل الحسابات الجيوسياسية، لكنها في النهاية تكاملت مع سياسة إيرانية ممنهجة، تكررت في العراق كذلك، لشراء الأراضي والعقارات وإجراء تصفية مذهبية للسكان، من شأنها أن تزيد نار الاقتتال الأهلي دمارًا، ولسنوات قادمة.
على مدار أكثر من 10 سنوات انخرط فيها الحزب في الحرب السورية إلى جانب بشار الأسد، كان جزءً، سواء أراد ذلك أو لم يرد، من العوامل العديدة التي حولت الثورة السورية من حركة جماهيرية ثورية تواجه قمعًا دمويًا يشرع فيه نظام مجنون وفاسد، إلى كرنفال من الاحتراب الأهلي والإقليمي وخليط متقاطع بين عدة حروب بالوكالة، ومرتعًا لنصف مخابرات الكوكب. وبطبيعة الحال، وبم أن الأمور تُبنى على أسبابها، ردّت تلك المشاركة الثمن لحزب الله غاليًا، تنازل عن ميزات العمل ضمن المليشيات التي تضرب وتعود إلى الخفاء، وتحول إلى ما يشبه الجيش النظامي، يعسكر في ثكنات مفتوحة، ينعي مقاتليه في تشييعات علنية يشارك فيها القادة والمسؤولين، يلتقون حلفائهم ويشاركون معارك مشتركة مفتوحة لأشهر طويلة، يخسرون الأرواح وتورِد ماكينة البروباغندا الطائفية المزيد من المدافعين عن السيدة زينب، يخسر مقاتلين وقادة لا يمتلك تعويضهم. يخسر قيادي عسكري مثل مصطفى بدر الدين، كان عمودًا أمنيًا وعسكريًا في الحزب لا مثيل له، حتى أنه يمكننا الجزم بأن موت عماد مغنية سنة 2008، وصل إلى تمامه عندما قُتل مصطفى بدر الدين في 2016.
عرفنا في ما بعد أن إسرائيل، التي كان يتصور الحزب أنه ضَمِن بقائها ضمن معادلة الردع، كانت تشاهد كل ذلك عن قرب. تراقب من يشارك في تشييع الأموات، مَن مِن المشيعين يهتم الناس به وله مكانة خاصة، من يقابل الإيرانيين، من ينسّق مع الجيش السوري، من يتخذ القرار في الميدان ومن ينوب عنه ومن ينوب عمن ينوب عنه.. ببطء وثبات على مدار عشر سنوات، كانت كافية وحدها، ودون اختراق لسلاسل الإمداد، ودون اختراع تقنيات خيالية، لكشف تراتبية القيادة في الجسمين الأمني والعسكري، ناهيك عن الدراسة الوافية للتكتيكات العسكرية والمراقبة الهادئة لخطوط الإمداد ومواقع التخزين، بما سمح على الأكيد بتجهيز بنك أهداف بشري ومادي مهول، وضمان تحقيقه بالسرعة التي افزعتنا جميعًا.
هذا ليس كل ما في الأمر، حتى أن جزء من معضلة الحزب الآن أنه يراجع ممارساته وإخفاقاته فقط في حدود التحليل الأمني والعسكري، كما أقر أمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم في مقابلة حديثه له، أن ثمّة «تقصير وقصور» نالا من أداء الحزب. بالطبع هناك انكشاف أمني مفزع، لكن حقيقة الأزمة البنيوية التي تحيط بالحزب دائمًا، وباتت تتمكن منه تمامًا مع السنوات، أنه بدّل المنطق الذي كان من المنتظر أن يرى منه المجتمع. كان يمكن مثلًا لحزب الله، لو كان حقًا مدركًا لموقع الناس في النضال السياسي، وفي مقدمته في مقاومة الاحتلال، ومدركًا للتشابك بين الظروف المادية التي أنتجت واقعًا تعيسًا لهؤلاء البشر وبين النظام العالمي الذي اختار إسرائيل رمزًا لنفاقه وإجرامه، كنا سنراه شريكًا في الموجة الجماهيرية العارمة تلك، يتعامل مع سياسات خصومه الإقليميين ومحاولتهم لاختطاف الحراك السياسي، بخلق تحالفات سياسية من قلب الحركة الاجتماعية نفسها، وليس بالعمل المسلح إلى جانب عصابات الأسد. بما يرفع احتمالات أن يحفظ لنفسه ممرًا للسلاح في سوريا الثورية، ويجد فيها نظامًا سياسيًا داعمًا وراعيًا. بالطبع هذا خيار له تعقيداته وأسئلته الصعبة، لكنها في كل الأحوال ليست باستحالة تعقيدات الحرب الإقليمية المتواصلة لأكثر من عقد من الزمان.. على الأقل الآن بتنا نعرف الثمن الحقيقي الذي دفعه حسب خياره.
كانت التعبئة الطائفية للحزب تلاقي الجهود المهولة لخصومه الساعية لقلب الصراع إلى حرب «أهل السنة والجماعة»، من أجل نتيجة حتمية واحدة، هي بقاء سوريا رهن الحروب بالوكالة وفظاعة المقاتلين الآتين من مختلف بقاع الأرض
كان واضحًا أن الحزب لم يكن واعيًا بالموقع السياسي للمجتمع. حتى عندما اضطر إلى اختلاق خطاب اجتماعي مذهبي يقدمه لجمهوره، لإقناعه بضرورة القتال إلى جانب نظام الأسد، الذي يكرهونه للعظم شأنهم شأن باقي اللبنانيين، لم يلتفت الحزب إلى أنه حتى في مسعى التعبئة العسكرية الواسعة، لا غنى له عن تأطير خطاب اجتماعي يقنع الناس بالمشاركة في صراع عسكري مفتوح، حتى لو كان خطابًا مذهبيًا بامتياز.
رغم الخصومة الواضحة التي تصاعدت في ذلك الوقت بين الحزب والأطراف الإقليمية في المنطقة باختلاف مواقعها، في السعودية والإمارات وقطر وتركيا وحماس والإخوان المسلمين والكثير من النخب الثقافية والإعلامية السورية، إلا أنه تشارك معهم بوعي وإمعان في قلب الحركة الاجتماعية السورية، إلى صراع مضاد للعمل السياسي، لا يحتمل سوى المليشيات الطائفية وشبكات التهريب ومؤامرات مكاتب المخابرات الخارجية. باختصار، كانت التعبئة الطائفية للحزب تلاقي الجهود المهولة لخصومه الساعية لقلب الصراع إلى حرب «أهل السنة والجماعة»، من أجل نتيجة حتمية واحدة، هي بقاء سوريا رهن الحروب بالوكالة وفظاعة المقاتلين الآتين من مختلف بقاع الأرض.
تعقيدات الخيار الذي مضى فيه الحزب بكامل إرادته، وحوّلته من موقع المقاوم اللبناني الأساسي للاحتلال الإسرائيلي، إلى مجرد بيدق على رقعة شطرنج إقليمية في سوريا، كانت كارثية بكل معنى الكلمة، لازلنا نعيش بعض نتائجها حتى اللحظة، بداية من الثمن المباشر الذي دفعه الحزب وأعاده إلى موقع بدائي لم يكن عليه يومًا، وصولًا إلى الشرخ العظيم الذي بات يفصل بين الحزب والشرائح العربية الأوسع، وفي القلب منها السوريين (دون إهمال الكثير من العوامل الأخرى)، وأخيرًا المزيد من الغرق في الخلطة الأمنية – الطائفية في تشخيص الحراك الجماهيري، باعتباره مؤامرة من المخابرات الغربية تستخدم فيها أدوات محلية هدفها الوحيد القضاء على المقاومة، أو الدولة في مقامات أخرى.
وفي الوقت الذي تضخمت فيه دعايا الحزب الموجهة لجمهوره الضيق وقد اقتصرت على الخطابات المذهبية، حتى أن بعضها قفز إلى أن معارك سوريا واليمن هي معارك آخر الزمان قبل الخلاص على يد الإمام الغائب، كان نصر الله يغوص أكثر في عزلته بعد حرب 2006، وتغطيه هو نفسه مشاعر فائض القوة والإحساس الزائف بإحكام السيطرة، والتخيل بأن دولة دخيلة مثل «إسرائيل» قد تنتهي من تلقاء نفسها، والتأثر بالدوائر الدينية التي أحاطت به، حتى أنه قرر فتح معركة ضد المثلية الجنسية في الوقت الذي كان يغير فيه المتشددين المسيحيين على حانات المثليين ويهددون أمنهم الشخصي.. كان ذلك غريبًا بعض الشيء، ما الذي جاء بنصر الله من ساحات القتال والصراعات الإقليمية والقراءات الجيوسياسية المعقدة، إلى معارك يلاحق فيها مواطنين يحتفلون في بار أو يغنون في الشارع؟
ثم جاءت انتفاضة 17 تشرين 2019 إلى لبنان، وكانت ضمن موجة أصغر من الحراكات الجماهيرية التي تجاوزت صدمة هزيمة موجة 2011، وقدّمت جولة ثانية فيها الكثير من المستجدات، في السودان والعراق ولبنان والجزائر.. في هذه الموجة واصلت الإمارات دورها كقلب الثورة المضادة في السودان وفيما بعد في النبش ورعاية الخلاف الجزائري- المغاربي، وتسلّم حزب الله وإيران مسؤولية الثورة المضادة في مناطق نفوذهما.
انتهى الأمر بحزب الله بالدفاع عن سياسات ورجال الحريري، وبمشاركة عناصر حركة أمل في الهجوم بالحجارة والعصي على بعض المتظاهرين. وانتهى الأمر بنصر الله بمعايرة جموع اللبنانيين بأن جمهوره لديه ما يقدمه الحزب من «دولارات»، ولم يتأثر بالانهيار الاقتصادي المريع الذي أصاب باقي لبنان
استلمت إيران الوضع في العراق عن طريق قاسم سليماني نفسه، الذي شارك في اجتماعات حكومية تبحث كيفية قمع الانتفاضة. وتطوع حزب الله لهذا الموقع في لبنان، اختار أن ينضم إلى جانب كبار الفسدة من النخبة السياسية اللبنانية، متبنيًا منطق خصومه التاريخيين، حاسمًا في انفصاله الاجتماعي عن الحدث، حتى أن نصر الله فزع من الشتائم في هتافات المتظاهرين، ثم انتقد تكتيك قطع الطرقات، الذي لطالما استخدمه الحزب نفسه في كل محطة خلاف داخلية، وقال إنه اعتداء على «الناس»، قاصدًا مجتمع الشيعة الذي يتنقل بين العاصمة والجنوب. هو نفسه المجتمع الذي أراد الحزب ونصر الله فصله تمامًا عن حراك الشارع، وإقناعه بالتحايل وبالتهديد، أن هذا الحراك موجهًا ضد مصالحه ووجوده. وهو نفسه المجتمع الذي يلخص مفهوم «الناس» لدى الحزب، لا اللبنانيين ولا العرب ولا سكان الجنوب العالمي ولا ضحايا الرأسمالية، الناس هم دائمًا جمهوره الأضيق، وبالنسبة للحزب، طالما أنه يدير المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية ويقدم لهم الخدمات المخفضة، فإنه أتم ما عليه في هذا الملف برمته، وبالتالي فعليهم دائمًا النأي بنفسهم عن أي حركة اجتماعية سياسية في لبنان.
انتهى الأمر بحزب الله بالدفاع عن سياسات ورجال الحريري، وبمشاركة عناصر حركة أمل في الهجوم بالحجارة والعصي على بعض المتظاهرين. وانتهى الأمر بنصر الله بمعايرة جموع اللبنانيين بأن جمهوره لديه ما يقدمه الحزب من «دولارات»، ولم يتأثر بالانهيار الاقتصادي المريع الذي أصاب باقي لبنان.
ذروة المحطات جاءت يوم 4 أغسطس/ آب 2020 عندما انفجر مرفأ بيروت في واحد من أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، وأُعلنت بيروت مدينة منكوبة.
في تمام السادسة وثماني دقائق من مساء هذا اليوم، بدأت سلسلة حرائق وانفجارات صغيرة انتهت بانفجار عنبر يضم 2750 طن من مادة نيترات الأمونيوم شديدة الانفجار. على الفور قُتل العشرات وجُرح المئات، أغلبهم من فرق الحماية المدنية وعمال المرفأ وسكان المناطق المحاذية، وهي ذات أغلبية مسيحية، التي تدمرت بشكل شبه كلي.
مرت الدقائق الأولى للانفجار، وقبل أن تهدأ سُحُب الغبار عن سماء المدينة، كانت الرواية الرسمية جاهزة، تضمنت أسباب الانفجار، وحسبت بدقة كمية المواد المتفجرة المخزنة في العنبر، «الذي احترق مصادفةً بسبب أعمال صيانة وتلحيم». خرجت الرواية كاملة بعد أقل من ساعة واحدة من الانفجار -في الوقت عينه الذي توقفت فيه أعمال الإغاثة «بسبب حلول الظلام وانقطاع الكهرباء»- على لسان رئيس الأمن العام اللبناني وقتها، المقرب من حزب الله، عباس إبراهيم، الذي وصف فورًا استماع الناس لأصوات طيران حربي، أو رؤية صاروح ما، بـ «الخيالات». وهي نفسها الرواية التي ستؤكدها في ما بعد التحقيقات اللبنانية، وتحقيقات الشرطة الفيدرالية الأمريكية، وتندمج فيها كل مكونات النقاش العام اللبناني، وهي ببساطة، أن «حدثًا ما»، كما وصف التقرير الفني لشعبة المعلومات اللبنانية، أدى إلى اشتعال مواد مُخزنة داخل عنبر واحد، وهي كميات مهولة من فتائل التفجير وبراميل الزيت والميثانول وآلاف إطارات السيارات وكذلك الآلاف من صناديق الألعاب النارية، وأدى اشتعال هذه المواد إلى تحفيز تفجير 2750 طن من نترات الأمونيوم المخزنة في نفس العنبر.
خلال أقل من 48 ساعة من الانفجار، كانت دائرة الدمار في بيروت مسرحًا لزيارات إيمانويل ماكرون وعدد واسع من الدبلوماسيين رفيعي المستوى القادمين من أوروبا.. لم تكن أهداف تلك الزيارات واضحة تمامًا، وزاد غموضها عندما رست قطع حربية فرنسية وإنجليزية قبالة شواطئ بيروت، وأعلنت البحرية الأمريكية استنفارها، وكان ذلك كما أُعلن «تحسبًا لتطورات الأحداث في شرق المتوسط».
ما أن هدأ غبار الانفجار، حتى تجلى بشكل مخيف مدى الانفصال التام لحزب الله، تنظيمًا وجمهورًا، عن باقي اللبنانيين، المنهارين اقتصاديًا والمكروبين من انفجار شبه نووي، بينما هم «لا ينهارون». انهالت علامات الانفصال هذا مع كل تفصيل، مع كل أمل مفقود في العثور على ناجين، من التعبير العام عن الغضب جراء سقوط الدولة الفعلي، كان جمهور حزب الله يوغل إما في تجاهل خراب العاصمة أو في التنكيت على الخراب الذي طال هؤلاء المرفهين المسيحيين، المستجدين في مشاهد الدمار. حتى أن نصر الله، في الاحتفال بذكرى الانتصار في حرب تموز بعد الانفجار بأيام معدودة، اعتذر لجمهوره عن غياب الاحتفال الجماهيري هذه السنة بسبب ضرورات التباعد الاجتماعي المتعلقة بجائحة الكورونا.
ولم تتوقف إشكالية الحزب المرتبطة بانفجار المرفأ عند حدود تعزيز الانفصال الاجتماعي مع اللبنانيين في بيروت نفسها، ولكنها في الحقيقة تبدأ بالأساس مع الموقف من الانفجار نفسه. من تلك الرواية التي جرى تقديمها لنا مكتملة خلال أقل من ساعة واحدة بعد الانفجار، قبل وصول أي من فرق التحقيق لموقع الانفجار، وتواطأ عليها اللبنانيين والفرنسيين والأمريكان، وكأنها لحظة نادرة من التاريخ السياسي، شهدناها جميعًا، اتفقت فيها أطراف تتراوح بين حزب الله وحتى أمريكا وإسرائيل، مرورًا بفرنسا وبريطانيا وميشال عون وسمير جعجع وعتاة الصحافة الاستقصائية ودعاة السيادة الوطنية، على ضرورة إنهاء ملف الانفجار باعتباره حادثة تضيع فيها المسؤولية بين صغار الفسدة وبضعة وزراء من هذا الفريق أو ذاك.
لقاء مباشر مع دبلوماسيين اثنين في بعثة أوروبية شاركت في التحقيقات في ما بعد، قالا لي عدة مرات في يوم الانفجار نفسه، إن استهدافًا إسرائيليًا، على الأرجح أُستخدمت فيه مسيّرة، ضرب حاوية محددة لحزب الله كانت ملاصقة لعنبر نترات الأمونيوم
وبينما تسيّدت تلك الرواية كل النقاش العام، كان هناك حقائق أخرى يجري دفنها بتواطؤ جماعي شارك فيه حتى السكان. حقائق تبدأ بأن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في معرض إعلانه عن هجمة إسرائيلية على مرافق لحزب الله في سوريا، أعلن تهديده بضرب من يستهدف إسرائيل قبل ساعتين فقط من الانفجار، وأن جميع سكان بيروت وضواحيها وجبل لبنان قد سمعوا طيرانًا حربيًا يحلق في سماء بيروت قبل ثوان من الانفجار، وأن دونالد ترامب في تعليقه المباشر على الانفجار كرر لثلاثة مرات أنه كان «اعتداء رهيب»، وفي المرة الثالثة قال بوضوح: «قابلتُ جنرالاتنا، ويبدو أنه لم يكن حادثًا صناعيًا. يبدو، وفقا لهم، أنه كان اعتداء. كان قنبلة ما، نعم».
كانت الساعات اللاحقة بالانفجار تشهد كذلك تحول في الرواية التي قدمها الدبلوماسيين في تصريحاتهم المجهلّة للصحفيين، وكان لي نصيب في معاينة ذلك التحول عن قرب، بعد لقاء مباشر مع دبلوماسيين اثنين في بعثة أوروبية شاركت في التحقيقات في ما بعد، قالا لي عدة مرات في يوم الانفجار نفسه، إن استهدافًا إسرائيليًا، على الأرجح أُستخدمت فيه مسيّرة، ضرب حاوية محددة لحزب الله كانت ملاصقة لعنبر نترات الأمونيوم، ولم يكن لدى الإسرائيليين معلومات بشأن محتويات العنبر، وبالتالي لم تقصد انفجارًا مثل هذا. وبحسب نفس التقدير، فإن حزب الله كذلك لا يتحمّل الإعلان عن حقيقة الأمر، لا من الناحية السياسية والاجتماعية وسط انهيار اقتصادي وأزمة سياسية ممتدة، ولا من ناحية ضرورة الرد بشكل يناسب حجم الاستهداف.
بمجرد بدء وصول الرؤساء وكبار الدبلوماسيين إلى بيروت بعد يومين، بدأت نفس المصادر تتراجع عن روايتها، أو تنكرها تمامًا، وتتبنى نفس الرواية التي تآمر الجميع على فرضها حتى اللحظة، دون حتى وضع فرضية العمل العدائي قيد الاختبار والتحقق.
عبّرت تلك المعادلة الأصلية الواردة في معلومات الدبلوماسيين، والتي تغيّرت في ما بعد لقصة الفساد وترتيبات القدر، عن حقيقة تجاهلها حزب الله منذ اغتيال القائد العسكري الأهم عماد مغنية في فبراير / شباط 2008، وهي أنه كان في الحقيقة خاضعًا لمعادلة ردع مغايرة تمامًا عن تلك التي يتخيلها ويعلنها، لقد تمكّن الصهاينة من فرض معادلة خفية على الحزب تتيح له الرد على العمليات المحدودة، أو التي قيمتها الرمزية أكبر من المادية، فيما أنه سيرضخ أمام العمليات الكبرى وأمام ضخامة المسؤولية وضرورة الرد المؤلم، والذي قد يفتح حربًا جديدة على لبنان، يتخيل الحزب أنه قادر على منع الإسرائيلي من دفعه إليها.
هكذا كان وضع حزب الله صبيحة 7 أكتوبر 2023. يعلن في كل مناسبة استعداده لأي مواجهة إسرائيلية ويفخر بخطة اقتحام الجليل، التي لم تحدث أبدًا وقتلت إسرائيل كل أطرافها. يركّز عمله الفعلي على المشاركة العسكرية إلى جانب بشار الأسد في سوريا، يرسل مبعوثين رسميين باسمه للعراق يصبحون فيما بعد من رموز الفساد المالي والأخلاقي، يخاصم الجماهير في سوريا والعراق ولبنان، يقحم نفسه في موقع الحاكم وحامي النظام، ويتورط في عمليات الفساد والنهب في مواقع نفوذه، مثله مثل المنافس الشيعي التاريخي «أمل».
عودة إلى وحدة الساحات
طغت السيولة السياسية تلك على الإمكانات التنظيمية للعمل المقاوم في المنطقة ضمن منطق «وحدة الساحات»، الذي كان في طريقه للتأطير قبل سنوات من طوفان الأقصى، غير أنها مع عدة عوامل أخرى، معظمها عوامل موضوعية تخص الظروف التي عملت ضمنها حركات المقاومة في فلسطين ولبنان، جعلت فكرة الوحدة هذه غير جاهزة أو قائمة بأي شكل عندما اقتحم المقاتلون الأراضي المحتلة من الأرض والسماء والبحر، في كامل محيط قطاع غزة الشرقي والجنوبي.
بحسب التفاصيل التي أوضحها الأمين العام للحزب نعيم قاسم، فإنه حتى بعد نصف ساعة كاملة من الانفجار الكبير في 7 أكتوبر، لم يكن لدى حزب الله، شأنه شأن بعض أجزاء الجسم السياسي لحماس نفسها، أدنى علمًا عن مخططات الضيف في غزة. وعندما أرسل الضيف مرسولًا خاصًا لنصر الله، يحيطه علمًا بما يحدث ويطلب منه الانضمام حتى الرمق الأخير إلى المقاومة الفلسطينية في الحرب الكبرى وبدء تنفيذ خطة اقتحام الجليل فورًا، كان من المستحيل أن يستنفر تنظيم ثقيل ومتشعب كحزب الله، بكل تعقيداته الإقليمية، وينضم في المعركة بالشكل المتوقع.
انعقدت شورى الحزب بعد 48 ساعة كاملة من بدء الأحداث في غزة، في ذلك الوقت كانت القوات البحرية الأمريكية وبعض القطع الأوروبية قد أتمت الاستنفار تحسبًا لحاجة إسرائيل، وقررت الشورى مستوى التدخل: عمليات عسكرية محدودة، تهجّر سكان شمال فلسطين المحتلة، لا يستطيع العدو تجاهلها ويستفرد بغزة، وكذلك لا تتدحرج إلى حرب كاملة ينخرط فيها لبنان، المُفلس اقتصاديًا منذ 2019، والذي انفضت جماهيره عن الحزب جرّاء سياساته واستعراض قوته واقتصار قاعدته الجماهيرية على البيئة المذهبية.
كان الإسرائيليون يقتربون يومًا بعد يوم من تصفية قيادة الحزب وضرب مخازن سلاحه الاستراتيجي وضرب قواته بشكل جماعي في حادثتي أجهزة البيجر واللاسلكي، وهي كلها أهداف لطالما سخر منها نصر الله نفسه، ورآها تتحقق جميعها أمامه حتى قُتل هو نفسه
في الواقع، كانت الخطة التي أراد حزب الله أن يتعامل بها مجرد فخ معقّد هندسه الإسرائيليون بصبر، بات واضحًا ومكشوفًا الآن. تصوًَر الحزب أنه يخضع العدو الإسرائيلي لتوازناته ويحركه بحسب خطة دقيقة لا تختل. كان ذلك في الحقيقة عملًا إسرائيليًا دقيقًا أراد خداع نصر الله، وزيادة توريطه في تصور قائم على أن الجيش الإسرائيلي لن يُقدِم على حماقة كبيرة تفتح الحرب على مصراعيها فيما لا يزال متورطًا في غزة. كان كل ذلك وهم، ضربات الإسرائيليين في الحرب لم تكن فقط لإخافة سكان الجنوب، وإنما كانت تمهيدًا لاجتياح بري. كان الإسرائيليون يقتربون يومًا بعد يوم من تصفية قيادة الحزب وضرب مخازن سلاحه الاستراتيجي وضرب قواته بشكل جماعي في حادثتي أجهزة البيجر واللاسلكي، وهي كلها أهداف لطالما سخر منها نصر الله نفسه، ورآها تتحقق جميعها أمامه حتى قُتل هو نفسه في منشأة، كان مُتوقع أن الاحتلال كشفها منذ سنوات، لكنه ظن أن العدو لن يقدم على اغتيال الأمين العام، وتحمل الزلزال الإقليمي الناتج. قُتل نصر الله وسلفه، ولم يقع زلزال واحد.
**
لا شك البتة أن طوفان الأقصى بطريقة ما كان مجرد مناسبة أطلقت خطط الإبادة الصهيونية، وأبرزت الصلة العضوية بين المشروعين الأمريكي والإسرائيلي، وكذلك الدعم الأوروبي المتخلي تمامًا عن أي ادعاءات ليبرالية. وهي خطط واضحة لمن يحفظ السياق التاريخي، ويمارس بعض التفكير والتشخيص للمسار الذي اتخذته الأحداث. هل من عاقل يتصور أن دولة استعمارية كإسرائيل ستقدم على كل تلك الخطط الإبادية فجأة ودون عمل قديم أقلّه أنتج برمجيات الذكاء الاصطناعي التي اختارت، ولا تزال، العائلات الفلسطينية المطلوب شطبها من سجلات الأحياء. وليس مفهومًا أن يظهر ادعاء كهذا في إطار يدّعي حمل قضية التحرر الوطني، وما يرتبط بها من تنمية اقتصادية ومحاربة الفقر وتحسين أوضاع العدالة الاجتماعية، من المفترض أن يدعم حركات المقاومة في حقها الطبيعي أن تختار موعد المعركة بما يناسب ظروفها، ليس لأسباب رومانسية مرتبطة بحق الضحية في اختيار موعد وطريقة قتله، وإنما لاختيار اللحظة الأكثر تناسبًا مع ظروف المقاومة، والأكثر إيلامًا للاحتلال.
عند الوصول إلى تلك المحطة، محطة «اللحظة المناسبة»، وانطلاقًا كما ذكرنا من الدعم الأصيل والمبدئي لحركات المقاومة، فإننا نرى المزيد من التساؤلات الصعبة، أكثرها يدور حول اختيار لحظة تاريخية تمر فيها شعوب المنطقة، خصوصًا هؤلاء الذين ثاروا على مدار عقد ونصف، بأكثر لحظات هزيمتهم العامة وانعدام قدرتهم على التنظيم والتحرك، حيث باتوا يعيشون ضمن شروط استعمارية لا لبس فيها، واختناق اقتصادي غير مسبوق، والأهم دون إتاحة أي من القنوات السياسية الطبيعية التي تسمح بالنضال.. في هذا السياق، وإن كانت لحظة 7 أكتوبر هي أنسب لحظات حماس، فلم تكن أنسب لحظات حزب الله الذي كان جاهلًا بالمخطط كله. وإن كانت أنسب اللحظات بالنسبة للمعلومات الاستخبارية ومدى جهوزية المقاومة وضعف الاحتلال، فلم تكن الأنسب بالنسبة للجماهير العربية، التي تمتلك وحدها أدوات ضغط حقيقية قادرة على لجم الجنون الإسرائيلي.. وهذا بالمناسبة ليس مبالغة في تصور دور الجماهير، لكن مع كل ما يحدث، أستطيع جيدًا تخيل لو حصلت الحرب فيما المصريون مثلًا يعيشون ظروف 2012، ظروف كانت تسمح بكل تأكيد بمحاصرة كل المصالح الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة، بداية من استخدام قناة السويس وحتى تعطيل تصدير الغاز إلى أوروبا، أو حتى مع تجمع لمئات الآلاف من المدنيين على المسافة صفر من الحدود مع فلسطين المحتلة.
ثمّة مخارج ممكنة
بناءا على كل ما سبق، لا يمكننا إلا الاعتراف بأن النتائج التي نعيشها، وسيأتي المزيد منها مع كل حدث جديد، ما هي إلا الحصيلة المنطقية والمتوقعة لتصارع وتفاعل كل الأطراف الشريكة في تشكيل واقعنا السياسي والاجتماعي. وإن كان المسار الذي اتخذته الأحداث غير خاضع إلا لقواه الأساسية، فإن قراءة ما حصل، وحدها قادرة على طرح تصورات جديدة تقلِّص فداحة الخسائر المتتالية وتؤسس لمساعي جدية لاستلام السلطة السياسية مباشرة. يتضمن هذا استبيان طبيعة الصلة بين الأطراف الفاعلة، والفجوات بين حركات التحرر الوطني وسياقات التحرر السياسي والاجتماعي من سلطة الطبقات الحاكمة، وكذلك طبيعة الوحدة بين السطوة العسكرية لإسرائيل والسطوة الاقتصادية الإماراتية، التي تتصل بدورها بجماعات إرهاب محلي متورطة في جرائم ضد الإنسانية، وتبسط نفوذها المتنامي إما بتجارة الديون، أو بإشعال الحروب الأهلية ورعايتها.. كل ذلك سيتمم معناه فقط إن بُني عليه في بدء العمل فورًا في خطة لعكس مسار الأحداث، التي بات يتقاسمها الفاشيون بخلاف مظاهرهم.
أول الحقائق التي تفرض نفسها على أى نقاش جدي، أنه ما أن تنتهي حرب الإبادة الجارية، أو تستقر لحرب أبدية، فإننا سنكون أمام فراغ كبير في الأطر المقاومة جرّاء الضربات الكبرى التي لحقت بها، ما تضمن تدمير إمكانيات بُنيت على مدار عقود. وهذا الفراغ ليس مرشحًا للامتلاء وضعًا في الاعتبار أنه، ولأول مرة منذ صعود نموذج حرب العصابات بديلًا عن حروب الجيوش النظامية عقب هزيمة 1967، سنكون أمام غياب للدولة الوطنية التي ترعى وتطور نموذج حركات حرب العصابات هذا، مع الضربات الكبيرة التي لحقت بإيران..
يعني هذا، وربما للمرة الأولى منذ تأسيس دولة الاحتلال أننا سنكون في وضع لا يصوب فيه أحد بندقية واحدة على إسرائيل. ويعني أن نموذج حركات المقاومة، الذي كان قائمًا حتى صباح السابع من أكتوبر، وبإضافة الضربات العسكرية الفادحة التي تلقاها، بخلاف ضربات الإبادة في غزة، بات هذا النموذج أمام محطة مفصلية، إما ينتهي فيها للأبد، أو يغيّر مساره بشكل كبير يتضمن تغيير حتى في البنية السياسية والفكرية.
يترافق هذا مع أن جميع أطراف المنطقة، حركات جماهيرية وأقليات دينية وعرقية وطبقات حاكمة ودول عميقة وجيوش، سيكونون خاضعين جميعًا لانكشاف إسرائيلي أمني وعسكري واجتماعي مفزع، بحيث نعيش شروط القيادة الإسرائيلية (الأمنية والعسكرية) والخليجية (المالية) لمنطقة مستثناة من أفكار حقوق الإنسان وتلك القيم التي تنازل عنها الأمريكان والأوروبيون في معرض دعمهم للإبادة. يقول هذا إن أي حركة اجتماعية أو سياسية ستعمل في النطاقات الخاضعة لهذه السيطرة، إن أرادت العمل على تحسين ظروف حياتها، فإنها ستصطدم حتمًا بطرفي السيطرة، اللذان لن يترددا في حماية مصالحهم، بخلق عشرات الأطر الشبيهة بمليشيات الدعم السريع في السودان وعصابات أبو شباب في غزة.
كذلك، فرضت تدخلات الأطراف الإقليمية الفاعلة، بداية من النقيض الإيراني وحتى النقيض الإسرائيلي، صلة قوية بين سياقات لطالما رفضت الاعتراف بالارتباط البنيوي بينهم، سياقات حركات المقاومة التي ترى العالم فقط من منظور جيوسياسي، وسياق الحركات السياسية الوطنية والحركات الاجتماعية، التي تتعالى على مسائل الأمن القومي والسياسة الخارجية والقراءات الجيوسياسية. بات واضحًا، أنه طالما تجاهلت حركات المقاومة في المنطقة، آليات الصراع الطبقي ودور الحركة الجماهيرية الضروري في مهمة التحرر الوطني، فإنها ستبقى تحاول مغالبة الظروف المادية في دائرة مغلقة من الاستنزاف العسكري والأمني والاقتصادي. وكذلك، طالما أصرت الحركات السياسية، من تيارات ومنظمات وأحزاب وأفراد مؤثرين، على تجاهل مسائل الأمن القومي والجيوسياسة، فإن المصير سيتبدل بين قتل السياسة بالنموذج المصري الناعم، الذي تواصل فيه الدولة الحد الأدنى من وظائفها فيما تتورط يوميًا في المزيد من الخضوع لسطوة الاستعمار الجديد، أو بالنموذج السوري الدموي، الذي يلفق صراعًا طائفيًا مضادًا للعمل السياسي بالأساس، يقضي على إمكانية الفعل والتأثير، لصالح توحش فاشي طائفي لا مطالب له سوى التصفية المذهبية الخالصة.
كَسَر المشهد كذلك الفواصل الوهمية التي عملت عليها الليبرالية الجديدة على مدار عقود لقطع أوصال النضال الاجتماعي المنظم والجذري لصالح النشاطوية وعمل منظمات المجتمع المدني وسيادة منطق سياسات الهوية.. لم يعد صالحًا أن تدافع عن حقوق مجتمع الميم في المنطقة، وتتيح لك ألمانيا فرص التمويل إن كنت لا تؤمن بحق إسرائيل في القتل والتجويع. ستتعرض للضرب والتهديد بالاغتصاب في السويد لو رددت شعار «فلسطين من النهر إلى البحر». كل تلك المظاهر التي حددتها دول أوروبا، بصفتها دول الاستعمار القديم التي أبت أن تتخلى عن المنطقة دون أن تسلمها لاستعمار جديد تقوده أمريكا وتنفذه إسرائيل، وشكّلت آليات سطحية للتعامل مع المنطقة، في صورة تمويلات وبرامج مانحة أو وسائل ضغط يستخدمونها على حكامنا، تبخرت فورًا وبات مفهومًا وواضحًا أمام الجميع أن لا وجود لمثلها عندما يكتسب الصراع بعض الجدية، وتتناقض المصالح الحقيقية بيننا.
هناك تشارك في المصالح وفي الخصومة بين شعوب المنطقة يفرض ضرورة النضال المتصل إقليميًا، في سياق تُفرَض فيه حقيقة الصلة البنيوية بين التحرر السياسي لشعوب المنطقة مع التحرر من سطوة الاستعمار الإسرائيلي والخليجي
تفرض تلك المستجدات العديد من الاستحقاقات على سعاة التغيير في المنطقة، خصوصًا هؤلاء الذين تتناقض مصالحهم مع مصالح شلّة المليارديرات ورجال الحُكم ومجرمي الحرب، تبدأ الاستحقاقات من بحث الصلة العضوية بين المجتمعات العربية، وهل علينا أن نواصل النظر سياسيًا إلى دول المنطقة بعين التضامن الأخوي والإنساني؟ أم علينا استعادة المنطق العروبي، تحتكر فيه الدولة مسائل الحكم والسياسة والأمن القومي والدفاع، وتقع فيه مقدمة الصراع في فلسطين وحدها؟
الإجابة في قراءتنا هذه هي، قطعًا لا هذا وذاك. هناك تشارك في المصالح وفي الخصومة بين شعوب المنطقة يفرض ضرورة النضال المتصل إقليميًا، في سياق تُفرَض فيه حقيقة الصلة البنيوية بين التحرر السياسي لشعوب المنطقة مع التحرر من سطوة الاستعمار الإسرائيلي والخليجي. وإن كان التدخل الاستعماري لتلك الأخيرة كان أكثر وضوحًا في الموجة الأخيرة من تحركات الجماهير في 2019، التي وصلت حد قتل الناس وقصفهم بالصواريخ في السودان، فإن أي حركة اجتماعية جادة في مصر مثلًا ستصطدم حتمًا بذات الأطراف الاستعمارية التي بات لها نصيبًا كبيرًا من اقتصاد وأراضي وموارد البلد، وبالتالي لها تأثيرًا كبيرًا على القرار والمصلحة السياسية.
إجابتنا ترى الشرط الموضوعي بين استعادة بيئة سياسية نشيطة وفعّالة في سوريا، بالاستقلال الوطني اللبناني عن السطوة الإسرائيلية والأمريكية، وبالتخلص من سلطة النظام الأوليجارشي في لبنان. لا نتحدث عن سيادة لسوريا على لبنان، ولا عن انشقاق يفصل أقليات البلدين عن الأغلبية السنية. نتحدث عن سياق يفرض ضرورة النضال السياسي السليم في سوريا، لا يسمح بتمييع الصراع وخلطه بمعارك طائفية مصنوعة صنعًا تقتل السياسة والبشر في نفس الوقت، ويفرض كذلك ضرورة النضال ضد التوسع الإسرائيلي والتحكم الاقتصادي السعودي- الإماراتي في سوريا، ويرى التناقض الحتمي بين المشروع الإسرائيلي في المنطقة، وبين إمكانية الاستقرار السياسي والاقتصادي.
الأكثر من ذلك، يبدو واضحًا أن الأطر المقاومة في المنطقة باتت أمام استحقاق دولي وليس إقليمي فقط، وذلك تأسيسًا على ما أكدته حرب الإبادة، أنها لو لم تُدعم بالشكل غير المشروط الذي رأيناه جميعًا بداية من الطبقات الحاكمة في المنطقة، وحتى أكثر الدول الأوروبية بياضًا، لما كانت أن تستمر لساعة واحدة. وهذا الدعم ليس دعمًا ثقافيًا، إذ لا تزال أوروبا، رغم كل دعاياها الكاذبة، تعاني من مرضها العضال في احتقار اليهود، وبالتأكيد ليس تعويضًا عن التاريخ الممتد من اضطهاد اليهود في أوروبا والذي تكلل بالمحرقة، على حساب شعوب الشرق الأوسط، الأمر فقط يدور حول التحيز للمصالح في خضم الصراع العالمي. في مصالح فرنسا في النهب المنظم لموارد الدول الإفريقية الفقيرة، في مصالح إيطاليا بوقف الهجرة غير النظامية، في رعاية وكلاء الدول العميقة الأوروبية في المنطقة، في حفظ استقرار الأنظمة المتكالبة على التسلح وخلق المزيد من الديون، ورهن كل موارد بلدانهم من أجل أن تدّعي أوروبا أنها تعوض عن مسؤوليتها التاريخية في رفع حرارة الكوكب، على حساب الملايين من السكان الأصليين المحرومين من الماء والغذاء والطاقة.
وإذا كان الارتباط المباشر بين الدول الأوروبية وآلة الإبادة الإسرائيلية، من تصدير قطع غيار السلاح ومواد أولية، فإن الموقع الأصيل لتلك الدول يفرض على أطر المقاومة أن تنخرط في الصراع العالمي، وتسعى لتجذيره وتصويبه بحيث يدرك الصلة الموضوعية بين الأزمة غير المسبوقة للرأسمالية العالمية، والتي بمجرد أن نراها بعين تدرك الانخفاض الحاد في عتبة اندلاع الصراعات العسكرية، والتدهور المرعب في ملف التغير المناخي، فإننا لن نبالغ أبدًا إذا ما قلنا أننا نعيش الآن مع النظام السياسي الذي سيقضي على حياة البشر كما عرفناها.
كل ذلك يقدّم العديد من الاتجاهات التي يتوجب على سعاة التغيير لصالح غالبية الناس في المنطقة، السير فيها جنبًا إلى جنب مع محاولات تنظيم أنفسهم وخروجهم من حال الهزيمة الخانق، وذلك في ضوء التغيرات التي طرأت على وظيفة الاحتلال الإسرائيلي ودور الطبقات الحاكمة الخليجية منذ دخول الجماهير على خط السياسة في 2011، وكذلك الفراغات التي خلقها انسحاب تلك الجماهير إثر هزيمتهم اللاحقة، وأيضًا بالبناء على الحقائق التي فرضتها حرب الإبادة، خصوصًا في الصلة المفقودة بين حركات المقاومة وبين المجتمع بمفهومه السياسي.
أول تلك الاتجاهات هي ضرورة إعادة ترتيب الخيال السياسي ليتضمن حقائق الأمن القومي والسياسية الإقليمية، بما لا يتجاهل الصلة الوثيقة بين مصالح الطبقات الحاكمة المحلية من جهة، ورعاتهم في الخليج والولايات المتحدة، وشركائهم في إسرائيل، من الجهة الأخرى. وكذلك، بناءًا على الوحدة المفقودة التي تفرضها الخريطة السياسية الحالية على سعاة التغيير في كل بلدٍ من بلدان المنطقة. المسألة الفلسطينية ليست سياقًا مجاورًا للمصريين المأزومين في السياسة والاقتصاد، والعكس صحيح تمامًا، أي معركة قادمة في فلسطين، لا فرصة لها في خوض أي مساحة حقيقية دون الاشتراك مع الجماهير المحيطة بفلسطين، مع الفلسطينيين أنفسهم، في ما تبقى من الضفة الغربية، وفي ما سيتبقى من غزة، وفي الداخل المحتل الذائب في الجسم الاستيطاني الإسرائيلي.
أول ما يعنيه ذلك، أن على الجماعات السياسية المنظمة، سواء كانت أحزاب أو حركات محدودة تسعى للتغيير، سواء كان تغييرًا انتخابيًا أو ثوريًا، أن تفكر في كل ما تعنيه دولة الاحتلال، وفي موقعها كضامن إقليمي ومحلي للقمع السياسي والنهب المنظم والسطوة العسكرية المطلقة. ذلك الموقع، وإن كان البعض يتوقع أنه يجعلها تصطدم مع بعض تيارات من الدول العميقة في المنطقة، خصوصًا المصرية والتركية، فإنه بلا شك يضعها في مواجهة أكيدة وحتمية مع أي من فرص التغيير السياسي في المنطقة، بشكل يلزمنا أن نحضّر لتلك المواجهة من أول لحظة مقبلة. هذا لا يعني بالضرورة أن نتجهز للعمل المسلح، فالنهاية العمل المسلح، في تصورنا، عليه أن يستند على العمل الجماهيري ويتكامل معه، لا يستبدله ويغني عنه.
كل ما سبق يعني أولًا أن تصبح مهمة مقاومة إسرائيل كمشروع استيطاني على أرض فلسطين، يسعى للسيطرة على الإقليم كله، بالشراكة مع الطبقة الحاكمة الخليجية، التي لا تتوانى عن دعم وتشغيل وتأسيس جماعات مسلحة تنخرط في جرائم الحرب، ولا عن فرض سياسات استعمارية على بلداننا، أن تصبح مهمة مقاومة ذلك المشروع مدرجة على رأس برامجنا السياسية، تفترض تكتيكات عمل يومية شأنها شأن قضايا المعتقلين السياسيين وغلاء الأسعار، وتتشارك بشكل أساسي في رسم استراتيجياتنا، بما يحفظ الصلة الأساسية بين هزيمة المشروع الإسرائيلي- الخليجي، بانتصار شعوب المنطقة في معاركهم السياسية.
وتكتسب تلك المهمة ضرورة إضافية في ظل حقيقة الانكشاف الكامل أمام العدو الإسرائيلي، وسطوته العسكرية والتكنولوجية. بالطبع ذلك الانكشاف وتلك السطوة يضيفان مستويات مركبة من التعقيد على العمل السياسي في المنطقة برمتها، وينطبق ذلك بالمناسبة على أجزاء من الطبقات الحاكمة العربية التي لا تزال تحتفظ ببعض من اعتبارات الأمن القومي والمصلحة الوطنية، ما يطرح إمكانيات سياسية براجماتية للتحالف معها على مصالح مشتركة مباشرة، كمنع تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، أو رفض حيازة إسرائيل لأسلحة الدمار الشامل.
ومع الإقرار بحقيقة أن المنطقة المكشوفة بالكامل هذه، باتت على وشك القيادة الإسرائيلية المطلقة والمدعومة من استعمار خليجي جديد، فإن ذلك أيضًا يفتح المجال لطيف شديد الاتساع من مساحات محتملة للمواجهة، تُضاف لما تبقى من مساحات المواجهة العسكرية التقليدية.
نجد ذلك في سياقات حركات محاربة الديون، وسياسات صندوق النقد الدولي المسؤولة عن الإفقار المُنظم. وفي مقاومة سلطة الشركات الكبرى والدول الصناعية والنفطية في قضايا التغير المناخي، المرتبطة بقضايا الناس بشكل مباشر في استخدام المياه والطاقة والزراعة والصيد وتوزيع الديون والتعويضات المناخية. في مناهضة سياسات بيع أصول الدولة والسطوة الاقتصادية للحكام الخليجيين في مصر، أو في مواجهة الاستحواذ على مساحات واسعة من أراضي الشعب المصري. أو محاربة مليشيات الدعم السريع السودانية، التي تمولها وترعاها الإمارات وتمارس الجرائم ضد الإنسانية في كل لحظة، وتسطو مع غيرها من العصابات على الموارد الاقتصادية للشعوب الفقيرة، لتصدرها للمركز الاستعماري في أبو ظبي. أو في محاربة القطاع المصرفي الفاسد في لبنان، والذي لا زال يحكم البلد بالمناسبة بعد 6 سنوات كاملة من الانهيار والإفلاس. أو في السياق الغائب في سوريا، والمفترض أن يقاوم الصفقات الاقتصادية اليومية التي ترهن موارد البلد الاقتصادية لصالح شلل من رجال الأعمال الخليجيين والأتراك، فيما تمارس عصابات الجولاني التصفية المذهبية في كل فرصة ممكنة.
استغلال كل الساحات الممكنة لمناكفة النفوذ الاستعماري هذا لا يطرح فقط إمكانيات جديدة للمقاومة، بل إنه يقدم برنامجًا عمليًا محتملًا لاجتذاب ما تبقى من الأجنحة السياسية لحركات المقاومة في المنطقة، وهذا ضروري لعدة أمور ملحة:
أولًا، السعي للتأثير في الأطر السياسية لفصائل المقاومة، والتيارات القومية واليسارية الأضيق المحيطة بها، بما يدفعها للاعتراف بالصلة البنيوية بين المعركة السياسية والاجتماعية لغالبية شعوب المنطقة، شأنهم شأن غالبية الشعوب عمومًا، بالمعركة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم الإقرار بالصلة الموضوعية بين أطر المقاومة المسلحة وأطر المقاومة الاجتماعية والحركة السياسية. ما يعني دائمًا أن القرار العسكري للمقاومة عليه أن يكون عليمًا بالإطار الاجتماعي والسياسي لشعوب المنطقة، المطلوب منها المشاركة الفعالة والمتواصلة في مقاومة الاحتلال وشركائه.
ثانيًا، بعيدًا عن افتراضات البعض بانتظار نموذج لحركات المقاومة، آتيًا من التراث الثوري العالمي، والتي تتجاهل الظروف الموضوعية التي نشأت تحتها تلك الحركات، وكذلك كونها حركات ذات جذور اجتماعية ضاربة في المجتمع وليس مجرد عصابات مسلحة معزولة في الجبال والصحاري هبطت على المجتمع من الفضاء، فإن تعاطي تلك الحركات مع الواقع السياسي خصوصًا عندما كانت في موقع السلطة والحكم، يعبر عن انخفاض واضح في سقف الخصومة مع الاحتلال وما يمثّله إلى حد المعارك العسكرية الضيقة، أو حتى إلى الاختناق بموازين ردع متخيلة بالشكل الذي شهدناه في لبنان. ولرفع ذلك السقف، ليتضمن المقاومة السياسية للاحتلال الإسرائيلي وشركاه العرب والدوليين، ويواجه مشاريعهم الاستعمارية في المنطقة، عليه أن يقدم نفسه، ونقدم الرؤية الأوسع للمقاومة معه، في كل سياق للصراع العالمي. على أن تكون قضية مقاومة إسرائيل حاضرة في وعي كل حركات التغيير الاجتماعي والسياسي في العالم، علينا أن نجعل منطق المقاومة العربية الشامل، ضد إسرائيل وفريقها، أمرًا لا يمكن تجاهله عند الحديث عن حركة شعوب الجنوب العالمي في المقاومة العالمية.
أخيرًا، ومع الإقرار بعمق الأزمة السورية، ووقوعها بين آثار الحرب الأهلية الطويلة، التي شاركت فيها فصائل المقاومة باختلاف مواقعها، والطموحات التركية والإسرائيلية والخليجية، ومع سيطرة تيار أبو محمد الجولاني بكل ما تعنيه برامجه الفاشية تجاه الصراع السياسي في المنطقة، وما يتضمن مشروعه للتصفية المذهبية المضاد للأقليات الدينية والعرقية في سوريا، وتفزع منه باقي أقليات المنطقة، ومع طغيان التحليل الطائفي على الصراع السياسي، وجذوره الحديثة تعود لتشخيص حرب الأسد بوصفها حرب العلويين ضد أهل السنة.. مع كل ذلك لا يمكن تخيُل الكثير من الاقتراحات القادرة على اختراق الصراع السوري المحصور بين العوامل الطائفية والإقليمية.
مع ذلك، قد يقدًم سياق العمل الإقليمي المشترك في المنطقة، بين الجماعات اليسارية والتيارات التي قررت أن حرب الإبادة تستدعي العمل الجاد والدؤوب من جهة الشعوب العربية، مع التيارات السياسية التي حملت مهمة المقاومة العسكرية في المنطقة طوال العقود الماضية، وارتكبت كل تلك الأخطاء المشار إليها، إطارًا قادرًا على تجاوز المأزق السوري، واجتذاب أطراف سورية تعي ضرورة قلب الصراع الطائفي إلى أصله السياسي، في نفس الوقت ترى بوضوح التناقض الأصيل بين الأطراف التي تشارك في قيادة الإقليم، وعلى رأسهم إسرائيل ودول الخليج، وبين مصلحة غالبية السوريين.
تبقى المعضلة الأساسية في كل ذلك، كما كانت طوال السنوات الماضية، هي غياب الناظم القادر على هندسة هذا التشبيك، بل وحتى تنظيمه وقيادته حتى يصل إلى موقع حقيقي في الصراع السياسي
بالطبع شرط جدوى هذا الاحتمال أن يجد استجابة سورية، ولا يبدو أنها متوافرة تحت الظروف القائمة، غير أن الصلة البنيوية بين كل ما يحدث في سوريا، خصوصًا من جهة الاحتكارات الاقتصادية الجديدة لصالح الخليج وتركيا، وبالتالي موقعها في خريطة رأس المال الإقليمي، ومن جهة السطوة ومساعي الإخضاع الإسرائيلية، وبين النظام الإقليمي الجديد الناتج عن حرب الإبادة، تفرض الإصرار على الاعتراف بتلك الصلة، وعلى انعكاسها في البرامج السياسية لكافة الأطراف ذات الصلة، وأن يبقى ذلك الإصرار قائمًا، يصوّب نفسه بناءً على كل المتغيرات، حتى تأتي لحظة ما تتوافق فيها الظروف الضرورية لخلق ذلك التشبيك المفقود بين الصراع السياسي في سوريا وفي المنطقة، على مستوى قوى التغيير والمقاومة الاجتماعية والسياسية.
تبقى المعضلة الأساسية في كل ذلك، كما كانت طوال السنوات الماضية، هي غياب الناظم القادر على هندسة هذا التشبيك، بل وحتى تنظيمه وقيادته حتى يصل إلى موقع حقيقي في الصراع السياسي. مع ذلك، تحتفظ الخبرة السياسية الحديثة بين بلدان المنطقة، بالعديد من المحاولات السابقة للعمل والتشبيك الإقليمي بين أطراف لا يجمعهم إلا فكرة المقاومة، سواء الوطنية ضد قوى الاحتلال، أو الاجتماعية والسياسية ضد الأنظمة المستبدة وقواها الاقتصادية.
في السنوات التالية للانتفاضة الفلسطينية الثانية، ثم حرب العراق في 2003 وحرب لبنان 2006، كانت المنطقة العربية تشهد العديد من محاولات التشبيك تلك، مثل «مؤتمر القاهرة لمناهضة الحرب»، والذي كان بمثابة لقاءا سنويًا للتواصل والتنسيق بين جماعات المقاومة في المنطقة، وحركات التغيير السياسي العربية، مع مناضلين من أحزاب وجماعات يسارية ومن حركات مناهضة العولمة والحرب من مختلف بقاع الأرض، أو «مؤتمر بيروت لدعم المقاومة» الذي كان متصلًا بعمل مؤتمر القاهرة، وقدًم لفترة محدودة امتدادًا إقليميًا لذلك العمل التنسيقي، قبل أن تختفي تلك الأطر تحت وطأة الظروف السياسية.
ها نحن نعود مرة أخرى لمعضلة التنظيم، نفس المعضلة التي انتهى بها كل صراع سياسي محلي في المنطقة خلال العقود الأخيرة، في الفراغ العام المتروك للقوى الطائفية والفاسدة في لبنان وسوريا والعراق، في انعدام السياسة في مصر وعزوف القوى الديمقراطية عن مساعي الحكم واستلام السلطة، وهو أمر مشابه لما يحصل في تونس، وفي سطوة الصراع الإقليمي على الصراع السياسي في السودان وليبيا.
مع ذلك، وبم أن الظرف المُعاش، في الهزيمة المرة أمام إسرائيل وفي تفاقم الهزيمة أمام الطبقات الحاكمة، وفي الانكشاف الكامل أمنيًا وعسكريًا وسياسيًا أمام الاحتلال الإسرائيلي، وفي العيش تحت وطأة السياسات الاستعمارية الخليجية، يفرض وضعًا جديدًا لم يعش تحته سكان المنطقة في أي وقت مضى، فإن النضال السياسي المطلوب والمنتظر عليه أن يسير جنبًا إلى جنب مع التعاطي مع الواقع السياسي بكل إشكالياته، والبناء عليها، واختبار الخيارات السياسية الممكن التعامل بها مع هذا الظرف غير المسبوق.
إذن، مهمة تفكيك المشهد العام وفهم قواه الأساسية ومصالحها السياسية والاقتصادية، وتعيين موقع حركات المقاومة المسلحة فيه، وموقع النضالات الاجتماعية والسياسية المحتملة أو المطلوبة، وكذلك الموقع الطبقي للطبقات الحاكمة بأقسامها المختلفة، في تل أبيب وأبو ظبي والرياض، وفي بلداننا الخاضعة للاستعمار المركب والاستبداد المحلي، تلك المهمة لا تنفصل عن استنفار كل المساحات المتاحة للتعامل مع ما تفرضه الأحداث المأساوية التي نعيشها جميعًا، وإذ يستلزم ذلك أولًا تأطير خطاب شامل يرى كافة التعقيدات وينظمها في خريطة إقليمية واضحة، ومن ثم العمل على خلق أدوات لتسييد ذلك الخطاب والدعايا له، فإن اكتشاف محاولات التنظيم الضرورية لن يحصل إلا في خضم النضال نفسه، وليس بوصفة واضحة أو محددة.
إن وضع تصورًا كاملًا لما قد يخترق الوضع القائم ويفرض إرادة بديلة، يستلزم الكثير من الأمور على رأسها أن تكون الأطراف الساعية للاختراق هذا على قدر عالي حاضر وقائم من التماسك والتأثير، كما يستلزم أدوات معقدة للنضال السياسي لا تمتلكها السياقات المتحيزة لمصالح الناس.. وعليه، فإن السبيل الوحيد لامتلاك تلك الأدوات والقدرة على التأثير الإقليمي، بالمعنى السياسي العملي، يبدأ فعلًا من العمل دون أجندة طويلة.. حتى اللحظة مدون فيها بند واحد فقط، اسمه الدعاية السياسية المنظمة.
فلنرى الواقع، ونهجم الآن.