يُقال أن علاقة الإنسان بالكلاب لا تحتمل المواقف الرمادية ولا تقبل المناطق الوسطى فإما أن تكون هناك ثقة تامة وإما أن يسود خوفٌ شديد. وهذا ما اكتشفته في مرحلة مبكرة من عمري حين أدركت أنني أخشى الكلاب، أخاف أن يلامس شعرها جلدي فأسقط مغشياً علي، فكيف إن تمكن أحدها من عضي؟
أذكر في سن العاشرة حين كان أبي يرسلني فجراً لاشترى الخبز من السوق، كنت أسمع أصوات الكلاب الشاردة وهي تعوي في الظلام فأتناول بيدي حجراً لأطمئن نفسي وأركض مسرعاً تحت المطر مثل أرنب مذعور. تلك كانت المرة الأولى التي أختبر فيها خوفي من الكائن الذي يوصف بأنه أفضل صديق لنا نحن بني البشر. ذلك كان في شتاء العام 1988، لكنني كبُرت وكبُر في داخلي ذلك الأرنب المذعور، وطيلة ثلاثة عقود ترسخ هذا الخوف أكثر.
عم علي.. لماذا لا تنزل؟
خلال أشهر الحظر الاجتماعي بسبب فيروس كورونا المستجد كنت أتسلل ليلاً بسيارتي لألعب الشطرنج في مزرعة صديقي عند أطراف مدينتي شحات (شمال شرق ليبيا). متعة الشطرنج وثنائية الفيل والحصان المسلية أفسدها كلب المزرعة الضخم الذي استطاع بفضل مستقبلاته الهرمونية أن يلعب معي دور كلب البوليس الفطن وأن يشتم رائحة الأدرينالين التي تفوح مني ويكتشف ذعري. فما أن أوقف سيارتي وسط المزرعة حتى يحاصرها ويبدأ بالنباح منتظراً نزولي للانقضاض علي.
كيف لمثلي أن يغامر بفتح باب السيارة ويلقي بنفسه في أحضان هذا الوحش الهائج؟ لذلك أضطر مرغماً أن أتمترس خلف المقود فيما يدور الأطفال حول السيارة ليسألني أنشطهم مستغرباً: عم علي، لماذا لا تنزل؟ أم أنك خائف من كلبنا الأليف؟
رحيل حريصة
شكا لي صديقي خالد من “سادة الليل البهيم”. تلك الكلاب الشاردة التي أخذت في الانتشار في حيهم منذ حوالي السنتين. خالد أحد أولئك الليبيين الذين أجبرهم غياب التخطيط العمراني على الإقامة في مخططات سكنية تفتقر إلى الطرق المسفلتة لذلك تقل فيها حركة المرور تحاشياً للحفر الترابية وبرك الماء.
عندما تغيب السيارات وضوضائها تكثر الكلاب السائبة، وعندما تترك الحكومة أكياس القمامة تتكدس وسط الشوارع تستقوي هذه الكلاب المحلية بألوانها البيضاء المصفرة والسوداء الفاقعة وبرؤوسها الجرداء وتبسط سيطرتها على المكان وتقتات على ما تجود به أكوام النفايات من فضلات لذيذة وتتجول فرادى وجماعات وذيولها مقوسة إلى الأعلى في تحدٍ سافر حتى يصبح نباحها طقساً ليلياً مألوفاً يعتاد السكان سماعه. لكن انزعاج صديقي من الكلاب السائبة لا يشبه خوفي من هذا الحيوان الثديّ المعروف بوفائه.
ما أحسه شعور من نوع مختلف.. إنها السينوفوبيا، تلك الفوبيا من الكلاب ومن نباحها ومن مطارداتها ومن الوقوع ضحية أنيابها التي تبدو مثل آلة حرث لامعة خرجت لتوها من المصنع.
يقول الخبراء أن أعراض رهاب الكلاب تشمل زيادة معدلات ضربات القلب والتعرق والرغبة في الهروب وأن المصابين به من عاثري الحظ أمثالي هم في الغالب أناس مروا بتجارب سيئة مع الكلاب. تلك أعراض اختبرتها بما فيه الكفاية، لكن لا يوجد في ذاكرتي تجربة حقيقية يمكن وصفها بأنها بداية الإصابة بالسينوفوبيا في وسط اجتماعي يحب الكلاب ويقتنيها باستثناء حادثة شراء الخبز والركض مذعوراً تحت زخات المطر.
على العكس من ذلك أذكر أن تعاملي الأول عن قرب مع الكلاب كان إيجابياً حين قرر إخوتي تربية الكلبة “حريصة” التي عاشت لفترة فوق سطح منزلنا قبل أن يصدر والدي فرماناً شفهيا شديد اللهجة يقضي بالتخلص منها ورميها بعيداً.
يومها كنت أهلل فرحاً كلما نجحت حريصة في العودة إلى بيتنا في اليوم التالي متجاهلة أنها صارت حيواناً منبوذاً. في النهاية تم ترحيل الكلبة المتمردة إلى منطقة بعيدة حيث اختفى بعد ذلك أثرها إلى الأبد.
كلاب حامية وأخرى واشية
تبدو لي حريصة الآن طيفاً مشوشاً لذلك لا تسألوني عن شكلها أو أين عاشت قبل أن تأتي إلى بيتنا؟ ولا أين اختفت بعد نبذها؟ لكني أدركت لاحقاً أن تاريخ الكلاب في هذه البلاد يتأثر بالأوضاع السياسية والاقتصادية الجارية، فحين كانت ليبيا تعيش تجربتها الاشتراكية الخاصة فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تحت حكم العقيد القذافي وسط ندرة السلع والخدمات والانغلاق بعيداً عن كل ما هو أجنبي، كانت الكلاب أيضاً موسومة بالندرة والمحليّة، فلا كلاب إلا كلاب الشوارع التي يتم غسلها وتنظيفها ومن ثم تأهيلها واستأناسها لتربيتها فوق أسطح المنازل والمزارع أو بيعها على يد تجار محليين في أسواق محلية صرفة.
قبل هذا التاريخ كانت العلاقة بين الكلب ومالكه إما علاقة كلب غنم وراعٍ أو كلب صيد وصياد. في الأولى الكلب هو الحامي الذي يحمي الغنم بأوامر من الراعي من بطش حيوان آخر قد يكون ذئباً متربصاً أو ضبعاً من تلك الضباع الفتاكة. وفي الثانية الكلب متقفٍّ أثر وواشٍ يكشف جحور حيوان الشيهم لصيادٍ بشري يحمل هراوة تدمي الرأس وسكيناً لذبح هذا القارض الثدي المغطى بأشواك حادة بألوان بيضاء وسوداء، والذي يعيش في تجاويف الصخور ويخرج غالباً في الليل ليقتات على النباتات البرية.
مهنتان مختلفتان تماماً.. كلب الرعي في الغالب يعمل بدوام كامل ولا يُمنح إجازات أو عطل أو مكافآت. قد يعمل وحيداً أو ضمن فرقة من الكلاب المحلية النحيلة بحسب ما يقرر مالكه ويُمضي يوما رتيبا يركض خلف القطيع ويأكل مما يرمى له من بقايا العظام. ترسله صافرة الراعي بعيداً وتستدعيه صافرة أخرى فيرجع منهكاً آخر النهار وينام قرب الحظيرة استعداداً ليوم رعي جديد يشبه سابقه ما لم يجد نفسه في حالة دفاع عن القطيع من غزوات الذئاب والضباع. كلب صيد الشيهم على العكس من ذلك فهو مغامر يشارك في مهمات خاصة كل عدة أيام ويبقى بقية الوقت متكاسلاً بلا عمل.
بطل الملحمة الأوحد
يعمد صيادو الشيهم إلى تقديم قطع من لحم فريستهم للكلب حتى يستطيع شمها والتعرف عليها ويأخذونه مع الكلاب المدربة ليعتاد الصيد ويعرف مساربه.
لا تهم سلالة الكلب ما دام قويا وقادراً على الركض بسرعة. الجِراء الصغيرة هي المفضلة على تلك البالغة لأن حجمها الصغير يسمح لها بدخول جحور الشياهم الصخرية ومباغتتها في عقر دارها. المهمة تبدأ بشكل دراماتيكي: الكلب هو القائد والصيادون يركضون خلفه في الغابة المظلمة.. يصعد تلة فيصعدون خلفه. ينزل وادياً فينزلقون خلفه. يخطر له أن يستدير فجأة ويعبر حرشاً من شجيرات البطوم فيغوصون خلفه في الأغصان وأيديهم ممدودة إلى الأمام تحمي أعينهم.
الكلب هو عيونهم التي يرون بها وأيديهم التي يبطشون بها.. لكن سطوة البشر تُرجعه إلى دوره الطبيعي كواشٍ بمجرد أن يتم إخراج الطريدة من جحرها. ينهرونه كي لا يبالغ في لعب دور الزعيم فينهش بأنيابه غنيمة “السادة”.
يمسك سيدٌ ثلاثيني بشاة صيد الليل (كما يسمون الشيهم) من إحدى سيقانها الأربع فيما يباغتها سيدٌ آخر بضربة من عصاه على أنفها ويستل ثالثهم سكينه ليذبحها.
تنتهي الليلة بوجبة من المعكرونة المطهوة مع لحم الشيهم على الحطب. وبرغم أن وزن الطريدة قد يصل إلى عشرة كيلو جرامات، لا يرمى إلا عظام الوليمة للكلب الذي كان قبل ساعات بطل الملحمة الأوحد.
لا بد أن أعداد كلاب الصيد هنا أقل بكثير من كلاب الرعي فصيد الشيهم هواية ليلية تمارسها فئات شبابية محدودة يتركز معظمها في منطقة الجبل الأخضر بطبيعتها الوعرة وبمساحة تساوي مساحة دولة لبنان. أما كلاب الغنم فمطلوبة وبكثرة لتحرس حوالي 5.5 مليون رأس غنم ترتع في المساحة الممتدة من مدينة سرت (التي صارت تعرف دولياً بالخط الأحمر بين المتحاربين الليبيين) حتى مدينة أمساعد على الحدود المصرية، وهي مسافة طولية تصل إلى نحو ألف كيلو متر. هذه الأعداد ليست إحصاءات دقيقة أو شاملة، ومصدرها الحكومة المؤقتة إحدى حكومتين تتقاسمان التراب الليبي.
كلاب الثورات وحصاد الفوضى
المثير أن الكلاب تتأثر أيضاً بالثورات وانتفاضات الشعوب، فكما جلبت ثورة السابع عشر من فبراير من العام 2011 انفتاحاً غير منضبط لليبيين على العالم بعد سنوات من العزلة، أدخلت هذه الثورة الكلاب في حقبة أخرى لم يعد سيدها كلب الشوارع المستأنس بل زاحمته كلاب بلاد الأسكيمو –الهاسكي القوية البنية وكلاب الراعي البلجيكي (المالينو) والبيتبول والجيرمان شيبرد والدوبرمان وسلالات اللونغ هاير.. مسكينة حريصة لم تعش لتشهد هذا العصر الذهبي لبني جلدتها.
قبل ذلك لم تكن الكلاب المستوردة مرئية بشكل كبير. ربما يعكس ظهورها الآن زيادة النمط الاستهلاكي المطرد عند الليبيين وتعويض بعض ما فاتهم خلال أربعينية القذافي الطويلة والمقفرة، لذلك نرى كل عام أناساً أكثر يقبلون على اقتنائها مثلما يقبلون على شراء السيارات الفارهة وأحدث طرازات الهواتف المحمولة ويبتدعون تقليعات غريبة وباهظة في مراسم الزفاف وحفلات التخرج. بتعبيرٍ أدق إنها اعلان ممول عن إفلاتنا من صندوق العقيد المحكم الاغلاق أو إشهارٌ لخروجنا من تحت عباءته التي كانت تخنقنا.
ورغم هذا التوسع في اقتناء أنواع الكلاب لم أشاهد يوما دكاناً واحداً يبيع طعام الكلاب أو متجراً يعرض مستلزماتها كطوق القيادة والسترات وأطباق الأكل، فيما حصر معظم مربي الكلاب وظيفتها في الكلب المرافق لصاحبه دون تمييز بين نوع الكلب وطبيعة الحياة التي تناسبه، فلا كلاب الهاسكي عاشت تجربة كلاب الزلاجات أو شاركت يوماً في أي نوع من أنواع السباقات ولا كلب المالينو البلجيكي نال شرف أن يكون كلباً بوليسياً حذقاً يكتشف المخدرات ويؤدي المهام الخطرة، ولم يهتم المربون بتشذيب وتمشيط شعر كلاب اللونغ هاير ومنحها دلالاً يليق بشعرها الطويل. وأكتفت كلاب الشارع المستأنسة بتأدية دورها التاريخي ككلاب غنم وفية.
سوق لتبادل الكلاب
حالة الفوضى الحاصلة في التعامل مع الكلاب تعكسها أيضاً عمليات البيع والتبادل التي تجري على صفحات موقع التواصل الاجتماعي “الفيسبوك” حيث السؤال دائما عن مدى شراسة الكلب وجاهزيته للمواجهة دون النظر إلى الخصائص الأخرى مثل اليقظة والذكاء والرشاقة وحب اللعب خاصة لدى المراهقين الذين يشكلون القوة الضاربة في سوق الكلاب بيعاً وشراء ومقايضة.
لن تبذل كثيراً من الجهد لتراهم فهم فِتيةٌ ينحدرون من كل الطبقات ويتباهون باصطحابها في سياراتهم ووضعها في الكرسي المحاذي للسائق وكأنهم يعلنون لمن حولهم استقلاليتهم وبلوغهم مبلغ الرجال.
إنهم يديرون سوق كلاب يتحكم فيه “الأفاري” وهو مصطلح يستخدمه الليبيون عندما ينوون جعل عملية التفاوض للحصول على شيء ما عملية مفتوحة على كل الاحتمالات؛ أحدهم يعرض كلب هاسكي ومبلغاً من المال ويطلب مقابلاً له هاتفاً ذكياً من طراز أيفون وبلاي ستشيشن مستعملاً، وآخر لديه دراجة هوائية بحالة جيدة يرغب في استبدالها بجرو عربي فيرد عليه زبون أخر عارضاً قنّ دجاج أو قطة سيامية أو جرواً من سلالة أخرى.
صحيح أن الأفاري عملية عشوائية بيد أن لها قواعدها مثل أي عملية مقايضة تجارية فكل هذه المساومات يحددها التفاوت في السلالات وجنس الكلب وعمره وخصوبته والأهم شراسته وقدرته على أن يكون “فكاً مفترساً”.
قاسم مشترك بيني وبينهم
سوق الأفاري ليست بالنسبة لي سوقاً يمكن أن أشتري وأبيع فيها بسبب صعوبة تثمين السلع المعروضة والتأكد من جودتها وخلوها من العيوب. وبرغم أن ذلك يوسع الهوة بيني وبين عالم الكلاب إلا أني بدأت أجد قاسماً مشتركاً يمكن أن يجمعني بهؤلاء المُراهقين الشغوفين بكلابهم. ففي حين أنهم يعشقونها ويعشقون تملكها لكنهم لا يرفعونها إلى المرتبة التي تستحقها أهابها أنا وأرهبها في العلن لكنني شغوف في الخفاء بالقراءة عنها وعن سلالاتها وطباعها ولا أخفيكم سراً أنني صرت مدمناً على النظر إلى وجه كلب الهاسكي اللطيف وإلى عينيه البريئتين.
والأهم أنني صرت متيقناً أن سيرة هذا المخلوق تعكس تقلب الحال في هذا البلد بين انعزال لا فسحة فيه وفوضى لا نظام يضبطها ودكان لا سلعة فيه وسوق لا رادع يلجمه. وكله تحت رحمة مراهقين يحكمون بمنطق الأفاري وشراسة الفك المفترس.