أنتظر رسالتك طوال النهار، أيضًا طوال الليل وإن غلبني النوم أحيانًا. شحيح الإنترنت عندك والكهرباء. لكني أبقى على أمل وصولها لأطمئن عليك.
أنا بالأساس مصورة، ولسنوات أعمل أيضًا كمدربة تصوير وتابعت الأشراف على مشاريع العديد من المصورين والمصورات في أكثر من مكان من عالمنا العربي الواسع الضيق، ربطتني بهم علاقات زمالة صداقة وألفة أعمل معهم على رعايتها دائمًا، أفكر أن لدي عائلة كبيرة مترامية الأطراف.. أنت تعرف هذا أليس كذلك؟ كنتُ المشرفة على مشروعك الفوتوغرافي الذي تحاول فيه عبر سنوات التوثيق للذين فقدوا أطرافهم في حروب غزة.
تبنيتك حين صرت تناديني ب “أمي”. تبادلنا حكاياتنا وعجبنا للتقاطعات العديدة. ربما ليس عجيبًا أن آلام وأحلام الفلسطينيين في كل أرض تتشابه على مر 75 من الاحتلال والتهجير. كان نصيبك أن يتزوج أبيك بمهجّرة إلى لبنان فتولد أنت هناك وينتهي بك الأمر في غزة، ويتزوج أبي بمصرية وأعيش أنا في القاهرة.
• “الناس عم تطلع من غزة وفي ناس مش قابلين يتركوا بيوتهم لكن تقريبًا المدينة فاضية. راح أبعت البنات وأمهم عند أهلها بدير البلح”
• “ماما أنا بخير بس الوضع كتير صعب ضرب بكل مكان مجازر عم تصير”
• “يارب الله ينجينا من اللي جاي”
• “مفيش سيارات بفكر أمشي 20 كيلو وباوصل للبنات”
• “أمي يمكن الساعة 12 تنفصل كل خدمة الاتصالات والانترنت عن القطاع بشكل عام ..”
• “لو فقدتي معنا الاتصال اعرفي إنه إحنا بخير ومهما شفتي على التلفزيون صور حنكون بخير وأنا حاعمل كل جهدي إني اخبي بناتي بعيوني واعمل المستحيل إني أحميهم”
• “ما ضلش مي بخزانات المي ومفيش حتى مي بكل قطاع غزة وفي صندوق مي معدنية بدناش نتصرف فيه عشان الصغار”
• “حاطلع بعد شوي اجيب مي من نفس المكان اللي بعبي منه بس يهدى الطيران دعواتك أعرف اجيب وارجع سالم من المشوار”
القلق والانتظار سمة أيامي.. أعيش أدعو، أحيا بأمل أن تنجو، أن ننجو.. ولكن ماذا أنتظر؟
• “بنتي عم تجيها حالة كل ما يصير قصف فجأة بتقولي مش قادرة أمشي ومغص”
• “ما لقيت ولا دوا من اللي كتبتيلي اياهم ح نستخدم طب بديل ونحط زيت زيتون على جسمها ونفرك عضلاتها”
• “مفيش فاكهة وبخاف آكل خضار ممكن يكون صار مسموم من القصف باكل بلح عن الشجر كل يوم”
• “انضرب بيت اهلي من شوي حدا خبرني ذكريات كتير فيه. مش زعلان على الحجار بتنبنى. الله يعوضنا خير وبيت أحسن منه”
• “الله يصبر كل بيت تقريبّا كل بيت خسر اشي”
• “في حدا من ولاد عمامي قدر يهرب اليوم وباقي العيلة بين شهيد او مش عارف يطلع، ابن عمى امه مقعدة وهو وحيدها -امه قالت له خذ اولادك احملهم وسيبني – ما قدرش يحمل امه”
• “اليوم تحممت عبيت ميه مالحة وسخنتها على النار ومكانش في مي ابردها صح اتسلوقت بس حمام ملوكي هههه”
أكتب لك بعد أن وعدتني عائلتي في الإسكندرية أنهم سيقومون لك بصلاة استسقاء جماعية.
• “شو كاتبين أخبار عن مستشفى الشفاء واللي بصير حوليها؟ .. أصلاً بطلنا نسمع صوت طيارة لما ينزل الصاروخ بس بنسمع إشي فقع فجأة”
• “صليت وحطيت بناتي بحضني وضليت مادد جنبهم حاموت نعس –مخي نايم وعيوني مفتحة.. قلبت الدنيا اليوم على منوم مش ملاقي ههههه”
• “أنا اكلت بلح وشوية زعتر”
ليلة الامتحان كانت معلمة الحساب تنصحنا دائمًا بأكل الزعتر فهو يقوي الذاكرة.. هل أحتاج الآن إلى أن تقوى الذاكرة؟ أم أن تضعف فتلقي تلك الأيام بعيدًا.. وبسرعة!
• ”بنتي طلبت مني برتقال وعرفت أجيب لها اليوم”
• “بتقولي إنها مشتاقة للمدرسة وصفها وللمعلمة تاعيتها”
محاولة لمقاومة القلق؛ أقرأ السيرة الذاتية للكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله. اتخطى رومانسيته المفرطة بمعلوماته عن الذين هُجّروا إلى الأردن في النكبة الأولى. أجفل لوصف رحلتهم عبر الوادي بمتاع قليل وعطشهم المميت حتى وصلوا المخيم الأول. أتخيلك كما تصف لي كل يوم تحت القصف باحثًا عن ماء. لمَ كتب علينا أن نشهد نكبة ثانية؟ أكتب لك عن محبة لشجاعتك وصمودكم. ثم أصمت. استحي أن أحكي لك عن احساسي بالقهر والعجز.
• “هلأ عم ببعتولي من جوا غزة إنه في مجزرة كبيرة صارت في قصف مستشفى المعمداني كل ولاد عمامي عالقين جوا ما عرفوا يطلعوا ومعهم أطفال ..طيب شو العالم بيعمل؟ ليه العرب ساكتين؟”
• “مفيش مي كمان من الصبح غير كم صندوق جبناهم للشرب”
• “البحر قريب بس مخاطرة الواحد يروح هناك كل الشط زوارق
• “مغيمة كتير ممكن تشتي لو شتت بنعبي بالطناجر”
• “راح انزل تحت القصف لازم الاقي مي”
أفكر في المطر، هل من الأفضل أن تمطر هناك الآن؟ وهل سيأتي المطر وحيدًا؟ وماذا عن البرد.. ألن يأتي هو الآخر؟ وأتذكر بدر شاكر السياب.. “أتعلمين/ أيَ حُزنٍ يبعث المطر/ وكيف يشعُرُ الوحيدُ فيه بالضَّياع/ كأنَّ طِفلاً باتَ يهذي قبل أن ينام/ بأن أُمَّه التي أفاقَ مُنذُ عام.. فلم يجدها/ ثُم حين لجَّ في السؤال/ قالوا له: بعدَ غدٍ تعود .. لا بدَّ أن تعود”.
• “أنا اللي مانعني أنزل أصور بالشوارع عشان بنتي بتقول لي أنا أهم من شغلك وحلفتني ما اتركها.. اليوم بتقلي يا بنعيش سوا يا بنموت سوا بقلها وين سمعتي هذا الكلام بتقولي انا ما سمعت انا بدي اعيش معك واموت معك”
• “احنا بخير لهلأ الحمد لله بس مفيش نت ولا بطارية أغلب الوقت”
كلماتك شحت واقتصرت على.. “نحن بخير” أو “ما زلنا أحياء”.
• “أنا بخمّس على كاسة قهوة من الصبح كل كم ساعة شوي المسموح كاسة صغيرة باليوم أمي مخبية كيس القهوة مع مفتاح الدار”
مرة حلمت أن يكون لي ولو كوخ في دير البلح المنطقة القريبة من البحر والمليئة بالنخيل، ربما لأنها ذكرتني بأماكن قريبة من القلب، لذا عندما أرسل لي صورة وقال: “مكاني المفضل بين النخلات”، أجبته: “احجز لي مكان جنبك..”.
* تم تبادل الرسائل في الفترة ما بين 12 أكتوبر و 12 نوفمبر 2023 مع المصور الفلسطيني سامح رحمي