fbpx
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft

لعبة أم قنبلة.. حروب على أجساد الأطفال وخيالهم

استحضرت الحرب الأخيرة على لبنان، ذاكرة جماعية طويلة مفخخّة بالقنابل العنقودية التي تلقيها الطائرات الإسرائيلية بشكل ألعاب تهدف إلى النيل من الأطفال حصراً
ــــــــ جسدــــــــ ماضي مستمر
22 يناير 2025

حين التقيتُ هالن في مركزٍ للنزوح في بيروت، أسرّت لي أنّها لم تكن تريد المال ولا الطعام ولا المأوى، بل أرادت لعبة عوضاً عن دميتها التي بقيت في البيت. نزحت الطفلة مع عائلتها من الجنوب. لدى تنقّلهم الدائم هرباً من القصف، حرص أهلها على حماية الأغراض الأساسية عند مغادرتهم البيت، أي ما لا يتعدى المال وبعض الثياب والأوراق الثبوتية. أما الألعاب فلم يكن لها مكاناً نظراً لضيق المساحة والوقت. لم تنسَ الطفلة لعبتها، خصوصاً مع انعدام مساحة اللعب في مراكز النزوح وفي بيروت تحديداً. فرغت حديقة الصنائع من روّادها خلال الحرب، بعدما أقفلت أبوابها لمنع النازحين من اتّخاذها ملجأ لهم، فلم يبقَ فيها سوى القطط ومقاعد فارغة. حديقة الصنائع، هي إحدى الحدائق القليلة المتبقّية في العاصمة اللبنانية، لذلك تعتبر متنفساً مجّانيّاً للفقراء، وللصغار منهم تحديداً. وحدها طائرة الاستطلاع الإسرائيلية كانت تعوّض الصمت الذي حلّ على الحديقة، بعدما غاب الضجيج المعتاد، وخفت صراخ الأولاد.

سلبت الحرب الأطفال إحدى مساحاتهم المتبقية للعب والتنفس في بيروت، غير أنّها أعادت إلى الأذهان ذاكرة جماعية ترتبط بالقنابل العنقودية التي ترميها إسرائيل في حروبها، على شكل ألعاب متفجّرة تمزّق أجساد الأطفال.

تفخيخ الخيال

يوم رأى الطفل بالوناً أحمر يطير، تبعه من مكان إلى آخر، وبعد التقاطه أبقاه معه كرفيقٍ فريد ومخلص. في الفيلم القصير Le Ballon Rouge للفرنسي ألبرت لاموريس الصادر عام 1956، نشاهد قصّة طفل يعيش في باريس، ويكتشف، ذات يوم، بالوناً أحمر يبدو أنّه يمتلك حياة خاصة. يُمثّل البالون استعارة للدهشة والفرح والحرية التي تميّز خيال الأطفال، وهو خيال غير ملوث بقسوة عالم البالغين. الطفل في الفيلم مهمّش من قبل أقرانه، ويواجه تحديات عندما يحاول الآخرون تدمير البالون. رحلته تضيء على التشبّث بالتميّز في عالم قد لا يتقبل الاختلاف دائماً. وما إن يفقد الصبي بالونه الأحمر، حتى يفقد معه براءته، فنكون أمام استعارة مدهشة عن التوغّل الحتمي للواقع في المثالية والنقاء الذي تمثله الطفولة.

منذ الصغر، يحاول كل فرد تشكيل عالمه الخاص، ويكون اللعب أحد العناصر الأساسية لهذا العالم الذي يصير بالنسبة إلى الأطفال جزءاً من هويّتهم، لتعتبر خسارته لاحقاً نوعاً من استلاب الذات. من هنا، يتم التحايل على هذا العنصر لتحقيق أهدافٍ ربحيّة، فتتعرّض طفولتهم لاستباحة تجاريّة، تتمثّل بركن الألعاب على الأرض في المحال التجارية الضخمة، بهدف دفع الصغار إلى الضغط على الأهل لشرائها. هذا الاستغلال يأخذ أشكالاً عدة تصل إلى حد الاستباحة الدمويّة، عندما تتحوّل اللعبة إلى أداة قتلٍ للشعوب.

في حربها مع أفغانستان، ألقت القوات السوفييتية قنابل بهيئة طائر يتكوّن من جناحين ملوّنين، أحدهما صلب والآخر مرِن، ينفجر فوراً بيد الطفل ما إن يلمسه

استُغِلّت هذه البراءة ودمرت بشكلٍ ممنهج في الحروب عبر القنابل العنقودية التي استخدمت للمرّة الأولى في الحرب السوفيتية على أفغانستان، بين عاميّ 1979 و1989، بهدف بث الرعب وزعزعة الاستقرار في المناطق التي تسيطر عليها المجموعات الأفغانية. وقد كشف تقرير للأمم المتحدة عن انتهاكات السوفيات في أفغانستان، وتبيّن أن “النوع الأكثر رعباً من الحوادث كان الانفجار الناتج عن الألغام المضادّة للأفراد، وخاصة تلك التي كانت على شكل ألعاب أطفال”. ذكر العديد من الشهود بأن الأطفال تعرضوا لإصابات خطيرة للغاية، بما في ذلك بتر أيديهم أو أقدامهم، إما بسبب التقاطهم ألعاباً مفخخة على جانب الطريق أو بسبب دوسهم عليها. وتشمل الألعاب المفخخة التي عثر عليها، أقلام التلوين، وآلات هارمونيكا وأجهزة الراديو وعلب الكبريت، بالإضافة إلى قنابل صغيرة صنعت على شكل طائر. تتكون هذه القنبلة من جناحين ملوّنين، أحدهما مرن والآخر صلب، تنفجر عندما يلمس الطفل الجناح المرن. وبحسب التقرير، فإنّ أعمار الأطفال المتضرّرين تراوحت بين 8 و15 سنة، بترت أيديهم أو أرجلهم، سواء بسبب التقاطهم لألعاب مفخخة أو لدى انفجار الألغام.

قدم مبتورة.. يد بلا أصابع

في مذكّراته، يتساءل الروائي الفلسطيني غسان كنفاني “لماذا يتعذّب الطفل بلا سبب؟ كانوا يلعبون هناك، صغاراً، باذلين جهداً خارقاً، كأن الحياة كلها لا تعني لهم سوى أن يصلوا إلى نتيجة مشرفة”.

يتكرّر هذا السؤال في أذهاننا مع كلّ استهداف للأطفال في الحروب. بعد تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي سنة 2000، انتشرت حملة واسعة في وسائل الإعلام وفي المدارس، تتّخذ من الجملة التحذيريّة “لا تقترب لا تلمس بلغ فوراً” شعاراً لها. خفتت الجملة بعد سنوات، وعادت لتظهر مجدّداً بعد انتهاء حرب تموز عام 2006. ومع دخول لبنان مرحلة وقف إطلاق النار أخيراً، عادت هذه الحملة، ووزّعت المناشير المحذّرة من خطر القنابل العنقودية.

كانت رشا زيون في السابعة عشرة من عمرها، حين ظنّت أنّ القنبلة العنقودية هي مجرّد لعبة، بعدما عثر عليها والدها في أرض زراعية في قرية معركة جنوبي البلاد. وعندما لمست الشريط الذي يربطها، شعرت بتيارٍ كهربائي، وانفجرت القنبلة لتفقدها ساقها اليسرى. هذه واحدة من القصص التي يوثّقها مقال نشرته مجلّة “التايم” البريطانية حول إلقاء الطائرات الإسرائيلية قنابل عنقودية بشكل ألعابٍ خلال حرب تموز عام 2006. بعنوان “الألعاب التي تقتل في لبنان” يكشف المقال أنّ هذه الذخائر الفرعية صُمّمت لرميها كمتفجرات صغيرة على نطاق واسع، لكنها غالباً ما تفشل في الانفجار عند اصطدامها الأوّل في الأرض، مما يترك بقايا خطيرة يمكن أن يخطئ الأطفال في التعرف عليها ويظنون أنها ألعاباً. في 2006، رمت إسرائيل أكثر من 4 ملايين قنبلة عنقودية على لبنان، وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن حوالي 30 إلى 40 بالمئة منها لم تنفجر عند سقوطها. احتاج لبنان 15 عاماً للتخلص من هذه القنابل، وفي الحرب الإسرائيلية الأخيرة، عادت إسرائيل لاستخدام القنابل العنقودية مجدّداً، فيما لم يحدّد حتى الآن عدد تلك التي لم تنفجر منها.

الموت يصير بعداً حقيقياً في ألعاب الاحتلال الذي يحقّق الشكل الأقصى من الرعب، عبر  زجّه الأطفال بما يشبه لعبة الروليت الروسية التي تنتهي بمقتل أحد اللاعبين في النهاية

من ينجو من هذه التفجيرات، يؤكّد أنّ تيّاراً كهربائياً شديداً ينتقل إلى كافّة الجسد، قبل تنفجر القنبلة فلا يعود يذكر أي شيء بعدها. وفي كثير من الأحيان، تؤدي القنبلة العنقودية إلى الوفاة كما حصل مع  رامي شبلح، الذي كان عائداً مع شقيقه خضر إلى منزلهما جنوب لبنان عام 2007. عندما اصطدمت عجلة عربتهما بما اعتقدا أنه حجر، انحنى رامي ليلتقط الجسم، ورفع يده لإبعاده، لكنّ الجسم انفجر، مما أدى إلى تمزيق ذراعه اليمنى ومؤخرة رأسه. توفي بعدها على الفور. الجسم الذي التقطه كان قنبلة عنقودية صغيرة. تتّخذ هذه القنابل أشكالاً مختلفة، ربّما بشكل حجرٍ قد يتعثّر به أي أحد أو يدوس عليه. أما القنابل التي تُرمى من طائرات الهليكوبتر على شكل ألعاب، فتستهدف الأطفال حصراً، كما يوثّق مقال نشرته صحيفةلوريون لوجوراللبنانية عام 1997. يحكي المقال قصة مريم التي كانت تبلغ من العمر ثماني سنوات حين عثرت على سيارة بلون أخضر، في أرض زراعية بجانب قريتها في الجنوب اللبناني، ما أدّى إلى خسارتها ثلاثة أصابع من اليد التي أمسكت باللعبة المتفجّرة. يشير التقرير إلى أنواع الألعاب التي ألقيت  في ذلك الوقت، منها متفجّرات على شكل دمى، وحيوانات، وسيارات ملوّنة. بدأت إسرائيل برمي ألعاب أطفال بقنابل مزروعة داخلها منذ التسعينيات. وقد تسبّبت مخلفات الحروب الإسرائيلية من ألغام وذخائر غير متفجرة في لبنان في مقتل أو إصابة 3847 شخصاً، وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولةاليونيسف، التي وثّقت أعداداً كبيرة من الأطفال الذين طالتهم هذه الانفجارات.

الموت.. مرحلة اللعب الأخيرة

لمدّة ساعة تقريباً، ظلّ جوزوي ينتظر بملل وحماسة انتهاء اللعبة ليكسب دبابته الكبيرة.  يختبىء نهاراً، ريثما يعود والده من التحدي الجديد في اللعبة. في الفيلم الإيطالي La Vita è Bella (الحياة جميلة) الصادر عام 1997، حوّل المخرج والمؤلف روبيرتو بينيني معسكرات الاعتقال النازية إلى سيناريو خيالي لحماية الطفل جوزوي وبراءته وأمله من الواقع المجرم، على أنه لعبة كبيرة والجائزة الكبرى دبابة. وضع بينيني المأساة في إطار لعبة، خرج منها الطفل فرحاً بانتصاره بدبابته الأميركية، وعاد إلى حضن والدته، رغم موت الأب بالرصاص النازي. وفي النهاية، نجح اللعب في التخفيف من وطأة الواقع، وفي تغيير معناه تماماَ، وتحويل الموت إلى اختباء مؤقّت للأب، وفق ما رآه الطفل.

يؤمّن اللعب وسائل عديدة للهرب والتخيل، وهو العالم الموازي الذي يهيّئ الأطفال للتكيّف مع الواقع والسيطرة عليه، عبر تخيّل المواقف، واستعادتها وابتكار بديلاً عنها، والإشاحة عنها لبرهة تساعد الطفل على تقبّلها. من هنا، وضع عالم النفس الأميركي إريك إريكسون اللعب كإحدى أهمّ مراحل نموّ الأطفال. لكن الواقع، بشكله الأكثر تطرّفاً، تسلّل إلى الألعاب عبر بثّ الخوف والرعب، ليصبح الطفل محاصراً به من كافّة الجهات واقعية كانت أم خياليّة. هذا الانتقال المرن من البراءة إلى الرعب، يظهر بشكلٍ صارخ في عيد الهالوين، لتتحول ألعاب الأطفال إلى أدوات خوف، وخاصةً المهرجين والدمى. فمثلاً لعبة “جاك في علبة”، التي يفترض أن تكون ممتعة، تلجأ إلى عنصر المفاجأة واللامتوقّع لبثّ الرعب في الأطفال. يكون الصندوق مقفلاً، والطريقة الوحيدة لمعرفة ما في داخله، هي أن يدير الطفل المقابض. وحين يقوم بذلك، تنطلق موسيقى حزينة، فيقفز “جاك” بهيئته المرعبة التي حافظ عليها رغم اختلاف مظهره الخارجي مع مرور السنوات. فقد انبثق هذا الصندوق من لعبة مشابهة في العصر الفيكتوري خلال القرن السادس عشر، حين كانت العلب تأتي مع نقوش لجذب الأطفال الصغار، ويكتب عليها “أطلقني/ وسترى”.

وفي تمظهرات الخوف المختلفة في وسائل الترفيه، شكّل الموت أحد العناصر الأساسية في معارض الترفيه والتسلية، منذ ابتكارها في لندن بداية القرن التاسع عشر، من خلال الجولات التي كانت تقام للعامة. يستعيد الكاتب البريطاني توماس فروست عروض الرعب الأولى التي بدأت تقام عام 1830 في المدينة، والتي كانت تقوم على عرض الجماجم والهياكل العظميّة، والموتى الذين يمتطون أحصنة شاحبة فيما ابتكرت تجسيدات للشياطين والقوى الشريرة. ويمكن القول إنّ هذه العروض الأولى، تحوّلت لاحقاً إلى غرف أشباحٍ وبيوت رعب غزت مدن الملاهي في العالم العربي خلال فترة التسعينيات. وفيها، يركب اللاعب في قطار صغير، ويخوض رحلة قصيرة داخل غرفة معتمة تتحرّك فيها بعض الأشباح والزومبيز والكائنات المخيفة.

وبينما تضع هذه العروض اللاعب أمام موته المقبل، إلا أنّها تستثمر الرعب في المسافة التي تفصله عن موته، وتدعه أحياناً يرى موت غيره، وما إن يخرج من هذه الغرف، يواجه الحياة مرّة أخرى. في المقابل، ينحسر الوقت إلى أن يتقلّص في حالة القذائف التي يرميها الاحتلال الإسرائيلي على شكل ألعاب. فالموت يصير بعداً حقيقياً في هذه الألعاب التي تؤديّ إلى بتر أطرافه أو موته. وبهذا، يكون الاحتلال قد حقّق الشكل الأقصى من الرعب: الموت، على غرار لعبة الروليت الروسية التي تنتهي بموت أحد اللاعبين في النهاية.

إعلانات رقمية.. مساحة إسرائيل لبثّ الخوف

حين ظهرت لعبة “البيت المسكون”  عام 1972، على جهاز Magnavox Odyssey، الذي يعدّ أوّل جهاز الفيديو، شكّلت نقطة فارقة في تاريخ ألعاب الفيديو. ولا تزال تستعاد اليوم كإحدى ألعاب الرعب الكلاسيكية في هذا المجال. ومنذ ذلك الوقت، انفلت الرعب من سيطرة الشاشات، أكان على أجهزة أخرى مثل الأتاري والكومبيوترات، أو عبر نقل الكوارث والحروب والمجازر في العالم عبر الهواتف.

يأخذ الرعب في ألعاب الفيديو أشكالاً عديدة ضمن إطار قصصي وسردي يضعه المصمّمون والمبرمجون. يفنّد جاي موريكوني مستويات الرعب في دراسته بعنوان “جميل، لكنه ليس ضرورياً: دراسة لسرديّة ألعاب الرعب“، مشيراً إلى أنّ الخطوط السرديّة التي تضفي أجواء غامضة على القصّة، من شأنها تثير الخوف والفضول في الوقت نفسه. يتمّ أيضاً استثمار الرعب الوجودي من خلال سرد فلسفي عميق، ووضع ميكانيزمات البقاء التقليدية كخيار للبقاء داخل قصة عاطفية مؤثرة. هنا، تستفيد الدراسة من نظريات فرويد حول “المخيف”، لتحليل قدرة الرعب على خلق شعور بعدم الراحة من خلال دمج المألوف مع المجهول. وانطلاقاً من مفهوم “الظل” لكارل يونغ، فإن ألعاب الفيديو تمتلك القدرة على بثّ الرعب في اللاعبين عبر إجبارهم على مواجهة مخاوفهم وغموضهم الأخلاقي وذاتهم التي تمّ إنكارها، مما يخلق “وعياً مزدوجاً” حيث يكون اللاعب مشاركاً ومراقباً في آنٍ واحد.

يبقى التداخل بين المجهول والمألوف محصوراً ضمن إطار ألعاب الرعب، التي يقرر اللاعب أن ينخرط فيها بكامل إرادته. لكن المجهول بات يخترق ألعاب الفيديو مهما كانت بسيطة ومرحة ومسلية، وذلك من خلال الإعلانات التي تقطع مجرى اللعب لتسوّق لبعض المنتجات أو لتبثّ رسائل سياسية تهديديّة، على غرار الحملة الإعلانية التي أطلقتها حكومة الاحتلال بعد السابع من أوكتوبر 2023. ففي العام الفائت أبلغت مواطنة بريطانية عن اختراق إعلان غريب لهاتف ابنها البالغ من العمر ست سنوات. اجتاح شاشته فيديو يظهر مقاتلين من حماس، عائلات إسرائيلية مرعوبة، ومشاهد غامضة مموهة. على شاشة سوداء، ظهرت بعدها رسالة من وزارة الخارجية الإسرائيلية تحذّر الطفل: “سوف نتأكد أن من يؤذينا سيدفع ثمناً باهظاً”.

حتّى الآن، وثّقت حالات كثيرة كهذه في أوروبا، ظهرت فيها الإعلانات الإسرائيلية عند إستخدام لعبة Angry Birds الشهيرة التي طورتها شركة “روفيو” المملوكة من شركة “سيغا”. يأتي هذا الإعلان ضمن إعلان حكومي إسرائيلي مدفوع، وهو جزء من حملة دعائية أوسع أنفقت وزارة الخارجية الإسرائيلية عليها مليون دولار ونصف.

معظم ألعاب الفيديو التي تتخذ من الحروب قالباً سردياً لها، تتبنّى بوضوح وجهة النظر الاستعمارية، وتدفع اللاعب للانضمام إلى صفوف المستعمر ليستولي على الأراضي ويقتل السكّان الأصليين

تجد الإعلانات المؤيدة لإسرائيل طريقها إلى ألعاب الفيديو الخاصة بالأطفال، من خلال شبكة معقدة، وغالباً غير شفافة من الإعلانات الرقمية، فيتم توزيع الإعلانات عبر عدة وسطاء قبل أن تصل إلى المنصة النهائية. يبدأ مسار هذه الإعلانات بعدما تقوم المؤسسات، بما في ذلك الحكومات مثل وزارة الخارجية الإسرائيلية، بإنشاء حملات إعلانية رقمية للترويج لرسائل معينة، ويمكن أن تشمل هذه الحملات مقاطع فيديو أو لافتات أو أشكالاً تفاعلية أخرى.

وبهدف الوصول إلى جمهور واسع، تستخدم هذه الجهات منصات إعلانات كبيرة مثل غوغل، التي تعمل كوسيط يربط المعلنين بالتطبيقات والمواقع الإلكترونية والألعاب.

يحدد المعلنون معايير الاستهداف، مثل الموقع الجغرافي أو الفئة العمرية أو الاهتمامات، لتوجيه الإعلانات نحو جمهور معين. وقد ادّعت وزارة الخارجية الإسرائيلية أنها طلبت من المعلنين حجب الإعلانات عن المستخدمين الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً. مع ذلك، تفشل شبكات الإعلانات أحياناً في تنفيذ هذه القيود بشكل فعال.

وبما أن ألعاب الفيديو، خاصة الألعاب المجانية، تعتمد بشكلٍ عام على الإعلانات كمصدر للإيرادات، يقوم مطورو الألعاب بدمج أدوات تطوير برمجيات الإعلانات (SDKs) من منصات أو شبكات إعلانية، مما يسمح بعرض الإعلانات داخل ألعابهم. وفي حال لم تُنفّذ فلاتر الاستهداف أو الإشراف على المحتوى بشكل صحيح، يمكن أن تظهر إعلانات غير ملائمة، مثل الإعلانات السياسية أو المحتوى الصادم، في الألعاب المخصصة للعائلات أو الأطفال.

مستعمرات افتراضية

يعمل الخوف كجرس إنذار من خطرٍ قادم، وفق تعريف علم النفس للخوف على أنه عاطفة منفصلة تساعد البشر على التكيّف مع التغيّرات. وبإشارته إلى الخطر المحتمل، يساعد البشر على تجنب التهديدات أو الاستعداد لها. غالباً ما يُختبر الخوف من خلال تهديدات العالم الحقيقي كاستجابة طبيعية للبقاء، إلّا أنّ المجتمع الحديث يعرّضنا له أيضاً من خلال محتوى مُعالج، مثل الأفلام والأخبار. ومع ظهور الوسائط التفاعلية، كألعاب الفيديو والواقع الافتراضي، انفتحت سبل جديدة لاختبار الخوف بفضل البيئات الغامرة التي توفرها هذه الوسائط. ولعلّ ما يميّز القتل في الأخبار عن القتل في ألعاب الفيديو، فضلاً عن كون أحدهما واقعي والآخر افتراضي، هو دور المتلقي الصامت والمنعدم في الأخبار، فيما تتيح ألعاب الفيديو للمتلقي اتخاذ القرار بالقتل، أو الهرب ربّما والاختباء طوال مدّة اللعبة.

قبل عامين، قرّر مطوّر الألعاب البرازيلي الفلسطيني نضال نجم، إطلاق لعبة فيديو بعنوان “فرسان الأقصى“.  بطل هذه اللعبة هو أحمد الفلسطيني، الطالب الذي اعتقل ظلماً لخمس سنوات في السجون الإسرائيلية، فيما تعرّضت عائلته للقتل على يد قوّات الاحتلال. استلهم نضال نجم شخصيّة أحمد من المقاتلين الفلسطينيين، بيده بندقيّة ويلفّ رأسه بالكوفية، فيما يظهره ملصق اللعبة وهو جالس على درج أمام قبة الصخرة في القدس. يقرّر أحمد الثأر بانضمامه إلى مجموعة قتالية تدعى “فرسان الأقصى”. وبعد عملية “طوفان الأقصى”، طوّر نجم لعبته لكي تحاكي العملية التي قادتها حركة حماس في السابع من أكتوبر. هكذا أضاف إليها مقاتلين مظليين في مشاهد تعيد إلى الأذهان اقتحام مقاتلو حماس لقاعدة “رعيم” العسكرية بمظلاتهم الشراعية، كما أضاف إلى الأسلحة المستخدمة قذيفة “الياسين” التي لا تزال تواجه قوات الاحتلال في القطاع.

أثارت اللعبة في الفترة الأخيرة اعتراضات كثيرة اتهمتها بمعاداة الساميّة وإثارة الرعب والتحريض على القتل، ما أدى إلى حجبها في بلدان عدّة مثل ألمانيا وبريطانيا وأستراليا. لكن في المقابل، أشار نجم مراراً إلى أنّ سبب ابتكاره اللعبة هو تشديده على حقّ الفلسطينيين، وهو أشبه بموقف واضح يعطي اللاعب الفلسطيني دور “البطل”، ويمنحه سلطة القوّة. وبعد حجب لعبته التي تبثّها منصّة Steam، دعا نجم إلى منع ألعاب أخرى تحرّض على الكراهيّة مثل Call of Duty Black Ops 6 التي تضع اللاعب مكان المقاتلين الأميركيين وهم يتصيّدون العراقيين بأسلحتهم المتطوّرة.

يظهر الافتراضي في هذه الألعاب كامتداد للواقعي بأقسى تمثّلاته، وهذا هو التمثيل الأقرب إلى مفهوم “الواقع الافتراضي” الذي طوّرته ألعاب الفيديو، مستغلّة الحاجة إلى الترفيه لترسيخ الأيديولوجيات الاستعمارية التوسعيّة. معظم ألعاب الفيديو التي تتخذ من الحروب قالباً سردياً لها، تتبنّى بوضوح وجهة النظر الاستعمارية، وتدفع اللاعب للانضمام إلى صفوف المستعمر، ليستولي على الأراضي ويقتل السكّان الأصليين. في هذا السياق، ثمّة مثال صارخ على ذلك وهو لعبة Civilization IV: Colonization التي أنتجت عام 2008، وفيها ينقسم العالم إلى قسمين: الدول الكبرى والعالم الجديد الذي على اللاعب استكشافه من خلال احتلاله. أمّا السكّان الأصليين، فحيواتهم مصادرة تماماً، إنّهم مجرّد موارد بشرية يجب إدارتها لإتمام الهيمنة الثقافية على البلدان، بعد احتلالها عسكريّاً، كما يشير الباحث والأكاديمي الألماني ستيفان شوبرت في ورقته البحثية حول الاستعمار في ألعاب الفيديو. وبالنسبة إلى شوبرت، فإن ألعاباً كهذه تشارك في صناعة التاريخ والتدخّل فيه، عبر تعزيزها للتاريخ بمفهومه الغربي، مكرّرة بذلك ما فعله الاستعمار بمحو تواريخ السكان الأصليين وذاكرتهم. وفي النهاية تبدو هذه الألعاب كما لو أنّها تعيد إحياء الوقائع التاريخية إلى ما لا نهاية، عبر إتاحة الفرصة للاعبين لابتكار خطط وغزوات وأشكالاً لا تحصى من الاستعمار.