جلالُ الموت شيءٌ كبير، وإلا ما معنى الحياة؟ من هنا جاءت فكرةُ هذا النص. من ذاكرتي التي تحفظُ صورة شعبيّة جليلة عن الموت. في دفاتري الفوضوية جداً رثائيات نيليّة شفاهيّة مُغناةٍ، دوّنتُها طفلاً في صعيد مصر. حفظتُها وجَمَعتُها من خَشْمِ الشيخة وَديدَة الخلّاعة، مُغنيّة الموتى وكبيرة الصَرَّاخات. هناك رابطٌ بين الخالة وَديدَة وبين استهلالي المُرتبك هذا؟ لا أعرف. ربما عندما أكتبُ عن الشيخة وديدة عليها السلام، لا أبدو تافهاً. في نظري أنا على الأقل، وفي نظر المغنيّة العجيبة المجهولة التي هَادَتْني طمأنينةً وألْواحَ حلْوى وأعوادَ أفيون.
(1)
كلُّ شيء بدأ هناك قُرب الجبّانة الشرقية التي تتفرّجُ على النيل وتحتمي بالجبل الجليل. هذا الجبلُ فظيع. جبلٌ أخرسٌ كبير لا يُكلّم طفلاً صغيراً يرعى الماعز في الأحواض الخضراء التي تنبتُ في الشتاء البارد. باردٌ بَسْ؟ باردٌ وهجّام. أسرابُ الهواء تخرُمُ صدرَ جلبابي فأكحّ وأكحّ مثل كلاب السِكَك التي تأكل القطط المسمومة.
لماذا لا تلعبُ الحجارةُ الصغيرةُ والكبيرةُ مع طفلٍ زهقانٍ من المرمطة العائلية. يحلف أبي بكل أيْمانات المسلمين والنصارى والكفّار أنّ رعي الماعز هذا يفتحُ أبواب الصبر والرجولة. يجب أن نتعلّمَ الصبرَ؛ إذْ الحياةُ أحيانًا شَقاءٌ ومَرْمَطَةٌ. أحيانا؟ يا واحد!
وهل تُفتحُ أبواب الرجولة تلك لطفلٍ مثلي في السادسة من العمر؟ ماذا سيحدثُ يا أبي عندما أركبُ العاشرة من عمري؟ تندلعُ حربٌ أهلية؟ والله لو فتحَ حرّاس أبواب الرجولة الباب لتعاركتُ معهم وسببتُ لهم الدين.
يا عالم يا هوه. أنا طفلٌ يريدُ أن يلعب. أغنّيها؟ ألعبُ حتّى مع الحجارة والرمال الصفراء. لكن يا خسارة. الجبل الكبير الجليل أخرس. لا يتكلم وأنا زَهْقانٌ من أمّ الوحدة. جدّاتي وخالاتي والله شنيعات. لماذا يقلن إنه جبلٌ جليلٌ؟ أنتنَ هَوّالات يا حريمَ النيل الكُبّارات. يا من تدْسّسْنَ الأفيون في الخُشوم فيطيّر العقلَ وتهربُ القِوالة.
– يا واحد! جبلٌ جليلٌ فعلًا!؟ خالةٌ طويلة تُلاعبُ الماعز؟
أنا في حُلم؟ تمشي خالة النيل هذه وتمشي وراءها نسوة يلبسن نفس البُرْدِ (العباءات الصعيدية) الزرقاوات العجيبة. من تكون هذه الخالة؟ أقترب منها وأسأل بعد أن أُقدّمَ التحية.
– صباح الخير يا خالة النيل.
– خيرْ وصباحينْ يا ولدي. مراحبْ بالرَجَاجيل… أنا خالتُك وَديدة.
يا واحد. هذه الخالة وديدة تمشي كنخلة. يبدو أنها صاحبة طريقة كالشيخات الشرّاطات اللائي يشرِّطنَ وشوشَ الحريم المَخلوعة ويلبسنَ البُرْدَ السوداوات. غريبة! الخالة وديدة، وشدّتُها يلبسنَ بُرْدَاً زرقاوات.
– ترعى الماعزَ وحدك يا ولدي؟
الله! وجدتُ من يُنصفني من هذه المَرْمَطَة الطفولية الفظيعة. ارتحتُ لهذه الخالة التي تُمسك كيساً من القماش فيه حوائج.
– الرعي يفتحُ أبواب الرجولة يا خالة!
رفضتُ أن أبدو قليل الرباية، هشّاً أمام خالة مجهولة قد لا أُقابلها مرة أخرى. لا لا. عندما أرتاح أكثر إليها أعترفُ بأنني زَعْلان خالص من مرمطة الرعي وحدي. علامَ تُفتشُ في كيس الحوائج؟
– الله يحُرسَك يا ولدي. خُدْ حلاوة.
لم أكن أعرف أنني أكُلّم مغنية الموتى، الخلّاعة، رئيسة الصرّاخات النيليات، الشّيْخات وديدة. هذه المرأة حاجة كبيرة. هذه الخالة حبّوبة كريمة. سمعتُ العيال يتندرون على حوائجها الحلوة.
– حلاوة سِمْسِميّة وعشرة قروش؟ مَقْبولة يا خالة وديدة.
اقتربتْ منّي الخالة وديدة وحَبْحَبَتْ رأسي. دسّتْ تحت لساني عودَ أفيونٍ وأبلغتني سلاماً مخصوصاً أوصلهُ إلى أمي وآخذُها بالباط. بالباط؟ عِشْرَة قديمة إلى هذا الحد؟ أمي أصلاً تعرفُها؟
عملتُ نفسي مُصدّقاً أنهما عِشرة عُمر رغم أني أشكّ أنّ أمي صاحبتُها. شكرتُ الخالة وديدة وأنا لا أعرف أنني أكلّم مُغنية الموت الأولى في عموم القرى النيلية التي تتفرجُ على الجبل الشرقي الجليل.
أمي أصلًا تعرفُها؟ ولماذا أهتم؟ في خَشْمي عودُ أفيونٍ يُطيّرُ العقلَ ويرطبُ الصدرَ وفي يدي حلاوة سِمْسِميّة. ظلمتُكنَّ يا جدّات. الجبلُ جليلٌ.
كنتُ فرْحاناً بالفلوس الورقية. أبي يُعطيني قرشًا في اليوم رغم أن سيّالةَ جلبابهِ فيها مَحْفظة مَتروسة بالعَشَرات الحمراوات الكبيرة. معي عشرةُ قروشٍ مرسوم عليها عسكري وفلّاح وعامل ونسوة يحملن عِلاواتٍ (جِرارٍ) فخّاريةٍ. الفلوسُ تتنزّلُ في الجبل. كنتُ فرحاناً أكثر بعود الأفيون. أول عودٍ في حياتي من يد الشيخة وديدة. هذه الخالة عَجيبة.
مَشَتْ الخالة وديدة وشدّة النساء من ورائها نحو قبور الجبّانة الشرقية. رَمَحْتُ وراءهن. الأفيون طيّرَ مخّي. نسيتُ الماعزَ تواجه مصيرَها المجهول مع الكلاب الجبلية الفظيعة.
كل شيءٍ جرى على مرأى من الجبل. اقتربتُ من طقوسِ موتٍ وجلال موتٍ عندما اقتربتُ من قبور الجبّانة. هذه أول مرة أكونُ قريباً من بيوت الموتى إلى هذا الحدّ.
لفّتْ الخالة وديدة حول قبرٍ مَنكوتة فوقه جريدة نخلٍ خضراء طويلة. لالا. خمسُ جريدات خضراوات. لَفّتْ وديدة حول القبر سبعَ لفّات وهي تُغنّي. النساء من ورائها تغني. النساءُ يردّدْنَ وراءها ويهزُزْنَ الأقدام والرقاب. تغني الخالة الطويلة وتحكي عن ولدٍ نزِلَ قبراً فيه ثعلب وليس في القبر عيالٌ تلعب.
– يا واحد! قبرٌ فيه ثَعْلَب؟.
عُدتُ مَخْلوعاً إلى الماعز المتوترة هي الأخرى. الكلاب متهوّرة. لو عضّها كلبٌ جبليٌّ أروح في داهية. أبواب الرجولة والكلام الكّبْران عن الرجولة. يَنْفِيني أبي إلى بلاد النوبة البعيدة المتْروسة بالتماسيح التي تخشُّ البيوتَ وتبلعُ الناسَ والفرّوجَ والبهائم.
رَمَحْتُ وَرَمَح الماعز. قبرٌ فيه ثعلب؟ سلّمتُ الماعز لأمي كي تعدّها بالواحد. سلّمتُ سلامَ الخالة وديدة ولم آخذها بالباط لأنني كنتُ دائخاً من عود الأفيون. سألتُها عن الخالة وديدة، فقالتْ:
– الشيخة وديدة؟ يا واحد. يكفينا الشرّ. دَخْلِتْها هَوَايل!
لم أفهم جواب أمي لأنّ الحلاوة السِمْسِميّة ذابتْ في الأفيون. نمتُ ولم أستيقظ للعَشاء. قمتُ في نصّ الليل، أفكّرُ في الحوائج التي سوف أشتريها بالفلوس التي تنزّلَتْ علىّ وأنا أرعى الماعز.
كانت العشرة قروش في منتصف الثمانينيات الفائتة، تشتري كل الحلوى من دكّانة العمّ عبد الفضيل، بل ويفيضُ منها قرشٌ للطوارئ. حتّى الآن لا أعرفُ لماذا أعطتني الخالة العجيبة كل الحوائج. لأنني أرعى الماعز وحدي؟ وما الجديد؟ هذه مرمطة كل يوم.
سألتُ خالاتي وعمّاتي عن الشيخة فجاء ردُّهن جوابَ أمي:
– يا واحد. يكفينا الشرّ. دَخْلَتْها هَوَايل!
في الأسبوع التالي، علا الصُراخ في قريتي فردّت النساء من كل القرى المجاورة بالصُراخ الواجب والمَشكور في المواقف الصعبة.
– يا واحد! الخالة وديدة فوق الجسر!
هلّتْ مُغنيّة الموتى، رئيسة الصرّاخات، ومن ورائها هلّتْ النسوة اللائي يلبسن مثلها البُرْدَ الزرقاوات الطويلة. نططتُ في الجو وسبقتُ العيالَ كي أستقبل الخالة وديدة؛ لعلها تناولني حِتّة حلاوة أو عودَ أفيون.
لا أعرفُ سببَ زيارتها قريتي لكنني رحبتُ بها طفلًا عادتْ أُمُّهُ من غَيْبَة طويلة. لم أتأثر بالصُراخ الذي يطاول سماوات النيل. أنا طفل لا أعرفُ معنى الصُراخ ولا أعرفُ بشكل كامل معنى الموت. عندما تكونُ طفلاً في السادسة كيف تفهمُ معنى الموت؟
لا أفهمُ النسوة اللائي يصرخنَ ويلطمنَ الخدود ويشققنَ الجلابيب. كلهن قريبات؟ نعم، لا أُنكرُ هذا. لكنني لا أعرفُ لماذا يبكين على واحدٍ مات للتو. كل الناس تموتُ عندما تكبر؟
أذكرُ أنني كنتُ ألعِّبُ أصابعي في وشّ أحد أعْمامي كبارِ كبارِ السن. كنتُ أضحكُ وأنا أشكُّهُ بِسِّلْكَة فوق شعر صدره. أقلّدُ الطبيب الذي خرج من البيت قبل قليل، وقال إن عميّ مات. لا أعرفُ لماذا تصرخُ النساء في قريتي لأن فلاناً أو علّاناً مات ولا أهتم. أنا الآن مشغولٌ مع الخالة وديدة التي هلّتْ فجأة فوق الجسر.
– ألف مراحب وكمان مراحب يا خالة وديدة.
مشيتُ مع الشيخة وديدة، رئيسة الصرّاخات وأنا أُشَبّكُ أصابع يدي اليُمنى في أصابعها كأنني أعرفُها منذ آلاف السنين. سألتُها فجأة:
– أمانة يا خالة. حِتّة حلاوة سِمْسِميّة!
طبّقَتْ الخالة الحبّوبة في يدي خمسة قروش ورقية مرسوم عليها وشُّ عرفتُ عندما كبرت أنه وشّ الملكة نفرتيتي. زَرَقْتُ (دخلتُ خِلْسَة) صّحنَ بيت رجلٍ مات في العراق وعاد في صندوق بنيّ كبير تاركاً وراءه أطفالاً في سنّي. لا يبكي الأطفالُ الثلاثة ولا يفهمونَ مثلي لماذا تقف الخالة وديدة في قلب الصّحن وتلفّ حول أبيهم المُتوفَّى كل هذه اللفّات.
الخالة وديدة والنسوة اللائي معها يرقصن في صحن البيت مثلما رقصنَ حول قبر الولد والثعلب. وديدة تصرخ وكل النساء في الصّحنِ تصرخ.
اقتربتْ خالة الحلاوة السِمْسِميّة والأفيون من زوجة الرجل المُتوفَّى ثم غَنّتْ في وشّها:
حِلِّي شَعْرِكْ يا غُولَة.. واعْمِليه كاكولا
ربِّي اليَتامى ومِنْ خَشْمِك ما تْبانْ قُوْلَة
تُغنّي الخالة وديدة وتردّدُ النسوة كلاماً لا أفهم منه إلا القليل. هذه أغاني؟ لمحتُ أمي تواسي زوجة الرجل الذي مات في العراق. انضمتْ إلى دائرة من النسوة. بدَتْ أمي حافظةً كل أغاني الخالة وديدة.
عندما تقول الخالة الطويلة مثلًا: «حِلّي شَعْرك يا حزينة»، ترددُ أمي والنسوة ببطء عجيب: «واعْ…إِعْ… مِليه كا….كا.. كُوووو.. لاااا».
تحلّ الزوجة الباكية شَعْرَها وتلفّه على هيئة عِمامة الأزهريين «الكاكولا» ثم تُطيّنُ الرأسَ الكاكولا وتصرخُ في السماء وتهزّ صحن البيت فتخافُ البهائم وتفرّ طيور وأخافُ أنا ويخافُ أبناء الرجل المُمدّد داخل الصندوق الخشب. الجو يتكهرب.
بسرعة، تدخلتْ الخالة وديدة وأطفأت النارَ في صدر الزوجة:
ضربة شديدة .. والقلب حَزْنان
ضربة تَقيلة.. يا وَليّه.. والربّ حَنّان
كنت أعرفُ أنّ أمي والنسوة سوف يُبطئنَ «تَقِيلة» فتتحولُ في خُشومهن إلى «تــَ..تَـــ..ااااا.. قيــ..لااااااااااا». يا واحد. هذه عَطَلَة. سوف يضيعُ اليوم في الغَناوي الطويلة. يا فَكيك على دكّانة عبد الفضيل.
خرجتُ من صحن البيت حَمامة. اشتريتُ الطوفي والملْبَن وأبقيتُ في سيّالتي قرشين. جلستُ فوق الجسر ألعبُ السيجة مع العيال، وأنا أفكرُ في الخالة العجيبة التي ناولتني خمسة قروش جديدة من دون سبب. جلستُ أفكرُ في كلام الأغاني الصعب وخصوصًا كلمة «غولة». قمتُ من فوق السيجة مَهزوماً خمسة أدوار. لم أهتمّ بمسخرة العيال الفائزين. أهزمهم كل يوم. كنتُ فرحاناً لأنني كسبتُ اليومَ خمسة قروشٍ كبيرة!
في غضون أيام العزاء الثلاثة فهمتُ من أمي أن الغولة امرأةٌ مَنحوسةٌ يموتُ زوجُها شاباً أو رجلاً عَمْراناً لم يدخل عتبة الخمسين. ممنوعٌ على الغُولة أن تستحمّ لأربعين يوم، ولا تخرجُ فيها من البيت ولا تشربُ إلا الماء ولا تأكل إلا طقّة يوميّة من الخبز والجبن القديم.
– عَجيبة! كيف تدخلُ الطَقّة والغُولة مَحْبوسة؟
تضحكُ أمي حتّى البكاء. تقولُ إنّ طقّة الغُولة تدخلُ من خُرْم في الباب الخشبي لكن لا تُدْخِلها شابةٌ أو شابٌ على وشّ زواج. تُدْخِلها غولةٌ قديمةٌ من نفس عائلة الغولة الجديدة. فإن لم تكن هناك غُولةٌ قديمةٌ، تختارُ مُغنيّة الموتى بنفسها غولة.
علام كل هذه المَرْمَطة؟ أيُّ ذنبٍ جَنَتْهُ الزوجة الغولة؟ كأنها قالت لزوجها: مِتْ وتعال من العراق في صندوق!
لم أنتبه لكل كلام أمي. في الحقيقة لم أهتمّ بحوائج الموت. كنتُ سارحاً مع الخالة وديدة التي تُعطي الأفيون والفلوس الورقية. كانت مدرستي قريبة من بيتها. أعبرُ الكوبري فيكونُ بيتُها المسقوف بعروق السّنْطِ والبوص النيليّ على شِمالي. فكّرتُ كثيراً أن أزورَها ثم ترددت. كنتُ أقفُ بالقربِ من بيتها ثم أنسحبُ إلى آخر الكوبري أتفرّجُ على العيال التي تصطاد السمك. أعودُ البيتَ متأخراً وفي خَشْمي كذبةٌ بيضاءٌ كبيرة. علمتُ أن الخالة وديدة تعيشُ وحدها لكن تخدمها نسوة قرويات يوزعن طعام الخالة المَبْروكة عليهن بالزادِ والميعاد.
من دون أن أتنصتْ خالص، سمعتُ عجوزاً تدسّ الأفيونَ فوق عتبة بيتها، تقولُ لامرأة أخرى تسألُها عن ابنتها الزَعْلانة العيّانة:
– كلَّمْنَا الشيخة وديدة. تِخْلَعْهَا (تعرضها للفزع) بعدَ العِشا! يا عاطِيَ المَحرومة.
لم تعبأ الخالتان بوجود طفلٍ في السادسة يُبحلقُ في خَشْميهما. باحتْ العجوزُ التي تدسّ الأفيونَ بالسرّ:
– الخَلْعة تحت النخلات الحُمْر يا مَسْتورة.
تحتَ النخلات الحُمر؟ لماذا تَخْلَعُها الخالة وديدة؟ أسألُ الخالة الدسّاسة أم أمي؟ يا ساتر! النخلات الحُمر في أول الطريق البحرية التي تسْكنها عفاريتٌ فرّارة.
حاولتُ سراً إقناع شقيقي شعْبان أن يروحَ معي خَلْعَة النخلات لقاء أن نتقاسم الفلوس الورقية والحلاوة السِمْسِميّة لكنه رفض زاعماً أنّ العفاريت البحرية تَقْرُمُ أرجلَ العيال ثم ترميها عظاماً لأسماك النيل الكبيرة. فَتَنَ شعبان السرَّ، فأغلقتْ أمي البوّابة وجرجرتني كبهيمة فرّاكة.
– مالَكْ أنتَ ومالْ الخلّاعة وديدة والحريم المَحْرومة؟
هربَ شعبان الفتّان من بَصّاتي الحمراء الغاضبة. حسابهُ عسير. هربَ من صحن البيتِ يضحك. بعدَ شتائمٍ أمومية مقبولة، وضربتين خفيفتين بالمَرْكوب فوق ظهري، هدأتْ أمي. ولمّا طلعتْ القَمَرَة بدأتْ تحكي.
الشيخة وديدة يا كلبَ الجسور، تخلعُ طالباتِ الخِلْفَة اللائي مرّ على زواجهن العام أو العامين. تأخذُ خمسة جنيهات في الذكر، وجنيهين في العروسة ومثلهما في الخَلْعة. المرأةُ المَحْرومة من العيّل في بطنها خَلْعَة. تدهنُ الشيخة وديدة وشَّها بالنِيلةِ والطين وتختبيء تحت النخلات الحُمر من دون أن تراها طالبة الخِلْفَة.
– تمشي المخلوعة في الطريق البحرية وحدها؟
تُعزِّمُ نسوةٌ من العائلة المرأةَ المَحْرومة حتّى أول النخلات ثم ينسحبن وراء أي نخلة. من بعيد يحرسُهن والدُ المَحْرومة أو شقيقها. عندما تشعرُ الشيخة وديدة أنّ طالبة الخِلْفَة خائفة وحيدة، تُخَرْوِشُ في جريد نخل يابسٍ وتفرّ في الجو كأنها حريمٌ مَلْبوسَةٌ.
– يا واحد. وتهربُ المَحرومة؟
تهرُب؟ هوايل علينا! لا تهربُ المَحْرومة من النصيب. تَهْجِمُ وديدة على المَحْرومة هَجْمَةَ البومة على الأرنب العيّانة. تَبْرُكُ فوق المَتْعوسة وتَخْلَعُها خَلْعَةَ الربّ العاطي الذي يُطعم الدودَ في الجحور.
– الدود في الجحور؟ وإذا لم يُطعِمُ الربُّ المَحرومة؟
تفّ من خَشْمَك يا كافر. إذا لم يُطعِمُ الربُّ المَحرومة، تَخْلَعُها الشيخة وديدة خَلْعةً جديدة لكن تأخذُ اُجرةَ ذكر حتّى لو كان في البطن عروسة. وإذا لم تُطعَم المَحْرومة من كلّ الخَلْعات، تدينُ الشيخة وديدة لأهلِ المَحْرومة بغناوي جِنازة!
– ولا تخاف وديدة من العفاريت يا أمي الحبّوبة؟
-الشيخة وديدة تخاف؟ العفاريت تخافُ من الشيخة وديدة!
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
(2)
خَلَعَتْني حكاية النخلات الحُمر. العفاريتُ تخافُ من وديدة. بطّلْتُ التفكير في الخالة التي تخلعُ طالباتِ الخِلْفة وتَبْرُكٌ فوق جُسومهن. لن أحبّ الخالة المُخيفة التي تدهنُ وشّها بالطين والنِيلة.
انشغلتُ في الرعي ولعب السيجة. نسيتُها ونسيتُ الحلاوة السِمْسِميّة. غابتْ الخلّاعة وديدة عن الأنظار فترة طويلة. كنتُ أتفادي رعيَ الماعز في أحواض الجبّانة الشرقيّة كي لا أُصادفها. كنتُ أتركَ الماعز تُقرْطِمُ في حقولٍ قريبةٍ من بيتنا. ما أدراني! قد تلمحُني وتناولني عودَ أفيونٍ وحلاوة سِمْسِميّة ثم تخلعُني. يا واحد! تَبْرُكُ فوقي فأموت في زِمام الجبّانة وأُضيّعُ مفاتيح أبواب الرجولة.
مرّت الأيام بطيئة. ظننتُ أنني نسيتُها لولا أنني كنتُ أكذبُ على نفسي. كنت أفكرُ في الشيخة وديدة في الفجر قبل النهار. لم أعرف أنني مَسْكونٌ بهلّةِ الشيخة وديدة إلا عندما هبّ صُراخٌ مفاجيءٌ من آخر بيوت القرية.
يا واحد! أخبرني العيال بالخبر. ماتتْ خالةٌ نيليةٌ كانت تحلِبُ جاموسة. إذاً ستزورُنا وديدة.
– فيها حلاوة!
نَطَطْتُ أسرعَ من العيال والكلاب والقطط. وصلتُ بيتَ الشيخة وَديدة وأنا ألهث:
– إلحقي يا خالة النيل… ماتتْ مَرَة في صحن البيت.
بصّتْ الخالة وديدة في وشّي وضحكتْ. طبطبتْ على كتفيّ وسألتني:
– المَرَة قريبتك يا صغيرَ الرَجاجيل؟
– لا يا خالة. ماتتْ وهي تحلبُ الجاموسة!
كنتُ أشرُّ عَرَقًا لأنّ كلامي مَفْكوكٌ ولأنّ الشيخة وديدة لم ترد علىّ بفلوسٍ أو حلاوة سِمْسِميّة. انتظرتُها في سقيفة بيتها، والنسوة يدخلنَ ويطلعنَ على طفلٍ عجيبٍ يَفْرُكُ فوق المصطبة الطينيّة ويأكل أظافرَ يديه.
خرجتْ الخالة وديدة من البيت ثم خرجتْ شدَّةُ النساء كالعادة من ورائها في صفٍّ يرتدين البُرْدَ الزرقاوات. شبّكْتُ أصابعي في اليد اليُمنى للشيخة وديدة. عبرنا الكوبري ومشينا كثيراً حتّى اقتربنا من بيت المرأة التي ماتت تحت الجاموسة.
توتّرتُ لأن مُغنية الموتى لم تُناولني بعد الحلاوة أو حتّى خمسة قروش. علمتُ من أمي أنها نائمة على فلوسٍ عَرّامة. تأخذُ فلوساً وبلحاً وقمحاً في مِيتات الحريم وأزيدُ من كل هذا في ميتات الرجال. إذا كان هذا صحيحاً لماذا تؤخرُ علىّ الحلاوة؟
فَلّتُ أصابعي من يدها زَعْلاناً. سألتُها وأنا في أواخر الغضب:
– فيه حلاوة سِمْسِميّة يا خالة وديدة؟
قَهْقَهَتْ وديدة. قَهْقَهَتْ شدّة النسوة لكن خبأنَ وُشُوشَهنّ في البُرْدِ الزرقاوات الطويلات. مَسَحَتْ الشيخة وديدة على رأسي ثم أوصتني أن أنتظرها عند الجبّانة حتّى تنتهي من المسئولية الربّانية الثقيلة.
– ما تخافش. لك في رقبتي حلاوة.
شعرتُ بالخوف. شعرتُ بمرارة الهزيمة في خَشْمي. لكن لن أيأس بسرعة. اقتربتْ رئيسة الصرّاخات من بيت الخالة المُتَوَفَّاة. وقفتْ فوق عتبة البيت وغنّتْ:
أنا داخْلَة… والخشب جَرَحْ وشِّي
ومَفيشْ شيخة… تقولْ خُشِّي
أنا داخْلَة… والباب جَرَحْ راسي
ومَفيشْ حبيبة.. تقولْ تُوخْسِي (طأْطِئي)
اقتربتُ من الشيخة الجليلة التي لا تزالُ وموكبُها فوق عتبة البيت المَنْكوب. لمحتُ أمي وخالاتي مع الصرّاخات المُستقبلات في سقيفة واسعة. دَخَلَتْ وديدة ثم دخلتْ شدّتُها وأنا دخلتُ وراءهنَ من دون أن أبصّ في وشّ أمي، التي تستعجبُ وجودي في الجِنازة.
انتفختْ رقبة أمي واصطكتْ أسنانُها من الغضب لكنها انسحبتْ إلى الوراء عندما هربتُ وزَرَقْتُ مع الخالة وديدة صّحنَ بيت الخالة المُتَوَفَّاة. سَكَتَتْ أمي عن مُلاحقتي، وبدأتْ تردّدُ مع النساء الصارخات غَناوي وديدة:
اتْكَحْرَتي يا نَخْلة القَمَرَة
اتْكَحْرَتي والقِليب حَمْقَان (القلبُ الرقيقُ يبكي)
ماشية فينْ يا زارْعَة البُستان؟
فايتة عِيالِك تحت سَجَرَة؟
هَوَايلْ هَوَايلْ… يا نَخْلة القَمَرَة
بصصْتُ حولي فلم أجد نخلة مزروعة في صحن البيت. من تكونُ نخلة القَمَرَة، زارعةُ البُستان هذه؟ أين هي الآن؟ أي شجرةٍ تقصدُ الشيخة وديدة؟ أين عِيال الخالة المُمدّدَة في صحن البيت؟ أين زوجُها؟ هل سيتحول إلى غول لأنّ المَتْعوس زوجتُهُ ماتت؟
غَناوي الشيخة وديدة صعبة. لا لا. أنا مالي؟ ما ليَ هو الحلاوة والفلوس الورقية التي أتسلّمُها في الجبّانة بعد خروج الجنازة. وعدتني الشيخة وديدة وحلفتْ برقبتها الطويلة.
مِنْ ماتتْ أمُّه… يا شَقَا حالُه
يِقْلَع تُوبَ الفّرْح من بالُه
مِنْ ماتتْ أمّه يا مَدَى حِزْنُه
يِقْلَعْ راحة البال من بالُه
يا واحد. أبناء الخالة التي ماتت تحت الجاموسة أمامهم شقاءٌ طويل. يا فَكيك. جلستُ في الخارج مع الرجال والعيال والكلاب حتّى تنتهي الخالة وديدة والنسوة من إفاقة ابنة الخالة المُتَوَفَّاة. بَرَكَتْ في الأرض من صُراخ الفِراق.
كأنه كان ينقصُني مَخْلوعة جديدة تؤخرُ تسلّمَ الحلاوة من يد وديدة. وَصَلَنا حسُّ وَديدة وهي تُغنّي بلسان الأم المُتَوَفَّاة إلى الابنة البارِكَة الدائخة:
لو حَنّتْ بِتّي… لا تُلوموها
بحَبْل الليفِ… هاتوها
لو حَنّتْ بِتّي في الليل
يا حَرايمْ (يا حَريم) لا تمنعوها
حَرايمْ حَرايمْ (حرام حرام)… هاتوها
يا حفيظ! قَشْعَرَ جسمي من غَناوي الشيخة وديدة. نزلتْ دموعي على الخالة التي ماتت تحت الجاموسة. كأنني خِفتُ من الموت؟ كأنني عرفتُ الموت؟ لا أعرف. سألتُ نفسي حائرًا: من الذي سيربُطُ ابنة الخالة المُتَوَفَّاة ويُجرجرها في الليل إلى قبر أمها في الجبّانة؟
تقدّمتْ الشيخة وديدة خَرْجَة الخالة المُتَوَفَّاة. رَمَحْتُ مع الرجال والعيال والكلاب إلى مسجد القرية ودخلنا وراء خَشَبَة الكَرْب وحَرَسْناها حتّى انتهت صلاة الجِنازة. خرجتْ الخالة المُتَوَفَّاة فوق أعناق الرجال والشباب، إذ لم تُنجب سوى الابنة الشقيّة، يتيمة الأب والأم.
اسم الله عَليكي يا عَريضَة القُورة (الجبهة)
اسم الله عَليكي يا نَضيفة الصورة
كل الخلايق مْعَزِّمَاكي ( كل الناس في وداعِك)
والحِبّان سَرايبْ.. والرّكّ ع الزُوْرَة ( كلُ الأحباءِ في صفوفٍ، والمهم أن لا يقطعوا الزيارة)
لمحتُ أبي في مقدمة الجِنازة يردّدُ مع الرجال: «وحّدوه. وحّدوه. الدَوامُ لله». يقرءون معاً سوراً قصيرة من القرآن. كنتُ في الصفوفِ الخلفيّة، شابكاً في بُردَةِ أمي وقريباً من بُردَة الشيخة وديدة؛ آملاً طُلوعَ الحلاوة من السيّالة المَبْروكة في أي لحظة.
انتهت الدَفْنة وعاد الرجالُ والشبابُ والعيالُ إلى القرية وبقيتُ أنا وحدي مع أمي والحريم. رشّتْ الشيخة وديدة وشدّة النسوة اللائي يُساعدنها، الماءَ الباردَ فوق قُبّة القبر. بدأتْ مغنيّة الموتى، تلفُّ اللفّات السبع وابنة المُتَوَفَّاة وأمي والنسوة تُغنين من خَشْمها، وتهزُزْنَ الرقابَ والأقدام.
شعرتُ بوجعٍ شديدٍ في رأسي. نَكثَتْ الشيخة وديدة بوَعْدِ الحلاوة السِمْسِميّة رغم أن شمسَ الجبّانة هَلَكَتْني. بدأتُ أيأس ثم قررتُ العودة إلى البيتِ من الطريق القِبْلية. لن أستأذنَ أمي لأنها حريمٌ جليلةٌ كبيرةٌ، ستعودُ مع النسوة الكثيرات الحديديات اللائي لا يتعبنَ من لفّات الشيخة وديدة.
تركتهن وراء ظهري يُردّدن وراءها:
يا وَليّ الجبّانة… إوْعَى تكون نَحْسان (نائم)
قومْ على حيلك… نَضِّف المِطْراح (القبر).
يا وَليّ الجبّانة… إوْعَى تكون نايمْ
قومْ على رِجْلَك… القلب لَمْ مِرْتاح!
خطــ٣٠ // تنشر وفق الحقوق المفتوحة Copyleft
(3)
زعِلْتُ من الشيخة وَديدة زَعَلاً شديداً. لن أُكلّمها لو قابلتُها فوق الجسر. اختفتْ وديدة وحدُها عن الأنظار فترة طويلة. دخلتُ مرحلة الصبا ولم ألمحها في الجبّانة لأنّ الله تاب علىّ من مرمطة الماعز. باعها أبي في سوق السبت واستبدلها بجاموسة سمينة وبقرة تدرّ اللبنَ الغزير كل صباح.
ياااه. انقطعتْ علاقتي بالخالة وديدة خمسة أعوامٍ دخلتُ فيها بوّابة الصبا. خمسة أعوامٍ تحولتُ خلالها إلى متطرِّفٍ إسلاميّ يُدمنُ شرائط كاسيت مشايخ السعودية الذين يُحرِّمون زيارة القبور ويُكفّرون الصرّاخات. انتشرتْ في قريتي، المُسجّلات الناشيونال والجلابيب البيضاء بين العائدين وغير العائدين من السفر. كنتُ إرهابيّاً واعداً.
أنا وغالبية الصبية السُذَّج أصحابي، أعجبتنا فكرة أن نكونَ إرهابيين. ما المشكلة؟ نفعلُ مثلما يفعلُ الإرهابيون ونلبسُ الجلابيبَ البيضاء القصيرة حتّى لا يُدنسها التُراب. نتبسّمُ مثلما يتبسّمُ المشايخ الذين يلبسون الجلابيبَ البيضاء ويُعَسْكِرون في المساجد. كنتُ إرهابياً صغيراً شنيعاً حتّى على أمي.
كنتُ مُغفلًا فظيعاً! لا أبصُّ في وشّ أمي وخالاتي وعمّاتي لدرجة أنّ أمي بدأت تشكوني لأبي وأخوالي. طردني أبي من البيت خمس مرات متوالية وحذرني من الطريق السوداء التي تودّي اللّومان. لم يكن لي ملجأ سوى بيت جدّي لأمي. بيتُ جدّي فظيع. يتوسطُ حقولَ القصب والبرسيم. الضفادعُ والسَحالى هناك أكبر من التماسيح. بدأ حَمْوُ النيلِ يهاجمني ويبني بيوتاً حمراء وحشيّة فوق جلدي.
بدأتُ أفكّرُ في عواقب أن أكونَ إرهابياً.
– لا لا. الإرهاب مِشْ نافع!
قررتُ العودة إلى رُشدي وغرفتي الطينية وفَرْشَتي الطريّة المُريحة. اعتذرتُ لأبي ثم بدأت بين الحينِ والآخر أُكلّمُ أمي. كنتُ زَعْلاناً منها لأنها بسرعة شكتني.
ظللتُ فترة نصفَ إرهابيّ ونصفَ صبيّ طبيعيّ. كنتُ أكلّمُ الخالات في شوارع القريّة وأنا باصصٌ في الأرض. بالصُدفة العجيبة، وكنتُ عائداً من صلاةِ مغرب، سمعتُ إحداهنَ تقولُ على ملأٍ من الخالات الجالسات فوق عتبات بيوت يدسّسْنَ الأفيون والمَدغة في الخُشوم:
– وديدة تودّع! الحُكَما احتاروا في جسمها الوارم.
– يا واحد. الشيخة وديدة يا خالات؟
خَطَفْتُ نظرَ الخالة التي قالتْ الخبرَ المَشئوم.
– أيوه يا ولدي… شافْها الحكيم وِدَمْعِتُه بانتْ.
يا واحد. الخالة وديدة تحتضر؟ رَمَحْتُ فوق الجسر والكوبري. طرتُ في الجو نافضًا عنّي غبارة سنوات الغياب /الإرهاب الخمس. وصلتُ بيت الشيخة الحبّوبة الجليلة وديدة التي تُغنّي للموت وتجلُّ الموت. طرقتُ بابَها المفتوح وأنا ألهثُ:
– الشرّ بَعيدْ عنّكْ يا خالة النيل. أنا زَعْلان عليكِ يا خالة وديدة.
– تِسْلَمْ من الزَعَل يا حْبيِّبْ… كنّكْ مْغَبِّي عينك عن خالْتكْ؟ (أنتَ مُختفٍ في الفترة الأخيرة؟).
ارتبكتُ من سؤال الخالة وديدة. لا أريدُ أن أُعكّر دمّها بحكاية الخمس سنوات الخّرْبانة. كانت وديدة فرحانة بزيارة الصبي الذي قابلته طفلاً عند الجبّانة.
ماذا أقول للشيخة الجليلة؟ كانت الخالة وديدة دائخةً وسارحةً في الملكوت. تشربُ القليل من الدواء ثم تبصّ في وشّي ثم تشربُ دواءً آخر ثم تناولني بصّاتٍ دافئةٍ أطعمَ من الحلاوة السِمْسِميّة. بصّات مُغنيّة الموتى لامستْ قلبي. بصّات الأيام الأواخر هزّتْني. شعرتُ فجأة بالخجلِ لأنني الذكرُ الوحيد في سقيفةٍ عَمْرانة بأكوامِ نساء من عموم القرى النيلية والجبليّة.
– بالشفا يا خالة… ارتاحي… وبُكْرَة من النجمة أزورِك. قلتُ وقلبي لا يُطاوعني على ترك وديدة تموت وحدها في الليل.
– زورْني في الجبّانة يا ولدي… ولا تقطعْ الزُورَة!
يا واحد! لم يكن حدسُ الطفولة والصبا خائناً أبداً. ماتتْ الخالة وديدة في فجر اليوم التالي (العاشر من حزيران/ يونيو 1992). كانتْ جِنازتُها شعبيّةً حافلةً بالصُراخ الجليل الغزير، والأغاني الرنّانة التي أدّتْها شدّتُها الكبيرة ونسوة النيل والجبل. مَشَتْ رئيسةُ الصرّاخات المَحْبوبة التي مسّتْ عروقي بالأفيون والحلاوة ومعنى الموت.
ماتت الخالة الحبّوبة الجليلة وديدة؟ ماتتْ آخر الصرّاخات النيليات اللائي عرفتهن في صعيد مصر. ودّعْتُها وداعاً يليق بخالة عزيزة. تقدّمتُ الجِنازة الشعبيّة وأنا أبكي كاليتامى. أوصلتُها الجبّانة الشرقية بكلمتين من عِندي أدخلتُهما في مِدْماكِ أغانيها:
– مع السلامة يا عَريضَة القُورة
يا نَضيفة الحسِّ والصورة
مع السلامة ولا تخافي
عُمري ما أقطعْ السيرة
عُمري ما أقطعْ الزُورة