تحركت عشرات السفن البحرية من سواحل برشلونة، يوم 31 أغسطس الماضي، ضمن 4 كيانات رئيسية هي الحركة العالمية نحو غزة وتحالف أسطول الحرية وأسطُول الصمود المغاربي ومبادرة “صمود نوسانتارا” الشرق آسيوية، بهدف كسر الحصار الإسرائيلي غير القانوني المفروض على قطاع غزة. لكن، حدث معهم ما حدث مع غيرهم، فقد تحركت سفن مثل “حنظلة” و”مادلين” في الأشهر الماضية، لكن أيضا منعهم الجيش الإسرائيلي من الوصول إلى غزة، واعتقل وسجن ورحل النشطاء الذين كانوا على متن هذه السفن التي حاولت كسر الحصار على غزة. كل هذه المحاولات التضامنية الفعلية لمساعدة الغزيين الذين يتعرضون لإبادة جماعية مستمرة منذ عامين، سبقها محاولات تضامنية متعددة ومتباينة سواء على منصات التواصل الاجتماعي أو على مسارح الحفلات في فضاءات الترفيه أو احتجاجات واعتصامات ميدانية، وغير ذلك من فضاءات متباينة ومتداخلة، لكن كانت كلّها غير كافية لإيقاف الإبادة، بل وأخذت شكلًا أكثر سيولة من حيث الفعل والهدف.
من هنا، نحاول طرح نقاش حول كيف ميّعت النيوليبرالية -التي تلعب دورًا بارزًا في إضعاف أدوات النضال عبر تبني أداء رأسمالي يهدف إلى استيعاب الحركات المعارضة والتضامنية وإفراغها من فعلها الثوري، بدلًا من قمعها مباشرة- التضامن، إذ يعمل هذا الأداء على تحويل أشكال المقاومة إلى مجرد ممارسات استهلاكية أو أشكال فنية سطحية، مثل بيع قمصان تحمل شعارات الثورة أو تحويل الاحتجاجات إلى عروض غنائية، استهلاكية، ما يجعلها تبدو شكلية وغير مجدية في تحقيق أي تغيير حقيقي. كما، نحاول طرح نقاش نقدي حيال مفهوم التضامن تجاه الإبادة الجارية في غزة؟ كما البحث حيال مسارات التأثير الحقيقي الذي أحدثه التضامن في كل فضاءاته على القرار السياسي العربي والغربي تجاه إسرائيل وممارساتها الإبادية بحق الغزيين؟ وكل هذه الرؤى، نحاول من خلالها الإجابة على سؤال: لماذا لم تقف الإبادة؟ هل كان التضامن غير فعال بشكل كافٍ؟
التضامن كسلعة استهلاكية
منذ السابع من أكتوبر حتى وقتنا الحالي، شهد العالم حركات تضامن مختلفة سواء أكانت في الفضاء الرقمي أو الواقعي، لما يحدث في فلسطين من إبادة جماعية تمارسها إسرائيل بحق الغزيين. عبر منصات التواصل الاجتماعي وبرامج التوك شو السياسية، تفاعل عشرات الملايين من الناس حول العالم مطالبين بوقف القتل الجماعي التي كان قد بدأ، منهم كانت شخصيات بارزة من نجوم الفن والإعلام والرياضة حول العالم. لكن، ومع الهوس بالمشاهدات ومقولات “الترند”، سلَّط التضامن الرقمي الضوء على شخص المُتضامن لا على الضحية، ومدى نجاح التضامن توقف على عدد المشاهدات، لا على كيفية التضامن ذاتها، من حيث القول والفعل.
برز الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف كمثالٍ على شكل التضامن في العصر الرقمي، إذ كان تضامنه ناجحًا، لاسيما مع الإعلامي البريطاني بيرس مورغان في برنامجه “Piers morgan uncensored”، ليس لأن يوسف دافع عن القضية الفلسطينية وحق المقاومة في التحرر بشكل قوي، بل لأنه حقق مشاهدات بالملايين كسبب رئيسي، حتى أنه في أحد لقاءاته، اتفق مع مورغان على أن حركة حماس هي حركة “إرهابية”، طالما أميركا قالت هذا. ولم يتم انتقاده بوصف المقاومة الفلسطينية بـ”الإرهاب”، على عكس ما نال من احتفاء بما أن مشاهدات الحلقة أصبحت بالملايين. من هنا، بدأت موجات تضامن الأنفلونسرز والشخصيات البارزة تقيَّم بالمشاهدات لا بالدفاع الجاد عن حق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وتحتفي بالمُتضامن ذاته لا بالضحية التي تُقتل وتَصمد وتُقاوم.
إن عصر الإبادة تزامن مع عصر “الفرجة”، حسب وصف المفكر الفرنسي غي ديبور. ففي هذا العصر، يتحول القتل الجماعي إلى مجرد “مشهد” يُعرض أمامنا، فتتحول الضحايا إلى مجرد أرقام، ما يجعل المأساة أمرًا مألوفًا، وكأن قتل العشرات يوميًا هو مجرد حدث عادي. نحن نستهلك هذه الأحداث كخبرٍ عابر، نتوقف عنده للحظة ثم نواصل حياتنا اليومية. هذا التفاعل السطحي مع المأساة يعكس جوهر مجتمع الفرجة، حيث يتم فصل الواقع عن حقيقته المؤلمة ليصبح مجرد صورة للاستهلاك. هذا فضلًا عن الشخصيات العامة في الفن والرياضة التي فضّلت أن تكون براغماتية، وألَّا تُعلن مواقفها الإنسانية الرافضة للقتل بشكل واضح، بما أن المسألة تخص إسرائيل التي تروّع كل من ينتقد إجرامها تحت لافتة “معاداة السامية”، فابتعدت هذه الشخصيات عن إدانة الجرائم الإسرائيلية بشكل واضح. أيضًا ساعد التضامن “السائل” أو غير الواضح مفهوم الفردانية بمُمارساته البراغماتية، في عدم إعلان موقف إنساني واضح ضد الإبادة مخافة وحرصًا على فرصها العملية في العمل والشهرة وعدم تعرضها لاغتيال معنوي أو مهني من قبل الجماعات التي توظّفها إسرائيل في العالم كلّه لملاحقة من ينتقدها.
زمن الإبادة.. زمن النيوليبرالية أيضًا
مع بدء حرب الإبادة في غزة، ربما، كان دور الرموز الفنية مناسبًا، من حيث عدم إدراكهم، وغيرهم، أن الإبادة ستستمر قرابة عامين، فكان تضامن الرموز الفنية من خلال منشورات وصور ومقاطع فيديو تُدين القتل الوحشي الإسرائيلي، فضلًا عن رفع علم وصور الضحايا في عروضهم الفنية على مسارح العالم من جنوب إفريقيا إلى أقصى الشمال بكندا. كانت أولى الأفعال الفنية الحقيقية والجادة للاعتراض على الإبادة، هي مقاطعة الفنان المصري محمد سلّام المشاركة في مسرحية ضمن موسم الرياض الترفيهي. وقتها، أعلن سلّام اعتذاره عن المشاركة بسبب شلال الدم المتدفق في غزة، وأنه لن يستطيع الضحك والتمثيل وسط كل هذا القتل، ما عرّضه لهجوم إعلامي حاد من شخصيات فنّية مؤيدة وتعمل مع شركات الإنتاج التي تُديرها الأجهزة الأمنية المصرية، أبرزهم، كان الممثل المصري بيومي فؤاد. من بعدها، ابتعد محمد سلام عن الواجهة الفنية في مواسم الدراما والسينما المُتلاحقة، عدا مسلسل “الكبير أوي” (الجزء الثامن 2024)، حيث كان بدأ تصوير المسلسل، لكنه انقطع بعد ذلك، كأنه أصبح شبه مغضوب عليه من قبل رجال الأعمال والأجهزة التي تتحكم في المشهد الفني السينمائي والدرامي داخل مصر وخارجها وتحديدًا في المشهد السعودي الذي يرعاه رجل الأعمال تركي آل شيخ.
أما من ناحية الاحتجاج الفني الجماعي ضد استمرار الإبادة، فلم يحدث أي فعل حقيقي، ولم تأخذ نقابة الفنانين في مصر أو حتى أي نقابة عربية اُخرى مواقف جادة تجاه آلة الإبادة المستمرة، كذلك لم يتوحد الفنانون سواء ممثلين أو مطربين على موقف واحد من خارج إطار النقابة الرسمية، بل استمرت الحفلات وعروض الأفلام والمسلسلات. واكتفى الفنانون، لاسيما الشباب منهم، برفع علم فلسطين في الحفلات، وهذا فعل لم يكن مؤثرًا سوى رمزيًا، أما واقعيًا فليس له أي قيمة أمام إبادة وتجويع مدينة عربية كاملة، إنسانيًا وعمرانيا، والحديث عن عشرات الآلاف من القتلى والمختفين والمصابين، بالإضافة إلى احتمالية تهجير أكثر من 2 مليون فلسطيني من أرضهم.
كل هذا الفظيع، ومَشاهده التي تجسدت في تقطيع الأجساد، وتساقط الرؤوس والدموع، وتجويع الأجساد، ربما كانت تتطلب إيقاف الفن تمامًا، وأن يُدرك الفن (الفنانون) مسؤوليته أمام الضحايا، كما يوصفه الكاتب المصري كريم محمد في نصِّه الراديكالي “أن نمارس الفن في زمن الإبادة”، على الأقل الفن العربي، بما أن مدينة عربية وشعبها يتعرضا للإبادة. لكن، لم يكن الفعل الفني على قدر الحدث، ولا حتى الفعل التضامني. فلم نشهد أي مقاطعة حقيقية حتى ولو لعمل واحد؛ فمعظم الفنانين اكتفوا بكتابة منشورات عابرة، أو التزموا الصمت، أو هاجموا من تجرأ على المقاطعة كما حدث مع محمد سلام في موقف بيومي فؤاد. لكن، كان بالإمكان، على سبيل المثال، أن يتشكل تجمع من الفنانين العرب لتنظيم مؤتمرات أو لقاءات أو حملات تضامن، خاصة أن هناك فضاءات في مدن عربية مثل بيروت أو تونس كانت قادرة على استضافة مثل هذه الفعاليات، غير أن ذلك لم يحدث.
فلنتخيّل – على سبيل المثال غير البعيد عن الواقع ـ أن مجموعات من الفنانين، من مغنّين وممثلين سينمائيين ودراميين، قد اجتمعت لتطلق نداءً بمقاطعة الأعمال الفنية في موسم واسع التأثير مثل رمضان، أو لتعليق الفن ذاته بوصفه وقفة تضامن لا تقل قوة عن أي فعل احتجاجي آخر. أليس من شأن ذلك أن يحوّل الصمت إلى صرخة، وأن يضغط على الوعي الجمعي في مصر والعالم العربي. إن مثل هذا الفعل لا يختلف في جوهره عن إضراب عمّال الموانئ في إسبانيا وإيطاليا، الذين استطاعوا عبر أفعالهم العمالية المباشرة أن يحرجوا السلطة السياسية ويدفعوها إلى اتخاذ موقف.
غير أن ما نراه في الفن العربي أبعد ما يكون عن هذا الخيال الممكن. فالمسألة لم تعد مجرّد انعكاس لقبضة أمنية خانقة، بل هي نتاج مسار طويل من الترويض والتدجين. فثورة يناير (2011) مثلاً لم تجذب سوى قلّة من الفنانين، فيما ظلّ معظمهم، منذ ستينيات القرن الماضي، مروراً بجيل محمد هنيدي وما تلاه. في كنف السلطة، ينعمون بدفئها ويتجنبون معارضتها. هكذا تحوّل الفن، من فضاء يُفترض فيه أن يكون صوتاً للمجتمع وذاكرة لآلامه، إلى أداة مروّضة، فاقدة القدرة على المقاومة أو على تنظيم فعل تضامني حقيقي وفاعل.
لكن، ما جرى عملياً هو الاكتفاء بأغانٍ وحفلات تُدار داخل المنظومة النيوليبرالية، وهو أمر لا يكفي ولا يرتقي إلى مستوى الحدث، الإبادة. فلو أن نقابات الفنانين أو الموسيقيين في مصر أو دول عربية أخرى امتلكت موقفاً سياسياً عاماً، لكان من الممكن أن تلعب دوراً مشابهاً لنقابة الصحافيين، في مصر، من خلال تنظيم حملات أو وقفات احتجاجية أو جمع تبرعات وأشكال أخرى من الفعل ذات التأثير، وهي وإن كانت محدودة، إلا أنها على الأقل تعبّر عن موقف وترمز إلى حالة من الرفض، كما وقتها سيحدث حالة من الالتحام الحقوقي والمجتمعي والفني والسياسي. كل هذه المجموعات، كانت ستُشكّل نواة صلبة يصعب قمعِها من النُظم السياسية العربية.
لكن، ومع الوقت، استسلم الفنانون للمنظومة النيوليبرالية وتحرّكوا كما تريدهم أن يتحركوا، وفقا لتمثلاتِها وقوانينها، مع السماح بمساحة شكليّة للتنفيس، حيث أن غناء الكلمات لفلسطين ورفع علم أو الحديث عن نقد الاستعمار ومفاهيم التحرّر –أغنية “كلمنتينا” على سبيل المثال والتي عرضت ضمن فعاليات مهرجان الجامعة الأمريكية ببيروت- لن يضر المنظومة النيوليبرالية التي تنظم الحفلات، طالما يذهب الجمهور ويشتري التذاكر، ومن المؤكد أنها لن تُنهي الاستعمار أو تضغط عليه لوقف المقتلة الجماعية. لذا، كان تمجيد مثل هذه الأفعال أو إعطائها أكبر من حجمها من قبل الجمهور العربي، هي أفعال غير “واعية” أو غير مُدركة، بشكل حقيقي وملموس، حجم المأساة وحجم ردود أفعالنا التي يجب أن تكون تجاهها.
بالفعل، هكذا كان الأمر، تُصنع أو تُغنى أغنية لفلسطين وسط حفل كبير إرضاءًا للضمير العربي وممارسة للفعل التضامنيّ، الذي أصبح طقسًا فارغًا من تأثيره الفعلي على الحدث ذاته، فأنت ترفع العلم وتغني وتفعل أي فعل من أجل الفعل ذاته لا من أجل التأثير، أي تشارك بهدف المشاركة لا بهدف التغيير. فالفعل التضامني يُحدد شكله ويرسم ملامح تأثيره، حسب الحدث ذاته. فالإبادة تتطلب فعل تضامني قوي، يحاول رسم هدف إيقافها، ويحاول الوصول إليه، ولا يكتفِ بذكر الحدث كفعل عادي، كما يحدث. إن المنظومة النيوليبرالية هي سجن حداثي بامتياز، سجن يُمارس عنف غير مباشر، رمزي، على الجسد، لكنه أيضا يتعامل مع الأجساد وفقا لتمظهراتِهم وأرقامهم، ويصنّفهم بالرقي والنبذ، وتتشابه تمَظهراته على هذه الأجساد مع ما تمارسه السُلطات السجنّية، بما في ذلك اللباس الموحد للحفلات والأختام على رسغ الأيدي عند الدخول إلى الحفل وغير ذلك من ممارسات، حين التدقيق فيها، تجد أنها ممارسات عنفية، رمزية، لكن الفرق هنا يمكن في ذهاب الجمهور إليها بشكل طوعي ليس كما في حال السجناء داخل السجن، بشكل جبريّ.
الحراك الإنساني تجاه الإبادة
منذ الأسبوع الأول من بدء الابادة، وقد قد انطلقتْ التحركات الاحتجاجية في البلدان العربية. في مصر والأردن تحديدا، قوبلت هذه الاحتجاجات بسياسات قمعية متشابهة ومتباينة. في مصر، المظاهرات التي دعا لها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي وساعد، من خلال أذرعه الأمنية، على حشدها يوم 20 أكتوبر 2023، لم يتمكن من السيطرة عليها، إذ كان جزء كبير منها قد تظاهر بشكل مستقل وغير محشود من أذرع الدولة، فتوجه الآلاف من جامع الأزهر إلى ميدان التحرير وسط القاهرة، واستطاعوا اقتحامِه رغمًا عن رجال الأمن. لكن، بعد ساعات تم فض الميدان بالقوة والقبض على العشرات من مُحيطه. منذ تلك اللحظة، بدأت الأجهزة الأمنية في ملاحقة أي فرد أو تجمع يحاول تنظيم عمل احتجاجي ضد وقف الإبادة في غزة، واعتقل العشرات من المواطنين والطلاب، ومازال الاعتقال جاري، تحت مسمى قضايا التضامن مع فلسطين وتُهم المساس بالأمن القومي.
أما في الأردن، فكانت سياسة الترهيب هي الأكثر استخداما من سياسات الاعتقال والسجن بشكل مباشر، إذ تم تطويق التظاهرات وإبعادها بالمنع والقوة من التواجد بالقرب من محيط السفارة الإسرائيلية، كما بدأت الاستدعاءات لكل الشباب الناشط في حملات المقاطعة والاحتجاج والاعتصام اعتراضا على الإبادة، ومؤخرا، صعدت الدولة الأردنية سياستها بحلّ جماعة الإخوان المسلمين وحظر أنشطتها، وهى كانت الطرف الأساسي في حشد هذه الاحتجاجات، كما روّجت من خلال أذرعها الإعلامية الرسمية بمكافحة الأمن لما سمّته “خلايا منظمة”، تعمل على المساس بالأمن القومي الأردني، فيما أزاد الاستقطاب بين المجتمع الأردني/الفلسطيني المؤيد والمعارض لهذه السياسات الأمنية.
أدت سياسات القمع، إلى ترسيخ شعور العجز، مع اعتيادية مشهد القتل الجماعي، إلى خفوت العمل التضامني تجاه الإبادة بما يشمل من احتجاج في الميادين وحتى الكتابة والتفاعل على منصات التواصل الاجتماعي، لاسيما في البلدان العربية، عدا وقفات رمزية ومحددة ينظمها، من حين لآخر، صحفيو النقابة على السلالم وسط القاهرة، بجانب بعض التظاهرات في وسط عمَّان. لكن، أي محاولات طلابية في رفع علم فلسطين أو تعليق لافتة على كوبري أو حائط كان ثمنها هو إلقاء القبض على من يرفع أو يحمل الشعار ووضعه في أقبية السجون المصرية والتحقيق في مكاتب المخابرات الأردنية، ما أدى إلى حالة من الصمت الشعبي تجاه الإبادة خوفا من القمع الوحشي التي تمارسه الأنظمة العربية.
عالميا، أُسست احتجاجات وتحركات إنسانية/ سياسية من أجل وقف الإبادة في فلسطين، كانت أبرزها المظاهرات والاحتجاجات التي تحدث كل أسبوع في أهم العواصم والمدن الأوروبية والأمريكية، بالإضافة إلى تأسيس منظمات ومجموعات مثل urgence palestinian و mothers against genocide و Europ palestine network وغيرهم من المجموعات التي تحاول تنظيم الفعاليات الاحتجاجية داخل أوروبا، بالإضافة إلى العمل على تنشيط الوعي من أجل مقاطعة إسرائيل، كما الضغط على الشركات الحكومات الأوروبية لاتخاذ مواقف سياسية قوية تجاه حكومة إسرائيل، ومنع تصدير الأسلحة، والضغط لوقف الإبادة في غزة، ومؤخرًا، بدأت التحركات العالمية من أجل كسر الحصار على غزة وإدخال المساعدات الإنسانية.
ضمن هذه التحركات، كانت السفن التي تتبع أسطول الحرية، ومنها سفينة “مادلين”، والتي أبحرت من إيطاليا وعلى متنها 12 ناشطا من جنسيات مختلفة حتى اقتربت من شواطئ غزة، فَحاصرتها قوات الاحتلال الإسرائيلي واختطفت السفينة واعتقلت من عليها ومن ثم قامت بترحيل كل من عليها إلى بلدانهم. بالتوازي في تلك الفترة، مع إبحار السفينة، انطلقت قافلة “الصمود” المغاربية من تونس، لكن تم منعها من إكمال طريقها إلى مصر في ليبيا، وهى قافلة قد نظمتها تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين مع مجموعات وشخصيات أُخرى، بهدف العبور برا وصولا إلى معبر رفح ومحاولة كسر الحصار على غزة، والأن تنطلق عشرات السفن ضمن أسطول الصمود العالمي من برشلونة وتونس، وربما مصر، إلى غزة.
كل هذه المحاولات، المبكرة والمتأخرة، ما هي سوى دلالةٍ على القابلية لتعريف الإنسانية دون تفرقة بين جنس أو عرق أو دين، بل تعامل هؤلاء “الإنسانيّون”، أي من هم في لحظة تجاوز للخلافات التاريخية والفكرية والحزبية، كما كتبت جوديث بتلر في مقالتها حول الهشاشة والقابلية للحزن Precariousness and Grievability، على أن الأجساد الغزّية التي تقتل كل يوم هي أجساد لا تقل إنسانية عن أي أجساد، في أي مكان حول العالم، من يحاول برهنة غير ذلك بحجج واهية، مثل فلاسفة معاصرين مثل سلافوي جيجك ويورغن هابرماس وغيرهم، وهم يحاولون تبرير أفعال إسرائيل لا أكثر. أما هؤلاء “الإنسانيون” فقد أسسوا حركة مواجهة جديدة تقاوم عنصرية المركزية الأوروبية، وصعود الشعبويات اليمينية، التي ترى الآخر، العرب، جزء من هذا الآخر، محل نبذ ودون أهمية في كيفية حياته، تحت الاحتلال، وقتله خلال الإبادة.
سؤال.. هل من تأثير سياسي حقيقي؟
هذه الاحتجاجات الكثيفة من حيث عدد وجودها لاسيما في الدول الغربية، إلَّا أنها لم تؤثر على صناعة القرار السياسي الحقيقي لوقف الحرب وكسر الحصار سواء للأنظمة العربية أو الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فاعتصامات واحتجاجات الطلاب في الجامعات الأوروبية والأمريكية، استطاعت إدارة الجامعات عبر القمع البوليسي والفصل الإداري إيقافها وخفت وجودها وتأثيرها، واحتجاجات العواصم والمدن الأوروبية على الرغم من استمرارها، لكنها ومع الوقت قل زخم نشاطِها. على سبيل المثال قلّت الاحتجاجات في شهري أيلول وأغسطس بسبب الإجازات الفرنسية، على الرغم من اشتداد المجاعة في قطاع غزة، بينما تصعد موجة الاحتجاجات في مناسبات بعينها، بل وأصبحت المشاركة فيها نوعا ما من الحضور “الكرنفالي”، كنوع من المناسبة الاجتماعية (social event) لرفع الأعلام على الألحان الموسيقية التراثية، مثل حضور المعارض الفلسطينية، والتقاط الصور الشخصية، وهذا لا يعني تقليل من شأن تلك الاحتجاجات، فهي في غاية الأهمية من حيث وجود القضية بشكلها الثقافي، والرمزي، لكنها لا ترتقي لمستوى ما يحدث في غزة من إبادة وحصار وتجويع مستمر.
مثلا، في باريس حيث أعيش، وأشارك، تبدو المظاهرات وكأنها مجرد “حدث اجتماعي”. ففي شهري يوليو وأغسطس الماضيين، قلَّت الاحتجاجات بشكل كبير، بسبب عطلة الصيف، ثم عاد الناس للتجمع مرة كل أسبوع أو أسبوعين، للمشاركة لساعات محدودة ثم العودة إلى حياتهم اليومية، من دون التفكير في تنظيم اعتصام مفتوح، رغم أن الفضاء السياسي يتيح مثل هذه الإمكانية. فالوسيلة الأكثر جدوى وفعالية هي الحشد الجماهيري المستمر، وتحريك الشارع عبر منظّمي هذه التظاهرات وقيادات الأحزاب والمجموعات المناهضة للإبادة، مع رفع مطالب واضحة من الحكومة الفرنسية، والنزول بشكل يومي أو الاعتصام حتى تحقيق هذه المطالب.
الإبادة الجماعية للغزيين حدث عنيف جدا. إنه قتل وتهجير وتدمير وتجويع لأكثر من 2 مليوني فلسطيني في مساحة جغرافية صغيرة جدا، لذا، أي أعمال احتجاجية يجب أن تكون قوية أو حتى عنيفة، ليس العنف المباشر الذي يعني الهدم والفوضى والقتل، ويقصده فرانز فانون، بل عنيف بالمعنى الرمزي، والواقعي، أي احتجاجات طلابية تجعل من الدراسة ذاتها أن تقف، واحتجاجات عمالية ونقابية تجعل حركة التصنيع والبيع والشراء والاستيراد والتصدير تقف، اعتصامات واحتجاجات ميدانية توقف حركة الحياة، كما حدث في إيطاليا يوم 22 سبتمبر الماضي، إذ أعلن إضراب شامل واحتجاجات عنيفة تنديدا بالإبادة المستمرة، واجتياح مدينة غزة، ومن ثم احتجاز واعتقال سفن أسطول الصمود العالمي، وناشطيها، وإلى غير ذلك من أعمال احتجاجية مستمرة ولا تقف، تهدف بشكل مباشر إلى الضغط، وبشكل قوي، على صنّاع القرار في الغرب، لأن لولا الغطاء السياسي والعسكري الأميركي ومن ثم الأوروبي لما استمرت إسرائيل في ممارسة الإبادة إلى الآن.
أما في الدول العربية، فلم تكن التنظيمات أو بمعنى أدق شبه التنظيمات السياسية ومعها الرموز الحزبية والثقافية والفنية على قدر كافٍ من المسؤولية تجاه حدث الإبادة، فاكتفوا بتنظيم الاحتجاج على قدر ما سمحت به الأنظمة فحسب، وقد تركوا الأنظمة بلا أي معارضة حقيقية لسياساتها، لاسيما النظام المصري الذي أنهك المعارضة عبر سنوات من القمع والحصار، والذي كانت سياساته متخاذلة، وأحيانا متواطئة، تجاه وقف الحرب وكسر الحصار واتخاذ موقف قوي تجاه العلاقات مع إسرائيل، واكتفت بوجودها كوسيط بين الأطراف، وخضعت لفرض الحصار وإغلاق المعابر والتهميش العربي، ولم تسعَ بشكل جاد للحشد من أجل كسر الحصار وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، لذا، لم تكن الاحتجاجات في المنطقة العربية مؤثرة في صناعة أو الضغط على صناعة القرار السياسي العربي، لعدم وجود ضغط شعبي وسياسي كافٍ يليق بالحدث ويضغط على الأنظمة لإيقافه.
بعد فشل محاولة سفينة مادلين بسبب استخدام إسرائيل قوتها في مصادرة السفينة واعتقال الناشطين، وُجدت محاولات أُخرى، منها قافلة “الصمود” التي تتواجد في ليبيا متجهة إلى مصر ومن ثم الوصول إلى معبر رفح، وأخرى هي المسيرة العالمية لدعم غزة، والتي يجتمع من خلالها الآلاف من كل بلدان العالم في القاهرة، بهدف السير نحو معبر رفح والضغط لكسر الحصار وإدخال المساعدات.
لكن ما حدث أنه منذ وصول القافلة إلى ليبيا، والإعلام المصري وشخصيات محسوبة على النظام تهاجم القافلة، متحججة أنها بذلك تضع مصر في موقف “مُحرج، وتنصب الفخاخ لها”. عبر الهجوم الإعلامي على القافلة، مهد النظام السياسي في مصر، بعدم سماحه للقافلة بالمرور، بحجة أنها تمس الأمن القومي المصري. هذا مع حرص القافلة على خطاب ود النظام المصري، في بيانها التوضيحي أنها لا تريد سوى الضغط على إسرائيل وأنها مستعدة للتعاون مع التنسيق الكامل الأمني واللوجستي بالشكل الذي يرضي النظام المصري. لكن، نهاية، لم تصل القافلة إلى مصر بسبب منعها من استكمال سيرها في ليبيا، وبهذا رفع النظام الليبي ومن ورائه المصري الحرج عن إسرائيل، فلم يكن قرار المنع أمام العالم إسرائيليا، بل كان قرارا عربيا يمنع وصول المحاولات العربية والعالمية لكسر الحصار على قطاع غزة. والآن، يستمر النظام المصري في خنق المحاولات المصرية المستقلة للالتحاق بأسطول الصمود العالمي، الذي انطلق من برشلونة بعشرات السفن لكسر الحصار، حتى اقترب من الوصول إلى شواطئ غزة المحاصرة، فقام الجيش الأسرائيلي باعتراضه واعتقال الناشطين.
نهاية، مضى قرابة عامين على استمرار الإبادة، لكن هذه المحاولات “المتأخرة” من تنظيم القوافل والمسيرات واستمرار الاحتجاج تزيد الضغط على إسرائيل وداعميها في الغرب، كما هو في عشرات السفن التي تبحر، الآن من برشلونة وتونس، كما على الأنظمة العربية للضغط على إسرائيل لوقف الإبادة، لكن ما يزيد الضغط أكثر هو محاولة تغيير استراتيجيات التفاعل والتنظيم حيال تلك المحاولات، سواء عربيا أو عالميا، كي تحقق أهدافها في أقرب وقت ممكن، كذلك الفهم الجيد لكيفية الضغط على الأنظمة العربية والغربية، في هذا الوقت تحديدا، حيث توجد إرادة دولية جادة لإجبار إسرائيل على وقف الإبادة، والتهجير الذي تزيده فرصه كل يوم، لاسيما بعد عملية احتلال مدينة غزة، وألَّا تكون هذه المحاولات هي بمثابة عمل إنساني مجرَّد من السياسة أو عمل يشبه الحضور الكرنفالي للمناسبات، بل هو عمل له هدف واضح، وقف الإبادة، واستراتيجيات متعددة ومُتجددة لتحقيق هذا الهدف.
هذا بالتوازي مع الإدراك الجيد، ومقاومة، للسياسات القمعية الجديدة في عالمنا، سياسات العنف النيوليبرالي، الناعم، والذي يُلبس الإنسان مفاهيم فردانية تُبعده كل البعد عن الفعل السياسي الجماعي الحقيقي المؤثر على الأنظمة، وتُلهيه في عالم الأرقام والمشاهدات والعروض والشهرة والنعومة والإنجاز، وتحقيق الذات، عالم النجاة الفردانية بلا أي مشاركة أو تضحية من أجل إنقاذ الآخرين، عالم الشعارات واستسهال ترديدها فحسب.